ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 260


المطلب الثامن والاربعون
في تعبئة الحسين عليه السلام أصحابه للقتال يوم عاشوراء

روى السيد بن طاووس (1)قال : لما أصبح الحسين عليه السلام يوم عاشوراء عبأ أصحابه وجعل زهير بن القين البجلي رحمه الله في الميمنة , وحبيب بن مظاهر في الميسرة , وأعطى الراية إلى أخيه العباس بن علي عليه السلام , وجلعوا البيوت في ظهورهم , وأمر الحسين بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يترك في الخندق الذي حفروه , وأن يضرم فيه النار مخافة أن تأتي القوم من ورائهم .
قال : وعبأ عمر بن سعد لعنه الله اصحابه وجعل على الميمنة عمر بن الحجاج الزبيدي , وعلى الميسرة شمر بن ذي الجوشن الضبابي , وعلى الخيل عروة بن قيس , وعلى الرجالة شبث بن ربعي , وأعطى الراية دريداً مولاه (2).
وروى المفيد رحمه الله (3)قال : ولما صار يوم عاشوراء، ورأى الحسين كثرة الأعداء , رفع يديه الى السماء وقال : اللهم أنت ثقتي في كل كرب , وأنت رجائي في كل شدة , وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة , كم من كرب يضعف فيه
(1) انظر الملهوف على قتلى الطفوف ص 158 .
(2) مثير الأحزان لابن نما : 53 .
(3) في ج2 ص 96 من كتابه الإرشاد .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 261

الفؤاد , وتقل عنه الحيلة , ويخذل فيه الصديق , ويشمت فيه العدو , أنزلته بك , وشكوته إليك , رغبة مني إليك عمن سواك ففرّجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة , وصاحب كل حسنة , ومنتهى كل رغبة .
قال علي بن الحسين عليه السلام : فجعل القوم يجولون حول الخيم فرأوا الخندق وقد اضرمت فيه النار .
قال الراوي : ونادى شمر بن ذي الجوشن لعنه الله بأعلى صوته : تعجلت بالنار يا حسين قبل يوم القيامة ! فقال الحسين عليه السلام : من هذا كأنه الشمر ؟ فقيل له : نعم , فقال : يابن راعية المعزى , أنت أولى بها صليّاً .
قال : وأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين عليه السلام , فقال له : سيدي دعني أرميه فإنه فاسق , فقال له الحسين عليه السلام : إني أكره أن أبدئهم (1)بالقتال .
وقال محمد بن أبي طالب : وأمر الحسين بإحضار جواده , فقرب إليه واستوى عليه , وتقدم في نفر من أصحابه وبين يديه برير بن خضير الهمداني (2), فقال له الحسين : يا برير كلم القوم , فتقدم برير وقال : يا قوم اتقوا الله فإن ثقل محمد صلى الله عليه واله وسلم قد أصبح بين أظهركم , هؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه , وما الذي تريدون أن تصنعون بهم ؟ فقالوا : نريد أن نمكن منهم الأمير زياد لعنه الله فيرى
(1) نفس المهموم : 239 .
(2) من أقادم أصحاب مولانا الحسين عليه السلام , وصفه الشيخ السماوي في ص70 من كتابه الجليل «أبصار العين في أنصار الحسين» بقوله «كان برير شيخاً ناسكاً قارئاً للقران من شيوخ القراء... »
ووصفه الشيخ عباس القمي في ص 266 من الجزء الأول من كتابه «سفينة البحار» بقوله : «كان من عباد الله الصالحين , وكان شيخاً جليلاً من أشراف الكوفة من همدان الذين قال فيهم أمير المؤمنين عليه السلام :
فلو كنت بوّاباً على باب الجنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 262

رأيه فيهم . فقال لهم برير : أفلا تقبلون أن يرجعوا إلى مكان الذي أتوا منه ؟ ويلكم يا أهل الكوفة أنسيتم كتبكم التي كتبتموها وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها ؟ ويلكم دعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم حتى إذا أتوكم أسلمتموهم عن ماء الفرات , بئسما خلفتم نبيكم في ذريته , مالكم لا سقاكم الله يوم القيامة , فبئس القوم أنتم .
فقال رجل منهم : يا هذا ما ندري ما تقول . فقال برير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة , اللهم إني أبرء إليك من فعال هؤلاء القوم , اللهم إلق بئسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان (1).
قال : فجعل القوم يرمونه بالسهام : فرجع برير الى وراءه (2), وتقدم الحسين حتى وقف بإزاء القوم , وجعل ينظر الى صفوفهم وكأنهم السيل (3), ونظر الى ابن سعد لعنه الله واقفاً وحوله صناديد أهل الكوفة , فقال : الحمدلله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال , متصرفة بأهلها حالاً بعد حال , فالمغرور عن غرته , والشقي من قتلته , أيها الناس فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها , وتخيب من طمع فيها , رأراكم قد اجتمعتم على أمر قد اسخطتم الله فيه عليكم , وأعرض بوجهه الكريم عنكم , وأحل بكم نقمته , وجنبكم رحمته , فنعم الرب ربنا , وبئس العبيد أنتم , أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم ثم أنكم زحفتم على ذريته وعترته تريدون قتلهم , لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم , فتبّاً لكم ولما تريدون وإنا لله وإنا إليه راجعون , هؤلاء
(1) مقتل الحسين اللخوارزمي : 1 / 252 .
(2) تظلّم الزهراء : 180 .
(3) البحار : 45 / 5 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 263

قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين (1).
فقال عمر بن سعد لعنه الله : كلموه فإنه ابن أبيه ووالله لو وقف فيكم هذا يوماً كاملاً لما انقطع (2). فتقدم إليه شمر بن ذي الجوشن وقال : يا حسين مالذي تقول ؟ أفهمنا حتى نفهم .
فقال عليه السلام : أقول أتقوا الله ربك ولا تقتلونني فإنه لا يحل لكم قتلي , ولا انتهاك حرمتي , فإني ابن بنت نبيكم , وجدتي خديجة زوجة نبيكم , ولعله قد بلغكم قول نبيكم : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (3) .
فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول , ولكن أنزل على حكم الأمير ابن زياد .
فقال الحسين عليه السلام : لا والله , لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل , ولا أقر لكم إقرار العبيد (4).
رامت تسوق المصـعب الهدار مسـتاق الذلول
ويـروح طوع يمـينها قود الجنيب أبو الشبول
خلـط الـشجاعة بالبرا عة فالصليل عن الدليل
لـف الـرجال بمـثلها وثنى الخيلول على الخيول
لــسـانه ولــسـانه صدقان من طعن وقيل
(1) مناقب ابن شهر آشوب : 4 / 100 .
(2) نفس المهموم : 245 .
(3) بحار الأنوار : 45 / 6 .
(4) الإيقاد : 103 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 264


المطلب التاسع والأربعون
في خطبة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء

قال أهل السير : لما عبأ الحسين عليه السلام أصحابه وعبأ ابن سعد أصحابه لمحاربة الحسين عليه السلام , ورتب مراتبم وأقام الرايات في مواضعها , خرج الحسين عليه السلام عند ذلك ممتطياً جواده حتى أتى نحو القوم فاستنصتهم , فأبوا أن ينصتوا فصاح بهم : ويلكم , ما عليكم أن تنصتوا فتسمعوا قولي وإنما أعدوكم الى سبيل الرشاد , فمن أطاعني كان من المرشدين , ومن عصاني كان من المهلكين , وكلكم عاص لأمري غير مستمع لقولي , فقد ملئت بطونكم من الحرام , وطبع على قلوبكم , ويلكم ألا تنصتون , ألا تسمعون , فتلاوموا فيما بينهم وقالوا : انصتوا له (1). فلمّا رآهم الحسين عليه السلام قد سكتوا , قال :
تباً لكم أيتها الجماعة وترحا , أحين استصرختمونا والهين , فاصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفاً في إيمانكم , وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم , فأصبحتم البا لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم , ولا أمل أصبح لكم , فهلا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم , والجأش طامن , والرأي لما يستحصف , ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبى , وتداعيتم إليها كتهافت
(1) الإيقاد : 104.
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 265

الفراش , فسحقاً لكم يا عبيد الأمة , وشذاذ الأحزاب , ونبذة الكتاب , ونفثة الشيطان , وعصبة الأنام , ومحرّفي الكتاب , ومطفيء السنن , وقتلة أولاد الأنبياء , ومبيري عترة الأوصياء , وملحقي العار بالنسب , ومؤذي المؤمنين , وصراخ أئمة المستهزئين , الذين جعلوا القرآن عضين , وأنتم على ابن حرب واشياعه تعتمدون , وإيانا تخاذلون , أجل والله , غدر فيكم , وشجت عليه اصولكم , ونازرت عليه فروعكم , فكنتم أخبث ثمر شجي للناظر , وأكلة للغاصب , ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين أثنتين ؛ بين السلة والذلة , وهيهات منا الذلة , يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون , وحجور طابت وطهرت , وانوف حمية ونفوس أبيه من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام , ألا وقد اعذرت , ألا قد أنذرت , ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر , ثم أنشأ يقول :
فإن نهزم فهزامون قدما وإن تهزم فغير مهزّمينا
وما إن طبنا جبن ولكن منـايانا ودولـة آخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا

ثم قام : أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دوران الرحى , وتقلق بكم قلق المحور , عهد عهده إلي أبي عن جدي , فأجمعوا أمركم وشركائكم , ثم لا يكن أمركم عليكم غمة , ثم أقضوا إلي ولا تنظرون « إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة في الأرض إلا وهو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم » , اللهم احبس عنهم قطر السماء , وابعث عليهم سنين كسني يوسف , وسلط عليهم غلام ثقيف , يسقيهم كأساً مصبرة , ولا يدع فيهم أحداً إلا قتلة بقتلة , وضربة بضربة , ينتقم لي ولآبائي وأهل بيتي وأشياعي منهم , فإنهم
(1) إقتباس من الآية 56 من سورة هود .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 266

غرونا وكذبونا وخذلونا , أنت ربنا عليك توكلنا وإليك أنبئنا وإليك المصير (1).
ثم قال عليه السلام : أين عمر بن سعد لعنه الله ؟ فجاء إليه فقال : يا عمر , أنت تقتلني وتزعم أنه يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان ؟! والله لا تتهنأ بذلك أبدا , عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فأنت لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك على قصبة قد نصبت بالكوفة يتراماه الصبيان , ويتخذونه غرضاً بينهم .
فاغتاض اللعين من كلام الحسين عليه السلام ثم صرف بوجهه عنه ونادى بأصحابه : ما تنتظرون , احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة (2), ثم أخذ سهماً ووضعه في كبد القوس ورمى به نحو مخيم الحسين , وقال : اشهدوا لي عند الأمير ابن زياد لعنه الله فإني أول من رمى الحسين (3), ثم رمى العسكر كله.
قال الراوي: فما بقي من أصحاب الحسين أحد، إلا وأصابه سهم أو سهمين، من تلك السهام (4) فقال الحسين عليه السلام لأصحابه , قوموا رحمكم الله الى الموت الذي لابد منه , فإن هذه السهام رسل القوم إليكم (5).
قال فحملوا أصحاب الحسين حملة واحدة , وجعلوا يقاتلون حتى اقتتلوا ساعة من النهار . قال الراوي : فقتل من أصحاب الحسين عليه السلام خمسين رجلاً . قال : ثم أمر أصحابه أن يحملوا على القوم واحداً بعد واحد , وكان الرجل منهم إذا أراد البراز يستأذن الحسين عليه السلام فيأذن له , ثم يقول : السلام عليك يا أبا عبدالله , فيقول الحسين : وعليك السلام , ثم يحمل على القوم حتى أن عابس بن شبيث
(1) الملهوف على قتلى الطفوف : 157 .
(2) الإيقاد : 105 .
(3) مثير الأحزان لابن نما : 56 .
(4) تظّلم الزهراء : 158 .
(5) نفس المهموم للشيخ عباس القمي : 250 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 267

الشاكري (1)لشوقه واشتياقه للقتل , خرج من الخيام حاسراً (2)وانحدر نحو القوم , فقيل له : عابس أجننت ؟ قال : نعم , إن حب الحسين عليه السلام أجنني .
يتهادون الى الحرب سكارى طرباً فيه وما هم بسكارى
(1) وصفه الشيخ المامقاني في ج2 ص 112 من كتابه «تنقيح المقال» بقوله : «كان عابس من رجال الشيعة رئيساً شيخاً خطيباً ناسكاً متهجّداً ...»
(2) مقتل الحسين للخوارزمي : 2 / 23 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 268


المطلب الخمسون
في وحدة الحسين عليه السلام وخطبته يوم العاشر

لما كانت اليوم العاشر من المحرم وتقدمت أنصار الحسين عليه السلام فقتلوا , ثم تقدمت إخوته وأولاده فقتلوا وبقي وحيداً فريداً , أقبل الى الخيمة ودعى أخته الحوراء زينب , فجاءت فقال لها : اختاه علي بفرس رسول الله المرتجز (1) وسيفه وعمامته , فجاءت بها إليه فتعمم بعمامة رسول الله وتقلد بسيف رسول الله , وركب فرس رسول الله , ثم انحدر نحو القوم ونادى بأعلى صوته : أنشدكم الله هل تعرفونني من أنا ؟ قالوا : اللهم نعم , أنت ابن رسول الله حقا . قال أنشدكم الله هل تعلمون ان جدي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : انشدكم الله هل تعلمون أن أبي أبي علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : انشدكم الله هل تعلمون أن امي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه واله وسلم ؟ قالوا . اللهم نعم . قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الامة أسلاماً ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : انشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي ؟ قالوا : اللهم نعم . قال . انشدكم الله هل تعلمون هذا سيف رسول الله أنا متقلده ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : انشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنا لابسها ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : انشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب أول القوم إسلاماً
(1) الملهوف على قتل الطفوف : 158 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 269

وأكثرهم علماً وأرجحهم حلماً وأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة ؟ قالوا : اللهم نعم . قال إذا بم تستحلون دمي وأبي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر عن الماء , ولواء الحمد بيده يوم القيامة ؟
قالوا : قد علمنا ذلك كله ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً . فأخذ الحسين بطرف كريمته المباركة وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة , قال : اشتدّ غضب الله على اليهود حين قالوا العزيز ابن الله , واشتد غضبه على النصارى حين قالوا : المسيح ابن الله , واشتد غضبه على المجوس حين عبدو النار من دون الله , واشتد غضبه على قوم قتلوا نبيهم , واشتد غضبه على هذه العصابة الذين يريدون قبل ابن بنت نبيهم (1) .
قال الراوي : ولما رأى الحسين إصرارهم على قتله أخذ المصحف ونشره على يده ونادى : يا قوم بيني وبينكم كتاب الله وسنة جدي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم , يا قوم بم تستحلون دمي ؟ ألست أنا ابن بنت نبيكم ؟ أو لم يبلغكم قول جدي في وفي أخي الحسن , هذان ولداي سيدا شباب أهل الجنة , فإن لم تصدقوني فاسئلوا جابر بن عبدالله الأنصاري , وزيد بن أرقم , وأبا سعيد الخدري , فوالله ما تعمدت الكذب أبداً مذ علمت أن الله يمقت أهله , والله ليس في مشرق ومغرب ابن بنت نبيّ فيكم غيري .
فأجابه الشمر قائلاً : انزل على حكم ابن زياد . فقال الحسين عليه السلام : لا والله ثم حمل عليهم بسيفه وهو يقول (2)
أنا ابن علي الطهر من آل هاشـم كفاني بـهذا مـفخراً حين أفـخر
وجدي رسول الله أفضل من مشى ونحن سراج الله في الأرض نزهر
(1) أمالي الشيخ الصدوق : 222 وما بعدها .
(2) كما في ج 45 ص 49 من بحار الأنوار للشيخ المجلسي .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 270


فانكشفوا من بين يديه انكشاف المعزي إذا شدّ فيها الذئب , ثم انحدر نحو المشرعة وكان عليها أربعة آلاف , فكشفهم عن المشرعة واقتحم الفرس في الفرات ونزل في الماء . قال : فمد الحسين يده وغرف غرفة ليشرب وإذا بمنادي ينادي : يا حسين أتلتذ بالماء وقد هتكت حريمك ؟ فرمى الماء من يده وخرج من الفرات (1) فحمل الى القوم فكشفهم على وجهه ونظر إلى الخيمة فإذا بها سالمة , فعلم إنها مكيدة , وناداه رجل آخر : ألا ترى الفرات يجري في بطون الحيات والله لن تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا (2), ثم حمل على القوم مرة ثانية وهو يقول :
أنا الحسين بن علي آليت أن لا أنثني

فلم يزل يقاتل حتى قتل جمعاً كثيراً من الأعداء , ثم رجع الى مركزه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (3).
قال : واصيب بجراحات عديدة , جاء إلى مخيمه وصاح بالنساء , فخرجت إليه الحوراء زينب , فقال لها : أخيه، علي بالمنديل لأشد به هذا الجرح , فجاءت إليه بمنديل لتشد له جرحه , وإذا ببدنه كله يشخب دما , فقالت له : أخي، اي جرح اشده لك , الجرح الذي في رأسك ؟ أم الجرح الذي في جبهتك ؟ أم الجرح الذي في صدرك ؟ فرفع الثوب عن خاصرته وقال لها : اخية هذا الجرح ضرّني , فصاحت وا أخاه وا حسيناه . (3)
سهم أصابك يابن بنت محمد قلباً أصاب لفاطم وفؤادها
(1) البحار : 45 / 51 .
(2) فقال الحسين عليه السلام , اللهم أمته عطشاً . قال الراوي : فكان ذلك اللعين يقول اسقوني ماء فيأتون إليه الماء فيشرب حتى يخرج من فيه حتى هلك .
(3) نفس المهموم : 354 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 271


بقية المجلس في حملات الحسين عليه السلام يوم عاشوراء


بأبي ابن فاطمة والسيف في يده إن ابن ميمون سراً يعبد الصنما
أو رأسه يتجلى لـلهدى قمرا على الاسنة يجلو نـوره الظلما

قال أرباب المقاتل : ولما أراد الحسين عليه السلام أن يحمل على القوم حملته الأخيرة , جعل يودع عياله وأطفاله , فتصارخت العيال والأطفال ودرن حوله ؛ فمنهن من تقبل رأسه , ومنهن من تقبل وجهه , ومنهن من تقبل يده ورجليه , وإذا بالمنادي ينادي من القوم : يا حسين , جبنت عن الحرب وجلست في خيمة النساء , فقام وركب الجواد وانحدر نحو القوم , فبينما هو يسير وإذا بصوت من خلفه : أبة لي إليك حاجة , التفت وإذا هي سكينة , فقال لها : بنية ما حاجتك ؟ قالت : أبه حاجتي أن تنزل من على ظهر جوادك الى الأرض وأريد أن أودعك وداع اليتامى . فنزل الحسين عليه السلام من على ظهر جواده وجلس على الأرض فجعلت سكينة تبكي , فقال الحسين عليه السلام :
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي منك البكاء إذا الـحمام دهاني
لا تـحرقي قلبي بدمعك حسرة ما دام مني الروح في جثماني
فإذا قـتلت فـأنت أولى بالذي تأتـيـنه يا خيرة النـسـوان

قال الراوي : وأقبلت إليه أخته الحوراء زينب , فقالت له أخي أكشف لي
(1) مناقب آل أبي طالب : 4 /109 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 272

عن صدرك وعن نحرك , فكشف لها الحسين عليه السلام صدره وعن نحره , شمته في نحره وقبلته في صدره , ثم حولت وجهها نحو المدينة وصاحت : يا اماه قد استرجعت الأمانة , فتعجب الحسين عليه السلام من كلامها , فقال لها : اخية , وما الأمانة ؟ قالت : اعلم يابن والدي , لما دنت الوفاة من امنا فاطمة , قربتني إليها وشمتني في نحري وقبلتني في صدري وقالت لي : بنية زينب , هذه وديعة لي عندك , فإذا رأيت أخاك الحسين وحيداً فريداً , شميه في نحره وقبليه في صدره ؛ اما نحره فإنه موضع السيف , وأما صدره فإنه موضع حوافر الخيول .
قال الراوي : والله لقد سمعنا منادياً ينادي بين السماء والأرض , وا والداه وا حسيناه , ثم ودعهم وحمل على القوم فجعل يضرب فيهم بسيفه وهو يقول (1):
الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار

قال بعض الرواة : ما رأيت مكثوراً (2)قط قد قتل منه ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه عليه السلام , وإن كانت الرجال لتشد عليه ويشد عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب , ولقد كان يحمل عليهم وقد تكاملوا ثلاثين ألف , فينهزمون من بين يديه كالجراد المنتشر (3), ثم يرجع الى مركزه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , فكان كما قال المتنبي (4):
واستعار الحديد لوناً وألقى لونه في ذوائب الأطفال
هذا والعطش قد أثر بعينه حتى صار لا يبصر بهما، وأثر بلسانه حتى صار
(1) كما في صفحة 170 من كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » .
(2) المكثور : المغلوب .
(3) تاريخ الطبري : 4 / 345 .
(4) في قصيدته التي يمدح بها عبدالرحمن بن المبارك الإنطاكي ومطلعها :
حيلة الهجر لي وهجر الوصال نكساني في السقم نكس الهلال
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 273

كالخشبة اليابسة , وأثر بأحشائه حتى صار الغبار يدخل في فيه وينزل الى جوفه ثم يخرج مثلما دخل , وأثر العطش في قواه وهو مع ذلك يضرب فيهم بسيفه , فصاح عمر بن سعد بأصحابه : الويل لكم يا حمقاء , أتدرون من تقاتلون , هذا ابن الأنزع البطين , هذا ابن قتال العرب , فاحملوا عليه حملة رجل واحد (1) . ثم إنهم افترقوا عليه أربعة فرق : ضرباً بالسيوف , طعناً بالرماح , رمياً بالسهام , رضخاً بالحجارة والخشبة , فبينما هو كذلك إذ أتاه حجر مشوم فرقع في جبهته , وسالت الدماء على كريمته المباركة (2), أخذ ثوبه ليمسح الدم , بان صدره الشريف إلى الأعداء فرماه ابو الحتوف الجعفي لعنه الله بسهم محدد مسموم له ثلاث شعب , فوق لبة قلبه (3), فرفع رأسه الى السماء وقال : الهي أنت تعلم أنهم يقتلون رجل ليس على وجه الارض ابن نبي غيره (4), وكلما عالج وأراد أن ينتزعه من موضعه ما تمكن , انحنى على قربوس سرج فرسه قائلاً : بسم الله وبالله وعلى ملة جدي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم , فاستخرج السهم من قفاه وجرى الدم كالميزاب (5).
قال الراوي : وخرج ثلثاً كبده مع السم , فخرّ صريعاً الى الأرض , فجعل جواده يدور حوله ويأخذ عنانه بأسنانه ويضعه بيد الحسين عليه السلام مشيراً إليه بالقيام , فلما رأى الجواد إن الحسين لا قابلية له على النهوض , خضب ناصيته بدمه ورجع نحو خيمه كي يعلم النساء بقتله , وهو يصهل ويحمحم ويقول في صهيله :
(1) مناقب ابن شهر آشوب : 4 /110 .
(2) مقتل الحسين للخوارزمي : 2 / 34 .
(3) تظلم الزهراء : 209 .
(4) مثير الأحزان لابن نما : 73 .
(5) الملهوف على قتلى الطفوف : 172 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 274

الظليمة الظليمة الهضيمة الهضيمة من امة قتلت ابن بنت نبيها (1), فدرن الهاشميات حوله وجعلن يتصارخن ويبكين وكأني بالحوراء زينب تخاطبه :
يا جواد الحسين أين الحسين أين من كان لي عماداً ضلالا

قال أرباب المقاتل : ولما صرع الحسين عليه السلام سقط عن ظهر جواده إلى الأرض , وعمل له وسادة من التراب , فنام عليها ثلاث ساعات من النهار , ثم أنه عليه السلام أراد النهوض فلم يتمكن , احتبى بحمائل سيفه وجلس محتبيا .
قال الراوي : وخرج غلام صغير من المخيم وهو عبدالله بن الحسن عليه السلام (2)وقرطاه يتذبذبان على خديه , فلحقته زينب بنت علي لتحبسه , فأبى وامتنع امتناعاً شديداً , فقال : لا والله , لا افارق عمي الحسين حتى إذا جاء الى مصرع عمه الحسين عليه السلام وجلس في حجره فصاح به الغلام : ويلك أتضرب عمي , ثم رفع يده ليمنع الضربة عن عمه فضربه اللعين فاتّقاها الصبي بيده فأطنها الى الجلدة وإذا هي مطلقة , فنادى الغلام : يا عماه , فأخذه الحسين وضمه إليه وقال له : يابن أخي أصبر على ما نزل بك , واحتسب في ذلك الخير , فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين . قال : فرماه حرملة بن كاهل بسهم فوقع الغلام إلى جنب عمه الحسين قتيلاً (3).
قال الراوي : ورمق الحسين عليه السلام السماء بطرفه وجعل يقول :
تركت الخلق طراً في هواكا وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتـني بالـحب أرباً لما مال الفؤاد الى سواكا
(1) مقتل الحسين للمحقق الثبت السيد عبدالرزاق المقرم رحمه الله : 283 .
(2) حسب ما جاء في ج2 ص 110 من كتاب الإرشاد للشيخ المفيد .
(3) بحار الأنوار : 45 / 54 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي