مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 205

ولله درّ من قال من الرجال الأبدال :
أعلام ديـن راســخ لهــم في نشر كـل فضيلــة نشر
وهم الريــاض المونقات لهم في طيّ كلّ رياضة صــدر
فكاهم فخـرا إذا افتخــروا ما دام حيــا فيهم الفخــر
وصلوا نهـارهـم بليلهــم نظرا وما لوصالهــم فجـر
وطووا على مضض سرائرهم صبرا وليس لطيّهـم نشــر
يا غائبيــن متى بقربكــم من بعد وهن يجبر الكســر
الفـيء منقســم لغيركــم وأكفّكم من فيئكــم صفــر
والمال حل للعصـاة ويحرمه الكــرام الســادة الغــرّ
فنصيبهم منـه الأعمّ علــى عصيانهــم ونصيبكـم نزر
والناس في أمن وليس لهــم من طارق يغشـاهم حــذر
ويكاد من خوف ومن فــزع بكم يضيق البـرّ والبحــر

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 206

لكنه لابدّ من فــرج والأمر يحدث بعده الأمر

فوا حسرة الدين على قمر الفضائل ، كيف خسف بأيدي الجفاة الأراذل ، حمّلهم الحسد الخاذل والبغضاء والغوائل ، على إطفاء نور الله الكامل ، فعمدوا إلى وليّه الفاضل ، وحكمه الفاصل ، فأذاقوه السمّ القاتل ، وغيّبوا هيكله الشريف تحت رجام الجنادل .
روى أبو بصير قال : بعث الوليد بن عبدالملك إلى أبي جعفر الباقر (عليه السلام) بسرج مسموم وأمره بالركوب عليه ، فلما ركبه تورّمت قدماه وفخذاه وأعتل العلة التي مات فيها ، فلما عزم على المصير إلى روح الله وريحانه ، وحلول منازل جنانه ، واشتاق إلى لقاء محبوبه ، ليفوز منه بنيل مطلوبه ، ودعاه هواء الاباء والأجداد ، وأشعلت نار شوقه نفحات الوداد ، أوصى إلى ابنه أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) حسب ما أمره القادر الخالق ونصّ عليه ، وسلم مواريث آبائه إليه ، كما روي عنه (صلى الله عليه وآله) ، قال :
« كنت عند أبي في اليوم الذي قبض فيه ، فأوصاني بأشياء في تغسيله وتكفينه وقبره » .
قال الصادق (عليه السلام) : « فقلت له : جعلت فداك يا أبتاه ، والله ما رأيتك منذ شكوت أحسن منك هيئة اليوم ولست أرى عليك للموت أثرا . فقال لي : يا بُني ، إني سمعت جدك عليّ بن الحسين ينادي من وراء الجدار : يا محمد تعال وعجّل .
ثم قال لي : يا بُنيّ قم فأدخل عليّ أناسا من قريش حتى أشهدهم
» .
قال الصادق (عليه السلام) : « فقمت وأتيته بأناس ، فقال لي : يا بني ، إذا أنا متّ فغسّلني وكفّني وارفع قبري أربع أصابع ، ورشّه بالماء .
فلما خرجوا قلت : يا أبت ، لو أمرتني بهذا صنعته ، فلأيّ شيء أمرتني بإدخال هؤلاء النفر ؟!
فقال لي : يا بُنيّ ، أردت أن لا تنازع في الإمامة ، ولا تختلف عليك الشيعة ،

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 207

لأن كل من أوصى إليه السابق من الأئمة فهو الخليفة بعده .
وما زال (عليه السلام) يناجي ربّه ويدعوه حتى قضى نحبه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ
» (1) .
وكانت وفاته في يوم الاثنين رابع ذي الحجة سنة أربع عشر ومئة من الهجرة (2) .
فقامت الواعية من داره ، وعلا النحيب من نسائه وجواره ، وخرجت نساء بني هاشم مشقّقات الجيوب ، ناشرات الشعور ، خامشات الوجوه ، لاطمات الخدود ، فيا له من يوم ما أشدّه على آل الرسول ، وما أمضّه على عليّ والبتول ، فقد انطمس فيه المعقول والمنقول ، وغادر شمس الإمامة الأفول .
أو لا تكونون يا ذوي العقول ، كمن ألبسه يومه المهول ، أثواب الضنى والنحول ، وكدّر عليه هنيء المشروب والمأكول ، فرثاه وندبه بما صوّرته القرائح ، من المراثي والمدائح ، وأجرى عليه الدموع السوافح ، ولله درّه من راث ونائح .

