مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 219

أضرب يدي على الأخرى ، فإذا رأيتني فعلت ذلك فاضرب عنقه .
فدخل جعفر بن محمد (عليهما السلام) المجلس ، فلما نظر إليه أبو جعفر الدوانيقي من بعيد تحرّك من مكانه وقال : مرحبا وأهلا بك يا أبا عبدالله ، إنما أرسلنا إليك لرجاء قضاء دينك ، ونقضي ذمامك . ثم سأله مساءلة لطيفة عن أهل بيته ، ثم قال له : يا أبا عبدالله ، قد قضى الله دينك وأجزل جائزتك .
ثم قال : يا ربيع ، امض مع جعفر حتى توصله إلى أهله .
قال الربيع : فخرجت معه فسألته في الطريق عن حاله وقلت له : يا أبا عبدالله ، أرأيت النطع والسيف ؟ إنما وضعا لك ، فأيّ شيء قلت عند دخولك ؟
قال (عليه السلام) : نعم يا ربيع ، إني لما دخلت على هذا الطاغية رأيت الشرّ في وجهه يلوح ، فقلت :«حسبي الربّ من المربوبين ، حسبي الخالق من المخلوقين ، حسبي الرازق من المرزوقين ، حسبي من لم يزل حسبي ، لا إله إلا الله ، عليه توكّلت ، وهو ربّ العرش العظيم » (1) .

(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 : 273 ح 64 وفي ط المحقق : ص 563 ح 286 قال : حدثنا أبوالحسن أحمد بن محمد بن صقر الصائغ وأبوالحسن علي بن محمد بن مهرويه قالا : حدثنا عبدالرحمان بن أبي حاتم قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الحسن بن الفضل أبو محمد مولى الهاشميين بالمدينة ، قال : حدثنا علي بن موسى بن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهم السلام قال : « أرسل أبو جعفر الدوانيقي إلى جعفر بن محمد عليهما السلام ليقتله وطرح له سيفا ونطعا ، وقال : يا ربيع إذا أنا كلمته ثم ضربت بإحدى يدي على الأخرى ، فاضرب عنقه .
فلما دخل جعفر بن محمد عليه السلام ونظر إليه من بعيد تحرك أبو جعفر على فراشه وقال : مرحبا وأهل بك يا أبا عبدالله ، ما أرسلنا إليك إلا أن نقضي دينك ، ونقضي ذمامك . ثم ساءله مساءلة لطيفة عن أهل بيته ، وقال : قد قضى الله حاجتك ودينك وأخرج جائزتك .
[ ثم قال : ] يا ربيع ، لا تمضين ثلاثة حتى يرجع جعفر إلى أهله .
فلما خرج قال له الربيع : يا با عبدالله ، رأيت السيف ؟ إنما كان وضع لك والنطع ، فأيّ شيء رأيتك تحرّك به شفتيك ؟
قال جعفر بن محمد عليه السلام : نعم يا ربيع ، لما رأيت الشرّ في وجهه قلت : حسبي الربّ من

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 220

وروى عن عبدالله بن سنان أنه قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن عظم حوض النبي (صلى الله عليه وآله) ، فقال لي : « يا ابن سنان ، حوض ما بين بُصرى إلى صنعاء ، أتحبّ أن تراه يا ابن سنان » ؟
قلت : نعم فداك أبي وأمي .
قال : فأخذ بيدي وأخرجني إلى ظاهر المدينة ، ثم ضرب رجله على الأرض ، فانشقّت وظهر نهر يجري لا تدرك حافتاه إلا أنه شبيه بالجزيرة ، فكنت أنا وهو واقفين ، فنظرت إلى نهر آخر بجانبنا يجري كأنه الثلج ومن جانبنا الآخر نهر من لبن أبيض من الثلج ، وفي وسطه نهر من خمر أحسن من الياقوت نورا ، فما رأيت أبهج للنظر من ذلك الخمر بين اللبن والماء ، فقلت له : جعلت فداك ، من أين يخرج هذا ، ومن أين يجري ذاك ؟
فقال (عليه السلام) : « هذه العيون التي ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله تعالى ، عين من ماء وعين من لبن وعين من خمر (1) ، وكلها تجري في هذا النهر » .
ورأيت على حافة النهر شجرا فيهنّ الحور معلقات برؤوسهنّ ما رأيت أحسن منهنّ وجها ، وبأيديهنّ أواني ليست بمثل أواني الدنيا ، فدنا (عليه السلام) من إحداهنّ وأومأ بيده فنظرت إلى تلك الحورية فمالت من الشجرة إلى النهر فغرفت في تلك الآنية وناولته فشرب ، ثم ناولها وأومأ إليها بيده فمالت لتغرف ثانية فمالت تلك الشجرة معها ، ثم غرفت وناولته فناولنيه فشربت ، فما رأيت شرابا مثله كان

