مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 233

بودق النوال ، وكم لهم من ألسن تنبئ عن ذي الجلال ، وأقلام حكمة برتها أيدي الكبير المتعال ، وعلوم لم تحط بها قلوب الرجال ، قد استعذب منها الرحيق الزلال ، وفاض منها العذب السلسال .
فهم والله الفيوض السجّال ، وهم علل الوجود في القدم والأزال ، وهم المميّزون بين الحرام والحلال ، ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ على ممرّ الأيام والليال .
روي في كتاب كشف الغمة عن علي بن أبي حمزة البطائني قال : خرج أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) في بعض الأيام [ من المدينة ] إلى ضيعة له خارجة عن المدينة فصحبته وكان (عليه السلام) راكبا على بغلة وأنا على حمار [ لي ] ، فلما صرنا في بعض الطريق اعترضنا أسد فأحجمت أنا عنه [ خوفا ] وأقدم أبو الحسن (عليه السلام) [ غير مكترث به ، فرأيت الأسد يتذلّل لأبي الحسن ويهمهم ، فوقف له أبو الحسن (عليه السلام) ] عليه كالمصغى [ إلى همهمته ] ، فوضع الأسد يده على كفل بغلته ، فرعبت نفسي من ذلك رعبا عظيما ، فمكثت هنيئة ثم تنحّى عن الطريق ، فحوّل أبو الحسن (عليه السلام) وجهه إلى القبلة وجعل يدعو ، فحرّك شفتيه بما لم أفهم ، ثم أومأ بيده إلى الأسد أن امض ، فهمهم الأسد همهمة طويلة وأبو الحسن (عليه السلام) يقول : « آمين آمين » ، فانصرف الأسد حتى غاب عنا ، ومضى أبو الحسن (عليه السلام) لوجهه ، فلما بعدنا عن الموضع قلت له جعلت فداك ، ما شأن هذا الأسد ؟ فقد خفت منه والله عليك ، وعجبت من شأنك معه !
قال أبو الحسن (عليه السلام) : « إنه خرج يشكو إليّ عسر ولادة لبوته (1) وسألني أن أسأل الله [ تعالى ] أن يفرّج عنها ففعلت [ ذلك ] ، فألقى الله في روعي أنها تلد [ له ] ذكرا فخبّرته بذلك ، فقال لي : امض في حفظ الله ، فلا سلّط الله عليك ولا على ذريّتك ولا على [ أحد من ] شيعتك شيئا من السباع ، فقلت آمين » (2) .

(1) في المصدر : « عسر الولادة على لبوته » .
(2) كشف الغمة : 3 : 17 مع اختلاف في الألفاظ ، وما بين المعقوفات منه .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 234

وروي في الكتاب المذكور عن محمد بن عبدالله السكري (1) قال : قدمت المدينة أطلب دينا فأعياني فقلت : لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) فشكوت إليه ، فأتيته [ بنقمى ] (2) في ضيعته ، فخرج إليّ ومعه غلام بيده منسف فيه قديد مجزّع (3) ليس معه غيره ، فوضعه فأكل وأكلت معه ، وسألني عن حاجتي فذكرت له قصّتي ، فدخل فلم يقم إلا يسيرا حتى خرج ، ثم قال لغلامه : « اذهب » ، ومدّ يده فدفع إليّ صُرّة فيها ثلاث مئة دينار ، ثم قام وعاد إلى ضيعته ، وقمت وركبت وانصرفت (4) .
وروي في الكتاب المذكور أنّ رجلا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى (عليه السلام) ويسبّه إذا رآه ويشتم عليا (عليه السلام) فقال له أصحابه : دعنا نقتل هذا الفاجر ، فنهاهم عن ذلك وزجرهم أشدّ الزجر ، وسأل عن العمري فأخبر أنه خرج إلى زرع له ، فخرج إليه ودخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري : لا توطئ زرعنا ، فتوطّاه أبو الحسن (عليه السلام) بالحمار حتى وصل إليه ، فنزل وجلس وباسطه وضاحكه وقال : « كم غرمت على زرعك هذا » ؟

=
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 229 ـ 230 ، والراوندي في الخرائج : 2 : 649 | 1 ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : 456 | 384 ، والفتّال في روضة الواعظين : ص 214 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 323 ثم قال : وقد نظم ذلك :
واذكر الليث حين ألقـى لديـه فسعى نحـوه وزار وزمجر
ثم لما رأى الإمــام أتــاه وتجافــى عنه وهاب وأكبر
وهو طاو ثلاث هذا هو الحق وما لـم أقلـه أوفـى وأكثر

(1) في بعض نسخ المصدر : « البكري » .
(2) قال الحموي في مادة « نقم » من معجم البلدان : نَقمى ـ بالتحريك والقصر ـ : موضع من أعراض المدينة كان لأبي طالب .
(3) مجزع : أي مقطع .
(4) كشف الغمّة : 3 : 18 وما بين المعقوفين منه .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 233 ، والخطيب في تاريخ بغداد : 13 : 28 وعنه المزي في تهذيب الكمال : 29 : 45 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 235

قال : مئتي دينار .
قال : « فكم ترجو أن تحصل فيه (1) » ؟
قال : لست أعلم الغيب .
قال : « إنما قلت لك : كم ترجو » ؟
قال : أن تجيء فيه مئتي دينار .
فاخرج له أبو الحسن (عليه السلام) صرّة فيها ثلاث مئة دينار وقال : « هذا زرعك على حاله ، والله يرزقك ما ترجوه » .
قال : فقام العمري وقبّل رأس الإمام وسأله أن يصفح عما فرط منه ، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف إلى بيته ، ثم خرج إلى المسجد فوجد العمري جالسا هناك ، فلما نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالته .
قال : فوثب إليه أصحابه وقالوا : ما قصّتك ؟ قد كنت تقول غير هذا .
فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو إلى أبي الحسن (عليه السلام) ، فخاصموه ، فلما رجع أبو الحسن (عليه السلام) إلى داره قال لأصحابه الذين أشارو بقتل العمري : « كيف رأيتم ؟ أصلحت أمره وكفيتكم (2) شره » (3) .
ولله درّ من قال من الرجال الأبدال على الآل :
نوّهت باسمه السماوات والأرض كما نوّهـت بصبـح ذكاهــا
وغدت تنشر الفضائــل عنـه كلّ قــوم على اختلاف لغاها

(1) في المصدر : « أن يحصل منه » .
(2) في المصدر : « وكفيت » .
(3) كشف الغمة : 3 : 18 .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 233 ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : 413 ، والخطيب في تاريخ بغداد : 13 : 28 وعنه الذهبي في سير أعلام النبلاء : 6 : 271 ، والطبري في دلائل الإمامة : 311 ، والفتّال في روضة الواعظين : 215 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 344 ، والطبرسي في إعلام الورى : 2 : 26 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 236

وصفوا ذاته بما كـان فيهــا من صفـات كمن رأى مرآها
وتمنّـوه بكــره وأصيــلا كلّ نفـس مشغوفــة بمناها
طربت باسمه الثرى فاستطالت فــوق علويّة السماء سفلاها
ثم أثنت عليـه إنس وجــنّ وعلـى مثلــه يحـقّ ثناها

روي في كتاب كشف الغمة عن أحمد بن عبدالله (1) بن عمار يرفعه إلى مشايخه قالوا : جعل الرشيد ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث ، فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك وقال : إن أفضيت إليه الخلافة تزول دولتي ودولة ولدي ، فاحتال على جعفر بن محمد ـ وكان يقول بالإمامة ـ حتى داخله [ وأنس به ] وكان يكثر غشيانه في منزله [ فيقف على أمره ] ويرفعه إلى الرشيد ويزيد عليه في ذلك بما يقدح به قلبه ، ثم قال لبعض ثقاته : تعرفون لي رجلا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرّفني ما أحتاج إليه ؟ فدلّ على عليّ بن إسماعيل بن جعفر بن محمد ، فحمل إليه يحيى بن خالد مالا ، وكان موسى (عليه السلام) يأنس بعليّ بن إسماعيل ويصله ويبرّه ، ثم أنفذ إليه يحيى بن خالد يرغّبه في قصد الرشيد لعنه الله ويعده بالإحسان إليه ، فعمل على ذلك ، فأحسّ به موسى (عليه السلام) فدعا به فقال : « إلى أين يا ابن أخي » ؟
قال : إلى بغداد .
قال : « وما تصنع » .
قال : عليّ دين وأنا مملق .
فقال له موسى (عليه السلام) : « أنا أقضي دينك وأفعل بك وأصنع » .
فلم يلتفت إلى ذلك وعمل على الخروج ، فاستدعاه أبو الحسن (عليه السلام) فقال له : « أنت خارج » ؟
قال : نعم ، لابدّ لي من ذلك .

(1) في المصدر : « عبيد الله » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 237

فقال له : « انظر يا ابن أخي واتّق الله ولا تُؤتَم أطفالي (1) » . وأمر له بثلاث مئة دينار وأربعة آلاف درهم .
فلما قام من بين يديه ، قال أبو الحسن (عليه السلام) لمن حضره : « والله ليسعينّ في دمي وليؤتمنّ (2) أولادي » !
فقالوا : جعلنا الله فداك ، وأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله ؟!
قال : « نعم ، حدثني أبي ، عن آبائه ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله ، وإني (3) أردت بذلك أن أصله بعد قطعه حتى إذا قطعني قطعه الله » .
قالوا : فخرج عليّ بن إسماعيل حتى أتى يحيى بن خالد ، فتعرّف منه خبر موسى بن جعفر (عليه السلام) ورفعه إلى الرشيد لعنه الله ، فسأله عن عمه فسعى به إليه وقال : إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب ، وإنه اشترى ضيعة سماها اليسيرية بثلاثين ألف دينار ، فقال له صاحبها وقد أحضره المال : لا آخذ هذا النقد ولا آخذ إلا نقد كذا وكذا ، فأمر بذلك المال فردّ ، وأعطاه ثلاثين ألف دينار من النقد الذي سأل بعينه .
فسمع ذلك منه الرشيد فأمر له بمئتي ألف درهم تثبّت (4) على بعض النواحي ، فاختار بعض كور المشرق ، ومضت رسله لقبض المال وأقام ينتظرهم ، فدخل في بعض تلك الأيام إلى الخلا فزحر زحرة (5) خرجت منها حشوته كلها ، فسقطت وجهدوا في ردّها فلم يقدروا ، فوقع لما به وجاءه المال وهو نزع ، فقال : ما أصنع به وأنا في الموت ؟!

(1) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « أولادي » .
(2) في المصدر : « ويؤتمنّ أولادي » .
(3) في المصدر : « إنني » .
(4) في المصدر : « تسبب » .
(5) زحر : أخرج صوته أو نفسه بأنين من عمل أو شدة . ( المعجم الوسيط ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 238

وخرج الرشيد لعنه الله في تلك السنة إلى الحج وبدأ بالمدينة فقبض على أبي الحسن (عليه السلام) (1) .
وروي عن محمد بن الحسن المعروف بالورّاق ، عن محمد بن أحمد بن السمط قال : حدثني الرواة المذكورون أنّ موسى بن جعفر (عليهما السلام) كان في حبس هارون الرشيد بمسجد المسيّب من الجانب الغربي بباب الكوفة ، لأنه قد نقل إليه من دار السندي بن شاهك وهي الدار المعروفة بدار ابن عمرويه ، وكان قد فكّر الرشيد في قتله بالسم ، فدعا بالرطب وأكل منه ، ثم أخذ صينيّة ووضع فيها عشرين رطبة وأخذ سلكا ففركه (2) بالسم وأدخله في سم الخياط وأخذ رطبة من تلك الرطب ، وجعل يردّد ذلك السلك المسموم فيها حتى علم أنه قد مكن السمّ منها ، واستكثر من ذلك ، ثم أخرج السلك منها وقال لخادم له : احمل هذه الصينيّة لموسى بن جعفر وقل له : إن أميرالمؤمنين أكل من هذا الرطب وتنغّص لك ، وهو يقسم عليك بحقّه لما أكلته عن آخر رطبة لأني اخترته لك بيدي ، ولا تتركه يبقي منه شيئا ولا يطعم منه أحدا .
فأتاه الخادم وأبلغه الرسالة ، فقال له موسى : « آتني بخلالة » . فأتاه بها ، وناوله إياها ، وقام بإزائه وهو يأكل الرطب ، وكان للرشيد كلبة أعزّ عليه من كل ما في مملكته ، فجذبت نفسها وخرجت تجرّ سلاسلها من ذهب وفضة وجواهر منظومة حتى عادت إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) فبادر بالخلالة إلى الرطبة المسمومة فغرزها (3) ورمى بها إلى الكلبة ، فأكلتها الكلبة فلم تلبث أن ضربت بنفسها الأرض وعوت وتقطّعت قطعا ، واستوفى موسى باقي الرطب ، وحمل الخادم

(1) كشف الغمة : 3 : 20 في سبب شهادته عليه السلام .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 237 ـ 243 ، وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين : 414 ـ 418 ، والشيخ الطوسي في الغيبة : 26 ـ 31 ح 6 .
(2) أخذ سلكا ففركه : أي أخذ خيطا فدلكه .
(3) غرزها : أي فأدخلها .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 239

الصينية وصار بها إلى الرشيد ، فقال له : أكل الرطب عن آخره ؟ قال : نعم . قال : فكيف رأيته ؟ قال : ما أنكرت منه شيئا .
ثم ورد عليه خبر الكلبة وأنها تهرّت وماتت ، فقلق هارون الرشيد لعنه الله لذلك قلقا شديدا واستعظمه ، فوقف على الكلبة فوجدها متهرّية بالسم ، فأحضر الخادم ودعا بالسيف وقال : أصدقني عن خبر الرطب وإلا قتلتك .
فقال : يا أميرالمؤمنين ، إني حملت الرطب إلى موسى بن جعفر فأبلغته كلامك وقمت بإزائه ، فطلب خلالة فأعطيته ، فأقبل يغرز رطبة رطبة ويأكلها حتى مرّت به الكلبة ، فغرز رطبة ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها وأكل هو باقي الرطب وكان ما ترى .
فقال الرشيد لعنه الله : ما ربحنا من موسى إلا أن أطعمناه جيد الرطب وضيّعنا سمّنا وقتل كلبتنا ، ما في موسى في حيلة !
ثم إن موسى بن جعفر (عليه السلام) بعد ثلاثة أيام دعا بمسيّب الخادم وكان به موكّلا ، فقال له : « يا مسيّب » .
فقال : لبيك يا مولاي .
قال : « اعلم أني ظاعن (1) في هذه الليلة إلى المدينة مدينة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأعهد إلى من فيها يعمل بعدي به » (2) .
قال المسيب : قلت : يا مولاي ، كيف تأمرني والحرس معي على الأبواب أن أفتح لك الأبواب وأقفالها ؟!
فقال (عليه السلام) : « يا مسيب ، أضعفت نفسك في الله عزوجل وفينا »(3) .
قال : لا يا سيدي .
قال : « فمه » .

(1) الظعن : السير والسفر .
(2) الظعن : السير والسفر .
(3) في المصدر : « يا مسيب ، ضعف يقينك بالله عزوجل وفينا » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 240

قال المسيب : فقلت : متى يا مولاي ؟
فقال (عليه السلام) : « يا مسيّب ، إذا مضى من هذه الليلة المقبلة ثلثاها فقف وانظر » .
قال المسيّب : فحرّمت على نفسي الاضطجاع تلك الليلة ، ولم أزل راكعا وساجدا ومنتظرا ما وعدني ، فلما مضى من الليلة ثلثاها نعست وأنا جالس ، وإذا أنا بمولاي يحرّكني برجله ، ففزعت وقمت قائما ، فإذا أنا بتلك الجدران المشيّدة والأبنية وما حولها من القصور والحجر قد صارت كلها أرضا والدنيا من حواليها فضاء ، وظننت مولاي أنه قد أخرجني من الحبس الذي كان فيه ، فقلت : مولاي ، أين أنا من الأرض ؟
قال (عليه السلام) : « في محبسي يا مسيب » .
فقلت : يا مولاي ، فخذ لي من ظالمي وظالمك .
فقال (عليه السلام) : « أتخاف من القتل » .
فقلت : يا مولاي ، معك لا .
فقال (عليه السلام) : « يا مسيّب ، فاهدأ على جملتك فإني راجع إليك بعد ساعة واحدة ، فإذا ولّيت ذلك فسيعود محبسي إلى بنيانه » .
فقلت : يا مولاي ، فالحديد لا تقطعه ؟!
فقال (عليه السلام) : « يا مسيب ، ويحك الان الله الحديد لعبده داود (عليه السلام )، فكيف يتصعّب علينا الحديد » ؟!
قال المسيب : ثم خطا بين يديّ خطوة ، فلم أدر كيف غاب عن بصري ، ثم ارتفع البنيان وعادت القصور إلى ما كان عليه ، واشتدّ اهتمامي بنفسي ، وعلمت أن وعده الحقّ ، فلم يمض إلا ساعة كما حدّ لي حتى رأيت الجدران قد خرّت إلى الأرض سجودا وإذا أنا بسيّدي (عليه السلام) قد عاد إلى محبسه في الحبس وعاد الحديد إلى رجله ، فخرَّرت ساجداً لوجهي بين يديه ، فقال : « ارفع رأسك يا مسيب ، واعلم أن سيدك راحل إلى الله جل اسمه ثالث هذا اليوم الماضي » .
قلت له : يا مولاي : وأين سيدي علي الرضا (عليه السلام) ؟

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 241

قال : « يا مسيب ، شاهد عندي غير غائب ، وحاضر غير بعيد » .
قلت : يا سيدي ، فإليه قصدت ؟
فقال (عليه السلام) :« قصدت والله كل منتجب لله عز وجل على وجه الأرض شرقها وغربها حتى محبّي من الجن في البراري والبحار ومخلصي الملائكة في مقاماتهم وصفوتهم » .
فبكيت ، فقال (عليه السلام) : « لا تبك يا مسيب ، إننا نور لا يطفيء ، إن غبت عنك فهذا عليّ ابني بعدي هو أنا » .
فقلت : الحمد لله .
ثم إن سيدي (عليه السلام) في ليلة يوم الثالث دعاني وقال : « يا مسيّب إن سيّدك يصبح في ليلة يومه على ما عرّفتك من الرحيل إلى الله عز وجل مولاه الحقّ تقدّست أسماؤه ، فإذا دعوت بشربة ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخ بطني واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألوانا فخبّر الطاغية بوفاتي ، وإياك أن تظهر على الحديث أحدا إلا بعد وفاتي » .
قال المسيب : فلم أزل أترقّب وعده حتى دعا بشربة ماء فشربها ، ثم دعاني وقال : « إن هذا الرجس السندي بن شاهك يقول إنه يتولّى أمري ويدفنني ، لا يكون ذلك أبدا ، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدني بها ولا تعلو على قبري علوّا ، وتجنّبوا زيارتي ، ولا تأخذوا من تربتي لتبرّكوا بها ، فإن كل تربة لنا محرمة ما خلا تربة جدي الحسين (عليه السلام) ، فإني الله عزوجل جعلها شفاءا لشيعتنا وموالينا » (1) .
وتوفّي ـ صلوات الله عليه ـ لخمس بقين من رجب . وقيل : لخمس خلون من رجب ، سنة ثلاث وثمانين ومئة من الهجرة (2) .

(1) ورواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 : 94 ح 6 من الباب 8 وفي ط المحقق : ص 252 ح 102 مع مغايرات .
(2) رواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 286 في تاريخ مولده ومبلغ سنه ووقت وفاته عليه السلام .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 242

لعن الله قاتليه والمتؤازرين عليه ، ولله درّ من قال من الرجال على الآل ، ولقد أجاد :
لهفي على النفس الزكيـة أزهقــت والله نـاظـر
لهفي على قمر المعـارف نكرتـه يدي المنـاكــر
لهفـي لشمـس هدايــة غارت بأطراف المغـاور
لهفــي لقطب سما العلا دارت عليه رحى الدوائـر
لهفــي لبيـت محمـد أقـوى وفيه اليوم صافـر

فالويل لهارون الرشيد ، من الإمام الشهيد ، في يوم الوعد والوعيد ، بين يدي العلي الحميد ، يوم يقول لجهنم هل امتلأت ، وتقول هل من مزيد .
ثبّتنا الله وإياكم يا إخواني على ولاهم ، ووفّقنا للبراءة من عداهم ، وحشرنا تحت لواهم ، أولا تكونون كمن هدّ ركن صبره بلاهم ، وقام بواجب عزاهم ، وأجاد في رثاهم .

=
في تاج المواليد : ( مجموعة نفيسة : ص 123 ) في الفصل الرابع .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 243

المصرع الخامس عشر

وهو مصرع الرضا
(عليه السلام)

فضّوا ختم دنّ صهباء الأوصاب ، واترعوا كؤوس الأفئدة من قرقف المصاب ، وامزجوا صرف سلاف البهجة بمعين الاكتئاب ، وادعوا ندماء الإيمان ، وادعوا ندماء الإيمان والأحباب ، واصطبحوا حميا الالتهاب ، واغتبقوا صرخد النياحة والإنتحاب ، واحتبسوها على أصوات النوائح ، وترجيع رنّات الصوائح ، وعطّروا مفارق المجالس برياحين الأسف ، وزيّنوا مجامع التنافس بأسجاف الكربة واللهف ، واصرفوا عن النفوس البهجة والسرور ، وباعدوا عن القلوب الداني من المسرة والحبور ، واهجروا عساليج الأبكار ، وجانبوا مضاجع الراحة والقرار ، فقد غال شمس الرفعة كسوف ، وكوّر قمر المنعة خسوف ، ودكّ أطواد الشرف زعزع البلاء ، وفطّر قواعد البيت الأشرف محتوم القضاء ، ونضب غطمطم الفخار ، وغاض قاموس جود ذوي الأقدار ، وسما على العيّوق سكاكها ، وانحطّ تحت أسفل الوهاد أفلاكها ، وأمحلت مرابع الروّاد ، وجفّت بحور الورّاد .
ذهب الفريق فلا كريم يرتجى منه النــوال ولا مليح يُعشق

أقفر المنزل الأهيل ، فاستوحش الأنيس ، وغدا المخصب محيل ، وتكدّر النفيس ، وصار العزيز ذليل ! وأوحشت معابد التهليل والتقديس .
وقد كنت أبكي والديار أنيسـة وما ظعنت للظاعنين (1) قفول
فكيف وقد شطّ المزار وروّعت فريــق التداني فرقة ورحيل
إذا غبتم عن ربع حلـة بابـل فلا سحبـت للسحب فيه ذيول

(1) ظعن ظعنا وظُعونا : سار وارتحل . ( المعجم الوسيط )
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 244

ولا ابتسمت للثغر فيـه مباســم ولا ابتهجت للطــلّ فيه طلول
ولا هبّ معتل النسيم ولا سـرت بليــل علـى تلك الربوع بليل
ولا صدرت عنها السوام ولا غدا بها راتعــا بين الفصيل فصيل
ولا برزت في حلــة سندسيّـة لذات هديـر في الغصون هديل
وما النفع فيها وهي غير أواهـل ومعهدهـا ممـا عهـدت محيل
تنكّر منهـا عرفهــا فـأهيلهـا غريب وفيهــا الأجنبـيّ أهيل

روي في كتاب الأمالي بسند عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال : « شيعة عليّ هم الفائزون يوم القيامة ، يا علي ، أنا منك وأنت مني ، روحي روحك (1) وشيعتك شيعتي ، وأولياؤك أوليائي ، من أحبّهم فقد أحبّني ومن أبغضهم فقد أبغضني ، ومن عاداهم فقد عاداني .
يا عليّ شيعتك مغفور لهم على ما كان منهم من عيوب وذنوب ، وأنا الشفيع لهم يوم القيامة إذا قمت المقام المحمود ، فبشرهم بذلك .
يا عليّ ، شيعتك شيعة الله ، وأنصارك أنصار الله ، وحزبك حزب الله ، وحزب الله هم الفائزون .
يا علي ، سعد من والاك وشقي من عاداك
» (2) .
وعن أبي عبدالله (عليه السلام) ، عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « يا علي ، إن الله وهب لك حبّ المساكين والمستضعفين في الأرض ، فرضيت بهم إخوانا ورضوا بك إماما ، فطوبى لمن أحبك وويل لمن أبغضك .

(1) في المشارق : « روحك روحي » .
(2) رواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص 45 بإسناده عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله .
وروى نظيره الصدوق في أماليه : م 4 ح 8 ، وبإسناده عنه العماد الطبري في بشارة المصطفى : ج 1 ص 42 ح 31 .
وأورده الفتّال في روضة الواعظين : ص 296 مجلس 37 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 245

يا علي ، أهل مودتك كل أواب حفيظ وكلّ ذي طمرين (1) لو أقسم على الله لأبرّ قسمه .
يا علي ، أحبّاؤك كل محتقر عند الخلق عظيم عند الحق .
يا علي ، أنا وليّ لمن واليت وعدوّ لمن عاديت .
يا عليّ ، إخوانك ذبل الشفاه (2) ، تعرف الرهبانية في وجوههم ، يفرحون في ثلاث مواطن : عند الموت وأنا شاهدهم ، وعند المسألة في قبورهم وأنت تلقّنهم ، وعند العرض الأكبر إذ دعي كل أناس بإمامهم .
يا عليّ ، بشّر إخوانك أن الله قد رضي عنهم .
يا عليّ ، أنت أمير المؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وأنت وشيعتك الصافّون المسبّحون ، ولولا أنت وشيعتك ما قام لله دين ، ولولا مَن في الأرض منكم لما نزل من السماء قطر .
يا عليّ ، لك في الجنة كنز وأنت ذو قرنيها ، وشيعتك حزب الله ، وحزب الله هم المفلحون الفائزون على الحوض تسقون من أحبّكم ، وتمنعون من أبغضكم ، وأنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر .
يا عليّ ، أنت وشيعتك تظلّون في الموقف وتتنعّمون في الجنان .
يا عليّ ، إن الجنة مشتاقة إلى شيعتك ، وإنّ حملة العرش المقرّبين يستغفرون لهم ويستبشرون بقدومهم ، وإن الملائكة يخصّونهم بالدعاء .
يا عليّ ، شيعتك الذين يخافون الله في السرّ والعلانية .
يا عليّ ، شيعتك الذين يتنافسون في الدرجات ويلقون الله ولا ذنب عليهم .
يا عليّ ، أعمال شيعتك تعرض عليّ في كلّ يوم جمعة ، فأفرح بصالح أعمالهم وأستغفر لسيّئاتهم .
يا عليّ ، ذكرك وذكر شيعتك في التوراة قبل أن يخلقوا بكلّ خير ، وكذلك في

(1) الطِمر ـ بالكسر ـ : الثوب الخلق .
(2) ذَبلت بشرته : قلّ ماء جلدته وذهب نظارته ، وهنا كناية عن كثرة صيامهم .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 246

الإنجيل ، فإنهم يعظّمون إليا وشيعته .
يا عليّ ، ذكر شيعتك في السماء أكثر من ذكرهم في الأرض ، فبشّرهم بذلك .
يا عليّ ، قل لشيعتك وأحبابك يـ[تـ]ـنزهون من الأعمال التي يعملها عدوّهم ، فما من يوم ولا ليلة إلا ورحمة من الله نازلة عليهم .
يا عليّ ، اشتدّ غضب الله على من أبغضك وأبغض شيعتك ، واستبدل (1) بك وبهم .
يا عليّ ، ويل لمن استبدل بك سواك وأبغض من والاك .
يا عليّ ، اقرأ شيعتك السلام وأعلمهم أنهم إخواني وأني مشتاق إليهم فليستمسكوا بحبل الله ويعتصموا به ويجتهدوا في العمل ، فإن الله تعالى راض عنهم يباهي بهم الملائكة ، لأنهم وفوا بما عاهدوا الله تعالى وأعطوك صفو المودة من قلوبهم ، واختاروك على الآباء والإخوة والأولاد ، وصبروا على المكاره فينا مع الأذى وسوء القول فيهم ، فكن بهم رحيما ، فإن الله سبحانه اختارهم لنا وخلقهم من طينتنا ، واستودعهم سرّنا ، وألزم قلوبهم معرفة حقنا ، وجعلهم متحلّين بحليتنا لا يؤثرون علينا من خالفنا ، فالناس في غمة من الضلال قد عموا عن الحجة وتنكّبوا المحجة ، يصبحون ويمسون في سخط الله ، وشيعتك على منهاج الحق ، لا يستأنسون إلى من خالفهم ، وليست الدنيا لهم ، ولا همّهم ! منها ، أولئك مصابيح الدجى
» (2) .

(1) المثبت من الأمالي والمشارق ، وفي النسخة : « واستذل » .
(2) رواه الصدوق في أماليه : م 83 ح 2 وفيه : « يا علي ، إن الله عزوجل وهب لك حبّ المساكين والمستضعفين في الأرض ، فرضيت بهم إخوانا ورضوا بك إماما ، فطوبى لمن أحبك وصدّق عليك ، وويل لمن أبغضك وكذّب عليك .
يا عليّ ، أنت العلم لهذه الأمة ، من أحبّك فاز ، ومن أبغضك هلك .
يا عليّ ، أنا مدينة العلم وأنت بابها ، وهل تؤتى المدينة إلا من بابها .
يا عليّ ، أهل مودتك كل أوّاب حفيظ وكل ذي طِمر لو أقسم على الله لأبر قسمه .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 247


=
يا عليّ ، إخوانك كل طاهر زاك مجتهد ، يحبّ فيك ، ويبغض فيك ، محتقر عند الخلق ، عظيم المنزلة عند الله عزوجل .
يا عليّ ، محبّوك جيران الله في دار الفِردوس ، لا يأسفون على ما خلّفوا من الدنيا .
يا عليّ ، أنا وليّ لمن واليت ، وأنا عدوّ لمن عاديت .
يا عليّ ، مَن أحبك فقد أحبني ، ومن أبغضك فقد أبغضني .
يا عليّ ، إخوانك ذبل الشفاه ، تُعرف الرهبانية في وجوههم .
يا علي ، إخوانك يفرحون في ثلاثة مواطن : عند خروج أنفسهم وأنا شاهدهم وأنت ، وعند المساءلة في قبورهم ، وعند العرض الأكبر ، وعند الصراط إذا سئل الخلق عن إيمانهم فلم يجيبوا .
يا عليّ ، حربك حربي وسلمك سلمي ، وحربي حرب الله ، ومن سالمك فقد سالمني ، ومن سالمني فقد سالم الله عزوجل .
يا عليّ ، بشّر إخوانك ، فإن الله عزوجل قد رضي عنهم إذ رضيك لهم قائدا ورضوا بك وليا .
يا عليّ ، أنت أميرالمؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين .
يا عليّ ، شيعتك المنتجبون ، ولولا أنت وشيعتك ما قام لله عزوجل دين ، ولولا مَن في الأرض منكم لما أنزلت السماء قطرها .
يا عليّ ، لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها ، وشيعتك تُعرف بحزب الله عزوجل .
يا عليّ ، أنت وشيعتك القائمون بالقسط ، وخيرة الله من خلقه .
يا عليّ ، أنا أول من ينفض التراب عن رأسه وأنت معي ، ثم سائر الخلق .
يا عليّ ، أنت وشيعتك على الحوض تسقون من أحببتم وتمنعون من كرهتم ، وأنت الأمنون يوم الفزع الأكبر في ظل العرش ، يفزع الناس ولا تفزعون ، ويحزن الناس ولا تحزنون ، فيكم نزلت هذه الآية : « إن الذين سبقت منّا الحسنى أولئك عنها مُبعدون » ، وفيكم نزلت : «لا يحزُنُهم الفزع الأكبر وتتلقّاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون » .
يا علي ، أنت وشيعتك تُطلبون في الموقف ، وأنتم في الجنان تنعّمون .
يا عليّ ، إن الملائكة والخزّان يشتاقون إليكم ، وإن حملة العرش والملائكة المقربين ليخصّونكم بالدعاء ، ويسألون الله لمحبيكم ، ويفرحون بمن قدم عليهم منكم كما يفرح الأهل بالغائب القادم بعد طول الغيبة .

=


السابق السابق الفهرس التالي التالي