ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 275


ثم اغمي على الحسين عليه السلام , هذا والأعداء واقفون بإزائه يحجمون على الأقدام (1), ويختلفون في الكلام ؛ فقائل يقول إنه عمل حيله , والآخر يقول ضعف ولا قابلية له على القيام , قال شمر لعنه الله : فإن أردتم أن تعلموا ذلك فاهجموا على المخيم فإن كان به قوة فستنهض به غيرته للذب عن الحرم، فهجموا على المخيم فتصارخت العيال وتهاتفت به , فصاح الحسين عليه السلام , ويلكم أنا الذي اقاتلكم وتقاتلونني , والنساء ليس عليهن ذمام (2).
فصاح الشمر : دعوا النساء واقصدوا الرجل بنفسه , فلعمري لهو كفو كريم (3) فتركوا النساء ورجعوا إليه , فجاء إليه مالك بن النسر أول ما صنع اللعين شتم الحسين عليه السلام وضربه بالسيف على رأسه وكان على رأس الحسين برنساً فامتلأ الربرنس دماً , وأخذ الحسين عليه السلام من دم رأسه وخضب به وجهه وقال : هكذا ألقى الله وأنا مخضب بدمي (4) . ثم جاء إليه سنان بن أنس وطعنه بالرمح على خاصرته , وطعنه صالح بن وهب في ترقوته , وضربه زرعه بن شريك على حبل عاتقه , ورماه حرملة بن كاهل بسهم فاغمى عليه (5).
قال : وصاح عمر بن سعد لعنه الله : من يأتيني برأس الحسين وله الجائزة ؟ فانحدر إليه مالك بن النسر , فأحس به بالحسين , رمقه بطرفه , فرمى السيف من يده وولى هارباً . فقال له شبث بن ربعي : أنا له , فقال ابن سعد لعنه الله : أنت له , فحمل سيفه وأقبل الى الحسين عليه السلام , فرمقه الحسين بطرفه , فرمى السيف من يده
(1) الأخبار الطوال للدينوري : 358 .
(2) الملهوف على قتلى الطفوف : 171 .
(3) نفس المهموم : 355 .
(4) مقتل العوالم للشيخ عبدالله البحراني : 296 .
(5) نفس المصدر : 299 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 276

وولى هارباً , فنادى ابن سعد لعنه الله : أما فيكم من يذبح الحسين ويأتيني برأسه ؟
فغضب الشمر وأقبل الى الحسين , وكان الحسين يغمى عليه تارة ويفيق اخرى , فجاء إليه اللعين وتربع على صدره , أفاق الحسين عليه السلام من غشوته , فتح عينيه وإذا بشمر جاث على صدره , فقال له الحسين عليه السلام : يابن ذي الجوشن أتعرفني من أنا ؟ قال : نعم أعرفك : جدك المصطفى , أبوك المرتضى , امك الزهراء , أخوك الحسن، اقتلك ولا أبالي (2) . فقال له الحسين عليه السلام : أجل , إسقني قطرة من الماء فقد تفتت كبدي من الظمأ . فقال اللعين : بل أسقيك كأس الحمام (3) . ثم وضع اللعين سيفه على رقبة الامام فأراد أن يحز نحره فلم يعمل السيف , فقيل له : ويلك هذا موضع شم رسول الله , إقلبه على وجهه ،
وأقبل الشمر والهندي في يده فكان ما كان من أنفاذ مسطور

وكان كلما قطع عرقاً صاح الحسين : وا جداه وا محمداه .
قال الراوي : أدركت الحوراء زينب أخاها وشمر يخز نحره , فجعلت
(1) نعم , لا مبالغة في هذا , فهؤلاء أرباب المقاتل يقولون ما نصه : «وكلما انتهى رجل من الناس إليه ـ أي الى الحسين عليه السلام ـ انصرف عنه» وقالوا ايضاً بعد كلام : «وقد تاواه الناس» كل ذلك خوفاً وفرقاً منه عليه السلام , يقول السيد حيدر الحلي ولقد أحسن كل الإحسان :
عفيراً متى عافيتة الكماة يختطف الرعب ألوانها
فما أجلت الحرب عن مثله صريعاً يجبن شجاعتها
(2) مقتل الحسين للخوارزمي : 2 / 37 .
(3) أسرار الشهادة للدربندي : 426 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 277

تمانعه وتوبخه , وربما تتوصل به تقسم عليه بجدها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (1)فقام إليها اللعين وضربها , فخرت مغشيّاً عليها , فلما أفاقت من غشوتها رأت رأس أخيها الحسين عليه السلام على رأس رمح طويل والمنادي ينادي بين السماء والأرض : قتل الإمام ابن الإمام أخو الإمام أبو الائمة (2), وكسفت الشمس , وتزلزلت الأرض , وهبت عجاجة سوداء مظلمة (3), وأخذت الناس الدهشة .
لما قطع الشمر رأسه دفعه الى خولي ليوصله الى ابن سعد , ثم أقبلوا على سلب الحسين ؛ فأخذ قميصه اسحاق بن حوية , وأخذ سراويله بحر بن كعب , وأخذ عمامته الأخنص الحضرمي , وأخذ نعليه الأسود بن خالد , وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي وقطع اصبعه مع الخاتم , وأخذ قطيفه كانت له من خز قيس بن الأشعث , وأخذ درعه البتراء عمر بن سعد , وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأزدي وقيل من بني دارم , وهؤلاء كلهم انتقم الله منهم شر انتقام (4), وصاح الشمر علي بالنار لاحرق المخيم , فهجموا على المخيم واشعلوا النار فيها , فخرجن الفاطميات ناشرات الشعور , لاطمات الخدود , مشققات الجيوب , ينادين وا ضيعتنا بعدك يا أباعبدالله , وجعل القوم ينتزعون الملاحف من على
(1) قال المغفور له الحاج هاشم الكعبي رحمه الله في إحدى قصائده العامرة :
وجاءت لشـمر زينب ابنة فاطم تـعنـفه عـن أمـره وتعذل
تدافعه بالـكف طـوراً وتـارة إليـه بطـه جـدها تـتوسل
أيا شمر لا تجعل على ابن محمد فذو ترة في مثـله ليس يعجل
أيا شمر هذا حجة الله في الورى أعد نظراً يا شمر إن كنت تفعل
فمر يحز الـنحر غيـر مراقب من الله لا يخشـى ولا يتوجل
(2) أسرار الشهادة : 429 .
(3) الإيقاد : 135 .
(4) انظر بحار الأنوار : 45 / 57 وما بعدها .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 278

ظهور الفاطميات (1), وهن يلذن بعضهن ببعض ومنادي القوم ينادي : أحرقوا بيوت الظالمين . قال : وجئن النسوة الى مصرع الحسين عليه السلام .
فـواحـدة تـحنوا عـليه تـضمه واخـرى عـليه بالرداء تظلل
واخرى بفيض النحر تصبغ وجهها واخرى لما قد نالها ليس تعقل (2)

(فائدة) : وفي كتب بعض العلماء قال : أنه لما خمدت النيران يوم عاشوراء , افتقدت زينب الأطفال , ففقدت طفلتين للحسين عليه السلام , جعلت تدور في المعركة إلى أن وصلت الى تل من الرمل , وجدت الطفلتين قد كشفتا عن صدريها وقد حفرتا الارض وجعلتا صدريها على الرمل الرطب من شدة العطش , حركتهما وإذا بهما ميتين , صاحت : يا ام كلثوم , ويا فضة , هلمن لنحملنهما , فحملهنهن الى السجاد , وصحن صيحة واحدة , فاندهش العسكر , فسأل عمر ابن سعد مالخبر ؟ قالوا له : طفلتين ماتتا من العطش , فاجتمع رؤساء عسكره عنده وجعلو يوبّخونه ويلومونه على منعه : ويلك إن لم تسقوا الأطفال ماء يهلكوا عن آخرهم , فأمر السقّائين أن يحملوا القرب ويعرضوا عليهم الماء , فأمر أربعمائة سقاء فحملوا القرب وجاؤا بها الى الأطفال والعيال، ينادون هلم اشربوا الماء، فلما رأوا الأطفال الماء وقد ابيح لهم , تصارخوا وهرعوا في البيداء ينادون : نحن لا نشرب الماء وسيدنا قتل عطشانا , انتهى .
(فائدة) : ولقد رأوا ذلك اليوم شخصاً عليه طمار بيض يصرخ ويبكي , فقالوا له : أجننت ؟ قال : ما جننت ولكني أرى ما لا ترون , أرى رسول الله واقفاً
(1) انظر أمالي الشيخ الصدوق : 228 .
(2) من قصيدة عصماء لازالت تردد من على صهوات المنبر للمغفور له الشيخ هاشم الكعبي رضوان الله عليه ومطعها :
أما طلل يا سعد هذا فتسأل نزال فهذي البيت إن كنت تنزل
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 279

على مصرع الحسين عليه السلام واضعاً سبابته في فيه , أخاف يدعوا على هذه الامة فتهلك وأهلك معها . فسأل السجاد عن هذا الشخص , قال : ما أراه إلا جبرائيل , ولو اذن له أن لصرخ صرخة جعل عاليها سافلها .
(فائدة) : قال الراوي : وانتهبوا رحل الحسين وإبله وأثقاله , وسلبوا النساء وأخرجوهن من الخيام مسلبات حافيات حاسرات باكيات نادبات يلذن بعضهن ببعض , وهجموا على زين العابدين اجتذبوا النطع من تحته , وألقوه على وجهه , هذا يقول : اقتلوه ، وذاك يقول: دعوه , والآخر يقول : لا تبقوا لأهل هذا البيت بقية , ثم تركوه على حاله .
(فائدة) : روى أبو مخنف قال : قال عبدالله بن عباس : حدّثني من شهد الواقعة أن فرس الحسين جعل يحمحم ويتخطى القتلى في المعركة قتيلاً بعد قتيل حتى وقف على جثة الحسين , فجعل يمرغ ناصيته بالدم ويلطم الأرض بيدة ويصهل صهيلاً حتى ملأ البيداء , فتعجب القوم من فعاله , فلما نظر عمر ابن سعد لعنه الله الى فرس الحسين قال : يا ويلكم أوتني به , وكان من جياد خيل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم , فركبوا في طلبه , فلما أحس الجواد بالطلب جعل يلطم بيده ورجليه ويمانع عن نفسه حتى قتل خلقاً كثيراً , ونكّس فرساناً من خيولهم ولم يقدروا عليه , فصاح عمر بن سعد لعنه الله : دعوه حتى ننظر ما يصنع , فلما أمن الجواد منا الطلب أتى الى جثة الحسين وجعل يمرغ ناصيته بمده ويبكي بكاء الثكلى وصار يطلب الخيمة .
فلما سمعت زينب بنت علي عليها السلام صهيله , أقبلت إلى سكينة وقالت لها : قد جاء أبوك بالماء , فخرجت سكينة فرحة بذكر أبيها , فرأت الجواد عارياً , والسرج خالياً من راكبه , فهتكت خمارها ونادت : وا أبتاه وا حسيناه وا قتيلاه وا غربتاه وا بعد سفراه وا طوال كربتاه , هذا الحسين بالعرى , مسلوب العمامة والردا قد أخذ
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 280

منه الخاتم والخذا , بأبي من رأسه بأرض وجثته بأخرى , بأبي من رأسه الى الشام يهدى , بأبي من أصبحت حرمه مهتوكة بين الأعداء , بأبي من عسكره يوم الأثنين مضى , ثم بكت بكاء شديداً وأنشأت تقول :
مات الـفخـار ومـات الجود والكرم واغبرّت الأرض والآفاق والحرم
وأغـلـق الله أبـواب الـسماء فـما ترقى لهم دعوة تجلى بـها الغمم
يا اخت قومي انظري هـذا الجواد أتى ينبئك إن ابن خير الخلق مـحترم
مات الـحسـين فـيا لهـفي لمصرعه وصار يعلو ضياء الأمة الظلـم

(فائدة) : قال أبو مخنف : ولما ارتفع صياح النساء , صاح ابن سعد : ويلكم اكبسوا عليهن الأخبية , واضرموهن ناراً , فأحرقوها ومن فيها . فقال رجل منهم : ويلك يا ابن سعد ما أكفاك قتل الحسين وأهل بيته وأنصاره عن احراق أطفاله ونسائه , كأنك تريد أن يخسف الله بنا الأرض , فتبادروا الى نهب النساء الطاهرات .
قالت فاطمة بنت الحسين : كنت في ذلك الوقت واقفة في الخيمة إذ دخل رجل أزرق العين , فأخذ ما كان في الخيمة , ونظر الى قرطين كانتا في اذني , فجعل يعالجهما وهو يبكي حتى نزعهما , فقلت له : تسلبني وأنت تبكي ؟! فقال : أبكي لمصابكم أهل البيت . فقلت له : قطع الله يديك ورجليك , واحرقك الله تعالى بنار الدنيا قبل الآخرة .
(فائدة) : قال أبو مخنف : ثم إن عمر ابن سعد لعنه الله قال : من يبادر الى جسد الحسين فيوطأه , فابتدر إليه عشرة فوارس فحطموا صدره وظهره .
انتهى الجزء الأول من كتاب ثمرات الاعواد

السابق السابق الفهرس