=
المربوبين ، وحسبي الخالق من المخلوقين ، وحسبي الرازق من المرزوقين ، وحسبي الله ربّ العالمين ، حسبي من هو حسبي ، حسبي من لم يزل حسبي ، حسبي الله لا إله إلا هو ، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم » .
ورواه عنه في البحار : 47 : 162 ح 2 باب ما جرى بينه وبين المنصور وولاته .
(1) في الآية 15 من سورة محمد : 47 : «مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى » .
وفي رواية الإختصاص كما سيأتي : هذه العيون التي ذكرها الله في كتابه أنهار في الجنة عين من ماء وعين من لبن وعين من خمر ، يجري في هذا النهر .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 221

ألين ولا ألذّ ولا أذكى رائحة منه .
ثم إني نظرت في الكأس فإذا فيه ثلاثة ألوان من الشراب لم تختلط ، فقلت له : جعلت فداك ، ما رأيت كاليوم قطّ ، ولا ظننت أنّ الأمر يبلغ هكذا !
فقال (عليه السلام) لي : « هذا أقلّ ما أعدّه الله لشيعتنا ، إن المؤمن إذا توفي صارت روحه إلى هذا النهر ، فرعت في رياضه ، وشربت من شرابه ، وإن عدونا إذا مات صارت روحه إلى برهوت فأخلدت في عذابه ، وأطعمت من زقّومه ، وأسقيت من حميمه ، فاستعذ بالله من ذلك الوادي » (1) .

(1) رواه المفيد في الاختصاص : ص 321 عن الحسن بن أحمد بن سلمة اللؤلؤي ، عن الحسن بن علي بن بقّاح ، عن عبدالله بن جبلة ، عن عبدالله بن سنان قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الحوض ؟ فقال لي : « هو حوض ما بين بصرى إلى صنعاء ، أتحبّ أن تراه » ؟ فقلت له : نعم .
قال : فأخذ بيدي وأخرجني إلى ظهر المدينة ، ثم ضرب برجله فنظرت إلى نهر يجري من جانبه ، هذا ماء أبيض من الثلج ومن جانبه هذا لبن أبيض من الثلج ، وفي وسطه خمر أحسن من الياقوت ، فما رأيت شيئا أحسن من تلك الخمر بين اللبن والماء ، فقلت له : جعلت فداك ، من أين يخرج هذا ، ومن أين مجراه ؟
فقال : « هذه العيون التي ذكرها الله في كتابه أنهار في الجنة ، عين من ماء وعين من لبن وعين من خمر ، يجري في هذا النهر » .
ورأيت حافتيه عليهما شجر فيهنّ جوار معلقات برؤوسهنّ ما رأيت أحسن منهنّ ، وبأيديهنّ آنية ما رأيت أحسن منها ، ليست من آنية الدنيا ، فدنا من إحداهنّ فأومأ إليها بيده لتسقيه ، فنظرت إليها وقد مالت لتغرف من النهر ، فمال الشدر فاغترفت ثم ناولته فشربت ، ثم ناولها وأومأ إليها ، فمالت الشجرة معها فاغترفت ، ثم ناولته فناولني فشربت ، فما رأيت شرابا كان ألين منه ولا ألذّ ، وكانت رائحته رائحة المسك .
ونظر في الكأس فإذا فيه ثلاثة ألوان من الشراب ، فقلت له : جعلت فداك ، ما رأيت كاليوم قطّ ، وما كنت أرى الأمر هكذا !
فقال : « هذا من أقلّ ما أعدّه الله تعالى لشيعتنا ، إنّ المؤمن إذا توفّي صارت روحه إلى هذا النهر ، ورعت في رياضه وشربت من شرابه ، وإن عدونا إذا توفي صارت روحه إلى وادي برهوت فأخلدت في عذابه وأطعمت من زقّومه وسقيت من حميمه ، فاستعيذو بالله من ذلك

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 222

ولله در من قال من الرجال الأبدال ، ولقد أجاد في المقال :
الفريـد الذي مفاتيح علم الواحد الفــرد غيــره ما حواها
وهـو الجوهــر الم،جرّد منه كلّ نفس مليكهـا زكّاهــا
لـم تكـن هـذه العناصـر إلا من هيولاه حيث كان أباهـا
من يلج في جنـان جدوى يديه يجـد الحـور من أقل إماها
ما حبــاه الشفاعــة الله إلا لكنــوز من جاهـه زكّاها
ثق بمعروفه تجـده زعيمــا بنجاة العصــاة يـوم لقاها
كيف تظما حشى المحبين منـه وهو من كوثـر الوداد سقاها
شربـة أعقبتهــم نشــوات رقّ نشوانها وراق انتشاهـا
ما رأت وجهـه الغمـامـة إلا وأراقت منه حياءا حياهــا

روي في الكافي عن ظريف بن ناصح قال : لما بعث أبو جعفر الدوانيقي إلى ابي عبدالله ليشخصه إليه ، رفع يده إلى السماء وقال : « اللهم إنك حفظت الغلامين لصلاح أبويهما ، فاحفظني لصلاح آبائي محمد وعلي والحسن والحسين وعلي [ بن الحسين ومحمد بن علي ] (عليهم السلام) ، اللهم إني أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شرّه » .
ثم قال (عليه السلام) للجمّال : « سر ( بنا حيث أمرت ) (1) » .
قال : فلما ورد الحضرة استقبله الربيع وقال له : يا أبا عبدالله ، لقد تركت باطن هذا الطاغية يتلظّى عليك ويقول : والله لا أترك لأهل هذا البيت نخلا إلا عقرته ولا مالا إلا نهبته ، ولا ذرية إلا سبيتها !
قال : فهمس بشيء خفي وحرّك شفتيه ودخل وسلم وقعد ، فردّ (عليه السلام) وقال له : أما والله لقد هممت أن لا أترك لك نخلا إلاّ عقرته ، ولا مالا إلاّ أخذته .

=
الوادي » .
ورواه عنه في البحار : 47 : 88 .
ورواه الصفار في بصائر الدرجات : ص 403 ج 10 ب 13 .
(1) ما بين القوسين ليس في المصدر .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 223

فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : « يا أميرالمؤمنين ، إن الله ابتلى أيوب فصبر ، وأعطى داود فشكر ، وقدر يوسف فغفر ، وأنت من ذاك (1) النسل ، ولا يأتى ذلك النسل إلا بما يشبهه » .
فقال : صدقت ، قد عفونا عنك .
فقال (عليه السلام) : « والله يا أميرالمؤمنين ، إنه لم ينل منا [ أهل البيت ] أحد [ دما ] إلا سلبه الله ملكه » .
فغضب لذلك واستشاط ، فقال (عليه السلام) له : « على رسلك يا أميرالمؤمنين ، إن هذا الملك كان في آل أبي سفيان ، فلما قتل يزيد حسينا سلبه الله ملكه فورثه آل مروان ، فلما قتل هشام زيدا سلبه الله ملكه ، [ فورثه مروان بن محمد ، فلما قتل مروان إبراهيم سلبه الله ملكه ] » . «فأعطاكموه » .
فقال له : صدقت ، هات ارفع حوائجك .
فقال (عليه السلام) : « ( حاجتي ) (2) الإذن » .
فقال : هو بيدك . فخرج .
فقال الربيع : قد أمر لك بعشر آلاف درهم .
فقال (عليه السلام) : « لا حاجة لي فيها » .
فقال له الربيع : إذا تغضبه ، خذها فتصدّق بها على الفقراء والمساكين (3) .

(1) في المصدر : « ذلك » .
(2) ما بين القوسين ليس في المصدر .
(3) الكافي : 2 : 562 كتاب الدعاء : ح 22 من باب الدعاء للكرب والهم والحزن والخوف ، وجميع ما بين المعقوفات منه .
ورواه عنه في البحار : 47 : 208 ح 51 من باب ما جرى بينه وبين المنصور .
والخبر ونحوه رواه يحيى بن الحسين الشجري في أماليه : 1 : 227 ـ 228 ، والتنوخي في الفرج بعد الشدة : ص 70 ـ 71 ، والكنجي في كفاية الطالب : ص 455 ـ 456 ، وابن عبد ربّه في العقد الفريد : 2 : 130 ـ 131 وج 3 ص 222 ـ 223 ، وابن شهر آشوب في

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 224

وروي في كتاب كشف الغمّة مرسلا عن بعض أصحاب الصادق (عليه السلام) قال : دخلت على سيدي جعفر بن محمد وعنده ابنه موسى (عليه السلام) وهو يوصيه بهذه الوصية ، فكان مما حفظت منها أن قال : « يا بنيّ ، اقبل وصيتي واحفظ مقالتي ، فإنك إن حفظتها تعش سعيدا وتمت حميدا .
يا بني ، من قنع بما قسم له استغنى ، ومن مَدّ عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرا ، ومن لم يرض بما قسم [ الله ] له اتهم الله في قضائه ، ومن استصغر زلّة غيره استعظم زلّة نفسه ، ومن استصغر زلّة نفسه استعظم زلّة غيره .
يا بني ، من كشف [ عن ] حجاب غيره انكشفت(1) عورات بيته ، ومن سل سيف البغي قتِل به ، من احتفر بئرا لأخيه وقع فيه (2) ، ومن داخل السفهاء حُقّر ، ومن خالط العلماء وُقّر ، ومن دخل في مداخل السوء اتُّهم .
إياك أن تزري بالرجال فيزرى بك ، وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذلّ .
يا بنيّ ، قل الحقّ لك وعليك ، تستشار من بين أقرانك .
يا بُنيّ ، كن لكتاب الله تاليا ، وللسلام (3) فاشيا ، وبالمعروف آمرا ، وعن المنكر ناهيا ، ولمن قطعك واصلا ، ولمن سكت عنك مبتدئا ، ولمن سألك معطيا .

=
المناقب : 4 : 252 نقلا عن كتاب الترهيب والترغيب لأبي القاسم الإصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربّه ، وسبط ابن الجوزي في التذكرة : ص 344 ، وابن طاوس في مهج الدعوات : ص 189 ـ 196 ، وابن طلحة في مطالب السؤول : 2 : 58 ـ 59 ، والذهبي في السير : 6 : 266 ـ 267 ، والإربلي في ترجمة الإمام الصادق عليه السلام من كشف الغمة مع زيادات واختلافات ، وعنه في البحار : 47 : 182 .
ورواه الجزري في أسنى المطالب : ص 96 ـ 98 بطريقين ثم قال : هذا حديث غريب عزيز ، رواه من الأئمة المعتمد عليهم الحافظ الكبير إسماعيل التيمي في كتابه الترغيب والترهيب من الطريق الأولى كما رويناه ، والحافظ أبوبكر بن أبي الدنيا من الطريق الثانية كما أخرجناه ، وهو مجرّب في الشدائد .
(1) في المصدر : « تكشّفت » .
(2) في المصدر : « ومن احتفر لأخيه بئرا سقط فيه » .
(3) في المصدر : « للإسلام » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 225

وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال ، وإياك والتعرض في عيوب الناس ، فمنزلة المتعرض لعيوب الناس بمنزلة (1) الهدف .
يا بني ، إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه ، فإن للجود معادنا وللمعادن أصولا وللأصول فروعا [ وللفروع ثمرا ] ، ولا يطيب ثمر إلا بفرع ، ولا فرع إلا بأصل ، ولا أصل ثابت إلا بمعدن طيّب .
يا بني ، إذا زرت فزر الأخيار ، ولا تزر الفجار فإنهم صخرة لا ينفجر (2) ماؤها وشجرة لا يخضرّ ورقها وأرض لا يظهر عشبها
» .
[ قال علي بن موسى (عليهما السلام) : « فما ترك أبي هذه الوصية إلى أن توفي » ] (3) .
وما زال ـ صلوات الله عليه ـ يذكر ربه حتى مات شهيدا ، سمه المنصور لعنه الله .
وكانت وفاته يوم الاثنين خامس عشر شهر رجب سنة ثمان وأربعين ومئة من الهجرة (4) .
فوا لهف نفسي على تلك المناقب الفاضلة ، والصفات الكاملة ، والمنن الشاملة والغرر التي لم تزل على جباء الأيام سايلة .
وواحزناه على صاحب الأمرة والدعامة ، وعلى مركز دائرة الرسالة والإمامة ، كيف كوّرت شمس حياته أكفّ الجور والعدوان ، وخسفت قمر صفاته أيدي الفجور والطغيان ، «فإنا لله وإنا إليه راجعون » (5) ، «وسيعلم الذين ظلموا

(1) في المصدر : « كمنزلة » .
(2) في المصدر : « لا يتفجّر » .
(3) كشف الغمّة للإربلي : 2 : 396 ، ومختصرا في ص 369 في فضائل الإمام الصادق عليه السلام .
ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء : 3 : 195 ، وابن طلحة في مطالب السؤول : 2 : 57 ، وابن الجوزي في المنتظم : 8 : 111 ، والذهبي في السير : 6 : 263 .
(4) قال بهذا التاريخ الطبرسي في كتاب تاج المواليد : ( مجموعة نفيسة : ص 125 ) ، وفي إعلام الورى : ص 266 ، ولكنّ المعروف أنه عليه السلام توفّي في الخامس والعشرين من شوال المكرم كما رواه أيضا الطبرسي في تاج المواليد وإعلام الورى .
(5) سورة البقرة : 2 : 156 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 226

أي منقلب ينقلبون»(1) .
ولله در من قال من الرجال الأبدال :
يا ابن الهداة الأكرمين ومن شرف الكتـاب بهم ولا فخر
قسما بمثواك الشريف ومـا ضمّت منى والخيف والحجر
فهم سواء في الحقيقــة إذ بهم التمـام يحلّ والقصــر
تعنو له الألبـاب تـلبيــة ويطوف ظاهره حجر الحجر
ما طائر فقد الفــراخ فلا يأويـه بعد فراخـه وكــر
بأشدّ من حزني عليـك ولا الخنساء جدّد حزنها صخر (2)
ولقد وددت بأن أراك وقـد قلّ النصيــر وفاتك النصـر
حتى أكون لك الفداء كمـا كرمــا أبـاك فدالـه الحـرّ

فتبوّءوا رفيع المراتب بإسالة المدامع ، وزاحموا أئمّتكم الأطائب في سمّي المقاصر والمجامع ، ونوحوا نوح الحمام النواعب ، ونادوا بالويل والفجائع ، وتصوروا خلّو تلك المضارب ، وخويّ هاتيك المرابع ، من أرباب النوافل والرواتب ، فلا دافع ولا مانع ، أولا تكونون يا إخواني كمن أورده رزؤهم الراتب موارد البلاء والفضائح (3) ، وأحرمه لذيذ المطاعم والمشارب ، ونفى عن

(1) سورة البقرة : 2 : 156 .
(2) الخنساء هي بنت عمرو بن الشريد بن ثعلبة بن عُصية بن خفاف بن امرئ القيس ؛ الشاعرة المشهورة ، قدمت على النبي صلى الله عليه وآله مع قومها من بني سليم فأسلمت معهم ، فذكروا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يستنشدها ويعجبه شعرها ، وكانت تنشده وهو يقول : « هيه يا خُناس » ، ويؤمي بيده .
قالوا : وكانت الخنساء تقول في أول أمرها البيتين أو الثلاثة ، حتى قتل أخوها شقيقها معاوية بن عمرو وقتل أخوها لأبيها صخر ؛ وكان أحبهما إليها ؛ لأنه كان حليما جوادا محبوبا في العشيرة ، كان غزا بني أسد فطعنه أبو ثور الأسدي طعنة مرض منها حولا ثم مات ، فلما قتل أخواها أكثرت من الشعر . ( الإصابة : 7 : 613 رقم 11106 ، وأسد الغابة : 5 : 441 ) .
(3) الفضيحة : الشهرة بما يُعاب ، والعيب ، والجمع : فضائح . ( المعجم الوسيط ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 227

جفنه لذة النائم الهاجع ، فأقام العزاء والنوادب ، على خمود تلك الأنوار اللوامع ، ولله درّه من راث ونادب .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 228

المصرع الرابع عشر

وهو مصرع موسى بن جعفر الكاظم
(عليه السلام)

صفوا بواطن سرائركم أيها العارفون ، واجلوا درن مرآة ضمائركم أيها العاشقون ، وجودوا بنفائس الأعمار أيها الطالبون ، وروضوا شوامس نفوسكم أيها السالكون ، «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون » (1) .
استوحشوا من الرقباء إن كنتم عشّاقا ، وجانبوا الوشاة إن رمتم من المحبوب وفاقا ، وتذّللوا له تكونوا عنده مكرمين وأطيعوه فيما أمركم تصيروا محترمين ، واعلموا أن المحبوب متى عصي جفا ، و متى خولف قلى .
ما أنت والقوم ترجو نيل سعيهم وما شربت من الكأس الذي شربوا

فشمّروا ذيول الجد والاجتهاد ، وتجافوا عن ناعم الفراش و المهاد ، وانهجوا ملحوب الرضا ، وسلّموا المحتوم القدر والقضاء ، ووالوا أولياء الله وعادوا أعداءه ، وأحبوا أحبّاءه وأبغضوا بغضاءه ، واعتقدوا بنيات صادقة أنّ حب محمد وآله عليهم السلام حب الله ، ورضاهم اختياره ورضاه ، وهم حجته ومحجته ، وأعلام الهدى ورايته ، وفضله ورحمته ، وعين اليقين وحقيقته ، وصراط الحق وعصمته ، ومبدأ الوجود وغايته ، وقدرة الله ومشيئته ، وأم الكتاب وخاتمته ، وفصل الخطاب ودلالته ، وخزنة الوحي وحفظته ، وأمنة الذكر وتراجمته ، ومعدن التنزيل ونهايته .
فهم الكواكب العلوية ، والأنوار العلوية المشرقة من شمس العصمة الفاطمية في سماء العظمة المحمدية ، والأغصان النبوية النابتة في الدوحة الأحمدية ، والأسرار

(1) سورة آل عمران : 3 : 92 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 229

الإلهية المودعة في الهياكل البشرية ، والذرية الزكية والعترة الهاشمية المهدية ، أولئك هم خير البرية .
وهم العترة الطاهرون ، والأئمة المعصومون ، والذرية الأكرمون ، والخلفاء الراشدون ، والكبراء الصديقون ، والأوصياء المنتجبون ، والأسباط المرضيّون ، والهداة المهديون .
وهم حجة الله على الأولين والآخرين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، آل طه ويس ، كتب الله أسماءهم على الأحجار ، وعلى أوراق الأشجار ، وعلى أجنحة الأطيار ، وعلى أبواب الجنة والنار ، وعلى العرش والأفلاك ، وعلى أجنحة الأملاك ، وعلى حجب الجلال ، وسرادقات العز والإجلال ، وباسمهم تسبيح الأطيار ، وتسغفر لشيعتهم الحيتان في لجج البحار ، ولله در من قال ، ولقد أجاد في المقال :
سادة لا تريـد إلا رضــى الله كمــا لا يريــد إلا رضاها
خصها من كمالــه بالمعالــي وبأعلــى أسمــائـه سماها
لم يكونوا للعـرش إلا كنــوزا خافيــات سبحـان من أبداها
كم لهـم ألسـن عن الله تنبــئ هـي أقلام حكمــة قـد براها
فهم الأعين الصحيحــات تهدى كــل نفس مكفوفــة عيناها
علمــاء أئمــة حكمـــاء يهتدى النجم باتّباع هواهـا قادة
علمهــم ورأي حجــاهــم مسمـع كل حكمة منظراهــا
ما ابالي ولو أهليت علــى الأ رض السماوات بعد نيلي ولاها
من يباريهم وفي الشمس معنـى مجهــد متعب لمـن باراهـا
ورثوا من محمد سبـق أولاهـا وحازوا ما لــم تحـز أخراها
آيـة الله حكمــة الله سيف الله والرحمــة التــي أهداهــا

روى كمال الدين في كتاب مطالب السؤول أن مولد الإمام أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) كان ليلة السابع من شهر صفر سنة ثمان وعشرين ومئة .
وهو الإمام الكبير القدر ، والعظيم الشأن ، والكثير التهجد ، الجادّ في

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 230

الاجتهاد ، المشهود له بالكرامات ، والمواظب على الطاعات ، يبيت الليل ساجدا وقائما ، ويقطع النهار متصدّقا صائما ، ولفرط حلمه عن المتعدّين عليه دعي كاظما .
كان يجازي المسيء إليه بإحسانه ، ويقابل الجاني عليه بعفوه وغفرانه ، وقد اشتهر بين الفريقين بالعبد الصالح ، وعرف في العراقين بباب الحوائج والمنائح .
فهذه الكرامات العالية المقدار ، الخارقة للعوائد في كلّ الأعصار ، هي على التحقيق حلية المناقب ، وزينة المزايا والرغائب ، لا يؤتاها إلا من أفاضت عليه العناية الربانية أنوار التأييد ، وهطلت عليه التوفيقات السبحانية رذاذ التقديس والتسديد ، «وما يلقّيها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظ عظيم » (1)(2) .
وروي في الكافي عن محمد بن العباس بإسناده عن جميل بن درّاج قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام : أتأذن لي أن أحدّث الناس بحديث جابر ؟ (3) قال : « لا تحدّث به السفلة فيذيعـ[و]ه ، أما (4) تقرأ : : « إن إلينا إيابهم * ثم إنّ علينا حسابهم » » .
قلت : بلى .
قال : « إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين ولانا الله حساب شيعتنا ، فما كان بينهم وبين الله حكمنا على الله فيه ، فأجاز حكومتنا ، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم ، فوهبوه لنا ، وما كان بيننا وبينهم فنحن أولى من عفى وصفح » (5) .

(1) سورة فصلت : 41 : 35 .
(2) مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي : ص 289 وفي ط : 292 الباب السابع ، مع اختلاف في بعض الألفاظ .
(3) في المصدر : « قلت لأبي الحسن عليه السلام : أحدّثهم بتفسير جابر » ؟
(4) في المصدر : « قلت لأبي الحسن عليه السلام : أحدّثهم بتفسير جابر » ؟
(5) رواه محمد بن العباس كما في تأويل الآيات للاسترابادي : 2 : 788 ح 7 ، وعنه البحراني في البرهان : 4 : 456 ح 6 ، والمجلسي في البحار : 8 : 50 ح 57 من باب الشفاعة من كتاب

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 231

وروى في كتاب مشارق الأنوار عن الأصبغ بن نباتة قال : خطب أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقال في خطبته : « أنا أخو رسول الله ، ووارث علمه ، ومعدن حكمه ، وصاحب سره ، وما أنزل الله حرفا في كتاب من كتبه إلا وقد صار إليّ ، وزادني علما منه ، وأعطيت (1) علم الأنساب والأسباب ، وأعطيت ألف مفتاح يفتح كلّ مفتاح ألف باب ، وأمددت (2) بعلم القدر ، وإنّ ذلك يجري في الأوصياء من بعدي ما جرى الليل والنهار ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين .
أعطينا الصراط ، والميزان ، واللواء ، والكوثر .
نحن المقدّمون على بني آدم يوم القيامة ، نحن المحاسبون للخلق ، نحن منزلوهم منازلهم ، نحن معذّبوا أهل النار
» (3) .
وروي في الكتاب المذكور عن نافع ، عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال : « يا عليّ ، أنت نذير أمّتي و[ أنت ] هاديها ، وأنت صاحب حوضي و[ أنت ] ساقيه ، وأنت يا عليّ ذو قرنيها وصاحب طرفيها(4) ولك الآخرة والأولى ، فأنت يوم القيامة الساقي ، والحسن الذائد ، والحسين الأمين(5)، وعلي

=
العدل والمعاد وفي ج 24 ص 267 ح 34 من باب الآيات الدالة على رفعة شأنهم .
والفقرة الأخيرة من الحديث ورد نحوها عن الصادق عليه السلام ، كما في تفسير فرات الكوفي : ص 552 ح 707 .
ورواه فرات باختصار عن الإمام الكاظم عليه السلام في الحديث 706 من تفسيره : ص 551 .
(1) في المصدر : « وزاد لي علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، أعطيت » .
(2) في المصدر : « ومددت » .
(3) مشارق أنوار اليقين للبرسي : ص 164 مع اختلاف في بعض الألفاظ وإضافات كثيرة .
ورواه البحراني في معالم الزلفى : 1 : 178 .
(4) في المصدر : « ذو قرنيها وكلا طرفيها » .
(5) في المصدر : « الحسين الآمر » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 232

بن الحسين الفارض ، ومحمد بن علي الناشر ، وجعفر بن محمد السابق(1)، وموسى بن جعفر محصي المحبين والمنافقين (2)، وعلي بن موسى مرتّب المؤمنين ، ومحمد بن علي منزل أهل الجنة في منازلهم(3) وعلي بن محمد خطيب أهل الجنة ، والحسن بن علي جامعهم [ حيث يإذن الله لمن يشاء ويرضى ] ، والمهدي عجّل الله فرجه شفيعهم يوم القيامة حيث لا يأذن الله إلا لمن يشاء ويرضى
» (4) .
ولله درّ من قال :
أقرّ الحاسـدون لهم بفضــل عوارفـه قلائـد في الهــواد
بهم نـال الهدايــة ذو ضلال وهم نهج الدرايــة والرشـاد
وهم عصم المرجّى ثم غـوث يفـوق الغيث في السنة الجماد
محظتهم المـودة غيــر وان وأرجوا الأجر في صدق الوداد
وكم عاندت فيهـم من عــدوّ وفيهـم لا أخاف من العنــاد
ومن يك ذا مراد فـي أمــور فإنّ ولاهُــم أقصـى مرادي
أرجّيهم لآخرتــي وأبغــي بهم نيل المطالــب في المعاد
وما قدّمت مــن زاد سواهـم ونعــم الزاد يوم البعث زادي

مناقبهم قد طبقت المشارق والمغارب ، وفضائلهم أعجزت الأعاجم والأعارب ، وفواضلهم غمّرت المتفسكل والذاهب ، ونوائلهم عمت البعيد والصاحب ، وتناولت الأهل والأجانب .
فكم لهم من أياد هطلت بسيوب الإفضال ، ورشحت على رياض الوجود

(1) في المصدر : « السائق » .
(2) في المصدر : « السائق » .
(3) في المصدر : « السائق » .
(4) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص 180 ـ 181 وما بين المعقوفين منه ، وعنه المجلسي في البحار : 27 : 313 .
ورواه البحراني في معالم الزلفى : 1 : 177 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي