الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 112

مع ابن المصطفة أو شهادة طيبة ودرجات عالية مع النبي الأقدس.
وستعرف في الفصل الآتي من حفظ الجوار المراد من قوله لابن مرجانة آتيك بضيفي وجاري ـ الخ.
ونزل مع مسلم في دار هاني شريك (12) بن عبدالله (13) الأعور الحارثي الهمداني البصري وكان من كبار شيعة علي ـ عليه السلام ـ بالبصرة جليل القدر من أصحابنا (14) شهد معه صفين ، وقاتل مع عمار بن ياسر (15) ولشرفه وجاهه ولآه معاوية كرمان (16) وكانت له مواصلة مع هاني.
ولشريك محاورة مع معاوية تنم عن قوة جنان وذرب لسان ، وان المال مهما تكثر من معاوية لايغويه ، فيخضع له ؛ دخل على معاوية وكان ذميما فقال له معاوية : إنك لذميم والجميل خير من الذميم ، وإنك لشريك وليس لله شريك ، وإنك لأعور والصحيح خير من الأعور فكيف سدت قومك ؟
فقال له شريك : وإنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت لها الكلاب ، وإنك ابن حرب والسلم خير من الحرب ، وإنك ابن صخر والسهل خير الصخر ، وانك ابن أمية وأمية غلا أمة صغّرت فكيف صرت أميرالمؤمنين ، وخرج منه يقول (17) :
أيشتمُني معاوية بن حـرب وسيفي صـارم ومعي لساني
وحولي من بني يزين ليوث ضراغمـة تهش الى الطعان
يعير بالدمامة مـن سفــاه وربّـات الخدور من الغواني
ذوات الحسن والرئبال جُهم شتيـم وجهـه ماضي الجنان


مسلم لا يغدر :

الفتك من الغدر ولا يوصم به مؤمن يعرف أن شريعة الإسلام جاءت لتحلية

(12) الإصابة بترجمة هاني.
(13) أنساب الاشراف للبلاذري ج4 قسم ثاني.
(14) مثير الأحزان لابن نما ص14.
(15) تاريخ الطبري ج6 ص203.
(16) النجوم الزاهرة لابن تغربردي ج1 ص143 وابن الأثير ج3 ص206 والأغاني ج17 ص70.
(17) ربيع الأبرار للزمخشري في باب الأجوبة المسكتة.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 113

النفوس بالفضائل وتخليتها عن الرذائل ولم يرد الشارع لمن اعتنق دينه القويم إلا أن يكونوا في الغارب والسنام من كل فضيلة رابية فيسلكوا سبل السلام في أعراق طاهرة ومآز عفة ، وقلوب نزيهة ، وجوارح مؤدبة بآداب الله تعالى ، وجوانح ممرّتة بالقداسة.
وجاء في وصية رسول الله لأمير المؤمنين :
« إياك والغدر بعهد الله والاخفار لذمته فإن الله جعل عهده وذمته أمانا أمضاه بين العباد برحمته والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره وتبعاته وسوء عاقبته (18) فان كل غادر يأتي يوم القيامة مائلا شدقه (19) وله لواء يعرف به فيقال هذه غدرة فلان (20) ».
وقال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ :
« الوفاء توأم الصدق ولا أعلم جنة أوفى منه وما يغدر من علم كيف المرجع ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيّسا ، ونسبهم أهل الجهل الى حُسن الحيلة ، ما لهم قاتلهم الله . قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لاحريجة له في الدين (21) ».
وقال على منبر الكوفة :
« ايها الناس لولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس ألا ان لكل غدرة فجرة ، ولكل فجرة كفرة ، ألا وان الغدر والفجوز والخيانة في النار (22) ».
والغدر لايأتلف مع شيء من المآثر الفاضلة لأنه ينم عن خسّة في الطبع ودناءة في العنصر وعدم المبالات بالنواميس الدينية والبخس لحقوق المسلمين ويشب منه تفريق الكلمة وملاشاة الإلفة واحتدام البغضاء . وان الشريعة المطهرة حاولت ببيانها

(18) دعائم الاسلام للقاضي نعمان المصري.
(19) الوسائل ج2 ض425 عين الدولة.
(20) نهاية الارب للنويري ج3 ص371.
(21) شرح النهج ج1 ص216.
(22) الوسائل ج2 ص245.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 114

الأوفى بث روح التحابب بين الجامعة البشرية . والغادر يبغضه كل من مسه غدره وكل من عرف شيئا من ذلك ، وكلما اتسعت الدائرة بمرور الزمن ازداد التباغض واشتدت عوامله.
ومن هنا ضربوا المثل بغدرة آل الأشعث وقالوا : أعرق العرب في الغدر آل الأشعث فان عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث غدر بأهل سجستان ، وغدر أبوه محمد بأهل طبرستان ، فإنه عقد بينهم وبينه عهدا فغزاهم فأخذوا عليه الشعاب وقتلوا ابنه أبابكر وفضحوه ، وغدر الأشعث ببني الحارث بن كعب وكان بينه وبينهم عهد فغزاهم وأسروه ففدى بمائتي فلوس فأدّى مائة وعجز عن البقية ، ولما أسلم أهدره الاسلام ، وغدر قيس ابو الأشعث ببني مراد فإنه كان بينه وبينهم عهد الى أجل وآخره يوم الجمعة فغزاهم يوم الجمعة قالوا له : لم ينته الأجل فكان جوابه أنه لا يحل لي القتال يوم السبت لأنه يهودي فقتلوه وهزموا جيشه ، وغدر معديكرب أبوقيس ببني مهرة وقد كان بينهم صلح فغزاهم غادراً بالعهد فقتلوه وشقوا بطنه وملأوه حصى وقالوا : اشبع لاشبعت يا ابن بغايا ضريه (23).
فالغدر ضامن العثرة ، قاطع ليد النصرة ، والغالب بالغدر مغلول ولا عذر لغادر ، وفي ذلك يقول الشاعر (24) :
أخلق بمن رضي الخيانة شيمة ألا يُــرى إلا صريـع حوادث
ما زالت الأرزاء تُلحق بؤسها أبداً بغادر زمّــة أو ناكــث

وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحافلة بالناس للتعريف بغدرة الغادر فتشهره ليتجنبه الناس (25).
وغدرة خالد بن الوليد ببني جذيمة أعقبت ندما ، وجرت له الخزي حين تبرأ النبي من فعلته وغدرته وذلك أنه ـ صلى الله عليه وآله ـ أرسله هم داعيا لا مقاتلا وكانت بينه وبينهم إحنة فإنهم في الجاهلية قتلوا عمه الفاكهة ، فلما نزل على ماء لهم أخذوا السلام فرقا منه فصاح بهم : ضعفوا السلاح فإن الناس أسلموا فلما وضعوا السلاح آمنين

(23) المحبر لابن حبيب النسابة ص244 ، وشرح الصفدي على لأمية العجم ج2 ص201 ، ونهاية الأرب للنويري ج3 ص373.
(24) نهاية الأرب للنويري ج3 ص372.
(25) شرح الصفدي على لأمية العجم ج2 ص201.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 115

من غدر المسلم أمر جماعته فكتفوهم وقتل منهم مقتلة عظيمة فلما بلغ رسول الله هذا المنكر ساءه ورفع يديه مبتهلا الى الله تعالى :
« اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد »
ثم أرسل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ومعه مال ليؤدّي بني جذيمة حتى ميلغة الكلب (26).
على أن الغادر لا يرى للنفوس والأموال والأغراض المحترمة شرعا حرمة فمتى ثارت فيه هذه الخصلة الخسيسة يكون من السهل عليه وأد النفوس ونهب الأموال والنيل من الأعراض ، وكله نقض لغرض المولى سبحانه ، فقد شاء لعباده أن يكونوا متحابّين ليقيموا عمد الحق ، ويرفعوا راية الهدى ، ويتم بهم الاجتماع والتعاون على مناجح الحياة من غير منافة بينهم . وما ذكرناه من تبعات الغدر أعني النفاق والمباغتة والإغتيال لا تخلو من وصمة على المجتمع البشريّ كما توجب منقصة في مروءة الغادر ودرن ردائه والغمز في حسبه.
وهذا في امراء المسلمين وولاة أمرهم أشد من غيرهم لكونهم مرقومون في النفسيات الحميدة قبل أفراد الرعية ، وأن الامم تحتج بملكات ولاتهم وغرائزهم وأعمالهم ، ويكون ما يتصفون به من نواميس المذهب حجة لازمة فإذا تخلوا الأمراء عن هذه الملكات عاد الطعن على المبدأ الديني ، فالواجب على أمير المسلمين ووالى شؤونهم أن يثابر على الشدائد مهما بلغت ، ويقاسي النكبات وان تراكمت ، ولا يغدر ولا يفتك ليكون ذكره بريئا من كل وصمة.
على أن ولاة الأمور حيث كانوا قدوة لجيلهم يكونون اسوة لمن يأتي بعدهم . فيعرف الناس في المستقبل الكشّاف الذي يميط الستار عن نواياهم الحسنة ، وأعمالهم الصالحة ، ومساعيهم المشكورة فاللازم على الوالي أن يرتكب خطة تسير على أثره الرعية في غاياتهم المرموق اليها.
واذا وضح هذا فلا يرتاب أحد في الغاية لمسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ في جوابه لشريك لما لم يقتل ابن زياد.
وذلك أن شريك بن الأعور نزل في دار هاني بن عروة لمواصلة بينهما ولما مرض

(26) صحيح البخاري ج3 ص47 في كتاب المغازي ، والإستيعاب بترجمة خالد ، وتاريخ الطبري ج3 ص123 ، وكامل ابن الأثير ج2 ص97 حوادث سنة 8.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 116

أرسل إليه ابن زياد اني عائد لك فاخذ شريك يحرّض مسلم بنعقيل على الفتك بابن زياد وقال له : ان غايتك وغاية شيعتك هلاكه فأقم في الخزانة حتى اذا اطمأن عندي أخرج إليه واقتله وأنا أكفيك أمره بالكوفة معا العافية (27).
وبينا هم على هذا إذ قيل : الأمير على الباب ، فدخل مسلم الخزانة ودخل عبيدالله فلما استبطأ شريك خروج مسلم أخذ عمامته من على رأسه ، ووضعها على الأرض ثم وضعها على رأسه فعل ذلك مرارا ونادى بصوت عال يسمع مسلما :
ما الانتظار بسلمـي لا تحيوهـا حيوا سليمى وحيوا من يحيهـا
هل شربة عذبة أسقى على ظماء ولـو تلفت وكانت منيتـي فيها
وإن تخشّيت من سلمى مراقبـة فلست تأمن يوما مـن دواهيهـا

وما زال يكرّره (28) وعينه رامقة الى الخزانة ثم صاح بصوت رفيع إسقونيها ولو كان فيها حتفي فالتفت عبيدالله إلى هاني وقال : إن ابن عمك يخلط في علته ؟ فقال هاني : ان شريكا يهجر منذ وقع في علته وإنه ليتكلم بما لا يعلم (29) فلما ذهب ابن زياد وخرج مسلم قال له شريك : ما منعك منه ؟ قال ـ عليه السلام ـ : منعني خلتان الأولى حديث عليّ ـ عليه السلام ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن (30) والثانية امرأة هاني فإنها تعلقت بي وأقسمت عليّ بالله أن لا أفعل هذا في دارها وبكت في وجهي ، فقال هاني : يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها ، والذي فرّت منه وقعت فيه (31).
ولبث شريك بعد ذلك ثلاثة أيام وما فصلى عليه ابن زياد ، ودفن

(27) مثير الاحزان ص14.
(28) رياض المصائب ص60.
(29) ابن نما ص14.
(30) الطبري ج6 ص204 ، وابن الأثير ج4 ص11 ، والأخبار الطوال ص236 ـ وهذا الحديث تكرر ذكره في الجوامع ، رواه أحمد بن حنبل في المسند ج1 ص166 ، وفي منتخب كنز العمال بهامش المسند لأحمد ج1 ص57 ، والجامع الصغير للسيوطي ج1 ص123 ، وكنوز الحقائق بهامشه ج1 ص95 ، ونص عليه من علمائنا ابن شهر آشوب في المناقب ج2 ص318 ، والبحار في معاجز الصادق ج11 ، وفي وقائع الأيام عن الشهاب في الحكم والآداب.
(31) مثير الأحزان لابن نما ص14.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 117

« بالثوية » (32).
ولما وضح لابن زياد أن شريكا يحرض على قتله قال : والله لا أصلى على جنازة عراقي أبدا ، ولولا قبر زاد فيهم لنبشت شريكا (33).
إن القارئ جد عليم بأن الأمة اذا بلغها عن ممثل سيد الشهداء « مسلم بن عقيل » بأنه آثر انتكاث الأمر عليه ، وقدم تضحيته على الفتك بان مرجانة فلم يقدم على اغتياله والغدر به تكريما لنفسه القدسية عن ارتكاب هذه الخصلة الذميمة التي نهى الشارع الأقدس عن ارتكابها ، فلا يقال رسول الحسين وداعيته الى مناهج الرشاد باغت صاحبه في حين لو أجهز عليه لقضى على فاجر فاسق ولكنه ـ عليه السلام ـ ترك ذلك وعرض بنفسه للهلاك تعليما للأمة على اتخاذ مقدسات الأحكام طريقا لاحبا للفوز بالرضوان ، فلا يتجرأ الناس على الملة الحقة ، ولا يباغت الرجل من دونه في غايات طفيفة تسف إليها الطبقات الواطئة.
فالأمة اذا بلغها أن هذا الداعي الى الحق ضحى نفسه ونفيسه دون الفتك والغدر ، وذهب ضحية السؤدد والخطر ، ضحية المجد والكرامة ، كان هذا دليلا للتأسّي به ؛ فإن للشيعة نفوسا نزّاعة الى اقتصاص أثر أهل البيت والإستنارة بضوء تعاليمهم ، ولا محالة تنعقد ضمائرهم على القيام بمثله أو ما يشبه كما تسعه نفوسهم وتنضح به آنيتهم.
فمسلم ـ عليه السلام ـ كبقية رجالات أهل هذا البيت الرفيع أراد بفعله هذا وبقية أعماله أن يفيض على الأمة دروسا أخلاقية لا تعدوه الأمة في التجنب عن رذيلة الفتك والغدر فتستفيد به كما استفادت من كل فرد من شهداء الطف إباء ونخوة وحمية دون القويم.
فهذه الكلمة « الإيمان قيد الفتك » التي أفاضها عالم آل أبي طالب وخليفة الإمام الحجة في الدينيات أوقفتنا على سر من أسرار الشريعة وهو مبغوضية

(32) في المعجم مما استعجم ج1 ص350 الثوية موضع وراء الحيرة كان سجنا بناء تبّع وفي معجم البلدان ج1 ص28 كان النعمان يحبس فيه فيقال للمحبوس : ثوي ، فسمي الموضع به ، وهو قريب من الكوفة ودفن فيه المغيرة وأبو موسى الأشعري وزياد وضبطها بالثاء المثلثة مفتوحة بعدها واو مكسورة ثم ياء مشددة بعدها هاء وفي تاج العروس أنها كسمية.
(33) ابن الأثير ج4 ص11.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 118

الغدر ، وإن النفوس الطاهرة تأبى للضيف أن يدخل بمن استضافهم ما يكرهون.
وهناك سرّ آخر لتأخر مسلم ـ عليه السلام ـ عن الفتك بابن مرجانة لم تكن الظروف تساعده على كشفه نعرفه من نظائر ما صدر عن المعصومين ؛ فإن أمير المؤمنين لما أتاه ابن ملجم يبايع له وولّى نه قال : « من أراد أن ينظر الى قاتلي فلينظر الى هذا ». فقيل له : ألا تقتله ؟ قال ـ عليه السلام ـ :
« يا عجباه تريدون أن أقتل قاتلي (24) ».
وليس مراده ـ عليه السلام ـ بيان عدم جواز القصاص قبل الجناية كما ظنه من لا خبرة له وإنما اراد بيان ما ثبت لديه من أن الله سبحانه قدّر شهادته على يد أشر بريته وأنه عنده كعاقر ناقة صالح ، وقد علم أمير المؤمنين بما أودع الله تعالى فيهم من القوة النورانية التي بها يدركون ما في الكون من حوادث وملاحم كما هو الحق الذي لا محيص عنه ان هذه الشهادة على يد ابن ملجم من القضاء الذي لا مردّ له ، فيكون المعنى كيف أقدر أن أنقض ما أبرمه المولى الجليل عز شأنه من هذه الشهادة.
والى هذا أوعز ـ عليه السلام ـ في كلامه مع ابن ملجم حين مر عليه ورآه نائما على وجهه فعرّفه بأن نومته تلك يمقتها الله تعالى ثم قال له :
« لقد هممت بشيء تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك (35) ».
على أن أمير المؤمنين لو فرضنا علمه بتأخر شهادته ذلك الحين لم يقدم على قتل ابن ملجم لأنه به تتجرّى الناس على الفتك بمن يحتملون أنه يريد الإجهاز عليهم ، بل قد يكون العداء فيما بينهم والضغائن التي تحملها جوانحهم حاملا لهم على إزهاق النفوس معتمدين على دعوى العلم أو الظن بذلك فيكثر الهرج وينتشر الفساد.
وعلى ذلك الإساس يكون جواب الحسين لام سلمة حين قالت له :
« لا تخزني بخروجك الى العراق فإني سمعت جدك رسول الله يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق يقال لها : كربلا ، وعندي تربتك في قارورة دفعها إليّ النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ. فقال الحسين :

(34) بصائر الدرجات للصفار ص6.
(35) البحار ج9 عن أبي الحسن البكري.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 119

« يا أماه وأنا أعلم مقتول مذبوح ظلما وعدوانا ، وقد شاء ربي أن يرى حرمي ورهطي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا. »
قالت أم سلمة : واعجباه فأنى تذهب وأنت مقتول ؟ فقال الحسين :
« يا اماه ان لم أذهب اليوم ذهبت غدا ، وإن لم أذهب في غد ذهبت بعد غد ، وهل من الموت والله بدّ ، واني لأعرف اليوم الذي أقتل فيه والساعة التي أقتل فيها ، والحفرة التي أدفن فيها كما أعرفك ، وأنظر إليها كما أنظر إليك ، وان أحببت يا أماه أن أريك مضجعي ومكان أصحابي »
فطلب منه ذلك ، فأراها تربته وتربة أصحابه (36).
ثم أعطاها من تلك التربة وأمرها أن تحتفظ بها في قارورة فاذا رأتها تفور دما تيقّنت قتله ، وفي اليوم العاشر بعد الظهر نظرت الى القارورتين فاذا هما يفوران دما (37).
وعلى هذا فمن الجائز الممكن أن مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ كان على يقين من شهادته ومحل تربته وانها تكون على يد الدعي ابن الدعي ابن مرجانة ، استفاد ممن أودع عندهم هذا العلم المكنون وهو سيد الشهداء ـ عليه السلام ـ.
وعلم المعصومين وان كان « صعب مستصعب لا يتحمّله إلا ملك مقرب ، أو نبي مرسل ، أو مؤمن امتحن الله قلبه للايمان » لكنهم ـ عليهم السلام ـ اذا علموا قابليّة من اشرقت عليه أنوار ولايتهم لتحمل تلك الأسرار ، يوقفونهم عليها ، كما أخبر أميرالمؤمنين ميثم التمار ، وكميل بن زياد ، وعمر بن الحمق ، ورشيد الهجري الى أمثالهم بقتلهم ، وعلى يد من تكون الشهادة ، والوقت الذي يقتلون فيه ، وكما أخبر سيد الشهداء من ثبت معه على التضحية والمفادات.
ومسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ كان في الغارب والسنام من الايمان واليقين والبصيرة النافذة من اولئك الأفذاذ فأي مانع من أن يوقفه أبو عبدالله الحسين ـ عليه السلام ـ على ما يجري عليه من كوارث ومحن حرفا حرفا

(36) مدينة المعاجز ص224.
(37) الخرايج للراوندي في باب معجزات الحسين.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 120

ثم ان الفتك الذي هو قيد الايمان كما في نص الحديث شامل باطلاقه لكل من أراد الوقعية بالمؤمن سواء من ناحية الإجهاز عليه ، أو من جهة اغتيابه وإظهار عيوبه للناس ، أو من جهة النميمة المثيرة للاحن والبغضاء الموجبة لملاشاة الأخوة بين المؤمنين ، أو من جهة اشاعة الفاحشة التي يقول فيها سبحانه وتعالى : « الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة »
فان في كل ذلك وردت الشريعة المحذّرة عنه ، الحاكمة على مرتكب هذه الجهات بالخروج عن ربقة الإيمان.



حفظ الجوار :

حماية الجار من عادات العرب الفاضلة ولهم في ذلك أيام بيض وصحائف ناصعة وإن تطرّق فيها بعضهم فخرج إلى الرعونة (38) لكنها في الجملة مما يمدحون بها ، ولم يبرحوا متهالكين عليها ، فكانت تراق على ذلك الدماء ، وتقوم الحرب العوان على أشدها لأنها من ولائد الحفاظ والشهامة والغيرة على الأحساب وفيها الابقاء على المستجيرين من عادية المرجفين وجلب ودّهم وودّ ذويهم وقبائلهم ، وسيادة الإلفة وتوارث المحبة ، وظهور الأبهة وبروز المنعة ، واخماد الفتن ودحض الفوضى ، ولعل العداء يعود حنانا بارجاء الفتك لأجل الإستجارة الى التفاهم ، أو تبيين أغراض النمامين المثيرين للعداء أو بالمعاذير المقبولة.
وقد حفظ المؤرخون من قضاياهم في هذه الخصلة التي تتفق مع العقل نأتي على بعضها :
منها قصة « أوفى بن مطر المازني » مع رجل جاوره وعنده امرأة أعجبت أخاه قيسا فلم يصل اليها مع زوجها فقتله غيلة وبلغ ذلك « أوفى » فقتل أخاه قيسا بجاره وقال :

إني ابنة العمريّ لا ثوب فاجـر لبســت ولا من غدرة أتقنّـع
سعيت على قيس بذمة جــاره لأمنع عرضي إن عرضي ممنّعُ

(38) في غرر الخصائص للوطواط ص16 ، كان حارثة بن مر يسمى مجير الجراد لأنه حمى جرادا لأنه حمى جرادا حط يفنائه ، وكان ثور بن شحمة الضبيّ يسمى مجير الطير فلا تصاد بأرضه ، وحمى زياد الأعجم حمامة تصوت على شجرة فقتلها حبيب وشكاه زياد الى الملهب فالزم حبيبا دية الحر وأعطى زيادا الف دينار.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 121

ومرت سنة مجدبة على بني تيم الله بن ثعلبة فقصد جماعة منهم وهم مالك وعامر وحليحة مجاورة « بدر بن حمران الضبي » فوق لهم حتى أحيوا ورجعوا مسرورين الى وطنهم مكرمين ، وقصد جماعة منهم « مساورا » فجعل يفخر بنسائهم فقال بدر بن حمران :

وفيتُ وفاء لــم ير الناس مثله بتعشــار إذ تحنو إليّ الأكابـر
ومن يك مبنيا به عـرس جـاره فإني امرؤ عن عرس جاري جافر

واستجار امرؤ القيس بن حجر الكندي بعامر بن جوين الطائي ثم الجرمي ، فقبّل عامر امرأة امرئ القيس فأعلمته بذلك فارتحل عنه ، واستجار « بأبي حنبل جارية بن مر الطائي ثم الثعلبي » فلم يصادفه فقال له ابن جارية : أنا أجيرك من الناس كلهم إلا من أبي حنبل يعني أباه فرضي امرؤ القيس وتحول إليه ، ولما قدم أبو حنبل رأى كثرة اموال امرئ القيس ، وأعمله ابنه بما شرط له في الجوار فاستشار أهله بذلك فقالوا له : لا ذمة له عندك ، فخرج أبو حنبل الى الوادي ونادى : ألا ان أبا حنبل غادر ، فأجابه الصدى من الجبل بذلك ، ثم نادى : ألا ان أبا حنبل واف ، وأجابه الصدى بذلك ، فقال : الثانية أحسن ثم أتى منزله وحلب جذعة من غنم امرئ القيس وشرب لبنها ومسح بطنه وقال : « اغدر وقد كفاني لبن جذعة » ثم قال :
لقد آليت أغدر في جـذاع ولو منّيت أمت الربـاع
لان الغدر في الأقوام عار وان اُلحر يجزأ بالكـراع

ثم عقد له وأعلمه امرؤ القيس فعلة عامر بن جوين بامرأته ، فركب أبو حنبل في أسرته حتى أتى منزل عامر بن جوين ومعه امرؤ القيس فقال له : قبّل امرأة عامر كما قبّل امرأتك ، ففعل (39).
الى غير ذلك من قضاياهم الكثيرة في حفظ الجوار وحماية النزيل ، ولا يشفقون في الدفاع عمن استجار بهم وان كان فيه ذهاب أنفسهم وعشائرهم وأموالهم أو يحصلون على أغراضهم.
وقد جاءت الشريعة المطهرة الحافلة بمكارم الأخلاق الحاثة على السلام والوئام فأقرت تلك الفضيلة ، وأدخلت التحسينات فيها حتى أجازت الإجارة للمشركين قصدا للتأليف ، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى : « وان أحد من المشركين استجارك فأجره » فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : « المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم » وفسّره

(39) هذه القضايا في المحبر لابن حبيب ص348 الى ص355.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 122

الامام الصادق ـ عليه السلام ـ بأن جيش المسلمين اذا حاصر قوما من المشركين فأشرف رجل وقال : اعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم واناظره ، فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به (40).
وقام الأئمة من أبنائه ـ عليه السلام ـ بالمحافظة على هذه النواميس التي فيها الإبقاء على الجامعة ، فما زالوا يوصون شيعتهم بحرمة الجوار وان كان المجير عبدا أو امرأة ن وتناهوا فيه حتىعدّوا الإيماء بالأمان لازم الوفاء به ، وان من أعطى الأمان بأي لغة فلا تخفر ذمته ووجب الوفاء به (41).
وانت اذا عرفت ما هتفت به العادة من حُسن حماية الجوار والذبّ عن النزيل ، وما أيّته الشريعة الإلهية تعرف أن ما قام به « هاني بن عروة » من هذه المأثرة في حماية ابن عقيل ـ عليه السلام ـ واجارته مما يمدح عليه في حد ذاته ، لكن في الحقيقة ان ما قام به « هاني » منبعث عما هو أرقى من تلك الناحية وهو جهة دينية وعقيدة راسخة بأن الحسين ـ عليه السلام ـ هو الإمام المفترض طاعته ، وحيث ان « مسلما » ممثل حجة الله على الخلق كان الواجب الأخذ بعضده والدفاع عنه ، وكلاءته عن عادية الشقي وأنه من أداء أجر الرسالة.
وان صبّه في مجلس ابن زياد في قالب التقليد والعادة فقال : إني ما دعوته الى منزلي حتى رأيته على باب داري ، وسألني النزول فاستحييت من ردّه ودخلني من ذلك ذمام ، فأدخلته داري وضيّفته وآويته ـ الخ.
فان هانيا لم يسعه في ذلك الموقف الحرج إلا أن يعتذر بما يقتضيه الحفاظ والغيرة. كيف لا وهوبين ناب الدعيّ ومخلبه مغلوب على أمره فحسب أنه سوف يجديه اخفاء أمر مسلم لكنه لم ينتفع بهذه المعاذير بعد قيام « معقل » جاسوس ابن مرجانة ، وقد أعلم ابن زياد بكل ما وقف عليه من أمر مسلم في دار هاني.
وعلى هذا فما ذكره ابن جرير الطبري من قول هاني لمسلم : لقد كلّفتني شططاً ولولا دخولك داري لسألتك الخروج عنّي غير إنّي يأخذني من ذلك ذمام وليس يردّ مثلي على مثلك عن جهل ، ثم آواه ، وكذا ما ذكره من أن هانيا قال لشريك : لا أحبّ أن يقتل

(40) الوسائل ج2 ص425 عين الدولة.
(41) المستدرك للنوري ج2 ص250.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 123

ابن زياد في داري (42) ، لا يعبؤبه ؛ لأن ولاء هاني لأهل هذا البيت واعتقاده بكون مناصرتهم واجبه الديني لا يرتاب فيه من يقرأ حياته المفعمة بالمآثر والمفاخر.
ومما يشهد له أن هانيا لو كانت اجارته لمسلم لمحض وقوفه على باب داره ودخوله عليه ، فما الذي ألزمه بادخال الشيعة على مسلم وقد اعترف به ابن جرير حيث قال : « وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني بن عروة » (43).
وكان يهيّء له الأمور يدبر الشؤون يرتّب العساكر ويجمع المال والعتاد (44) ، وفي وسعه أن يقول لمسلم : ادخل أنت وحدك ولا تهج عليّ امرا ساكنا ولا يدخل عليك أحد.
ثم أن المؤامرة الواقعة بين شريك الأعور وبين مسلم بالفتك بابن زياد كانت بمشهد من هاني فلم يمنع منها ، حتى أن مسلما لما اعتذر عن الفتك بأن امرأة هاني سألته أن لا يفعله في دارهم ، قال هاني : يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها والذي فرت منه وقعت فيه.
أليس هذا يشفّ عن مرضاة هاني بالفتك بابن مرجانة لما رسخ بين جنبيه من وجوب التنكيل بأعداء آل الرسول ؟ ومن هنا قال لمسلم : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا (45).

(42) الطبري ج6 ص204 وص203.
(43) الطبري ج6 ص203 ، والاخبار الطوال ص235.
(44) الاخبار الطوال ص235.
(45) تاريخ الطبري ج6 ص204 وابن الأثير ج4 ص11.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 126

هاني مع ابن زياد

لما انتقل مسلم الى بيت هاني ، وأخذت الشيعة اليه في هذا البيت (1) على تستر واستخفاء وتواصوا بالكتمان (2) وخفى على ابن زياد موضع مسلم دعا مولاه « معقلا » وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وذلك بعد موت شريك الأعور ، وأمره أن يلقى الشيعة ويعرّفهم أنه من أهل الشام مولى لذي الكلاع الحميري ، وقد أنعم الله عليه بحب أهل هذا البيت وبلغه قدوم رجل منهم داعية للحسين ، وعنده مال يريد أن يوصله إليه.
فدخل « معقل » الجامع الأعظم ، ورأى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة يصلي ، وسمع الناس يقولون : هذا يبايع للحسين ، وأخذ منه البيعة والمواثيق ليناصحنّ ويكتمنّ كي لايفشوا الخبر الى ابن مرجانة.
ثم أدخله على ابن عقيل في دار هاني ، وسلم المال ألى أبي ثمامة الصائدي وكان بصيرا شجاعا ومن وجه الشيعة ، عيّنه مسلم لقبض ما يرد اليه من المال يشتري به سلاحا ، فكان ذلك الرجل يختلف الى مسلم كل يوم فلا يحجب عنه ويتعرّف الأخبار ويرفعها الى ابن زياد عند المساء (3).
ولما وضح الأمر لابن زياد وعرف أن مسلما مختبئ في دار هاني دعا أسماء بن

(1) الأخبار الطوال ص235.
(2) الإرشاد للشيخ المفيد.
(3) الطبري ج6 ص204.
الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام 126

خارجة ، ومحمد بن الأشعث ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي وسألهم عن انقطاع هاني عنه فقالوا : الشكوى تمنعه ، فلم يقتنع ابن زياد بعد أن أخبرته العيون بجلوسه على باب داره كل عشيّة ، فركب هؤلاء الجماعة الى هاني وسألوه المصير الى السلطان لأن الجفاء لا يحتمله ، وألحّوا عليه فركب بغلته ولما طلع على ابن زياد قال : « اتتك بخائن رجلاه » (4) والتفت الى شريح القاضي يقول (5) :

اريد حبــاءه ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

ثم التفت الى هاني قائلا : أتيت بابن عقيل الى دارك وجمعت له السلاح ؟ فأنكر هاني ، ولما كثر الجدال دعا ابن زياد الجاسوس « معقلا » ففهم هاني أن الخبر أتاه من جهته فاعتذر بأنه لم يدعه الى منزله ، وإنما استجار به واستضافه ، والذمام الذي يحمله يأبى له ألا يجير من استجار به ، ثم طلب من ابن زياد أن يمضي الى داره ، ويخرج مسلما منها الى حيث شاء ليخرج بذلك من جواره ولا يكون سُبّة للعرب ، ويعطيه رهنا على ذلك ، فأبى ابن زياد أن يطلق سراحه إلا أن يأتيه بمسلم (6).
ههنا جاهر ابن عروة بعقيدته ، فعرّف ابن مرجانة أن مسلما أحق منه بالأمر ، ولوفاء أبيه زياد ومكافاته في ولده لمعروفه معه يقوم بحمايته ، والدفاع عنه وعن أهله حتى يخرجوا بأموالهم إلى الشام سالمين ، لأن داعية الحسين ـ عليه السلام ـ أولى بالقيام على أمر الأمة وادارة شؤونها.
فغضب ابن مرجانة من كلام هاني وألحّ عليه بالإتيان بابن عقيل فأفهمه هاني بأن هذا محال عليه ويأباه دينه وعقيدته فقال في التعبير عنه :
لو كان « ابن عقيل » تحت قدمي لما رفعتهما عنه.
فأغلظ له ابن زياد في القول وتهدّده بالقتل ، فتعجّب هاني من جرأته وهو واحد ويتبع « ابن عروة » ثلاثون ألفا ، فقال لابن زياد : إذا تكثر البارقة حولك
فاستدناه ابن زياد وأخذ بظفيرتيه وضربه بالسوط حتى كسر أنفه ونثر لحم

(4) في مجمع الأمثال للميداني ج1 ص19 قاله الحرث بن جبلة الغساني لما ظفر بالحرث بن جبلة العبدي حين هجاه.
(5) في الإصابة ج3 ص274 بترجمة قيس بن الكشوح قاله عمرو بن معديكرب في أبيات في ابن أخته وكانا متباعدين ، وفي الأغاني ج14 ص32 : ان أمير المؤمنين عليا تمثّل به لما دخل عليه ابن ملجم يبايعه.
(6) ابن الأثر ج4 ص11.

السابق السابق الفهرس التالي التالي