مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 192

وروي في كتاب المجالس عن أبي بصير قال : دخل على الباقر [ عليه السلام ] مؤمن من أهل الرملة وقال له : فداك أبي وأمي ، قد مات أبي وهو يتوالى آل أمية وأنا أتولاكم ، فخبى عني ماله لإيماني بكم .
فكتب له أبو جعفر (عليه السلام) كتابا وختمه بخاتمه وقال : « امض الليلة إلى البقيع وناد : يا درجان ، يأتيك رجل ، فادفع إليه الكتاب » .
فمضى الرجل فنادى ، فأتاه فأعطاه الكتاب ، فما لبث أن جاء بأبيه أسودا كالقار ، فقال له الفتى : ما غيّرك يا أبت ؟ قال : لهب الجحيم ، كنت أتولّى آل أمية وأفضّلهم على أهل بيت النبي ، وكنت أبغضك لموالاتك لهم فزويت عنك مالي وهو الخبئية تحت الزيتونة ، وهو مئة وخمسون ألف دينارا ، فادفع يا بني إلى الباقر منها خمسين ألفا ولك الباقي .
فرجع الرجل ودفع الخمسين ألف دينارا إلى الإمام (1) .

=
فكتب العامل بجميع ذلك إلى هشام ، فارتحلنا في اليوم الثاني ، فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيُطمره ، فأخذوه فطمروه رحمة الله عليه .
وكتب إلى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سمّ أبي في طعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيّأ له في أبي شيء من ذلك .
ورواه عنه السيد ابن طاوس في كتاب الأمان من أخطار الأسفار والأزمان : ص 66 ، وعنهما في البحار : 46 : 306 .
ورواه الراوندي في الخرائج والجرائح : 1 : 291 ح 25 من معجزات الإمام الباقر عليه السلام .
(1) ورواه ابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 209 في آياته عليه السلام ، والفتّال النيسابوري في روضة الواعظين : ص 205 ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : ص 370 ح 3 / 306 .
ورواه الراوندي في الخرائج : 2 : 597 ح 9 من باب أعلام الإمام الباقر عليه السالم قال : ومنها ما روى أبو عيينة قال : كنت عند أبي جعفر عليه السلام فدخل رجل فقال : أنا من أهل الشام أتولاكم وأبرأ من عدوكم ، وأبي كان يتولى بني أمية وكان له مال كثير ، ولم يكن له ولد غيري ، وكان مسكنه بالرملة ، وكانت له جُنَينة يتخلى فيها بنفسه ، فلما مات طلبت المال فلم أظفر به ، ولا أشكّ أنه دفنه وأخفاه مني .
قال أبو جعفر : أفتحبّ أن تراه وتسأله أين موضع ماله ؟ قال : إي والله ، إني فقير محتاج .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 193

فإذا كان يا ذوي البصائر ، هذا شأن الباقر ، فكيف يجوز أن يستامه هشام الفاجر ، ويشخصه إليه وهو صاغر ، ويضيّق عليه الموارد والمصادر ، ويخلى من نور غرّته المحاريب والمنابر ، فيحقّ لمصابه الفاقر ، أن تشقّ الأكباد والمرائر .
لئن مسّني ضرّ ريب الزمان فلي أسوة ببنــي أحمــد
تسلط بغيــا أكفّ النفـاق منهـم على سيّـد سيــّد

