مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 276

ألا لعنة الله على القوم الظالمين ، ولله در من قال من الرجال :
الله أكبــر إنـهــــا لمن الغرائـب والعجائب
يستأصلـون معاشـــرا بلغوا بهم أقصى المطالب
ويظاهـرون بقتــل من نالــوا بسيفهم المراتب
أبني المراثي والممــادح والمعالــي والمناقـب
ما إن ذكرت مصـابكــم إلا وهيـج بي المصائب
فكأنّ من ولعـي بـكــم ما بين أضلاعي عقارب
صلى الإلــه عليـكــم ما حـج ببيت الله راكب

وروي في الكتاب المذكور أن المتوكل عرض عسكره وأمر كل فارس منهم أن يملأ مخلاة فرسه طينا ويطرحوه في موضع واحد ، فصار كالجبل ، فسماه « تل المخالي » ، وصعد هو وأبو الحسن (عليه السلام) على ذلك التلّ ثم قال لأبي الحسن (عليه السلام) : إنما طلبتك لتشاهد خيولي . وكانوا لابسين التحايف (1) حاملين السلاح ، فعرضوا بأحسن هيئة وأتمّ عدّة وأعظم زينة ، وكان غرضه كسر قلب من يخرج عليه ، وكان يخاف من أبي الحسن أن يأمر أحدا من أهل بيته بالخروج عليه .
فقال له أبوالحسن (عليه السلام) : « هل اعرض عليك عسكري » ؟
قال : نعم .
فدعا الله سبحانه وتعالى ، فإذا بين السماء والأرض من المشرق والمغرب ملائكة مدجّجون ، فغشي على الخليفة ، فلما افاق قاله له أبو الحسن : « نحن لا ننازعكم(2)في الدنيا ، فإنا مشغولون بالآخرة ، فلا شيء عليك مما تظن » (3) .

=
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 302 .
(1) في المصدر : « التجافيف » ، وفي هامشه : قال الفيومي : التِجفاف ـ بالكسر ـ : شيء تلبسه الفرس عند الحرب كأنه درع ، وقيل : سمي بذلك لما فيه من الصلابة واليبوسة ، وقال الجواليني : معرب ومعناه ثوب البدن .
(2) في المصدر : « لاننافسكم » .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 277

وروي في الكتاب المذكور عن أبي سعيد سهل بن زياد قال : حدثنا أبوالعباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب ونحن في داره بسرّ من رأى فجرى ذكر أبي الحسن (عليه السلام) فقال : يا أبا سعيد ، أحدّثك بشيء حدثني به أبي قال : كنّا مع المنتصر ـ وأبي كاتبه ـ فدخلنا والمتوكل على سريره فسلم المنتصر ووقف ووقفت خلفه ، وكان إذا دخل رحبّ به وأجلسه ، فأطال القيام وجعل يرفع رجلا ويضع أخرى وهو لا يأذن له في القعود ، ورأيت وجهه يتغيرساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان : هذا الذي يقول فيّ ما يقول ويردّ عليّ القول ، والفتح يسكّنه ويقول : هو مكذوب عليه . والمتوكل يتلظى ويستشيط ويقول : والله لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق ، فهو الذي يدّعي الكذب ويطعن في دولتي .
ثم طلب أربعة من الخزر أجلافا ودفع إليهم أسيافا وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل ، وقال : والله لأحرقنّه بعد قتله . وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر ، فدخل أبوالحسن (عليه السلام) وشفتاه تتحركان وهو غير مكترث ولا جازع ، فلما رآه المتوكل رمى بنفسه عن السرير غليه وانكبّ عليه يقبّل ما بين عينيه ويديه ( ورجليه ) (4) ، واحتمل سيفه بيده (5) وهو يقول : « يا سيدي يا ابن رسول الله ، يا خير خلق الله ، يا ابن عمي ، يا مولاي ، يا أبا الحسن » وأبو الحسن (عليه السلام) يقول : « أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا » ؟
فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت ؟
قال : جاءني رسولك .
قال : كذب ابن الفاعلة ، ارجع يا سيدي ، يا فتح ، يا عبدالله (6) ، يا منتصر ، شيّعوا سيدكم وسيّدي .

=
(3) كشف الغمّة : 3 : 185 .
(4) ما بين القوسين ليس في المصدر .
(5) في المصدر : « واحتمل وشقّه بيده » .
(6) في المصدر : « يا عبيدالله » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 278

فلما بصر به الخزر سجدوا ، فدعاهم المتوكل وقال : لِمَ لم تفعلوا ما أمرتكم به ؟
قالوا : سجدتنا هيبته (1) ، ورأينا حوله أكثر من مئة سيف لم نقدر أن نتأمّلهم ، وامتلأت قلوبنا من ذلك رعبا .
فقال : يا فتح ، هذا صاحبك ، وضحك في وجهه وقال : الحمد لله الذي بيّض وجهه وأنار حجته (2) .
فيا لها من مناقب أكسبت الأكوان لامع ضيائها ، وبرقعت الأزمان بناصع سنائمها ، ومكارم تفرد بخصائصها بطبعه الكريم ، وحفظ تائه قلائصها بفضله العميم ، قد كانت نفسه مهذّبة بأهداب اللاهوت ، وأخلاقه مستعذبة بسلسبيل الملكوت ، وسيرته عادلة في جميع الأنام ، وخلاله فاضلة بين الخاص والعام ، إذا قال ذلّل الفصحاء وحيّر البلغاء وأسكت العلماء ، وإن جاد خجّل الغيث ، وإن صال جبن الليث ، وإن فخر أذعن كل ساحل وسلم إليه كل مناضل وأقرّ لشرفه كل شريف وطأطأ لجاهه كل ذي مجد منيف ، وإن طاول فالأفلاك تحت أقدامه ، وإن فاخر فالأملاك من خدامه ، وإن ذكرت العلوم فهو موضح إشكالها وفارس جلادلها وجدالها ، وابن نجدتها (3) وصاحب أقوالها ، وطلاع ثناياها ، وناصب أعلام أعقالها ، فهذه بعض صفات ذاته ، وعلامات معجزاته .
لم تزل عنـده مفاتيــح كشف قد أماطت عن الغيوب غطاها
قائم في زكاة كــل المعالــي دائـم دأبــه على ائتياهــا
كـم أدارت يـداه أفلاك مجـد مستمــر علـى الزمان بقاها
ذاك من جنـة المعالي كطوبـى كـل شــيء تظلــه أفياها
ذاك ذو الطلعـة التـي تتجلـى حضرات الجمال دون اجتلاها
لذ إلى جـوده تجـده زعيمـا حلل المكرمـات من صنعاهـا

(1) في المصدر : « قال : شدة هيبته » .
(2) كشف الغمة : 3 : 185 مع اختلاف لفظية .
(3) نجد الشيء نجودا : ارتفع ، والأمر : وضح واستبان . ( المعجم الوسيط )
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 279

كم له شمـس حكمة تتمنّــى غرة الشمس أن تكون سماها
كم له من روائـح وغــواد مدد الفيض كـان من مبتداها

وروى في الكتاب المذكور عن ابن أرومة قال : خرجت إلى سر من رأى أيام المتوكل فدخلت إلى سعيد الحاجب وقد دفع المتوكل إليه أبا الحسن (عليه السلام) ليقتله ، فقال لي سعيد : أتحبّ أن ترى الهك ؟
فقلت : سبحان الله ، إن إلهي لا تدركه الأبصار !
فقال : إنما عنيت الذي تسمونه إمامكم .
قلت : ما أكره ذلك .
فقال لي : إنه قد أمرني المتوكل بقتله ، وأنا فاعل ، فادخل على البريد .
قال : فقمت ودخلت على سيدي وإذا هو جالس (1) هناك وإلى جنبه قبر محفور ، فسلّمت عليه وبكيت بكاءا عاليا ، فقال (عليه السلام) لي : « ما يبكيك » ؟
قلت : ما أرى .
قال : « لا تبك ، إنه لا يتمّ لهم ما أرادوا ، ولا يلبث (2) أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه » .
فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل (3) .
وروي فيه ايضا عن أبي هاشم الجعفري قال : ظهر برجل من أهل سرّ من رأى برص ، فتنغّص عيشه ، فأشار عليه أبو علي الفهري بالتعرض لأبي الحسن وأن يسأله الدعاء ، فجلس له يوما على طريقه ، فلما رآه قام إليه ، قال (عليه السلام) له : « تنحّ عافاك الله ، تنحّ عافاك الله ، تنحّ عافاك الله » ، وأشار بيده إليه ثلاث مرات ، فانخزل ولم يجسر أن يدنو منه ، فانصرف ولقي أبا علي الفهري فأعلمه بذلك ، قال

(1) في المصدر : « فإذا خرج صاحب البريد فأدخل عليه فخرج ودخلت وهو جالس » .
(2) في المصدر : « لاتبك ، إنه لا يتمّ له ذلك وإنه لا يلبث » .
(3) كشف الغمّة : 3 : 184 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 280

له : إنه قد دعا لك قبل أن تسأله ، فاذهب فإنك معافى . فذهب فما أصبح إلا وقد برئ من ذلك البرص (1) .
وروي أنه (عليه السلام) مضى إلى سبيل ربه شهيدا مسموما ، سمه المعتزّ بن المتوكل باليوم الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة مئتين وأربع وخمسين من الهجرة . ـ صلى الله عليه ـ ، ولعنة الله على قاتله وظالمه (2) .
فيا عاذلي كفّ عن ملامي ، ويا لائمي أجّجت عليّ ضرامي ، أأسلوا [ عن ] آل الرسول ، أم أنس أولاد عليّ والبتول ؟ وقد أضحوا عباديد في الفلوات ، متشتّتين في الجهات ، بين قتيل بالحسام ، وهالك بالأوام ، وسميم قد فرت كبده السموم ، وكليم يشوي شواه السموم ، ومقيد لا يفدى ، وعليل لا يعالج ولا يداوى ، فعزيز على محمد المصطفى وعليّ المرتضى والزهراء ، ما حلّ بأولادهم الأصفياء ، من القتل والأذى ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
أولا تكونون يا ذوي الإخلاص الصادق ، وأرباب الوداد الفائق ، كمن هدّ هذا المصاب ركونه ، وحبّب إليه منونه ، فضرب قباب الكآبة في أودية اصطباره ، وطنّب فساطيط الصبابة في مرابع قراره ، فجعل النوح شعاره ، والبكاء دثاره ، فنظم المراثي ، ولله دره من راث .

(1) كشف الغمّة : 3 : 183 .
(2) انظر كشف الغمة : 3 : 165 عن مطالب السؤول ، وفي ص 166 عن الخشّاب والمفيد ، وفي ص 174 عن ابن الخشّاب ، وفي ص 186 عن إعلام الورى .
رواه المفيد في الإرشاد : 2 : 311 ، وابن طلحة في مطالب السؤول : ص 308 في الباب 10 ، وابن الخشاب في مواليد الأئمة ووفياتهم : ( مجموعة نفيسة : ص 197 ) ، والطبرسي في إعلام الورى : ص 339 في أول الباب التاسع .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 281

المصرع الثامن عشر

مصرع حسن العسكري
(عليه السلام)

أيها الطائفون بكعبة الولاية ، والعاكفون في الحرم الهداية ، والساعون في صفا المروة ، والمهرولون بين صفا الوداد والمروة ، اقتلوا نفوس الابتهاج واصطادوا حمام حرم العزلة للأولاد والأزواج ، وانحروا بمنى الوداد قربان النفوس ، واحلقوا بموسي اللطام مفارق الرؤوس ، وانزعوا ثياب إحرام الدعابة عن الأبدان ، والبسوا مخيط الكآبة والأحزان ، ومسوا من طيب الإخلاص اذكاه ، واستنشقوا من عطري الخلاص ريّاه ، فقد تُلّ إسماعيل آل محمد للجبين ، وبات إبراهيم آل أحمد لهذا المصاب خدين ، وغدت فاطمة على ذبيحها بادية التعداد دائمة المراثي والإنشاد ، فما الخنساء في عصرها ، ولا حزنها على صخرها (1) بأعظم من كريمة المصطفى وحليلة المرتضى ، فالخنساء أصيبت بأخيها فصارت أيامها كلياليها ، وأما فاطمة الزهراء فقد فجعت بجميع أولادها النجباء ، فأيّ المصابين أعظم ؟ وأي البحرين أعمق وأفعم ؟ من أصيب بأخ واحد ، أو من فجع باثني عشر إماما أماجد ؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولله در من قال من الرجال :
وثواكل في النوح تسعد مثلهــا أرأيــت ذا ثكل يكون سعيدا
حنّت فلم تر مثلهـنّ نوائحــا إذا ليـس مثــل فقيدهنّ فقيدا
لا العيس تحكيها إذا حنّـت ولا الورقـاء تحسن عندها التعديدا
إن تنع أعطت كلّ قلب جمـرة أو تَدعُ صـدّت الجبـال الميدا
عبراتها تحيى الثرى لو لم تكن زفراتها تدع الريـاض همـودا

(1) تقدم ترجمتهما في ص 219 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 282

تدعو بلهفة ثاكل لغـب الأســى بفؤاده حتـى انطــوى مفئــودا
تخفى الشجا جلدا فإن غلب الجوى ضعفت فأبدت شجوهــا المكمودا
نادت فقطّعت القلوب بصوتهــا لكـنّ مـا انتظم البيــان فريــدا

روي في كتاب المعالم مرفوعا إلى عمرو بن أبي المقدام قال : سمعت أبا عبدالله [ عليه السلام ] يقول : « خرجت أنا وأبي حتى إذا كُنا بين القبر والمنبر ، وإذا نحن بأناس من الشيعة ، فسلّم عليهم أبي ، ثم قال : والله إني لأحبّ روائحكم (1) وأرواحكم ، فأعينوني على ذلك بالورع والاجتهاد (2) ، واعلموا أن ولايتنا لا تُنال إلا بالورع (3) .
أنتم (4)شيعة الله ، أنتم أنصار الله ، أنتم السابقون الأولون ، وأنتم السابقون الآخرون ، وأنتم السابقون في الدنيا والآخرة (5) قد ضَمنّا لكم الجنة بضمان الله عزّ وجلّ وضمان رسوله صلى الله عليه وآله ، والله ما على درجات الجنة أكثر أرواحا منكم ، فتنافسوا في فضائل الدرجات ، أنتم الطيبون ، ونساؤكم الطيبات ، كل مؤمنة حوراء عيناء ، وكل مؤمن صدّيق (6) .

(1) في الكافي : « رياحكم » .
(2) في الكافي : « رياحكم » .
(3) في الكافي : « بالورع والإجتهاد ، ومن ائتمّ منكم بعبد فليعمل بعمله » .
(4) في الكافي : « وأنتم » ، وكذا في الموردين الآتيين .
(5) في الكافي : « والسابقون في الآخرة » .
(6) زاد بعده في الكافي : ولقد قال أميرالمؤمنين عليه السلام لقنبر : « يا قنبر ، ابشر وبشّر واستبشر ، فوالله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وهو على أمته ساخط إلا الشيعة .
ألا وإن لكل شيء عزا وعزّ الإسلام الشيعة .
ألا وإن لكلّ شيء دعامة ودعامة الإسلام الشيعة .
ألا وإنّ لكلّ شيء ذروة وذروة الإسلام الشيعة .
ألا وإنّ لكلّ شيء شرفا وشرف الإسلام الشيعة .
ألا وإن لكلّ شيء سيدا وسيّد المجالس مجالس الشيعة .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 283

ولقد قال (عليه السلام) : ألا وإنّ لكلّ شيء جوهرا وجوهر وُلد آدم محمد (صلى الله عليه وآله) ونحن وشيعتنا بعدنا ، حبّذا شيعتنا ما أقربهم من عرش الله وحسن صنع الله إليهم(1)يوم القيامة .
والله لولا أن يتعاظم الناس ذلك أو يدخل به على شيعتنا زهو(2)لسلمت عليهم الملائكة قبلا .
والله ما من عبد من شيعتنا يتلو القرآن في صلاته قائما إلا وله بكل حرف مئة حسنة ، ولا قرأ في صلاته جالسا إلا وله بكلّ حرف خمسون حسنة ، ولا في غير صلاة إلا وله بكلّ حرف عشر حسنات ، وإن للصامت منهم أجر (3)من قرأ القرآن من مخالفيهم(4) .
وهم والله على فرشهم نيام لهم أجر المجاهدين ، وهم والله في صلاتهم لهم
(5)

=
ألا وإن لكل شيء إماما وإمام الأرض أرض تسكنها الشيعة .
والله لولا ما في الأرض منكم ما رأيت بعين عشبا أبدا .
والله لولا ما في الأرض منكم ما أنعم الله على أهل خلافكم ، ولا أصابوا الطيبات ، ما لهم في الدنيا ولا لهم في الآخرة من نصيب ، كل ناصب وإن تعبّد واجتهد منسوب إلى هذه الآية : « عاملة ناصبة»* «تصلى نارا حامية» * [ الغاشية : 3 ـ 4 ] ، فكلّ ناصب مجتهد فعمله هباء . شيعتنا ينطقون بنور الله عزوجل ، ومن يخالفهم ينطقون بالتفلّت .
والله ما من عبد من شيعتنا ينام إلا أصعد الله عزوجل روحه إلى السماء فيبارك عليها ، فإن كان قد أتى عليها أجلها جعلها في كنوز رحمته وفي رياض جنته وفي ظل عرشه ، وإن كان أجلها متأخرا بعث بها مع أمنته من الملائكة ليردوها إلى الجسد الذي خرجت منه لتسكن فيه .
والله إن حاجّكم وعمّاركم لخاصة الله عزوجل ، وإن فقراءكم لأهل الغنا ، وإنّ أغنياءكم لأهل القناعة ، وإنكم كلكم لأهل دعوته وأهل إجابته .
(1) في الكافي : « ما أقربهم من عرش الله عزوجلّ وأحسن صنع الله بهم » .
(2) في الكافي : « أو يدخلهم زهو » .
(3) في الكافي : « وإن للصامت من شيعتنا لأجر » .
(4) في الكافي : « ممن خالفه » .
(5) في الكافي : « أنتم والله على فرشكم نيام لكم أجر المجاهدين ، وأنتم والله في صلاتكم لكم » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 284

أجر الصافّين في سبيل الله ، وهم والله الذين قال الله عزوجل فيهم (1) : «ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ إخوانا على سرر متقابلين » (2) .
إن لشيعتنا أربعة أعين (3) : عينان في الرأس وعينان في القلب ، قد فتح الله أبصارهم وأعمى أبصار غيرهم (4) (5) » .
فيا لها من بشارة تسرّ قلوب أولي النهى ، وحجة قاطعة تُدحض شبهة أرباب الغوى ، قد كشفت جلابيب المذلّة والتهوين ، عن وجوه شيعة أميرالمؤمنين ، وثبتت قواعد الملة النبوية ، ومهّدت مباني الفرقة الإثنا عشرية ، «من يهدي الله فهو المهتد ومن يُضلل فلن تجد له وليا مرشدا »(6) ، ولله درّ من قال من الرجال :
بني الوحي يا كهف الطريد ومن بهم يلوذ فينجــو الخائـف المترقّب
منازلكــم للنـازليــن مرابــع يريـف بها عاف ويخصب مجدب
وأيديكــم للسائليــن سحائــب يهــلّ بها عـذب النوال ويسكب
وأسيافكــم يوم الضبا يوم فاقــة لها الهام مُلهى والترائــب ملعب
ومجدكم ذاك الــذي كفّ فاقتــي تمــدّ له دون البرايــا وتنصب

(1) في الكافي : « وأنتم والله الذين قال الله عزوجل : ونزعنا » .
(2) في الكافي : « وأنتم والله الذين قال الله عزوجل : ونزعنا » .
(3) في الكافي : « إنما شيعتنا أصحاب الأربعة أعين » .
(4) في الكافي : « وعينان في القلب ، ألا وإنّ الخلائق كلهم كذلك ، ألا إنّ الله عز وجل فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم » .
(5) ورواه الكليني في الكافي : 8 : 212 ح 259 و260 مع زيادة ذكرناها في الهامش ، وعنه المجلسي في البحار : ج 68 ص 80 ح 141 .
ورواه الصدوق في الأمالي : المجلس 91 ، الحديث 4 وفي فضائل الشيعة : ص 51 ح 8 ، والشيخ الطوسي في أماليه : المجلس 2 الحديث 90 والمجلس 43 ح 6 ، وفي ترتيب الأمالي : ج 6 ص 266 و234 .
وقريبا منه رواه فرات في تفسيره : ص 549 رقم 705 في تفسير سورة الغاشية ، وعنه في البحار : 7 : 203 ح 90 وفي ج 27 ص 108 ح 81 .
(6) سورة الكهف : 18 : 17 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 285

وعيني إليكم لا إلى من عداكــم وإن كان من قد كان ترنو وترقب
وقصد سواكم لا تـؤم ركائبـدي وإن هـو بالنعماء واديه مخصب
فيأس تراه النفس منكــم وخيبة أحب لقلبـي من سواكم وأرغب
ومنعكم لي أيّ نعمــا وغيركـم نداه ردى أشقــى بـه وأعذّب
وخُلّب برق منكم فوق مطلبــي وبَرق السوا عندي وإن جاد خلّب
وحسبي إذا مـا كان حبّـي أنتـم ويا ربّ حبّ حسبه ليس يحسب

روي في كتاب المجالس أن مولد الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) كان في يوم الاثنين عاشر ربيع الآخر سنة اثنين وثلاثين ومئتين (1) .
وظهرت له مناقب قلصت أوهام أولى الكمال عن إدراكها ، وتأخّرت أرباب سبق الجلال عن مجاراتها ، قلّد من المزايا العليّة أطواق الفخار ، وتقلّد من الصفات العلوية جوامع الافتخار .
روي في كتاب كشف الغمّة عن الحسن بن محمد الأشعري [ ومحمد بن يحيى وغيرهما ] قالوا : كان [ أحمد بن ] عبيدالله بن خاقان شديد النصب لأهل البيت (عليهم السلام )وكثير الانحراف عنهم ، فجرى يوما في مجلسه ذكر العلويّة ومذهبهم ،

(1) حكاه الكفعمي في المصباح : ص 511 في أعمال شهر ربيع الثاني ، وحكى أيضا القول بأنه في الرابع من ربيع الثاني . ورواه عنه المجلسي في البحار : ج 50 ص 238 .
وانظر الإرشاد للشيخ المفيد : ج 2 ص 213 ، وإعلام الورى للطبرسي : ص 349 ، وتاج المواليه له أيضا : ( مجموعة نفيسة : ص 133 ) ، وكشف الغمة للإربلي : ج 3 ص 194 و217 و220 .
وقال ابن طلحة في مطالب السؤول : ص 309 باب 11 : مولده سنة إحدى وثلاثين ومئتين للهجرة ، ورواه عنه الإربلي في كشف الغمة : 3 : 192 .
ومثله حكاه ابن الخشاب في مواليد الأئمة ووفياتهم : ( مجموعة نفيسة : 199 ) ، وعنه الإربلي في كشف الغمة : 3 : 206 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 286

فقال (1) : ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلا من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبره عند أهل بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم إياه على ذوي السنّ منهم والخطر ، وكذلك كانت حالته عند القوّاد والوزراء وعامة الناس ، فأذكر أنّي كنت يوما قائما على رأس أبي وهو يحاسب الناس فدخل بعض حجّابه فقال : أبو محمد ابن الرضا بالباب . فنادى أبي بصوت عالي : ائذنوا له .
فتعجّبت منه ومن جرأة الحجاب كيف يكنّون رجلا بحضرة أبي ، وكان لا يكنّى بحضرته أحد من الناس سوى الخليفة أو وليّ عهده [ أو من أمر السلطان أن يكنّى عنده ] ، فبينما نحن كذلك إذ دخل رجل أسيم حسن القامة جميل الوجه جيّد البدن حدث السنّ له جلالة وهيبة حسنة ، فلما نظر إليه أبي قام قائما على قدميه واستقبله خطوات ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد قبل هذا ، فلما دنى منه عانقه وقبّل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان يجلس عليه مقبلا إليه بوجهه يكلمه ويفديه بنفسه ، وأنا متعجب مما أرى منه .
فبينما أنا كذلك إذ دخل الحاجب فقال : الموفق قد جاء ، وكان الموفق إذا دخل على أبي يقدمه حجّابه وخاصّته ، فقاموا بين مجلس أبي وباب الدار سماطين إلى أن دخل ، فلم يزل أبي مقبلا على أبي محمد الحسن يحدّثه حتى إذا نظر إلى غلمان الخاصة قد دخلوا ، فقال له أبي : إذا شئت انصرف ، جعلني الله فداك . فقام (عليه السلام) وقام أبي وعانقه ، ثم قال لحجّابه : خذوا به خلف السماطين لئلا يراه هذا الداخل . فمضى الحسن (عليه السلام) .
فقلت لحجاب أبي وغلمانه : ويلكم ، من هذا الذي كنّيتموه بحضرة أبي ، وفعل

(1) في المصدر : « كان أحمد بن عبيدالله بن خاقان على الضياع والخراج بقم ، فجرى يوما في مجلسه ذكر العلوية ومذاهبهم ، وكان شديد النصب والإنحراف عن أهل البيت عليهم السلام ، فقال » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 287

به أبي هذا الفعل ؟
فقالوا لي : هذا علويّ يقال له : الحسن بن علي بن محمد بن الرضا .
فازددت تعجبا من أبي ، ولم أزل يومي ذلك قلقا متفكرا في أمره وأمر أبي وما رأيته منه ، حتى إذا كان الليل وكانت عادة أبي إذا صلى العتمة يجلس وينظر ما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان ، فلما صلى وجلس جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد ، فقال لي : يا أحمد ، ألك حاجة ؟
قلت : نعم يا أبت ، فإن أذنت لي سألتك عنها .
قال : قد أذنت لك ، قل .
قلت : يا أبت ، مَن الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل ، وفديته بنفسك وأبويك ؟
فقال : يا بُنيّ ، ذاك إمام الرافضة الحسن بن علي المعروف بابن الرضا .
ثم سكت ساعة [ وأنا ساكت ] وقال : يا بُني ، لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقّها أحد من بني هاشم غيره ، لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وحسن أخلاقه وصلاحه وتقواه ، ولو رأيت يا بُني أباه فإنه كان رجلا جزلا نبيلا فاضلا .
فازددت قلقا وغيظا [ وتفكرا ] على أبي مما سمعته منه ورأيته من فعله . فلم يكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره ، فما سألت أحدا من بني هاشم أو القوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرفيع والقول الجميل والتقديم علىجميع أهل بيته ومشايخه ، فعظم قدره عندي إذ لم أر له وليا ولا عدوا إلا وهو عنده حسن القول والفعل .
فقال له بعض من حضر مجلسه [ من الأشعريين ] : ما تقول في أخيه جعفر ، وكيف كان منه في المحل ؟
فقال : اسكت ، ومَن جعفر حتى تسألني عن خبره أو تقرنه إلى أبي محمد ،

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 288

جعفر رجل مُعلن بالفسق ، فاجر شريب للخمر ، أقلّ من رأيته من الرجال ، أهتكهم لنفسه ، خفيف الميزان ، والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي ، فما نظرت إليه ولا عرفت من هو ، وأما ابن الرضا لما اعتل بعث إلى أبي فركب من ساعته إلى دار الخلافة ورجع مستعجلا ومعه خمسة من خدم أميرالمؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته ، فأمرهم بلزوم دار أبي محمد (عليه السلام) وتعرّف أخباره ، وبعث إلى نفر من المـ[تـ]طبّبين وأمرهم بالاختلاف إليه وتعهده صباحا ومساءا ، فلما كان بعد يومين أخبر أنه قد ضعف ، فركب حتى بكّر إليه بنفسه وأمر المـ[تـ]طببين بلزوم داره ، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره وأمره أن يختار عشرة ممن يثق بهم في دينهم وورعهم وإمامتهم ، فبعث بهم إلى دار أبي محمد وأمرهم بلزومه [ ليلا ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتى توفي (عليه السلام) ] (1) .

(1) كشف الغمة : ج 3 ص 197 في مناقبه وآياته ، وما بين المعقوفات منه ، وزاد بعده :
فلما ذاع خبر وفاته صارت سر من رأى ضجّة واحدة ، وعطلت الأسواق وركب بنو هاشم والقواد والكتاب والقضاة والمعدلون وسائر الناس إلى جنازته ، فكانت سرّ من رأى يومئذ شبيها بالقيامة ، فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل فأمره بالصلاة عليه ، فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتّاب والقضاة والمعدلين ، وقال : هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه ، وحضره من خدم أميرالمؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ، ومن المتطببين فلان وفلان . ثم غطى وجهه وصلى عليه وأمره بحمله . ولما دفن جاء جعفر أخوه إلى أبي فقال له : اجعل لي مرتبة أخي ، أنا أوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار ! فزبره أبي وأسمعه ما كره ، وقال له : يا أحمق ! السلطان أطال الله بقاءه جرّد بسيفه في الذين يزعمون أن أباك وأخاك أئمة ليردّوهم عن ذلك ، فما تهيّأ له ذلك ، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماما فلا حاجة بك إلى سلطان يرتّبك مراتبهم ولا غير سلطان ، وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لا تنالها بنا . فاستقلّه أبي عند ذلك واستضعفه وأمر أن يحجب عنه ، فلم يأذن له في الدخول عليه حتى مات أبي ، وخرجنا وهو على تلك الحال ، والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي اليوم وهو لايجد إلى ذلك سبيلا ، وشيعته =
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 289

يا راكبا يسـري على جســرة قد غبّــرت في أوجه الضمّر
عرّج بسامـرّا والثـم ثــرى أرض الإمـام الحسن العسكري
عرّج على من جـدّه صاعــد ومجده عـال علــى المشتري
على الإمــام الطاهر المجتبى على الكريــم الطيّـب العنصر
على ولـيّ الله فـي عصـره وابن خيــار الله في الأعصـر
على كريم صـوب معروفــه يزري على صوب الحيا الممطر
على إمــام عـدلُ أحكامــه تسلـط العـرف على المنكــر
وبلّغـاه عـن عبيــد الإلـه تحيّــة أذكـى مـن العنبــر
وقل سلام الله وقـف علــى ذاك الجنـاب الممـرع الأخضر

فلا غرو ، فهو (عليه السلام) بيت القصيدة ، ومكان الواسطة والفريدة ، فكيف تقاس النجوم بالجنادل ، وأين فصاحة قس من بهامة باقل ، فهو فارس العلوم الذي لا يجارى ، ومبين الغوامض فلا يجادل ولا يبارى ، كاشف الحقائق بنظره الصائب ، ومظهر الدقائق بفكره الثاقب ، مالك أزمّة الكشف والنظر ، مفسر الآي والسور ، المخجل بضوء طلعته بهاء الشمس ونور القمر ، وارث السادة الخير ، وابن الأئمة الغرر ، وأبو الإمام المنتظر ، فانظر إلى الفرع والأصل وحدّد النظر ، واقطع بأنّ طيب الأصل دليل على طيب الثمر ، وإن شئت معرفة نعوته والأثر ، فتصفّح وجوه التواريخ وعيون السير ، فأقسم بالله العظيم ، والرسول الكريم ، أنّ صفاته دون مقداره ، وأنى لي باستقصاء نعوته وأخباره ، وأن اللسان عن تعداد بعض مزاياه لقصير ، وطرف البلاغة عن الإحاطة بكنه فضائله لحسير ، فليرجع عن شأوه من رام السباق ، وليلو عنان فكرته من طمع في معرفته على الإطلاق .
وروي في كتاب الراوندي بإسناده عن أبي الأديان قال : كنت أخدم الحسن

=
مقيمون على أنه مات وخلّف ولدا يقوم مقامه بالإمامة .
والحديث رواه المفيد في الإرشاد : 2 : 321 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي