مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 248


=
يا عليّ ، شيعتك الذين يخافون الله في السرّ ، وينصحونه في العلانية .
يا عليّ ، شيعتك الذين يتنافسون في الدرجات لأنهم يلقون الله عزوجل وما عليهم من ذنب .
يا عليّ ، أعمال شيعتك ستعرض عليّ في كل جمعة ، فأفرح بصالح ما يبلغني من أعمالهم ، وأستغفر لسيئاتهم .
يا عليّ ، ذكرك في التوراة وذكر شيعتك قبل أن يُخلقوا بكل خير ، وكذلك في الإنجيل ، فسل أهل الإنجيل وأهل الكتاب عن إليا يخبروك ، مع علمك بالتوراة والإنجيل وما أعطاك الله عزوجل من علم الكتاب ، وإن أهل الإنجيل ليتعاظمون إليا وما يعرفونه ، وما يعرفون شيعته ، وإنما يعرفونهم بما يجدونهم في كتبهم .
يا عليّ ، إن أصحابك ذِكرهم في السماء أكبر وأعظم من ذِكر أهل الأرض لهم بالخير ، فليفرحوا بذلك ، وليزدادوا اجتهادا .
يا عليّ ، إن أرواح شيعتك لتصعد إلى السماء في رقادهم ووفاتهم ، فتنظر الملائكة إليها كما ينظر الناس إلى الهلال ، شوقا إليهم ولما يرون من منزلتهم عند الله عزوجل .
يا عليّ ، قل لأصحابك العارفين بك : يتنزهون عن الأعمال التي يقارفها عدوهم ، فما من يوم ولا ليلة إلا ورحمة من الله تبارك وتعالى تغشاهم ، فليجتنبوا الدّنس .
يا عليّ ، اشتدّ غضب الله عزوجل على من قلاهم وبرئ منك ومنهم ، واستبدل بك وبهم ، ومال الى عدوّك وتركك وشيعتك واختار الضلال ، ونصب الحرب لك ولشيعتك ، وأبغضنا أهل البيت وابغض من والاك ونصرك واختارك وبذل مهجته وماله فينا .
يا عليّ ، أقرئهم مني السلام من لم أر منهم ولم يرني ، وأعلمهم أنهم إخواني الذين أشتاق إليهم ، فليلقوا عِلمي إلى من يبلغ القرون من بعدي ، وليتمسّكوا بحبل الله وليعتصموا به ، وليجتهدوا في العمل ، فإنّا لا نخرجهم من هدى إلى ضلالة ، وأخبِرهم أن الله عزوجل عنهم راض ، وأنه يباهي بهم ملائكته وينظر إليهم في كل جمعة برحمته ، ويأمر الملائكة أن تستغفر لهم .
يا عليّ ، لا ترغب عن نصرة قوم يبلغهم أو يسمعون أني أحبك ، فأحبوك لحبي إياك , ودانوا لله عزوجل بذلك ، وأعطوك صَفو المودة في قلوبهم ، واختاروك على الاباء والإخوة والأولاد ، وسلكوا طريقتك ، وقد حملوا على المكاره فينا فأبوا إلا نصرنا وبذل المهج فينا مع الأذى وسوء القول وما يقاسونه من مضاضة ذلك ، فكن بهم رحيما واقنع بهم ، فإن الله =
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 249

ولله در من قال من الرجال :
فهو المشفع في المعاد وخير مـن علقت به بعــد النبــي يداك
وهو الذي للديـن بعـد خمولــه حقــا أراك فهـذّبــت آراك
لولاه ما عرف الهدى ونجوت من متضائق الأشـراك والإشــراك
هو فُلك نوح بين ممتسـك بــه نـاج ومطّــرح مــع الهُلاك
قد قلــت حين تقدّمته عصابـة جهلـت حقــوق حقيقة الإدراك
لا تفرحي فبكثر ما استعذبت في أولاك قـد عذّبـت فــي اُخراك
يا أمـّة نقضـت عهـود نبيها أفمـن إلـى نقض العهود دعـاك
وصّاك خيرا فـي الوصيّ كأنما متعمّــدا فـي بغضـه وصّـاك
أو لم يقل فيـه النبـي مبلّغــا هـذا عليّــك فـي العُلا أعلاك
وأمين وحـي الله بعدي وهو في إدراك كــلّ قـضـيّــة أدراك

فكم له من منقبة أظهرت خفيّ إيمانه وأبرزت علوّ شأنه وارتفاع مكانه وإثبات إمكانه وكثرة أعوانه وظهور برهانه .
روي أن مولد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) كان يوم الخميس لأحد عشر