(1) وقريبا منه رواه الكليني في الكافي : 1 : 307 باب الإشارة والنص على أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق صلوات الله عليهما : ح 8 ، وعنه في البحار : 46 : 214 .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 181 وعنه في البحار : 47 : 13 ح 9 من الباب 9 .
ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 268 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 379 .
وروى قسما منه الصفار في بصائر الدرجات : ص 482 ح 6 من الباب 9 من الجزء 10 مع اختلاف في الألفاظ ، وعنه في البحار : 46 : 213 ح 4 من الباب 1 .
(2) لاحظ الإرشاد للمفيد : 2 : 158 ، والمناقب لابن شهر آشوب : 4 : 227 في أحواله وتاريخه عليه السلام ، وترجمة الإمام الباقر عليه السلام من تاريخ دمشق لابن عساكر : ص 163 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 208

المصرع الثالث عشر

وهو مصرع الصادق
(عليه السلام)

ما لي أرى أرباب الإيمان في غفلة ساهين ، وأصحاب الأديان عما يراد بهم غافلين ، وبزهوة دني الدنيا لاهين ، وعلى نمارق غرورها متّكئين ، وفي سرر بهجتها راقدين ، ولمعانقة خودها (1) طالبين ، وعن سلوك مناهج الآخرة قاعدين ، وفي السعي لتحصيلها متوانين ، وعن نعيمها الدائم عمين ؟!
ما هذا شأن العاقلين ، ولا من عادة العارفين ، ويحهم أما كانوا بالنصوص سامعين ، أم سمعوا وما كانوا موقنين ، فأقسم بديّان الدين وبارئ الخلائق أجمعين ، إنهم عن ذلك لمسؤولون ، وعلى القطمير والقنطار لمحاسبون ، وإنهم إلى الآخرة لصائرون ، وبالعبور على جسر جهنم لمكلّفون .
فتزوّدوا أيها المسافر ، فالطريق بعيد ، وتفقّه أيها المتاجر لئلا ترتطم في بحار التفنيد ، وانظر بعين بصيرتك تكن بصيرا ، وصفّ مورد سريرتك تكن محبورا ، واكتم أيها العاشق فمحبوبك كتوم ، ومت بهواك أيها الوامق فالرقيب نموم ، وخذ قول النبي المجيد ، واقتد بالعاشق الوحيد ، فقد أوضح لك الطريق ، وأوقفك على جادة التحقيق ، بقوله في كلامه المرويّ في صحيح الأسانيد : « من عشق فكتم فمات فهو شهيد » (2) .

(1) الخود : الشابة الناعمة الحسنة الخَلق ، جمعه خود وخَودات .
(2) تاريخ بغداد : 11 : 297 عن ابن عباس ، وفيه : « وعفّ فمات » .
كنز العمال : 3 : 372 | 6999 عن عائشة ، وح 7000 خطيب عن ابن عباس ، و 4 : 420 |11203 خطيب عن ابن عباس .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 209

ويك ، أتدّعي المحبة وتسلك غير طريق المحبوب ؟ وتزيّن قامتك بخلع الرغبة وأنت بعيد عن المطلوب ، جاف جنبك عن فراش الهناء إن كنت طامعا في اللقاء ، وأنزح بقلبك عن مواطن القلى إن رمت الوصال في الحمى ، أترى المحبوب زائرك وأنت مرقوب ؟ وتتمنى الإستراحة بقربه وقلبك بهوى غيره متعوب ؟ ألم يرفع لك أعلام الهداية الواضحة ، ويوقفك على نجوم الدراية اللائحة ؟ فما حجتك في التواني ؟ وما وسائلك في ترك القرب والتداني ؟ ألم يبلّغك على لسان النبي الأواه : «قل [ إن كنتم تحبون الله فـ ] اتبعوني يحببكم الله » (1) ؟ ألم يعرّفك شأن العشاق بلا اشتباه بقوله : «الذين آمنوا أشدّ حبا لله » (2) ؟
فدونك الرفيق فقد أمن الطريق ، وقد وقفت على التحقيق ، فإياك والتعويق ، الطريق محمد وآله ، ومتابعة دين الحق ورجاله ، فهم سرّ الله المخزون ، وأولياؤه المقربون ، وهم الكاف والنون ، إلى الله يدعون ، وعنه يقولون ، وبأمره يعملون ، وفي ذلك سر مصون ، ومن أنكر ذلك فهو شقيّ ملعون ، فكلما في الذكر الحكيم ، والكلام القديم ، من آية تذكر فيها العين والوجه واليد والجنب والحقّ والصراط ، فهم هم ، لأنّ ظاهرهم باطن الصفات ، وهم السرّ المستودع في الكلمات ، أما سمعت قول النبي الهادي صلى الله عليه وآله : « إن لله أعينا وأيادي » .
فهم الجنب العليّ ، والوجه الرضي ، والمثل الرويّ ، والصراط السويّ ، والوسيلة إلى الله ، والوصلة إلى عفوه ورضاه ، فهم عين الأحد ، فلا يقاس بهم من الخلق أحد ، وهم خاصة الله وخالصته ، وسرّ الديان وكلمته .

=
البداية والنهاية : 11 : 125 ، الجامع الصغير للسيوطي : 2 : 263 |8853 ، سبل الرشاد والهدى للصالحي الشامي : 12 : 93 باب 39 ، فيض القدير : 6 : 232 | 8852 ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 20 : 233 .
(1) سورة آل عمران : 3 : 31 .
(2) سورة البقرة : 2 : 165 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 210

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل وملت إلى ذكرى حبيب ومنـزل
ونادتني الأشواق ويحــك هذه منازل من تهوى فدوك فانــزل

عد يا قلب إلى هواك الراسخ ، ودع عنك لمع البرق اللائح ، وانفرد فليس الجمع من حزبك ، «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك » (1) ، أنّى للمعدم واللذات ، وأنّى للعليل وعناق الغانيات ؟ كيف يستر قلب من أصيب بهداته ، وحطم الدهر نواجم لذّاته ؟ أبعد مصاب الإمام الناطق للقلب سرور ؟ وبعد قتل الحجة الصادق يتهنّى المحب بحبور ؟ هيهات ما ذلك شأن الموالين ، بل هو فعل القالين .
تقاضي النوى منّا فما فــي ظلالــه مقـيــل ولا ممـا جنــاه مقيــل
فحسبــي إذ شطّت بكم غربة النـوى عـلاج نحــول لا يكــاد يحــول
أروم بمعتــلّ الصبــائر غلتــي وأعجــب ما يشفى الغليــل عليـل
لعل الصبــا إن شطّت الدار أو نـأى مثالكـم أو عــزّ منــك مثـيــل
أحيّي الحيا إن صاب من صوب أرضكم يباريه مـن مــرّ النسيــم رميــل
تمرّ بنا في الليل وهنـاً عســى بهـا يداوى علـيــل أو يـبـلّ غليــل
سرى وبريق الثغـر وهنــاً كأنّمــا لديّ بريــق الثغــر منــك يذيـل
وأنشــأ شمــال الغور لي منك نشأة غشــاه بمعتـلّ الشمــال شمــول
أمتهمة قلبـي مـع البيــن سلــوة ومتهمـة فـي الركــب ليس تــؤل

روي في كتاب الراوندي عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال : « علمنا غابر ومزبور ، ونكت في القلوب ، ونقر في الأسماع ، وعندنا الجفر الأبيض والجفر الأحمر ، أما الجفر الأبيض فهو التوراة ، وأما الجفر الأحمر فهو سلاح رسول

(1) سورة الفجر 89 : 28 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 211

الله (صلى الله عليه وآله) ، وعندنا مصحف فاطمة وهو علم ما يكون من الحوادث واسم من يملّك منّا إلى يوم القيامة ، وعندنا الجامعة وهي ما يحتاج الناس إليه من أمور دينهم ، وعندنا الصحيفة وفيها اسم مَن وُلد ومن يولد إلى يوم القيامة ، ذلك فضل الله علينا وعلى الناس ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون
» (1) .
وروي في كتاب المجالس أنّ مولد الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) كان يوم الاثنين سابع [ عشر ] ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين من الهجرة (2) .

(1) رواه الراوندي في الخرائج : 2 : 894 قال : وكان عليه السلام يقول : « علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الأسماع ، وإن عندنا الجفر الأحمر والجفر الأبيض ومصحف فاطمة عليها السلام ، وإن عندنا الجامعة التي فيها جميع ما يحتاج الناس إليه » .
فسئل عن تفسيرها فقال : « أما الغابر فالعلم بما يكون ، وأما المزبور فالعلم بما كان ، وأما النكت في القوب فالإلهام ، والنقر في الأسماع حديث الملائكة نسمع كلامهم ولانرى أشخاصهم ، وأما الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله ولن يخرج حتى يقوم قائمنا أهل البيت ، وأما الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود ، وفيها كتب الله الأولى ، وأما مصحف فاطمة ففيه ما يكون من حادث واسماء كلّ من يملك إلى أن تقوم الساعة ، وأما الجامعة فهي كتاب طوله سبعون ذراعا إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله من فلق فيه وخطّ علي بن أبي طالب بيده ، فيه والله جميع ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة ، حتى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة » .
وقال : « ألواح موسى عندنا ، وعصا موسى عندنا ، ونحن ورثة النبيين ، حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث علي بن أبي طالب ، وحديث علي حديث رسول الله ، وحديث الله قول الله عزوجل » .
ورواه الكليني في الكافي : 1 : 264 ح 3 وص 239 ح 1 من باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام من كتاب الحجة ، والصفار في بصائر الدرجات : ص 151 ح 3 من الباب 14 وأحاديث قبله وبعده ، والمفيد في الإرشاد : 2 : 186 ، والطبرسي في الاحتجاج : 2 : 294 برقم 246 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 381 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 298 في معالي أموره عليه السلام .
(2) ورواه ـ مقتصرا على سنة الولادة ـ الكليني في الكافي : 1 : 472 ، وابن الخشاب في مواليد

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 212

وروي أيضا في كتاب النوادر يرفعه إلى عبدالعظيم [ بن عبدالله ] الحسني قال : دخل عمر [ و ] بن عبيد البصري على أبي عبدالله (عليه السلام) ، فلما سلم وجلس تلا هذه الآية : «الذين يجتنبون كبائر الإثم » (1) ، ثم سأل عن الكبائر ، فأجابه (عليه السلام) فخرج أبو عبيد وله صراخ وبكاء وهو يقول : هلك والله من عمل برأيه ونازعكم في الفضل (2) .
وروي في كتاب ثواب الأعمال عن المعلّى بن خنيس قال : خرج أبو عبدالله الصادق (عليه السلام) في ليلة قد رشت السماء وهو يريد ظلّة بني ساعدة ، فاتبعته فإذا [ هو ] قد سقط منه شيء فقال : « بسم الله ، اللهم ردّه (3) علينا » .
[ قال : ] فأتيته فسلمت عليه ، [ فـ ] قال : « أنت معلى » ؟
قلت : نعم ، جعلت فداك .
فقال لي : « التمس بيدك ، فما وجدت من شيء فادفعه إليّ » .
قال : فإذا بخبز متنشّر ، فجعلت أدفع إليه ما أجد (4) ، فإذا أنا بجراب مملوء

=
الأئمة : ( مجموعة نفيسة : ص 185 ) ، والمفيد في الإرشاد : 179 .
وقال الطبرسي في إعلام الورى : ص 266 : ولد بالمدينة لثلاث عشر ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين من الهجرة .
قال : المجلسي في البحار : 47 : 1 : 2 : قال الشهيد في الدروس : ولد عليه السلام بالمدينة يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول سنة وثلاث وثمانين . ومثله في تاريخ الغفاري وفي الجدول من مصباح الكفعمي : [ ص 523 ] .
ومثله في المناقب لابن شهر آشوب : 4 : 301 في تواريخ وأحواله عليه السلام ، والحلي في العدد القويّة : ص 147 .
وفي تاريخ ولادته قول آخر ، راجع البحار : 47 : 1 .
(1) سورة الشورى : 42 : 37 ، والنجم : 53 : 32 .
(2) ورواه ابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 273 مع إضافات .
(3) في المصدر : « ردّ » .
(4) في المصدر : « ما وجدت » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 213

خبزا (1) ، فقلت له : جعلت فداك ، ( دعني ) (2) أحمله عنك .
فقال : « لا ، أنا أولى منك بحمله (3) ، ولكن امض معي » .
فانطلقت معه وأتينا (4) ظلّة بني ساعدة ، وإذا بأناس نيام (5) ، فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين تحت ثوب كلّ واحد منهم حتى أتى على آخرهم وانصرفنا ، فقلت له : جعلت فداك ، هل يعرف هؤلاء الحق ؟ (6)
فقال : « لو عرفوا ( الحق )(7)لواسيناهم بالدقة والملح » ! (8)
فوا لهف نفسي على الإمام ، وربيع الأرامل والأيتام ، والمطعم لوجه الله الطعام ، وفاروق الحلال والحرام ، الصادق في الفعل والكلام ، والمنزّه عن الخطايا واللآثام ، وعماد الدين والقوام ، والعروة الوثقى التي ليس لها انفصام ، ولله درّ من قال من الأنام :
أبني المفاخر والذين علا لهم على هام السهى القدر

(1) في المصدر : « ما وجدت » .
(2) ليس في المصدر .
(3) في المصدر : « أولى به منك » .
(4) في المصدر : « ... امض معي . قال : فأتينا » .
(5) في المصدر : « فإذا نحن بقوم نيام » .
(6) في المصدر : « ثم انصرفنا ، قلت : جعلت فداك ، يعرف هؤلاء الحق » .
(7) ليس في المصدر .
(8) رواه الصدوق في ثواب الأعمال : ص 144 وجميع ما بين المعقوفات منه ، وفيه : « بالدقة » ـ والدقة هي الملح ـ إن الله لم يخلق شيئا إلا وله خازن يخزنه إلا الصدقة فإن الربّ تبارك وتعالى يليهما بنفسه ، وكان أبي إذا تصدّق بشيء وضعه في يد السائل ثم ارتدّه منه وقبّله وشمّه ثمّ ردّه في يد السائل ، وذلك إنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل ، فأحببت أن أناول ما ولاها الله تعالى ، إنّ صدقة الليل تطفئ غضب الربّ وتمحق الذنب العظيم وتهوّن الحساب ، وصدقة النهار تثمر المال وتزيد في العمر ، إن عيسى بن مريم عليهما السلام لما مر على البحر ألقى بقرص من قوته في الماء ، فقال له بعض الحواريين : يا روح الله وكلمته ، لِمَ فعلتَ هذا ؟ هو من قوتك ؟ قال : فعلت هذا لتأكله دابة من دوابّ الماء وثوابه عند الله العظيم » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 214

أسمائكم فـي الذكـر معلنــة يجـلــو محاسنهـا لنا الذكر
شهدت بها الأعراف معرفــة والنحـل والأنفــال والزمر
وبــراءة شهـدت بفضلـكـم والنـور والفرقــان والحشر
وتعظــم التــوراة قدركــم فـإذا انتهــى سفر حكى سفر
ولكم مناقب قد أحــاط بهــا الإنجيــل حار بوصفها الفكر
ولكم علـوم الغائبــات فمنهـا الجامـع المخــزون والجفـر
هذا ولو شجـر البسيطــة أقلا م وسبعــة أبحــر حبــر
وفسيــح هذي الأرض مجملـة طــرس فمنها السهل والوعر
والإنــس والأمـلاك كاتبــة والجــنّ حتى ينقضـي العمر
ليعــددوا مـا فيـه خصّكــم * ذو العــرش حتـى ينفد الدهر
لم يدركوا عُشـر العشيـر وهل يُحصى الحصى أو يُحصر الذرّ

وروي في كتاب الاحتجاج أنه دخل أبو شاكر الديصاني ـ وهو زنديق ـ على أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) ، فقال له : يا جعفر ، دلّني على معبودي .
فقال [ له أبو عبدالله ] (عليه السلام) : « اجلس » . فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها ، فقال [ أبو عبدالله ] (عليه السلام) : « ناولني يا غلام هذه البيضة » . فناوله إياها ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : « يا ديصاني ، هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبية مائعة وفضة ذائبة ، فلا الذهبية المائعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبية المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح [ فـ ] يخبر عن إصلاحها ، ولم يدخل فيها داخل مفسد فخبّر عن فسادها ، لا ندري للذكر خلقت أم للأنثى ؟ تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لذلك مدبّرا أم لا » ؟
فأطرق مليّا وقال : (1) أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ

(1) في المصدر : « ثم قال » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 215

محمدا عبده ورسوله ، وأنك إمام وحجة الله على خلقه ، وأنا تائب إلى الله تعالى مما كنت عليه (1) .
وروي في الكتاب المذكور عن أبان بن تغلب قال : كنت عند أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من أهل اليمن فسلّم ، فردّ أبو عبدالله (عليه السلام) فقال : « مرحبا بك يا سعد » (2) .
فقال له الرجل : هذا اسم ما سماّني به أحد إلا أمي ، وما أقلّ من يعرفني بهذا الاسم (3) .
فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : « صدقت يا سعد المولى » .
فقال الرجل : جعلت فداك ، بهذا كنت ألقّب .
فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : « لا خير في اللقب ، إن الله تعالى يقول : «ولا تنابزوا بالألقاب(4)بئس الأسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون » ، ما صناعتك يا سعد » ؟
قال : جعلت فداك ، إنا أهل بيت ننظر في النجوم ، لا يوجد أحد في اليمن أعلم به منّا (5) .
فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : « [ فكم يزيد ضوء الشمس على ضوء القمر درجة » ؟
فقال اليماني : لا أدري . فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : « صدقت » .
قال : « فكم ضوء القمر يزيد على ضوء المشتري درجة » ؟

(1) الاحتجاج : 2 : 201 برقم 215 وما بين المعقوفات منه ، وفيه : « مما كنت فيه » .
ورواه ـ مع إضافات في أوله ـ الكليني في الكافي : 1 : 79 ح 4 كتاب التوحيد ، والصدوق في كتاب التوحيد : ص 122 باب 9 ح 1 .
(2) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « يا سعد المولى » .
(3) في المصدر : « بهذا الإسم سمّتني أمّي ، وما أقلّ من يعرفني به » .
(4) سورة : الحجرات : 49 : 11 .
(5) في المصدر : « لا يقال إن باليمن أحد أعلم بالنجوم منّا » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 216

قال اليماني : لا أدري .
قال أبو عبدالله (عليه السلام) : « صدقت » ، ] كم [ يزيد ] ضوء المشتري على ضوء القمر درجة » ؟
قال اليماني : لا أدري .
فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : « [ فـ ] كم [ يزيد ] ضوء المشتري على ضوء عطارد درجة » ؟
قال [ اليماني ] : لا أدري .
فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : « صدقت ، فما اسم النجم الذي إذا طلعت هاجت الإبل » ؟ فقال اليماني : لا أدري .
قال الصادق (عليه السلام) : « صدقت » .
[ قال : « فكم ضوء عطارد يزيد درجة على الزهرة » ؟
قال : اليماني : لا أدري . قال أبو عبدالله (عليه السلام) : « صدقت » .
قال : ] فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت البقر » ؟
قال اليماني : لا أدري .
قال أبو عبدالله (عليه السلام) : « صدقت ، فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الكلاب » ؟
قال اليماني : لا أدري .
قال ابو عبدالله (عليه السلام) : « صدقت ، فما زحل عندكم في النجوم » ؟
قال اليماني : نجم نحس .
فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : « لا تقل نجم نحس ، فإنه (1) نجم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ وعلى ذريته الأكرمين ، [ وهو ] نجم الأوصياء ، [ وهو ] النجم الثاقب الذي ذكره الله في كتابه العزيز » .

(1) في المصدر : « لا تقل هذا ، فإنه » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 217

قال (1) له اليماني : فما معنى الثاقب ؟
قال : « لأن مطلعه في السماء السابعة ، فضوؤه تثقبت السماوات الأربع ، فمن ذلك سمّي النجم الثاقب » (2) .
ثم قال (عليه السلام) له : « يا أخا العرب ، هل عندكم عالم » ؟
قال (3) اليماني : نعم ، جعلت فداك ، إن اليمن ليسوا كغيرهم (4)من الناس في علمهم .
فقال أبو عبدالله : « فما تبلغ من علم عالمهم » ؟
قال اليماني : إن عالمهم ليزجر الطير فيقف ، ويقفوا أتر الراكب (5) في مسيرة في ساعة واحدة .
فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : « فعالم المدينة أعلم من عالم اليمن » .
فقال اليماني : وما يبلغ من [ علم ] عالم المدينة ؟
قال أبو عبدالله (عليه السلام) : « [ علم عالم المدينة ينتهي إلى ] أن (6) لا يقفو الأثر ولا يزجر الطير ويعلم [ ما ] في اللحظة الواحدة مسيرة الشمس تقطع اثني عشر برجا واثني عشر بحرا (7) واثني عشر عالما » .
فقال [ له ] اليماني : ما ظننت أنّ أحدا يعلم هذا و [ ما يدري ما كنهه ! قال : ] وقام [ اليماني ] ( من عنده ) (8) [ فخرج ] (9) .

(1) في المصدر : « قال الله تعالى في كتابه . فقال » .
(2) في المصدر : « لأنّ مطلعه في السماء السابعة ، فإنه ثقب بضوئه حتى أضاء في السماء الدنيا ، فمن ثم سمّي النجم الثاقب » .
(3) في المصدر : « ثم قال : يا أخا العرب أعندكم عالم ؟ فقال » .
(4) في المصدر : « ليسوا كأحد » .
(5) في المصدر : « ليزجر الطير ، ويقفوا الأثر في ساعة واحدة مسيرة شهر للراكب المحث » .
(6) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « أنه » .
(7) في المصدر : « برّا » .
(8) ليس في المصدر .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 218

ولله درّ من قال :
تلك نفس عزت على الله قــدرا فارتضاها لدينــه واصطفاهـا
صيغ للذكر وحـده والإلهيّــون كانت ! في الذكــر عنه شفاها
ســل ذوات التمييز تخبرك عنه إنّ حــال التوحيد منه ابتداهـا
حاز قدسيّـة العلــوم وإن لــم يؤتهــا جعفــر فمن يؤتاهـا
علم اقسمت جميــع المعالــي إنــه ربّهــا الـذي ربّاهــا
مقدم الأمـر عـن عزائـم قدس ليست السبعـة السـواري سواها
إنما عاشت السمـاوات والأرض ومن فيهمــا علـى نعمـاهـا
لا تضع في سوى أياديــه سؤلا ربمــا أفسد المــدام إناهــا
وهو سرّ السجود في الملأ الأعلى ولولاه لــم تعفّــر جباهــا
وهو الآية المحيطـة بالكــون ففــي عيــن كلّ شيء تراها

فالعجب العجاب ، من الكفرة النصّاب ، كيف أغفلوا دخول هذا الباب ، ولم يرقبوا فيه ربّ الأرباب ، في ظلم هذا الإمام الأوّاب ، فالويل لهم يوم فصل الخطاب ، حين يدعون للمناقشة والجواب ، وأنّى لهم الجواب ؟ فسوف يذوقون أشدّ العذاب ، «وما الله بغافل عما تعملون»(10) .
وروي في كتاب عيون أخبار الرضا بالإسناد عن الحسن بن الفضل (11) [ أبو محمد مولى الهاشميين بالمدينة ] ، عن علي بن موسى ، عن أبيه (عليهم السلام) قال : « أرسل أبو جعفر الدوانيقي إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) وأحضره ليقتله وأحضر له سيفا ونطعا ، ثم قال للربيع : إني دعوت جعفرا ، فإذا دخل عليّ فسوف أكلّمه فإذا كلّمته

(9) الاحتجاج للطبرسي : 2 : 250 رقم 224 .
ورواه الصدوق في الخصال : 2 : 489 ح 68 من أبواب الأثني عشر ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 277 .
(10) سورة البقرة : 2 :74 و85 و 140 و 149 ، وسورة آل عمران : 3 : 99 .
(11) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « الحسن بن المفضّل » .

السابق السابق الفهرس التالي التالي