مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 262

مصنوعين لأجلنا ) (1)، من آمن بنا آمن بالله ، ومن ردّ علينا ردّ على الله ، ومن شكّ فينا شك في الله ، ومن عرفنا عرف الله ، ومن تولى عنا تولى عن الله ، ومن تبعنا أطاع الله ، [ ونحن الوسيلة إلى الله ، والوصلة إلى رضوان الله ، ولنا العصمة والخلافة والهداية ، وفينا النبوة والإمامة والولاية ، ونحن معدن الحكمة وباب الرحمة ، ونحن كلمة الله والمثل الأعلى والحجة العظمى والعروة الوثقى التي من تمسك بها نجا وتمت البشرى ]» (2) .
وروي في كتاب كشف الغمة أن مولد الإمام التقي أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) كان في ليلة التاسعة عشر من شهر رمضان ، وقيل في النصف منه ليلة الجمعة ، سنة خمس وتسعين ومئة من الهجرة (3) .
وظهرت له بعد مولده معاجز أبهرت العقول ، وأعجزت أهل المعقول والمنقول ، كما روي في كتاب المشارق أنه خرج قبل موت أبيه إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان عمره سنتين ، فجاء المنبر ورقا منه درجة ثم نطق فقال : « أنا محمد بن علي الرضا ، أنا الجواد ابن الجواد ، أنا العالم بالأنساب في الأصلاب ، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه ، علم منحني به من خلق الخلق قبل تكوين الذرّ وهو باق إلى بعد فناء السماوات والأرضين ، ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الشك لقلت قولا يتعجّب منه الأولون والآخرون » .
ثم وضع يده على فيه وقال : « اصمت يا محمد بن علي كما صمت أبوك » (4) .

(1) ما بين القوسين ليس في المشارق ، وبدله : « ونحن السبيل والسبيل والمنهج القويم والصراط المستقيم » .
(2) مشارق أنوار اليقين : ص 39 وجميع ما بين المعقوفات منه .
(3) كشف الغمة : 3 : 159 عن الطبرسي في إعلام الورى : ص 329 فصل 1 من الباب 8 .
ورواه أيضا في كشف الغمة : ص 152 عن ابن الخشّاب : ( مجموعة نفيسة : ص 195 ) .
(4) مشارق أنوار اليقين : ص 98 فصل 11 وفيه : فمن ذلك ما روي عنه أنه جيء به إلى

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 263

وكم له من منقبة متألقة في مطالع التعظيم ، مرتفعة في معارج التفضيل والتكريم ، وكم له من معجزة أنوارها بادية لأبصار ذوي البصائر ، بينة لأهل العقول والسرائر ، فمن ذلك ما روي في كتاب كشف الغمة أنه لما توفي الرضا عليه السلام وقدم المأمون لعنه الله إلى بغداد [ بعد وفاته بسنة ] اتفق أنه خرج إلى الصيد فاجتاز في طريقه بصبيان يلعبون ومحمد بن علي الجواد واقف عندهم ، [ وكان عمره يومئذ احدى عشرة سنة فما حولها ] ، فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين ووقف أبو جعفر عليه السلام مكانه فقرب منه المأمون ونظر إليه وكأنّ الله سبحانه قد ألقى في قلبه مسحة من حبّه ، فوقف المأمون وقال له : يا غلام ، ما منعك من الانصراف مع الصبيان ؟
فقال له الجواد (عليه السلام) : « يا أميرالمؤمنين ، لم يكن الطريق ضيّقا فيوسعه ذهابي ، ولم تكن لي جريمة فأخشاها ، وظني بك أنك لا تعاقب من لا ذنب له » (1) .
فبهت المأمون وأعجب كلامه وحسن وجهه فقال له : ما اسمك يا غلام ؟
فقال : « يا أمير المؤمنين ، محمد »(2) .
فقال : ابن مَن ؟
فقال : « [ يا أميرالمؤمنين ] ابن علي الرضا » .
فترحّم على أبيه وتوجه حيث قصد ، وكان معه بزاة ، فلما بعد أرسل بازا منها

=
مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله بعد موت أبيه الرضا وهو طفل ، فجاء إلى المنبر ورقا منه درجة ثم نطق فقال : « أنا محمد بن علي الرضا ، أنا الجواد ، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب ، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه ، علم منحنا به من قبل خلق الخلق أجمعين وبعد فناء السماوات والأرضين ، ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الشك لقلت قولا يتعجب منه الأولون والآخرون » .
ثم وضع يده الشريف على فيه وقال : « يا محمد اصمت كما صمت آباؤك من قبل » .
(1) في المصدر : « يا أميرالمؤمنين ، لم يكن بالطريق ضيق لأوسّعه عليك بذهابي ، ولم تكن لي جريمة فأخشاها ، وظني بك حسن إنك لا تضر من لا ذنب له » .
(2) في المصدر : فقال : محمد .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 264

على درّاجة ، فغاب عن عينيه غيبة طويلة ثم عاد من الجو وفي منقاره سمكة صغيرة وبها بقايا الحياة ، فعجب الخليفة من ذلك غاية العجب ، ثم أخذها في يده وعاد إلى البلد من الطريق الذي أقبل منه ، فلما وصل ذلك المكان وجد الصبيان على ما فارقهم عليه ، فانصرفوا وأبو جعفر لم ينصرف ووقف كما وقف أولا ، فلما دنا منه الخليفة قال : يا محمد .
قال : « لبيك يا أميرالمؤمنين » .
قال : ما في يدي ؟
فقال : « يا أميرالمؤمنين إن الله تعالى خلق بمشيئته في بحر قدرته سمكا صغارا تصطادها بزاة الملوك والخلفاء فيختبرون بها سلالة [ أهل بيت ] النبوة » .
فلما سمع المأمون كلامه أعجبه وجعل يطيل النظر في وجهه وقال : أنت ابن الرضا حقا . وضاعف إحسانه إليه ، ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (1) .
إمام هدى له شـرف ومجـد علا بهمـا على السبع الشداد
إمام هدى له شرف ومجــد أقــرّ به الموالي والمعادي
تصوب يداه بالجدوى فيغنـي عن الأنواء في السنة الجماد
يبخّل جود كفيّــه إذا مــا جرى في الجود منهل الغواد
بنى من صالح الأعمال بيتـا بعيـد الصيت مرتفع العماد
وشاد من المفاخر والمعالــي بنــاء لم يشــده قوم عاد
فواضله وأنعمــه غــزار عهدن أبــرّ من سحّ العهاد
ويقدم في الوغا إقــدام ليـث ويجري في الندا جري الجواد
فمن يرجو اللحاق به إذا مــا أتى بطريــف فخر أو تلاد
من القوم الذين أقــرّ طوعـا بنبلهم الأصــادق والأعادي

فهو وإن صدرت منه هذه الكرامات ، ابن سيد الكائنات ، فمناقبه منها ما حلّ

(1) كشف الغمة : 3 : 134 ، وما بين المعقوفات منه .
ورواه ابن طلحة في مطالب السؤول : 2 : 74 ـ 75 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 2 : 420 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 265

في الآذان محل جلاها وأشنافها ، واكتنفت ذاته الشريفة شغفا بها اكتناف اللآلي الثمينة بأصدافها ، وشهدت جميع الكائنات له أن نفسه مخصوصة بنفائس أوصافها ، قد احتلت من أوج النبوة ذرى أشرافها ، وسكنت من الشرف شرفات أعرافها .
روي في كتاب كشف الغمة عن حكيمة بنت الرضا (عليه السلام) قالت : صرت يوما إلى امرأة أخي محمد الجواد (عليه السلام) أم الفضل لسبب احتجت إليها فيه ، قالت : فبينما نحن كذلك نتذاكر فضل أخي وما أعطاه الله من العلم والحكمة ، فقالت امرأته أم الفضل : ألا أخبرك يا حكيمة بعجيبة رأيتها من أخيك لم يسمع مثلها ؟
قالت حكيمة : وما ذاك ؟
قالت : إنه أغارني بجارية مرة تسرّاها ، ومرة بزوجة ، فشكوته إلى المأمون ، فقال لي : يا بنيّة احتملي ، فإنه ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) . فبينما أنا ذات ليلة جالسة إذ أتتني امرأة كأنها غصن بان أو قضيب خيزران ، فقلت لها : مَن أنتِ ؟
فقالت : أنا زوجة محمد بن علي الرضا ، وأنا من ولد عمار بن ياسر .
قالت أم الفضل : فدخل عليّ من الغيرة ما لم أملك معه نفسي ! فنهضت من ساعتي وصرت إلى المأمون وكان ثملا (1) وقد مضى من الليل وهن ، فأخبرته بحالي وقلت له : إن الجواد يشتمني ويشتم العباس ويشتمك ، وقلت له ما لم يكن ، فغاظه ذلك .
ثم إنه قام وتبعني ومعه خادم حتى دخل على أبي جعفر وهو نائم ، فضربه بالسيف حتى قطّعه إربين وذبحه وعاد إلى مكانه ، فلما أصبح عرف ما كان بدا منه ، فأرسل خادما ليعرّفه حال أبي جعفر (عليه السلام) ، فمضى الخادم فوجد أبا جعفر (عليه السلام) قائما يصلّي ولا أثر عليه ، فعاد الخادم وأخبره بذلك وأنه سالم ، ففرح بذلك وأعطى الخادم ألف دينار ، وحمل إلى أبي جعفر عشرة آلاف دينار ،

(1) ثمل الشراب : نقعه حتى اختمر ، وثمل الشراب فلانا : أثمله . ( المعجم الوسيط ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 266

واجتمع به واعتذر إليه ، فقبله منه وأشار عليه بترك الشراب ، ففعل (1) .
وروي في الكتاب المذكور عن علي بن جرير قال : كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) جالسا وقد ذهبت شاة لمولاه ، فأخذ بها بعض الجيران وقال لهم : إنكم سرقتموها ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : « ويلكم خلّوا عن جيراننا فإنهم لم يسرقوا شاتكم ، والشاة (2) في دار فلان فأخرجوها من ذلك الدار » .
فذهبوا فوجدوها في داره وأخذوا الرجل وضربوه وأخذوا ثيابه وهو يحلف أنه لم يسرق هذه الشاة إلى أن صاروا به إلى أبي جعفر (عليه السلام) ، فقال لهم : « ويلكم ظلمتم الرجل ، إن الشاة قد دخلت داره وهو لا يعلم بها » . ثم دعاه ووهب (3) له شيئا عوض [ ما خرق من ثيابه و ] ضربه (4) .
ولله درّ من قال من الرجال :

(1) كشف الغمّة : 3 : 155 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
ورواه الراوندي في الخرائج : 1 : 372 ـ 375 | 2 مع تلخيص .
وأورده ابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 426 عن صفوان بن يحيى عن أبي نصر الهمداني و إسماعيل بن مهران وجبران الأسباطي عن حكيمة بنت أبي الحسن القرشي عن حكيمة بنت موسى بن عبدالله عن حكيمة بنت محمد بن عليّ بن موسى التقي عليه السلام .
ورواه حسين بن عبدالوهاب في عيون المعجزات : ص 127 بإسناده عن حكيمة بنت أبي الحسن القرشي .
ورواه مع تفصيل السيد الأجل علي بن طاوس في مهج الدعوات ص 36 وفي الأمان : ص 74 بإسناده عن الصدوق عن أبيه عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن جده عن أبي نصر الهمداني عن حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى بن جعفر عمة أبي محمد الحسن بن علي عليهم السلام .
(2) في المصدر : « فلم يسرقوا شاتكم ، الشاة » .
(3) في المصدر : « فإنّ الشاة دخلت وهو لا يعلم ، ثم دعاه فوهب » .
(4) كشف الغمّة : 3 : 156 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
ورواه الراوندي في الخرائج والجرائح : 376 | 3 .
ورواه الخصيبي في الهداية الكبرى : ص 32 بإسناده عن داود بن زيد الخياط .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 267

يا غيث كل الورى إن عـم عامهـم جذب ويا غوثهـم إن نابت النوب
والثابت العزم والأهـوال مقبلــة والراسـخ الحلم والأحلام تضطرب
والماجد الحسب المقري الضبا كرما حوبائــه وكذلك الماجـد الحسب
ما غالبت صبرك الدنيا ومحنتهــا إلا انثنت وله من دونهــا الغلب
ولا تريع لك الأيام سـرب حجــا بلا إذا ريعـت الأيــام والهضب
إن يصبح الكون داجـي اللون بعدك والأيـام سود وحسن الدهر مستلب
فأنت للشمس ما للعالميـن غنــى عنها ولـم تجزهم من دونها الشهب

كشف لهم الغطاء فرأوا عالم الغيب في عالم الشهادة ، ووقفوا على حقائق المعارف في خلوات العبادة ، وناجتهم أفكارهم في أوقات أذكارهم بما يسمون به غارب الشرف والسيادة ، وحصلوا بصدق توجههم إلى جناب القدس ما بلغوا به منتهى الإراداة ، فهم كما في نفوس أوليائهم ومحبيهم وزيادة ، فما تزيد معارفهم في زمان الشيخوخة على زمن معارفهم في زمن الولادة ، فهم خيرة الخير وزبدة الحقب ، وواسطة القلادة .
روي في كتاب مجمع الطبرسي عن محمد بن عبدالله بن مهران قال : إن المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر (عليه السلام) وأشار على ابنة المأمون زوجته بأنها تسمه ، لأنه وقف على انحرافها عن أبي جعفر (عليه السلام) وشدّة غيرتها عليه لتفضيل أمّ أبي الحسن ابنه عليها ، ولأنه لم يرزق منها ولدا ، فأجابته إلى ذلك ، وجعلت سما في عنب رازقي ووضعته بين يديه (عليه السلام) ، فلما اكل منه ندمت وجعلت تبكي ، فقال (عليه السلام) : « ما بكاؤك ؟ والله ليضربنّك الله بعقر لا يجبر ، وبلاء لا ينستر » .
فماتت بعلة في أغمض المواضع من جوارحها صارت ناصورا ، فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلة حتى احتاجت إلى استرفاد الناس .
فمات (عليه السلام) من ذلك السم في يوم الثلثاء لستّ خلون (1) من ذي الحجة ، سنة

(1) في عيون المعجزات : « لخمس خلون » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 268

مئتين وعشرين من الهجرة .
ودفن ببغداد بمقابر قريش ،ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، ولعنة الله على قاتله (1) .
فالويل لحزب الشيطان ، وأولياء الكفر والعدوان ، كيف حملهم ذلك البغض والشنآن ، على إهلاك خلفاء الملك الديان ، فعرّضوهم للقتل والحدثان ، وأزهقوا منهم النفوس والجنان ، وتتبعوهم في السر والإعلان ، وضيّقوا عليهم الفسيح من المكان ، يبكي عليهم العلم والبيان ، ويندبهم الحلم والتبيان ، وتنوح عليهم محجّبات الأذكار ومخّبيات الأوراد في دجنة الأسحار ، وتتلهّف المنابر لفقد تلك المواعظ ، وتأسف المحاضر لخلوّها من الواعظ واللافظ ، فعلى رزئهم الفادح ومصابهم القادح فلتطلق أوكية الدموع ، وتطلّق أبكار الهجوع ، أولا تكونون أيها المحبون ، والشيعة المخلصون ، كمن تذكر ما جرى عليهم ، وحلّ من الأرزاء ليديهم ، فرثاهم بما سمحت به النفوس من الأشعار ، وندبهم بما صورته القرائح من المراثي والأذكار ، وهو من الشيعة الأخيار

(1) ورواه الحسين بن عبدالوهاب في عيون المعجزات: ص132 ، وعنه المجلسي في البحار : 50 : 16 ح 26 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 269

المصرع السابع عشر

وهو مصرع الإمام الهمام عليّ الهادي
(صلوات الله عليه)

اجلوا طخياء ليالي الشكوك بنبراس التسليم ، واهتدوا في فلوات السلوك بلامع التفهيم ، وسيحوا في مهامة الفكرة فالنظر دقيق ، وتدرّعوا بدروع العزلة فالمحبوب رفيق ، وتتوّجوا بتيجان القناعة فالطامع ذليل ، وتمنطقوا بمناطق الطاعة فالوزر ثقيل ، وأحيوا ميت القلوب بتلاوة الأذكار ، وزينوا قامة الجنوب بعبادة الأسحار ، وأعدوا رواحل السير فقد لاح الطريق ، واملأوا حقائب الميرة فقد حصل دليل التوفيق ، وطهروا دنس العقائد بقراح الإنقياد ، واستعدّوا لهاتيك الشدائد المركب والزاد ، واعلموا أن الحاكم عدل لا يظلم في الأحكام ، والصراط دقيق لا تثبت عليه الأقدام ، والقسطاس مبين لا يعتريه التغيير ، والشاهد أمين لا يغادر صغيرا ولا كبيرا ، فأمسكوا أزمّة الولا ، واقتدوا بأشراف الملا ، فإنهم قد جانبوا لذات الحياة ، وطلقوا أبكار البهجة والمسرّات ، وصبروا على الأذى في محبوبهم ، وأمروا بالتحمل في مسنونهم ومندوبهم ، فالولاء بدون التسليم كذب وبهتان ، والوداد بغير المواساة زور وخسران .
إذا كنت تهوي القوم فاسلك طريقهم فما وصلــوا إلا بقطـع العلائق

فانتبه أيها الراقد من سنة غفلتك ، وانهج أيها السالك طريق أئمتك ، فهم والله أنوار الهداية السافرة ، والقرى المباركة الظاهرة ، المأمور باتباعهم في صريح القرآن ، والمحثوث على موالاتهم في الذكر والبيان ، بهم يدرك المطلوب ، وقربهم قرب المحبوب .
خليليّ عوجا بي على الركب عوجة عسـى يشتفي فيها السقيم المعذب
لمامـا نؤدي بعض فرض ونندب ولو لم يكن إلا بتعريـس ساعــة

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 270

خليليّ لا والله لـو قــد علمتمــا من النازخ الثــاوي به والمغيب
لما اخترتمـا يوما علـى ذاك منزلا وإن لم يكن إلا مـن الدمع مشرب
فعوجـا بنفسـي أنتمــا وتبيّنــا فخير صحاب المـرء من لا يؤنّب
تقولان قصد العيس جمع ويثــرب صدقتـم وهذا الربـع جمع ويثرب
ولا تعجبا مما يحــاول مدنــف فأمركمــا في اللوم أدهى وأعجب
دعاني وأشجانـي الفــؤاد فإننـي جعلتكما في أوســع الحلّ فاذهبوا
صحبتكما كي تسعفاني على الجـوى أماسبــة إذ لــم تفوا إن تؤنّبوا

روي في كتاب المعالم (1) (مرفوعا إلى جابر بن يزيد الجعفي قال : قال أبوجعفر الباقر (عليه السلام : « كان الله ولا شيء غيره ولا معلوم ولا مجهول ، فأول ما ابتدأ به من خلق أن خلق محمدا وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته ، فأوقفنا أظلّة خضراء بين يديه حيث لا سماء ولا أرض ولا مكان ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر ، فانفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس نسبح الله تعالى ونقدّسه ونحمده ونعبده حق عبادته .
ثم بدأ الله تعالى بخلق المكان فخلقه وكتب عليه « لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أميرالمؤمنين ووصي رسول الله » .
ثم كيّف الله العرش فكتب على سرادقاته مثل ذلك ، ثم خلق السماوات فكتب على أطرافها مثل ذلك ، ثم خلق الجنة والنار وكتب عليهما كذلك .
ثم خلق الملائكة وأسكنهم السماء ، ثم تراءا لهم وأخذ منهم الميثاق له بالربوبيّة ولمحمد صلى الله عليه وآله بالنبوة ولعلي وأولاده بالولاية ، فارتعدت فرائص الملائكة فسخط على الملائكة واحتجب عنهم فلاذوا بالعرش سبع سنين يستجيرون الله من سخطه ، ويقرّون بما أخذ عليهم ، ويسألونه الرضا عنهم ، فرضي بعد ما أقرّوا

(1) لعل مراده من « المعالم » معالم العترة النبوية للجنابذي ، وما عثرت عليه ، انظر « أهل البيت في المكتبة العربية » للسيد عبدالعزيز الطباطبائي .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 271

بذلك ، فاسكنهم في السماء واختصهم لنفسه واختارهم لعبادته .
ثم أمر الله أنوارنا بالتسبيح ، فسبحنا فسبحت الملائكة لتسبيحنا ، ولولا تسبيحنا مادروا كيف يسبّحون الله ويقدسونه .
ثم إن الله تعالى خلق الهواء فكتب عليه ما كتب على العرش .
ثم خلق الجن وأسكنهم فيه ، وأخذ الميثاق له منهم بالربوبية ولمحمد بالنبوة ولعلي وأولاده بالولاية ، فأقر منهم بذلك من أقرّ وجحد منهم من جحد ، فأول من جحد إبليس وختم له بالشقاوة .
ثم أمر الله أنوارنا بالتسبيح ، فسبحنا فسبحت الجن لتسبيحنا ، ولو لم نسبح لم يدروا كيف التسبيح .
ثم خلق الله الأرض وكتب على أطرافها ما كتب على الهواء ، فبذلك يا جابر قامت السماوات بلا عمد وثبتت الأرض بلا وتد .
ثم خلق الله آدم من أديم الأرض ونفخ فيه من روحه ، وأخرج ذريته من صلبه فأخذ عليهم الميثاق له بالربوبية ولمحمد بالنبوة ولنا بالولاية ، فأقرّ منهم من أقرّ وجحد منهم من جحد .
ثم إن الله تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وآله : وعزتي وجلالي وعلوّ شأني ، لولاك ولولا عليّ وعترتكما الهادين المهديين الراشدين ما خلقت الجنة ولا النار ولا المكان ولا الأرض ولا السماء ولا الملائكة ولا الهواء ولا خلقا يعبدني .
يا محمد ، أنت خليلي وحبيبي وصفيي وخيرتي من خلقي وأحبّ الخلق إليّ وأول من ابتدأته من خلقي .
ثم من بعدك الصديق الأكبر عليّ أميرالمؤمنين ووصيك به أيدتك ونصرتك ، جعلته العروة الوثقى ، ونور أوليائي ومنار الهدى ، ثم هؤلاء الهداة المهديون .
من أجلكم ابتدأت ما خلقت ، فأنتم خيار خلقي وأحبائي ، وكلماتي الحسنى وآياتي الكبرى ، وحجتي فيما بيني وبين الورى ، خلقتكم من نور عظمتي ، واحتجبت بكم عن خلقي ، وجعلت بكم استقبالي ، وبكم سؤالي ، فكل شيء هالك

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 272

إلا وجهي ، فأنتم وجهي لا تبيدون ولا تهلكون ، ولا يهلك ولا يبيد من تولاكم ، من استقبلني بغيركم فقد ضلّ وهوى ، فأنتم صفوتي ، وحملة سرّي ، وخزنة علمي ، وسادة أهل السموات والأرض .
ثم إن الله تعالى هبط إلى الأرض في ظلل من الغمام والملائكة ، وأهبط أنوارنا معه ، فأوقفنا صفوفا بين يديه نسبحه ونقدسه في أرضه كما سبّحناه في سمائه .
فلما اراد الله إخراج ذرية آدم عليه السلام لأخذ الميثاق سلك نورنا فيه ، ثم أخرج ذريته من صلبه فسبّحنا فسبّحوا ، ولولانا ما دروا كيف التسبيح .
ثم تراءا لهم فقال : « ألست بربكم » ؟ فقلنا : بلى .
ثم أخذ الميثاق منهم بالنبوة لمحمد (صلى الله عليه وآله) ولعليّ بالولاية ، فأقرّ من أقرّ وجحد من جحد » .
ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) : « نحن أول خلق الله ، وأول خلق عبدالله ، ونحن سبب خلق الخلق ، وسبب تسبيحهم وعبادتهم ، وبنا عرف الله ، وبنا وحّد ، وبنا عبد ، وبنا أكرم من أكرم من جميع خلقه ، وبنا أثاب من أثاب وعاقب من عاقب » .
ثم تلى قوله تعالى : «وإنا لنحن الصافون» * «وإنا لنحن المسبحون »(1) ، «قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين » (2) ، فرسول الله أول من عبدالله ، وأول من أنكر إن يكون له ولد أو شريك ، ثم نحن بعد رسول الله ، ثم أودعنا بعد ذلك صُلب آدم ، فما زال ذلك النور يتنقل من الأصلاب والأرحام من صلب إلى صلب ولا استقرّ في صلب إلا صار شرفا لما منه انتقل وشرفا للذي فيه استقر حتى صار في عبدالمطلب وافترق جزئين جزء في عبدالله وجزء في أبي طالب ، فذلك قوله تعالى :«وتقلّبك في الساجدين »(3) يعني في أصلاب النبيين ، فعلى هذا أجرانا الله في الأصلاب والأرحام حتى أخرجنا في أوان عصرنا وزماننا
» .

(1) سورة الصافات : 37 : 165 ـ 166 .
(2) سورة الصافات : 27 : 165 ـ 166 .
(3) سورة الشعراء : 26 : 219 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 273

بدور طوالع ، وجبال فوارع ، وعيون هوامع ، وسيول دوافع ، وسيوف قواطع وبهاليل لو عاين فيض أكفهم الطامع والقانع ، لأيقنّا أن رزق الله في الأرض واسع ، بهم اتّضحت سبل الهدى وبهم سلم من سلم من الردى ، وبحبّهم ترجى النجاة والفوز غدا ، وهم أهل المعروف وأولوا الندى ، كلّ المدائح دون استحقاقهم ، وكل مكارم الأخلاق مأخوذة من مكارم أخلاقهم ، وكل صفات الخير مخلوقة في عنصرهم الشريف وأعراقهم ، فالجنة في وصالهم والنار في فراقهم ، وهذه الصفات تصدق على الجمع والواحد ، وتثبت للغائب منهم والشاهد ، وتنزل على الولد منهم والوالد ، حبهم فريضة لازمة ، ودولتهم باقية دائمة (1) .
فأنــوارهم فتــح لرشد موفـق وآثــارهم حتف لفيء مظلل
إذا سوبقوا يوم الفخار انتهت بهـم سوابق للمجد القديــم المؤثّل
تراهم ركوعـا سجـدا وأكفهــم نوافلـهــا مخلوطـة بالتنفّل
وعين العلى والعلم فيهم فهل ترى سؤالا ولم للطالــب المتوعّل
مناجيــد أزوال أماجيـد سـادة صناديـد أبطـال ضراغم حفّل

فمن يجاريهم في الفخر ، ويسابقهم في علوّ القدر ، فما تركوا غاية إلا انتهو إليها سابقين ، ولا مرتبة إلا ارتقوها آمنين ، فالناس كلهم عيال عليهم ، منتسبون انتساب العبودية إليهم ، عنهم أخذت المأثر ، ومنهم تعلمت المفاخر ، وبشرفهم شرّف الأوائل والأواخر .

(1) ورواه البحراني في حلية الأبرار : 1 : 14 ح 2 ، وفي مدينة المعاجز : 2 : 371 ح 611 مع اختلاف في الألفاظ .
ورواه المجلسي في البحار : 15 : 23 ح 41 من باب بدء الخلق وما يتعلق بذلك ، باختصار ، وفي ج 25 ص 17 ح 31 من باب بدء خلقهم وطينتهم وأرواحهم ، مفصلا ، وفي ج 57 ص 169 ح 112 من باب حدوث العالم وبدء خلقه ، كثيرا من فقراته ، في جميع الموارد عن كتاب رياض الجنان لفضل الله بن محمود الفارسي بإسناده إلى جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 274

روي في كتاب كشف الغمة أن مولد الإمام الهادي (عليه السلام) كان في اليوم الثاني من شهر رجب سنة أربع عشر ومئتين (1) .
وروي في الكتاب المذكور عن علي بن إبراهيم الطائفي قال : مرض المتوكل من خُراج (2) خرج به فأشرف منه على الموت [ فلم يجسر أحد أن يمسه بحديد ] فنذرت أمه أنه متى عافاه الله أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالا جزيلا من مالها .
ثم إن الفتح بن خاقان قال للمتوكل : لو بعثت إلى هذا الرجل ، يعني أبا الحسن (عليه السلام) ، فسألته عن دائك ، فربما يكون عنده شيء يفرج الله به عنك .
فقال المتوكل : ابعثوا إليه . فمضى الرسول ورجع فقال : « خذوا بعر الغنم فديفوه بماء الورد وضعوه على الجراح ، فإنه نافع بإذن الله » .
فجعل من حضر المتوكل يهزأ من قوله ، فقال لهم الفتح : وما يضرّ من تجربته ، فوالله إني لأرجو الصلاح به .
فأحضر الكسب وديف بماء الورد ووضع على الجراح ، فانفتح وخرج ما كان

(1) كشف الغمة : ج 3 ص 164 عن ابن طلحة في مطالب السؤول : ص 307 في أول الباب العاشر .
ورواه أيضا في ص 174 عن ابن الخشاب في مواليد الأئمة ووفياتهم : ( مجموعة نفيسة : ص 197 ) ، ولم يشر في الموردين إلى اليوم الثاني بل اكتفى بأنه عليه السلام ولد في شهر رجب .
ورواه أيضا في ص 186 عن الطبرسي في إعلام الورى : ص 339 في أول الباب التاسع ، وفيه : ولد عليه السلام بصريا من المدينة في النصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشر ومأتين ، وفي رواية ابن عياش يوم الثلثاء الخامس من رجب .
وقال الطبرسي في تاج المواليد : ( مجموعة نفيسة : ص 131 ) : ولد عليه السلام بصريا من مدينة الرسول صلوات الله عليه وآله يوم الثلثاء في رجب ، ويقول في النصف من ذي الحجة ، ويقال : ولد لليلة بقين منه سنة 212 .
ومثله في كشف الغمة : ج 3 ص 165 عن الجنابذي ، وفي ص 166 عن المفيد في الإرشاد : 2 : 297 .
(2) الخراج : ما يخرج من البدن من القروح . ( الصحاح : 1 : 309 « خرج » ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 275

فيه ، وبشّرت أم المتوكل بعافيته فحملت إلى أبي الحسن (عليه السلام) عشرة آلاف دينار .
فعوفي المتوكل من علته ، فلما كان بعد أيام سعى البطحائي بأبي الحسن (عليه السلام) إلى المتوكل وقال : عنده أموال وسلاح . فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلا ويأخذ ما يجده عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه .
قال إبراهيم بن محمد : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى دار أبي الحسن بالليل ومعي سُلم ، فصعدت منه إلى السطح فنزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة ، فلم أدر كيف أصل إلى الدار ، فناداني أبوالحسن (عليه السلام) من الدار : « يا سعيد مكانك حتى يأتونك بشمعة » .
فلم ألبث أن آتوني بشمعة ، فنزلت فوجدت عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة ، فقال لي : « دونك البيوت » . فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئا ، ووجدت البدرة مختمومة بخاتم [ أمّ ] المتوكل وكيسا مختوما معها ، فقال لي أبو الحسن (عليه السلام) : « دونك المصلى » . فرفعته فوجدت سيفا في جفن ملبوس ، فأخذت ذلك وصرت إليه ، فلما رأى خاتم أمه على البدرة بعث إليها ، فخرجت فسألها عن البدرة ، فأخبرني بعض خدم الخاصة (1) أنها قالت : كنت نذرت في مرضك عليك إن عوفيت أن أحمل من مالي عشرة آلاف دينار ، فحملتها إليه ، وهذا خاتمك على الكيس ما حرّكها . وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربع مئة دينار ، فأمر أن يضم إلى البدرة بدرة أخرى وقال لي : احمل ذلك إلى أبي الحسن واردد السيف والكيس عليه بما فيه . فحملت ذلك إليه واستحييت منه ، فقلت : يا سيدي ، عزّ عليّ دخولي دارك بغير إذنك ، ولكني مأمور !
فقال لي : «وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون » (2)(3) .

(1) في كشف الغمة : « بعض الخادم الخاصة » .
(2) سورة الشعراء : 26 : 227 .
(3) كشف الغمة : 3 : 168 مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وما بين المعقوفات منه .

=


السابق السابق الفهرس التالي التالي