=
فكتب أبو جعفر كتابا وختمه بخاتمه ثم قال : انطلق بهذا الكتاب الليلة إلى البقيع حتى تتوسّطه ، ثم تنادي : « يا درجان ، يا درجان » ، فإنه يأتيك رجل معتمّ ، فادفع إليه كتابي وقل : أنا رسول محمد بن علي بن الحسين فإنه يأتيك به ، فاسأله عما بدا لك . فأخذ الرجل الكتاب وانطلق .
قال أبو عيينة : فلما كان من الغد أتيت أبا جعفر عليه السلام لأنظر ما حال الرجل ، فإذا هو على الباب ينتظر أن يؤذن له ، فأذن [ له ] فدخلنا جميعا ، فقال الرجل : الله يعلم عند من يضع العلم ، قد انطلقت البارحة وفعلت ما أمرت ، فأتاني الرجل فقال : لا تبرح من موضعك حتى آتيك به ، فأتاني برجل أسود فقال : هذا أبوك . قلت : ماهو أبي ! قال : [ بل ] غيّره اللّهب ودخان الجحيم والعذاب الأليم ! فقلت له : أنت أبي ؟ قال : نعم . قال : فما غيّرك عن صورتك وهيئتك ؟ قال : يا بُنَيّ كنت أتولى بني أمية وأفضّلهم على أهل بيت النبي بعد النبي صلى الله عليه وآله ، فعذّبني الله بذلك ، وكنت أنت تتولاهم فكنت أبغضك على ذلك ، وحرمتك مالي فزويته عنك ، وأنا اليوم على ذلك من النادمين ، فانطلق يا بُنيّ إلى جُنينتي فاحتفر تحت الزيتونة خذ المال وهو مئة ألف وخمسون ألفا ، فادفع إلى محمد بن عليّ خمسين ألف والباقون لك .
ثم قال : فأنا منطلق حتى آخذ المال وآتيك بمالك .
قال أبو عيينة : فلما كان من قابل دخلت على أبي جعفر عليه السلام فقلت : ما فعل الرجل صاحب المال ؟ قال : [ قد ] أتاني بخمسين ألف درهم ، فقضيت منها دينا كان عليّ ، وابتعت منها أرضا بناحية خيبر ، ووصلت منها أهل الحاجة من أهل بيتي .
ورواه عنه المجلسي في البحار : ج 46 ص 245 ح 33 من باب معجزاته ومعالي أموره عليه السلام .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 194

فمـن قاعــد منهم خائفــا ومن ثائـر قــام لــم يعد
وما صرفوا عن مقـام الصلاة ولا عنّفوا في بنــى المسجد
أبوهم وأمهــم من علمـت فانقص مفاخرهــم أو زدي
يعــزّ على هاشــم والنبي تلاعب تيـم بهــا من عدي
فـــإرث عـلــيّ لأولاده إذا آيـة الإرث لــم تفسـد
أرى الدين من بعد يوم الحسين عليلا له الموت بالمرصــد
سيعلم من فاطــم خصمــه بأيّ نكــال غــدا يرتدي
وما آل حرب جنــوا إنمـا أعيد الضـلال علـى ما بدي
فداؤك نفسـي ومن لـي بذاك لو أنّ مولىً بعبـــد فـدي

فوالهف نفسي على معدن العلم والعمل ، وينبوع الكرم والفضل ، ومظهر المبهم والمشكل ، ومزيل قواعد الملل ، وقامع شوكة ذوي الخطأ والزلل ، وناشر راية الإيقان وما حي آية الخطل ، من أوعز إليه الربّ الأجل أحكام الشرع في الأزل .
ففي كتاب المجالس عن ابن عباس ، عن أبي عمر ، عن صدقة بن أبي موسى (1) .

(1) في العيون : عن العباس بن أبي عمرو ، عن صدقة بن أبي موسى .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 195

عن أبي نضرة قال : لما احتضر أبو جعفر (عليه السلام) عند الوفاة فدعا بابنه الصادق ليعهد إليه عهده ، فقال له أخوه زيد بن علي : لو امتثلت فيّ بمثل (1) الحسن والحسين لرجوت أن لا تكون أتيت منكرا .
فقال له : « يا أبا الحسن ، إن الإمامة (2) ليست بالتمثال ولا العهود بالرسوم ، وإنما هي أمور سابقة عن حجج الله تعالى » .
ثم دعا بجابر بن عبدالله وقال له : « يا جابر ، حدثنا بما عاينت من الصحيفة » .
فقال له جابر : نعم يا أبا جعفر ، دخلت على مولاتي فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأهنّئها بمولدها (3) الحسين (عليه السلام) فإذا بيديها صحيفة بيضاء من درّ ، فقلت لها : يا سيدة النسوان ، ما هذه الصحيفة التي أراها معك ؟
قالت : « فيها أسماء الأئمة من ولدي » .
فقلت لها : ناوليني لأنظر فيها .
قالت : « يا جابر ، لولا النهي لكنت أفعل ، ولكنه نهي أن يمسّها إلا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو أهل بيت نبي ، ولكنه مأذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها » .
قال جابر : فقرأت فإذا فيها : « أبوالقاسم محمد بن عبدالله المصطفى أمه آمنة ، أبوالحسن علي بن أبي طالب المرتضى أمه فاطمة بنت أسد [ بن هاشم بن عبدمناف ] ، أبو محمد الحسن بن علي البرّ ، وأبو عبدالله الحسين بن علي التقيّ وأمهما فاطمة بنت محمد ، أبو محمد علي بن الحسين العدل أمّه شهربانو بنت يزدجرد ، أبو جعفر محمد بن علي الباقر أمه أم عبدالله بنت الحسن بن علي [ بن أبي طالب عليه السلام ] ، أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر ، أبو إبراهيم موسى بن جعفر أمه جارية اسمها حميدة المصفات ، أبو الحسن علي بن موسى الرضا أمه جارية اسمها نجمة ، أبو جعفر محمد بن علي

(1) في العيون : « تمثال » .
(2) في العيون : « إن الأمانات » .
(3) في العيون : « بمولودها » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 196

الزكي أمه جارية اسمها خيزران ، أبو الحسن علي بن محمد الأمين أمه جارية اسمها سوسن ، أبو محمد الحسن بن علي الرفيع (1) أمه جارية اسمها سمانة وتكنّى أم الحسن ، أبو القاسم محمد بن الحسن الحجة القائم (2) أمه جارية اسمها نرجس [ صلوات الله عليهم أجمعين ] » (3) .
وروي في كتاب المناقب عن الصادق قال : « لما أشخص هشام أبي إلى دمشق سمع الناس يقولون : هذا ابن أبي تراب » .
قال : « فأسند ظهره إلى جدار القبلة ثم حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي [ عليه السلام ] ثم قال : اجتنبوا أهل الشقاق وذرية النفاق وحشو النار وحصب جهنم عن البدر الزاهر والبحر الزاخر والشهاب الثاقب (4) ونور المؤمنين(5)والصراط المستقيم «من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا»(6) » .
ثم قال بعد كلام : « ابصنو رسول الله (صلى الله عليه وآله) تستهزءون ؟ أم بيعسوب الدين تلمزون ؟ (7) وأي سبيل بعده تسلكون ؟ وأيّ حزب بعده تتبعون ؟ (8) هيهات

(1) في العيون : « الرفيق » .
(2) في العيون : « هو حجة الله القائم » .
(3) ورواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 : 47 ح 1 من الباب 6 وبين المعقوفات منه .
ورواه أيضا في كمال الدين وتمام النعمة : 1 : 305 ح 1 من الباب 27 ، وعنهما البحار : 36 : 193 ح 2 من الباب 40 .
وأورده باختصار الإربلي في كشف الغمة : 2 : 336 في فضائل الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام .
(4) « أهل الشقاق » أي يا أهل الشقاق . « عن البدر الزاهر » أي عن سوء القول فيه . وزخر البحر : أي مدّ وكثر ماؤه وارتفعت أمواجه . والثاقب : المضيء . ( البحار ) .
(5) في المصدر : « وشهاب المؤمنين » .
(6) سورة النساء : 4 : 47 .
(7) الصنو ـ بالكسر ـ : المثل ، وأصله أن تطلع نخلتان من عِرق واحد . واللمز : العيب والوقوع في الناس . ( البحار ) .
(8) في المصدر : « تدفعون » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 197

هيهات برز لله بالسبق (1) وفاز بالفضل (2) ، واستوى على الغاية ، وأحرز الخطار ، فانحسرت عنه الأبصار ، [ وخضعت دونه الرقاب ، ] وفرع ذروة العليا فكذّب من رام من نفسه السعي وأعياه الطلب ، فأنى لهم التناوش من مكان بعيد
(3) » .
وقال :
اقلّـوا اقلّــوا لا أبــا لأبيكــم من اللوم بل سدّوا مكان الذي سدّوا(4)
ولئك قوم إن بنوا أحسنــوا البناء وإن عاهدوا أوفوا ، وإن عقدوا شدّوا

فأنّي يسد ثلمة أخي رسول الله إذ شفعوا (5) ، وشقيقه (6) إذ نسبوا ، ونديده إذ

(1) في المصدر : « برز والله بالسبق » ، أي ظهر وخرج من بينهم بأن سبقهم في جميع الفضائل .
(2) في المصدر : « بالخصل » ، أي بالغلبة على من راهنه في إحراز سبق الكمال ، قال الفيروزآبادي : الخصل : إصابة القرطاس ، وتخاصلوا : تراهنوا على النضال ، وأعرض خصله وأصاب خصله : غلب ، وخصلهم خصلا وخصالا ـ بالكسر ـ : فضلهم . ( البحار ) .
(3) اقتباس من الآية 52 من سورة سبأ : 34 .
الغاية : العلامة التي تنصب آخر الميدان فمن انتهى إليه قبل غيره فقد سبقه . والخِطار ـ بالكسر ـ جمع خطر بالتحريك ، وهو السبق الذي يتراهن عليه . فانحسرت : أي كلّت عن إدراكه الأبصار لبعده في السبق عنهم . وفرع : أي صعد وارتفع أعلى الدرجة العليا من الكمال . وكذّب ـ بالتشديد ـ : أي صار ظهور كماله سببا لظهور كذب من طلب السعي لتحصيل الفضل وأعياه الطلب ، ومع ذلك ادّعى مرتبته ، ويحتمل التخفيف أيضا ، ويمكن عطف قوله : « وأعياه » على قوله : « كذّب » وعلى قوله : « رام » . والتناوش : التناول ، أي كيف يتيسّر تناول درجته وفضله وهم في مكان بعيد منها . ( البحار ) .
(4) في المصدر : « أو سدوا مكان الذي سادوا » . لعل المراد : سدّوا الفرج والثلم التي سدّها أهل البيت عليهم السلام من البدع والأهواء في الدين ، أو كونوا مثل الذي سدوا ثلم الباطل ، كما يقال : « سدّ مسدّه » ، مؤيده قوله : « فأنى يسدّ » ، ويحتمل أن يكون من قولهم سدّ يسُدّ أي صار سديدا .
(5) « فأنى يسد » أي كيف يمكن سدّ ثلمة حصلت بفقده عليه السلام بغيره ، والحال أنه كان أخا رسول الله صلى الله عليه وآله إذ صار كل منهم شفعا لنظيره كسلمان وأبي ذر وأبي بكر مع عمر . ( البحار ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 198

قتلوا (1) ، وذي قرنَي كنزها إذ فتحوا (2) ، ومصلى القبلتين إذ انحرفوا (3) ، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا ، والمبيد لعهد المشركين (4) إذ نكلوا ، والخليفة على المهاد ليلة الحصار (5) إذ عجزوا ، ومستودع (6) الأسرار ساعة الوداع
» .فصمت كلّ ناطق(7) .

(6) الشقيق : الأخ ، كأنه شقّ نسبه من نسبه ، وكل ما إن شقّ نصفين كل منهما شقيق ، أي عدّه الرسول صلى الله عليه وآله شقيق نفسه عند ما لحق كل ذي نسب بنسبه . ( البحار ) .
(1) ونديده : أي مثله في الثبات والقوة إذ قتلوا وصرفوا وجوههم عن الحرب . ( البحار ) .
وكان في النسخة : « إذ قبلوا » .
(2) قوله : « ذي قرني كنزها » إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه واله له عليه السلام : « لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها » ، ويحتمل إرجاع الضمير إلى الجنة ، وإلى الأمة .
وقوله : « إذ فتحوا » أي قال ذلك حين أصابهم فتح ، أو أنه عليه السلام ملكه وفوّض إليه عند كل الفتوح اختيار طرفي كنزها وغنائمها، لكونها على يده ، وعلى تقدير إرجاع الضمير إلى الجنة يحتمل أن يكون المراد فتح بابها ، ويحتمل أن يكون « إذ قبحوا » على المجهول من التقبيح أي مدحه حين ذمّهم . ( البحار ) .
(3) في المصدر : « إذ فشلوا » . من الفشل : الضعف والجُبن . ( البحار ) .
(4) في المصدر : « والمدعي بعد عهد المشركين » . قال المجلسي : والإدعاة لنبذ عهد المشركين يمكن حمله على زمان النبي صلى الله عليه وآله وبعده ، وعلى الأول المراد أنه لما أراد النبي صلى الله عليه وآله طرح عهد المشركين والمحاربة معهم كان هو المدّعي والمقدّم عليه وقد نكل غيره عن ذلك ، فيكون إشارة إلى تبليغ سورة براءة وقراءتها في الموسم ونقض عهود المشركين وإيذائهم بالحرب وغير ذلك مما شاكله ، وعلى الثاني إشارة إلى العهود التي كان عهدها النبي صلى الله عليه وآله على المشركين فنبذ خلفاء الجور تلك العهود وراءهم ، فادّعى عليه السلام إثباتها وإبقاءها ، والأول أظهر . ( البحار ) .
(5) في المصدر : « والمدّعي بعد عهد المشركين » . قال المجلسي : والإدعاء لنبذ عهد المشركين يمكن حمله على زمان النبي صلى الله عليه وآله وبعده ، وعلى الأول المراد أنه لما أراد النبي صلى الله عليه وآله طرح عهد المشركين والمحاربة معهم كان هو المدّعي والمقدّم عليه وقد نكل غيره عن ذلك ، فيكون إشارة إلى تبليغ سورة براءة وقراءتها في الموسم ونقض عهود المشركين وإيذائهم بالحرب وغير ذلك مما شاكله ، وعلى الثاني إشارة إلى العهود التي كان عهدها النبي صلى الله عليه وآله على المشركين فنبذ خلفاء الجور تلك العهود وراءهم ، فادّعى عليه السلام إثباتها وإبقاءها ، والأول أظهر . ( البحار ) .
(6) في المصدر : « إذا جزعوا ، والمستودع » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 199