=
عزوجل اختارهم بعلمه لنا من بين الخلق ، وخلقهم من طينتنا ، واستودعهم سرّنا وألزم قلوبهم معرفة حقنا ، وشرح صدورهم وجعله م مستمسكين بحبلنا ، لا يؤثرون علينا من خالفنا مع ما يزول من الدنيا عنهم ، أيّدهم الله وسلك بهم طريق الهدى ، فاعتصموا به ، فالناس في غمّة الضلال متحيّرون في الأهواء ، عموا عن الحجة وما جاء من عند الله عزّوجلّ ، فهم يصبحون ويمسون في سخط الله ، وشيعتك على منهاج الحق والاستقامة ، لا يستأنسون إلى من خالفهم ، وليست الدنيا منهم وليسوا منها ، أولئك مصابيح الدجى ، أولئك مصابيح الدجى ، أولئك مصابيح الدجى » .
ورواه أيضا في صفات الشيعة : ص 55 ح 17 ، وفي فضائل الشيعة : ح 17 ، وعنه العماد الطبري في بشارة المصطفى : ص 180 وفي ط الحديث : ص 277 ح 93 في آخر الجزء الرابع .
ورواه البرسي في مشارق أنوار اليقين : ص 46 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 250

ليلة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين مئة (1) .
وكان (عليه السلام) بشرا ملكيا ، وجسدا سماويا ، وامرءا إلهيا ، وروحا قدسيا ، ومقاما جليّا ، وسرّا خفيا (2) ، حارت فيه الأفكار والعقول ، وتاهت أوهام العلماء الفحول ، وكلّت الشعراء ، وخرست البلغاء ، ولكنت الخطباء ، وتواضعت الأرض والسماء عن وصف ولي الأولياء ، وهل يعرف أو يوصف أو يعلم أو يفهم أو يدرك شأن من هو نقطة خطّة الكائنات ، وقطب الدائرات ، وسرّ الممكنات ، وشعاع جلال الكبرياء ، وشرف الأرض والسماء ، والنور الأول ، والكلمة العليا ، والسمة البيضاء ، والوحدانية الكبرى ، التي أعرض عنها من أدبر وتولّى ، حجاب الله الأعظم الأعلى .
فهو الذروة من قريش ، والشرف من هاشم ، والبقية من إبراهيم ، والبضعة من نبينا الكريم ، والنفس من الوصي الحليم .
وهو شرف الأشراف ، والصفوة من عبد مناف ، ملكيّ الذات ، إلهي الصفات ، زائد الحسنات ، عالم بالمغيبات ، معدن التنزيل ومنتهى التأويل ، وخاصة الربّ الجليل ، ومهبط الأمين جبرئيل ، السبيل إلى الله والسلسبيل ، والقسطاس المستقيم ، والمنهاج القديم ، والذكر الحكيم ، والوجه الكريم ، والنور القويم ، ربّ الشرق والتقديم والتفضيل والتعظيم ، خليفة النبي الكريم ، وأمين العليّ الرحيم .
روي في كتاب كشف الغمة عن الغفاري قال : كان لرجل من آل رافع [ مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ] عليّ دين فقاضاني وألحّ عليّ ، فلما رأيت ذلك صلّيت الصبح في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم توجهت إلى الرضا (عليه السلام) فسلّمت عليه ، وكان في شهر رمضان ، فقلت له : إن لفلان عليّ حقّا وقد والله شهرني . وأنا أظنّ في نفسي أنه (عليه السلام) يأمره بالكفّ عنّي ، فوالله ما قلت له كَم عليّ ، ولا سمّيت له شيئا ، فأمرني

(1) ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 302 ، والإربلي في كشف الغمة : 3 : 49 .
(2) هذا هو الصحيح ، وفي النسخة : « وكان عليه السلام بشرا ملكي ... سماوي ... خفي » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 251

بالجلوس إلى رجوعه ثم مضى ، فلم أزل حتى صليت المغرب وأنا صائم ، فضاق صدري وأردت أن أنصرف ، فإذا هو قد طلع عليّ وحوله الناس و[ قد قعد له ] السؤال وهو يتصدّق عليهم ، فمضى داخل الدار ثم خرج ودعاني ، فقمت إليه ودخلت معه ، فجلس وجلست فجعلت أحدّثه عن [ ابن ] المسيّب ، وكان كثيرا ما أحدّثه عنه ، فلما فرغت قال : « ما أظنك أفطرت بعد » ؟ قلت : لا .
فدعا لي بطعام فوضع بين يديّ وأمر الغلام أن يأكل معي ، فأصبت والغلام من الطعام ، فلما فرغنا قال : « ارفع الوسادة وخذ ما تحتها » . فرفعتها فإذا دنانير ، فأخذتها ووضعتها في كمّي ، وأمر أربعة من عبيده أن يكونوا معي إلى منزلي ، فقلت : جعلت فداك ، إنّ طائف بن المسيب يقعُد في الطريق وأخاف أن يروني ومعي عبيدك .
فقال لي : « أصبت ، أصاب الله بك الرشاد » وأمر عبيده بالانصراف [ إذا رددتُهم ، فلما قربتُ من منزلي وأنِستُ رددتُهم ] فصرت إلى منزلي ودعوت بالسراج ونظرت إلى الدنانير فإذا هي ثمانية وأربعون دينارا ، وكان فيها دينار يلوح ، فأعجبني فأخذته وقرّبته من السراج ، فإذا عليه نقش واضح : « حقّ الرجل ثمانية وعشرون دينارا ، والباقي هو لك » . وأنا والله ما كنت عارفا كم له عليّ بالتحديد (1) .
قد لقــى آل أحمـد وعلـي من بني عمهــم بني العباس
فتنــا ألقت البلايـا عليهـم قبلها نسل هندهــا كالأساس
جعلت فيئهم غنائــم حـرب لم تخف من عذابهــا والبأس
هدّمت من قواعد الدين ما كان قويما وصيّــرت في انتكاس

(1) رواه الإربلي في كشف الغمة : 3 : 63 وما بين المعقوفات منه .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 255 ـ 257 ، والكليني في الكافي : 1 : 478 | 4 ، والفتّال في روضة الواعظين : ص 222 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 366 نقلا عن الروضة وفي ص 374 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 252

قد حـذا حذوها أناس أعانوا ذلك الرجس مقتفي الأرجاس

روي في كتاب العيون عن عبدالسلام بن صالح الهروي قال : رفع إلى المأمون أنّ أبي الحسن يقعد مجالس الكلام والناس تعلمه ، فأمر محمد بن عمرو الطوسي صاحب المأمون فطرد الناس عن مجلسه وأحضره ، فلما نظر إليه المأمون زجره فاستخفّ به ، فخرج أبو الحسن (عليه السلام) من عنده مغضبا وهو يدمدم (1) بشفتيه ويقول :« وحق المصطفى والمرتضى وسيدة النساء لأستنزلهنّ من حول الله عزّ وجلّ بدعائي عليه ما يكون سببا لطرد كلاب هذه الكورة أياه واستخفافهم به وبخاصته وعامته » .
ثم إنه (عليه السلام) انصرف إلى مركزه واستحضر الميضاة وتوضّأ وصلى ركعتين [ و ] قنت في الثانية فقال : « اللهم يا ذا القدرة الجامعة والرحمة الواسعة » (2) إلي قوله (عليه السلام) : « صلّ على من شرفـ[ت] الصلاة [ بالصلاة ] عليه وانتقم لي ممن ظلمني واستخفّ بي وطرد الشيعة عن بابي ، وأذقه مرارة الذلّ والهوان كما أذاقنيها ، واجعله طريد الأرجاس وشريد الأنجاس » .
قال أبو الصلت [ عبدالسلام بن صالح ] الهروي : فما استتمّ مولاي (عليه السلام) دعاءه

(1) دمدم : أي كلّمه مغضبا .
(2) في المصدر بعده : « والمنن المتتابعة ، والآلاء المتوالية ، والأيادي الجميلة ، والمواهب الجزيلة ، يا من لا يوصف بتمثيل ، ولا يمثل بنظير ، ولا يغلب بظهير ، يا من خلق فرزق ، وألهم فأنطق ، وابتدع فشرع ، وعلا فارتفع ، وقدر فأحسن ، وصوّر فأتقن ، وأجنح فأبلغ ، وأنعم فأسبغ ، وأعطى فأجزل ، يا من سما في العزّ ففات خواطف الأبصار ، ودنا في اللطف فجاز هواجز الأفكار ، يا من تفرّد بالملك فلا ندّ له في ملكوت سلطانه ، وتوحّد بالكبرياء فلا ضدّ له في جبروت شأنه ، يا من حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام ، وحسرت دون إدراك عظمته خطائف أبصار الأنام ، يا عالم خطرات قلوب العارفين وشواهد لحظات أبصار الناظرين ، يا من عنت الوجوه لهيبته ، وخضعت الرقاب لجلالته ، ووجلت القلوب من خيفته ، وارتعدت الفرائص من فرقه ، يا بديء يا بديع ، يا قويّ يا منيع ، يا عليّ يا رفيع ، صلّ على من شرفت الصلاة بالصلاة عليه » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 253

حتى وقعت الرجفة في المدينة وارتفعت الزعقة والصيحة ، واستفحلت النعرة ، وثارت الغبرة ، وهاجت الغاغة ، فلم أزايل مكاني إلى أن سلّم مولاي (عليه السلام) فقال لي : « يا أبا الصلت ، اصعد السطح ، فإنك سترى امرأة بغية غثة رثة مهيجة الأشرار (1) متسخة الأطمار يسميها أهل هذه الكورة « سمانة » لعبادتها وتنسّكها قد (2) اسندت مكان الرمح إلى فخذها (3) قصبا وقد شدّت وقاية لها حمراء إلى طرفه مكان اللهادم تقود (4) مكان الجيوش الغاغة وتسوق عساكر الطغام إلى قصر المأمون في منازل (5) فؤاده » .
فصعدت السطح ، فلم أر إلا نفوسا تنزّع (6) بالعصا وهامات ترضخ بالأحجار ، ولقد رأيت المأمون مدّرعا قد برز من قصر « شاه جهان » متوجها إلى الحرب (7) ، فما شعرت إلا بشاجرد حجّام (8) قد رمى المأمون بلبنة ثقيلة من بعض أعالي السطوح فأصابت رأسه وألقت البيضة عن راسه بعد أن ثقبت جلدة هامته ، فقال لقاذف اللبنة بعض من عرف المأمون : ويلك ، هذا أميرالمؤمنين . فسمعتُ سمانة تقول : اسكت لا أمّ لك ، ليس هذا يوم التمييز والمحابات ، ولا يوم إنزال الناس على طبقاتهم ، فلو كان هذا أميرالمؤمنين لما سلّط ذكور الفجّار على فروج الأبكار ! وطرد المأمون وجنوده بأسود طرد بعد الإذلال والاستخفاف (9) .

(1) في النسخة : « بغية عند رية مهيجة الأسرار » .
(2) في المصدر : « لغباوتها وتهتّكها ، وقد » .
(3) في المصدر : « إلى نحرها » .
(4) في المصدر : « مكان اللواء فهي تقود » .
(5) في المصدر : « ومنازل » .
(6) في المصدر : « تزعزع » .
(7) في المصدر : « متوجها للهرب » .
(8) في المصدر : « الحجّام » .
(9) رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2 : 184 باب 42 مع اختلاف في بعض

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 254

فليتدبر العاقل والنبيه الكامل ، أنهم ـ صلوات الله عليهم ـ قادرون على دفع الباغين عليهم ، ومتمكّنون من إهلاك من أساء إليهم ، ولكنهم صبروا على أذى الأعداء ، وتحمّلوا منهم أنواع الشدائد والبلاء ، لينالوا المطلوب ، ويفوزوا بوصال المحبوب ، فقد شرّفهم الله بكراماته ، واستودعهم سره ، واستحفظهم غيبه ، واسترعاهم عباده ، واطّلعهم على مكنون أمره ، ولقّنهم حكمته ، وولاهم أمر خلقه ، وأمّرهم على بريّته ، واصطفاهم لتنزيله ، وأخدمهم ملائكته ، وصرّفهم في مملكته ، وارتضاهم لعلمه ، واجتباهم لكلماته ، وجعلهم أعلاما لدينه ، وشهداء على عباده ، وأمناء في بلاده ، فهم الأئمة الزكية ، والعترة المرضية ، والسادة العلوية .
إذا رُمتَ يوم البعث تنجو من اللظى ويقبل منك الدين والفرض والسنــن
فَوُالِ (1) عليا والأئمــة بعــده نجوم الهدى تنجو من الضيق والمحن
وهم عتــرة قد فوض الله أمـره إليهــم فلا ترتـاب في غيرهم ومن
أئمــة حــقّ أوجب الله حبّهـم فطاعتهــم فـرض به الخلق ممتحن
فحبهــم ذخـر يخصّ وليهــم يلاقيه عند المــوت والقبـر والكفن
كذلك يـوم البعــث لم ينـج قادم من النــار إلا من توالـى أبا الحسن

روي في كتاب المعالم عن أبي الصلت الهروي أنه قال : بينما أنا واقف بين يدي أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال لي : « يا أبا الصلت ، ادخل هذه القبّة التي فيها قبر هارون ، فأتني بتراب من اربع جوانبها » .
قال : فمضيت وأتيته بما طلب ، فلما مثل بين يديه قال لي : « ناولني من هذا التراب ، وهو من عند الباب » . فناولته فأخذه وشمّه ثم رمى به ، ثم قال : « سيحفر لي هاهنا قبر وتظهر صخرة لو اجتمع عليها كلّ معول بخراسان لم يمكن قلعها » .

=
الألفاظ ، وما بين المعقوفات منه .
(1) في النسخة : « توالي » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 255

ثم طلب الذي من عند الرأس ، ثم الذي من عند الرجل ، وفعل به كذلك ، ثم قال : « ناولني من هذا التراب فهو من تربتي » .
ثم قال لي : « سيحفر لي في هذا الموضع ، فاؤمرهم أن يحفروا لي سبع مراقي إلى أسفل وأن يشقّ لي ضريحا ، فإن أبوا إلا أن يلحدوني فاؤمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبرا ، فإن الله سبحانه سيوسعه ، فإذا فعلوا ذلك فإنك ترى عند رأسي نداوة ، فتكلم بالكلام الذي أعلمك به ، فإنه ينبع الماء حتى يمتلئ اللحد وترى فيه حيتانا صغارا ، فتفتّت لها الخبز الذي أعطيك إياه فإنها تلتقطه ، فإذا لم يبق منه شيء خرجت منه حوتة كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتى لا يبقى منها شيء ثم تغيب ، فإذا غابت تضع يدك على الماء وتكلّم بالكلام الذي أعلّمك به ، فإنه ينضب الماء ولا يبقى منه شيء ، ولا تفعل ذلك إلا بحضرة المأمون » .
ثم قال (عليه السلام) : « يا أبا الصلت ، غدا أدخل على هذا الفاجر ، فإن أنا خرجت وأنا مكشوف الرأس فتكلم معي أكلّمك ، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلمني » .
قال أبوالصلت : فلما أصبحنا من الغد لبس ثيابه وجلس في محرابه ينتظر ، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون فقال له : أجب أميرالمؤمنين .
فلبس نعله ورداءه وقام يمشي وأنا أتّبعه حتى دخل على المأمون وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة بين يديه ، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلما أبصر بالرضا (عليه السلام) وثب إليه وعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ، ثم ناوله العنقود وقال : يا ابن رسول الله هل رأيت عنبا أحسن من هذا ؟
فقال له الرضا (عليه السلام) : « ربما كان عنبا حسنا يكون من الجنة » .
فقال له : كل منه .
فقال له الرضا (عليه السلام) : « تعفيني منه » .
فقال له : لابدّ من ذلك ما يمنعك منه ؟ لعلك تتهمنا بشي ؟
فتناول العنقود فأكل منه الرضا ثلاث حبّات ثم رمى به وقام ، فقال له

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 256

المأمون : إلى أين ؟
قال : « إلى حيث وجّهتني » . وخرج (عليه السلام) مغطّى الرأس ، فلم أكلّمه حتى دخل الدار ، ثم أمر أن يغلق الباب ، فأغلق ، ثم نام على فراشه ، فمكثت واقفا في صحن الدار مهموما محزونا ، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليّ شابّ حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا (عليه السلام) ، فبادرت إليه فقلت له : من أين دخلت والباب مغلق ؟!
فقال : « الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق » .
فقلت له : ومن أنت ؟
فقال لي : « أنا حجة الله عليك يا أبا الصلت ، أنا محمد بن علي » .
ثم مضى نحو أبيه (عليه السلام) ، فدخل وأمرني بالدخول معه ، فلما نظر إليه الرضا وثب إليه وعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه وسحبه سحبا إلى فراشه ، وأكبّ عليه محمد بن عليّ يقبّله ويسارّه بشيء لم أفهمه ، ورأيت على شفة الرضا (عليه السلام) زبدا أبيض أشد بياضا من الثلج ، ورأيت أبا جعفر (عليه السلام) يلحسه بلسانه ، ثم أدخل يده بين ثوبه وصدره فاستخرج منه شيئا شبيها بالعصفور فابتلعه أبو جعفر (عليه السلام) (1) .

(1) لم أعثر على كتاب معالم العترة النبوية للجنابذي .
والحديث رواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 326 مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وزاد في آخره :
ومضى الرضا عليه السلام فقال أبو جعفر : قُم يا أبا الصلت وائتني بالمغتسل والماء من الخزانة .
فقلت : ما في الخزانة مغتسل ولا ماء !
فقال لي : « انتهِ إلى ما أمرتك به » .
فدخلت إلى الخزانة فوجدت ذلك فأخرجته وشمّرت ثيابي لأغسّله معه ، ثم قال لي : « يا أبا الصلت ، إن معي من يعينني غيرك » .
فغسّله ثم قال لي : « ادخل الخزانة فاخرج لي السفط الذي فيه كفنه وحنوطه » . فدخلت فإذا أنا بالسفط لم أره في تلك الخزانة قط ، فحملته إليه وكفّنه وصلى عليه .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 257


=
ثم قال : « ائتني بالتابوت » .
فقلت : أمضي إلى النجار حتى يصلح تابوتا ، قال : « قم فإنّ في الخزانة تابوتا » .
فدخلت فوجدت تابوتا لم أره قطّ ، فأتيته به ، فأخذه فوضعه في التابوت بعد ما صلى عليه ، وصفّ قدميه وصلى ركعتين لم يفرغ منهما حتى علا التابوت ، وانشقّ السقف فخرج منه ومضى .
فقلت : يا ابن رسول الله ، الساعة يجيئنا المأمون ويطالبنا بالرضا ، فما نصنع ؟
فقال لي : « اسكت سيعود ، يا أبا الصلت ، ما من نبيّ يموت في المشرق ويموت وصيّه في المغرب إلا جمع الله بين أرواحهما وأجسادهما » . فما استتمّ الحديث حتى انشقّ السقف ونزل التابوت ، فقام واستخرج الرضا عليه السلام من التابوت ووضعه على فراشه كأنه لم يغسّل ولم يكفّن ، ثم قال : « يا أبا الصلت ، قم فافتح الباب للمأمون » . ففتحت الباب فإذا المامون والغلمان بالباب ، فدخل باكيا حزينا قد شقّ جيبه ولطم رأسه وهو يقول : يا سيداه ، فجعتُ بك يا سيدي . ثم دخل وجلس عند رأسه وقال : خذوا في تجهيزه .
وأمر بحفر القبر ، فحفرت الموضع فظهر كل شيء على وصفه الرضا عليه السلام ، فقام بعض جلسائه وقال : ألست تزعم أنه إمام ؟ قلت : بلى . قال : لا يكون الإمام إلا مقدّم الناس ، فأمر أن يحفر له في القبلة .
فقلت : أمرني أن أحفر له سبع مراقي ، وأن أشقّ له ضريحة .
فقال : انتهوا إلى ما يأمر به أبوالصلت سوى الضريح ، ولكن يحفر له ويلحد .
فلما رأى ما يظهر به من النداوة والحيتان وغير ذلك قال المأمون : لم يزل الرضا عليه السلام يرينا العجائب في حياته حتى أراناها بعد وفاته أيضا .
فقال وزير كان معه : أتدري ما أخبرك الرضا ؟
قال : لا .
قال : أخبركم أنّ ملككم بني العباس مع كثرتكم وطول مدّتكم مثل هذه الحيتان ، حتى إذا فنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم ، سلط الله عليكم رجلا منّا فأفناكم عن آخركم .
فقال له : صدقت ، ثم قال : يا أبا الصلت ، علمني الكلام الذي علّمك به .
قلت : والله لقد نسيت الكلام من ساعتي ، وقد كنت صدقت . فأمر بحبسي ، فحبست سنة فضاق عليّ الحبس وسألت الله أن يفرّج عني بحقّ محمد وآله ، فلم استتمّ الدعاء حتى دخل =
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 258

وقضى الرضا ـ صلوات الله عليه ـ في شهر رمضان لتسع بقين منه يوم الجمعة سنة ثلاث ومئتين ، وقد تمّ عمره تسعا وأربعين سنة وستة أشهر .

=
[ عليّ ] محمد بن عليّ فقال لي : « ضاق صدرك يا أبا الصلت » ؟
فقلت : اي والله .
قال : « فقم فاخرج » . ثم مدّ بيده إلىالقيود التي كانت عليّ ، ففكّها وأخذ بيدي وأخرجني من الدار والحرسة والغِلمة يرونني ، فلم يستطيعوا أن يكلّموني ، وخرجت من باب الدار ، ثم قال لي : « امض في ودائع الله ، فإنك لن تصل إليه ولا يصل إليك أبدا » .
قال أبو الصلت : فلم ألتق المأمون إلى هذا الوقت .
ورواه عنه الإربلي في كشف الغمة : 3 : 120 .
ورواه الصدوق في العيون : 2 : 271 باب 63 ح 1 وفي أماليه : م 94 ح 17 .
وأورده الفتّال في روضة الواعظين : ص 230 ـ 232 ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : 489 | 417 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 374 ، والقطب الراوندي في الخرائج : 1 : 352 | 8 .
() إعلام الورى : 2 : 85 ـ 86 وفي ط 1 ص 328 ، كشف الغمة : 3 : 102 وفيهما : « بسبع بقين منه » .
ورواه الصدوق في العيون : 2 : 274 باب 63 ح 2 ثم قال : وروى لي غيره : أن الرضا عليه السلام توفي وله تسع وأربعون سنة وستة أشهر ، والصحيح أنه عليه السلام توفي في شهر رمضان لتسع بقين منه يوم الجمعة سنة ثلاث ومئتين من هجرة النبي صلى الله عليه وآله .
أقول : وفي تاريخ وفاته ومبلغ عمره أقوال أخر ، والمشهور أنّ وفاته عليه السلام في صفر ، قال الكليني في الكافي : 1 : 486 : وقبض عليه السلام في صفر سنة ثلاث ومئتين وهو ابن خمس وخمسين سنة ، وقد اختلف في تاريخه إلا أنّ هذا التاريخ أقصد إنشاء الله .
قال المفيد في الإرشاد : 2 : 247 في أول ترجمته عليه السلام : وقبض بطوس من أرض خراسان في صفر من سنة ثلاث ومئتين ، وله يومئذ خمس وخمسون سنة . ورواه عنه في البحار : 49 : 292 ح 1 .
وقريبا منه رواه الشهيد في الدروس كما في البحار : 49 : 293 ح 6 .
وقال الطبرسي في إعلام الورى : ص 303 : وقبض بطوس من خراسان في قرية يقال لها « سناباذ » في آخر صفر .
وقال الكفعمي : توفي الرضا عليه السلام في سابع عشر شهر صفر يوم الثلاثاء سنة ثلاث ومئتين ، =
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 259

ولله درّ من قال من الرجال :
يا أرض طوس سقـاك الله رحمتـه ما ذا حويت من الخيـرات يا طوس
طابت بقاعك في الدنيـا وطـاب بها شخـص ثـوى بسنا آبـاذ مرموس
شخص عزيز على الإسلام مصرعه في رحمــة الله مغمـور ومطموس
يا قبره أنت قبــر قـد تضمّنــه حلـم وعلـم وتطهيــر وتقديـس
فخـرا بأنــك مغبـوط بجثّتــه وبالملائـكــة الأبـرار محـروس
في كل عصر لنا منكم إمـام هـدى فربعـه آهِــل منكــم ومأنـوس
أمست نجـوم السماء ثكلا وآفلــة وظـلّ أسـد الشرى قد ضمّها الخيس
غابـت ثمانيـة منكــم وأربعـة ترجــى مطـالعها ما حنّـت العيس
حتى متى يظهر الحق المنيـر بكـم فالحـقّ في غيركـم داح ومطموس

فيا قلبي المضنى ، لا تألف المسرة والهنا ، ويا فؤادي المعنّى تسربل بالمحنة والعناء ، فقد قوّضت قباب الجلال ، وصوّحت أودية الشرف والكمال ، وغارت مياه الجود والإفضال ، وخرت رواسي الفخر والإجلال ، ومالت قناة الإيمان ، وجُبّت سواعد الفضل والإحسان ، وفُلّ حسام التوحيد ، وعقرت سوابق التعظيم والتمجيد ، أولا تكونون يا أولي النهى كمن اتّزر بهذه المصيبة وارتدى ، وشرب علقم وقوعها واحتسا ، فرثا ساداته النجباء ، وأقام عليهم أعمدة العزاء ، وحرّم على نفسه القرار والصفاء ، وأجاد فيهم المديح والرثاء ، وهو من الشيعة الأتقياء .

=
سمّه المأمون ، وكان له أحد وخمسون سنة ، كما عنه في البحار : 49 : 293 ح 4 .
وقال علي بن يوسف بن المطهر الحلي في العدد القوية : ص 275 : وفي الثالث والعشرين من ذي القعدة كانت وفاة مولانا أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 260

المصرع السادس عشر

وهو مصرع الجواد محمد بن علي
(عليهما السلام)

إخواني ، اعمروا دنياكم بقدر محياكم ، ودبّروا أمر عقباكم التي هي مأواكم بقدر مثواكم ، واعلموا أنّ الدنيا دار غرور وجسر مرور ، فإتئدوا في مشيّتكم فقراحها نهبور وبراحها عاثور ، فاحملوا من الدنيا زاد الضرورة ، وجانبوا الطمع في زخارفها الحقيرة ، وكلوا منها ما يسدّ رمقكم ، وآثروا سؤركم على من رمقكم ، وتصوروا تقلّب أحوالها ، وسرعة زوالها ، فما ظنكم بدار صرعت آل الرسول ، وغدرت بأولاد عليّ والبتول ، فنفتهم عن جديدها ، وشحّت عليهم بطارفها وتليدها ، فغدوا بين ذبيح وسميم ، ومرضع بمواضي النصال فطيم ، ومغلول يعالج شدة الأقياد ، ومُرهق يكابد نهسة الأقتاد ، وذات حجاب مهتوكة الأسجاف ، وأسيرة في أكوار البُزل العجاف .
هذا وهم علة وجود العالم ، وبهم تاب الله على ابينا آدم ، فيحق لمصيبتهم العظمى ، ورزيتهم الدهما ، أن تفطّر المرائر وتضرم نار الضمائر ، بل والله قليل في رزئهم المهول ، ومصابهم الشديد النكول ، إزهاق النفوس ، واسكان الأجسام الملاحد والرموس ، ولله در من قال ولقد أجاد :
إذا لم يكن بدّ من الحــزن والبكا فلا تجــزعــي إلا لآل محمـد
أصابتهم أيدي المصائب فاغتــدوا بأسوء حال في الزمــان وأنكــد
رمتهـم بنبـل الحقــد آل اميّـة فمـن بين مسمـوم وبين مشــرّد
أصابت ذراري المصطفى بمصيبة تجــدّد حزنــي كل يـوم مجدّد
أذاب فـؤادي حزنهــم فبكيتهـم لأنهــم ذخـري وفخري وسؤددي

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 261

فكيف ألذّ العيش أو أعرف الكرى وقلبي على جمر الغضا في توقّد

روي في كتاب الأنوار عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن تفسير قوله : «كنتم خير أمة أخرجت للناس » (1) ، فقال (صلى الله عليه وآله) : « يا جابر ، اعلم أنه أول ما خلق الله نوري واشتقه من نوره وابتدعه من جلال عظمته (2) ، فأقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة ، ثم سجد لله تعظيما ففتق من نور عليّ وأولاده ، فكان نوري محيطا بالعظمة ونورهم محيطة بالقدرة (3) ، ثم خلق العرش واللوح والقلم (4) والشمس والقمر والنجوم وضوء النهار وضوء الأبصار والعقل والمعرفة وأبصار العباد [ وأسماعهم ] وقلوبهم من نوري ، ونوري مشتقّ من نوره ، ونحن (5) الأولون ، ونحن الآخرون ، ونحن السابقون ، ونحن الشافعون ، ونحن كلمة الله ، ونحن خاصة الله ، ونحن أحبّاء الله ، ونحن وجه الله ، ونحن أمناء الله (6) ، ونحن خزنة وحي الله وسدنة غيب الله ، ونحن معدن التنزيل ، وعندنا معدن التأويل (7) ، وفي أبياتنا هبط جبرئيل ، ونحن مختلف أمر الله الجليل (8) ، ونحن منتهى غيب الله ، ونحن محالّ قدس الله ، ونحن مصابيح الحكمة ، ومفاتيح الرحمة ، وينابيع النعمة ، ونحن شرف الأمة ، وسادة الأئمة ، ونحن الولاة والهداة والدعاة والسقاة والحماة ، وحبّنا طريق النجاة وعين الحياة ، ( ونحن صنائع الله والخلق صنائع لنا أي

(1) سورة آل عمران : 3 : 110 .
(2) في مشارق أنوار اليقين : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « أول ما خلق الله نوري ابتدعه من نوره واشتقّه من جلال عظمته » .
(3) في المشارق : « ونور عليّ محيطا بالقدرة » .
(4) « والقلم » ليس في المشارق .
(5) في المشارق : « فنحن » .
(6) المثبت من المشارق ، وفي النسخة : « ونحن أنبياء الله » .
(7) في المشارق : « معنى التأويل » .
(8) ليست في المشارق كلمة « الجليل » .

السابق السابق الفهرس التالي التالي