وروي أنه (عليه السلام) دخل على الوليد يوما في صورة أعرابي وقعد بمجلس عام واستحضر الناس لسبّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأثغر في ثلبه (8) ، فبينما هو كذلك إذ خرج إليه إعرابي على ناقة ذفراها يسيلان لإغذاذ السير (9) دماً ، وقبيحا ، فلما رآه الوليد من منظرته قال : اذهبوا إلى هذا الأعرابي وأدخلوه عليّ ، فإني أراه قاصدا لنا .
فجاء الأعرابي وعقل ناقته بطرف زمامها ، ثم دخل فأورد قصيدة لم يسمع مثلها جودة وعذوبة ، فلما انتهى به الحال إلى قوله :
ولما أن رأيت الدهـر ألّي (10) عليّ ولَحّ في إضعــاف حالي
وفدت إليك أبغي حسـن عقبى أميل (11) بها خصاصات العيال
وقائلة إلـيّ وقــد رأتنــي أ[ؤ]مّ فمن ترجّـى للمعالي (12)
فقلت إلى الوليــد أ[ؤ]مّ قصدا وقـاه الله من غيــر الليالـي

(7) المناقب لابن شهر آشوب : 4 : 219 في علمه عليه السلام ، وعنه في البحار : 46 : 317 .
(8) في العدد القوية والبحار : « وقد اسحنفر في سبّ علي ، واثعنجر في ثلبه » .
اسحنفر الرجل : مضى مسرعا . يقال : ثعجرت الدم وغيره فاثعنجر : أي صببته فانصب . ( البحار ) .
(9) ذفرى البعير : أصل أذُنيها . وأغذّ السير : أسرع . ( البحار ) .
(10) إليّ يؤلّي تألية : إذا قصر وأبطأ . ( البحار ) .
(11) في العدد القوية والبحار : « أسدّ » .
(12) في العدد القوية والبحار :
وقائلة إلى من قد رآه يؤمّ ومن يُرجّى للمعالي
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 200

هو الليث الهصور (1) شديد بأس هو السيف المجــرد للقتــال
خليفة ربّنـا الداعي إلينــا (2) وذو المجد التليــد أخو المعالي

قال : فقبل مدحته وأجزل عطيته وقال : يا أخا العرب ، قد قبلنا مدحتك وأجزلنا صلتك ، فاهج لنا أبا تراب .
فوثب الأعرابي يتهافت قطعا ويزور (3)حنقا ويشهد (4) شفقا ، وقال : والله إن الذي عنيته بالهجاء هو أولى منك بالمدح وأنت أحق منه بالهجاء .
فقال له جلساؤه : اسكت نزحك الله (5) .
فقال : علام تتّروحني ، ولِمَ لا تبشّروني ؟ فوالله ما أبديت سقطا ، ولا قلت شططا ، ولا ذهبت غلطا ، فقد فضّلت على الوليد من هو أفضل منه ، فذاك علي بن أبي طالب الذي تجلبب بالوقار ، ونبذ الشنار ، وعاف (6) العار ، وقصد الإنصاف ، وأبد (7) الأوصاف ، وحصّن الأطراف ، وألفّ الأشراف ، وأزال الشكوك في الله بشرح ما استودعه الرسول من مكنون العلم ، الإمام الذي شرفه فوق كلّ شرف ،

(1) الهصور : الأسد الشديد الذي يفترس ويكسر . ( البحار ) .
(2) في العدد القوية والبحار : « علينا » .
(3) في العدد القوية والبحار : « يزأر » .
التهافت : التساقط . وقطعا : جمع قطعة ، وهي الطائفة من الشيء ، والمراد بها هنا شطر من الكلام . ويزأر حنقا : الزأر صوت الأسد من صدره . ( البحار ) .
(4) في العدد القوية والبحار : « ويشمذر » . والشميذر ـ كسفرجل ـ : البعير السريع ، والغلام النشيط الخفيف كالشمذارة ، والسير الناجي كالشمذار والشمذر . ( القاموس ) .
(5) نزحك الله : أي أنفذ الله ما عندك من خيره . ( البحار ) .
(6) الشنار ـ بالفتح ـ : أقبح العيب والعار . وعاف الشيء : كرهه .
(7) أبد الأوصاف : أي جعل الأوصاف الحسنة جارية بين الناس ، أو بتخفيف الباء المكسورة من قولهم أبد كفرح : إذا غضب وتوحّش ، فالمراد الأوصاف الرديئة . ( البحار ) . وفي النسخة : « وبدأ » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 201

وسلفه في الجاهلية أكرم من كل سلف ، لا تعرف الماديات إلا بهم ، ولا الفضل إلا فيهم ، صفوة اصطفاها الله واختارها ، فلا يغترّ الجاهل بأنه قعد عن الخلافة بمثائرة من ثار عليها وجالد بها السلال المارقة والأعوان الظالمة ، ولئن قلتم ذلك كذلك إنما استحقّها بالسبق ، تالله ألكم حجة في ذلك ؟ هذا سبق صاحبكم إلى المواضع الصعبة ، والمنازل الشعبة ، والمعارك المرّة ، كما سبق إليها على الذي لم يكن بالقبعة ولا الهبعة (1) ، ولا مُضغنا إلى الله ولا منافق (2) .
رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يدرء عن الإسلام كل أصبوحة ، ويذبّ عن كلّ أمسية ، ويلج بنفسه في الليل الديجور الحلكوك (3) مرصدا للعدو ، هو ذل (4) تارة وتضكضك (5) أخرى ، ويأرب لزبة آبيه قسيّة وأوان آن أرونان (6) قذف نفسه في لهوات وشيجة وعليه زعفة ابن عمّه الفضفاضة ، وبيده خطية عليها سنان لهذم (7) ،

(1) قبع القنفذ يقبع قبوعا : أدخل رأسه في جلده ، وكذلك الرجال إذا أدخل رأسه في قميصه ، وامرأة قبعة طلعة : تقبع مرة وتطلع أخرى . والقبعة أيضا طُوَير ابقع مثل العصفور يكون عنده حجرة الجرذان ، فإذا فزع ورمي بحجر انقبع فيها .
وهبع هبوعا : مشى ومدّ عنقه ، وكأنّ الأول كناية عن الجبن ، والثاني عن الزهو والتبختر . ( البحار ) . وفي النسخة : « بالقعبة ولا الهيعة » .
(2) في البحار : « ولا مضطغنا آل الله ولا منافقا » .
(3) الحلكوك ـ بالضم والفتح ـ : الأسود الشديد السواد . ( البحار ) .
(4) هو ذل في مشيه : أسرع . ( البحار ) .
(5) الضكضكة : مشية في سرعة ، وتضكضك : انبسط وابتهج ، والأخير أنسب .. ( البحار ) .
(6) في العدد والبحار : « لزبة آتية » ، واللزبة : الشدة . قوله : آتية : أي تأتي على الناس وتهكهم ، وفي بعض النسخ : « آبية » أي يأبى عنها الناس . والقسيّة : أي شديدة من قولهم : عام قسيّ أي شديد من حرّ أو برد . وآن : أي حار ، كناية عن الشدة . يوم أرونان : صعب . ( البحار ) .
(7) وشجية : ما اشتبك من الحروب والأسلحة . والزعفة : الدرع اللينة . والفضفاض : الواسعة . والرماح الخطية : منسوبة إلى خط موضع باليمامة . واللهذم من الأسنة : القاطع . ( البحار ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 202

فبرز عمرو بن عبد ودّ القرم الأود (1) والخصم الألدّ ، والفارس الأشدّ ، على فرس عنجوج ، كأنه يجرّ نحره بالخيلوج ، فضرب قونسه ضربة قنّع (2) بها عنقه .
أو نسيتم عمرو بن معدي كرب الزبيدي إذ أقبل يسحب دلدال (3) درعه ، مدلا بنفسه ، قد زحزح الناس عن أماكنهم ، ونهّضهم عن مواضعهم ، ينادي : أين المبارزون ، يمينا وشمالا ، فانقضّ عليه كأسود ونيق أو كصيحورة (4) منجنيق فوقصه وقص القطام بحجر (5) الحمام وأتى به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كالبعير الشارد يقاد كرها وعينه تدمع وأنفه يرمع (6) وقلبه يجزع .
وكم له من يوم عصيب برز فيه إلى المشركين بنيّة صادقة وقد كشف أميل أجمّ (7) أعزل .

(1) القرم : البعير يتّخذ للفحل ، والسيد . والأود : الاعوجاج ، والمراد به المعوج ، أو هو « الأرد » بالراء والدال المشددة لردة الخصام عنه . ( البحار ) .
(2) في البحار : « باليلنجوج » . العنجوج : الفرس الجيّد . واليلنجوج : العود الذي يتبخّر به .
والقونس : أعلى البيضة من الحديد . وقنعت المرأة : ألبستها القناع ، وقنعت رأسه بالسود ضربا . ( البحار ) .
(3) في البحار : « ذلاذل » . ذلاذل الدرع : ما يلي الأرض من أسافله . ( البحار ) .
(4) في البحار : « كسود نيق أو كصيخودة » . والسود كأنه جمع الأسود بمعنى الحية العظيمة وإن كان نادرا . والنيق ـ بالكسر ـ : أعلى موضع من الجبل . ( البحار ) .
وفي هامش العدد القوية : الصحيح « السوذنيق » والكلمة واحدة وزان زنجبيل ، ويضمّ أوّله ، بمعنى الصقر والشاهين ، وهو المناسب لقوله : « فأنقذ » .
والصيخودة : كأنها بمعنى الصخرة وإن لم نرها في كتب اللغة . ( البحار ) .
(5) في البحار : « بحجره » .
وقص عنقه : كسرها . والقطام ـ كسحاب ـ : الصقر . ( البحار ) .
(6) رمع أنفه من الغضب : تحرّك . ( البحار ) .
(7) في العدد القوية والبحار : « وهو أكشف أميل أجم » .
الأكشف : من ينهزم في الحرب . والأميل : الجبان . والأجمّ : الرجل بلا رُمح . والأعزل : الرجل المنفرد المنقطع ومن لا سلاح معه . ( البحار ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 203

ألا وإني أخبركم بخبر علي إنه مني بأوباش كالمراطة بين لغموط (1) وحجابه ومقدم ومهدم حملت (2) به شوهاء شهواء في أقصى مهيلها فأتت به محصنا ، وكلها (3) أهون على عليّ من سعدانة بقل (4) .
أفبهذا يستحقّ الهجاء ؟ أم بعزمه (5) الحاذق وقوله الصادق وسيفه الفالق ؟ إنما يستحق الهجاء من سامه إليه وأخذ الخلافة وأزالها عن الوراثة (6) وصاحبها ينظر إلى فيئه ، وكأنّ الشبا مرع تلبسه (7) حتى إذا لعب بها فريق ، بعد فريق ، وخريق (8) بعد خريق ، اقتصروا على ضراعة الوهز وكثرة البز (9) ، ولو ردّوه إلى سمت الطريق والمرت (10) البسيط والتامور العزيز (11) لألفوه (12)قائما واضع الأشياء (13)

(1) الأوباش : الأخلاط والسفلة . والمراطة : ما سقط في التسريح أو النتف . واللغموط لم أجده في اللغة ، وفي القاموس : اللعمط كزبرج : المرأة البذيّة ، ولا يبعد كون الميم زائدة ، واللغط : الأصوات المختلفة والجلبة . ( البحار ) .
(2) في العدد القوية والبحار : « وحجابه وفقامه ومغذمر ومهزمر حملت » . فقم فلان : بطر وأشر ، والأمر لم يجر على استواء . وغذمره : باعه جزافا ، والغذمرة : الغضب والسخط ، واختلاط الكلام والصياح ، والمغذمر : من يركب الأمور فيأخذ من هذا ويعطي هذا ويدع لهذا من حقه . والهزمرة : الحركة الشديدة ، وهزمره : عنف به . ( البحار ) .
(3) في البحار : « فأتت به محضا بحتا ، وكلهم » .
(4) في العدد القوية والبحار : « سعدانة بغل » .
(5) في البحار : « الهجاء وعزمه » .
(6) في البحار : « الوراثة » .
(7) في العدد القوية والبحار : « وكأنّ الشبادع تلسبه » . والشبادع : جمع شبدع بالدال المهملة كزبرج ، وهو العقرب . يقال : لسبته الحية وغيرها كمنعه وضربه لدغته . ( البحار ) .
(8) المراد بالخريق من يخرق الدين ويضيعه ، وكان يحتمل النون فيهما فالفرنق كقنفذ : الرديء ، والخرنق كزبرج : الرديء من الأرانب . ( البحار ) .
(9) في العدد القوية والبحار : « وكثرة الأبز » .
الوهز : الوطي ، والدفع ، والحث . والأبز : الوثب والبغي . ( البحار ) .
(10) المرت : المفازة . ( البحار ) .
(11) التامور : الوعاء ، والنفس وحياتها ، والقلب وحياته ، ووزير الملك ، والماء ، ولكل وجه

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 204

في مواضعها ، لكنّهم انتهزوا الفرصة واقتحموا الغصة وآبوا (14) بالحسرة .
فتربّد وجه الوليد ، وغصّ بريقه ، وشرق بعبرته ، كأنما فقئ (15) في عينه حبّ المض الحازق ، فأشار عليه بعض جلسائه بالإنصراف ، وهو لا يشكّ أنه مقتول ، فانصرف فوجد بعض الأعراب داخلا على الوليد فقال له : هل لك أن تأخذ خلعتي الصفراء وتدفع إليّ خلعتك السوداء وأجعل لك بعض الجائزة ؟ فقبل الأعرابي الداخل وأخذ وأعطى ، ثم استوى على راحلته وغاص في بيدائه وتوغّل في صحرائه (16) واعتقل الأعرابي الداخل فضربت عنقه وجيء برأسه إلى الوليد ، فقال : ليس هذا بصاحبنا ، وأنفذ الخيل السراع في طلبه فلحقوه بعد وناء (17) ، فلما أحسّ بهم أدخل يده في كنانته وجعل يخرج سهما بعد سهم يقتل به فارسا فارسا إلى أن قتل منهم أربعين فارسا وانهزم الباقون ، فجاءوا إلى الوليد فأخبروه بذلك ، فأغمي عليه يوما وليلة ، فلما أفاق قال : يا قوم ، إني أجد على قلبي غمّة كالجبل من فوت الأعرابي . الحديث (18) .

=
مناسبة . ( البحار ) .
(12) في العدد القوية والبحار : « ألغوه » .
(13) في العدد القوية والبحار : « واضعا الأشياء » .
(14) في العدد القوية والبحار : « وباؤا » .
(15) كأنما فقئ : أي كأنما كسر حاذق لايخطئ حبا يمض العين ويوجعها في عينه ، فدخل ماؤه فيها كحب الرمان أو الحصرم ، عبّر بذلك عن شدة احمرار عينه . ( البحار ) .
(16) في العدد القوية والبحار : « وغاص في صحرائه وتوغّل في بيدائه » .
(17) في العدد القوية والبحار : « لأى » . واللاى : الإبطاء والاحتباس والشدة .
(18) ورواه علي بن يوسف بن المطهر الحلي في العدد القوية : ص 253 قال : روى أبوالحسن اليشكري قال : حدثني عمرو بن العلاء قال : حدثني يونس النحوي اللغوي قال : حضرت مجلس الخليل بن أحمد العروضي قال : حضرت مجلس الوليد بن يزيد بن عبدالملك بن مروان ، قال : وقد اسحنفر في سبّ علي واثعنجر في ثلبه ، إذ خرج عليه أعرابي على ناقة له وذفراها يسيلان لاغذاذ السير دما ...
ورواه عنه المجلسي في البحار : ج 46 ص 321 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي