ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 162



المطلب الحادي والأربعون

في بقية قضية السفاح وما فعله ببني أمية

ذكر المؤرخون وأهل السير : إن السفاح لما أراد أن يطهر الأرض من الأرجاس ويقضي على بني أمية ويستأصل شأفتهم , دعا سديفاً ليلة من الليالي وقال له : يا سديف , قد بلغ الكتاب أجله , وقرب ما كنت تؤمله , نم ليلتك قرير العين , وآتني غداة غدا اعطيك أملك وأبلغك رجاءك .
قال الراوي : فبات سديف تلك الليلة يدعو ربه ويسأله إتمام ما وعده به السفاح , قال : وأصبح السفاح وكان ذلك اليوم يوم النيروز , أمر مناديه فنادى : أن أمير المؤمنين أباالعباس السفاح قد بسط الإنطاع وصب عليه خزائنه , وقال : اليوم يوم عطاء وجزاء وجوائز ومواهب وضربت الطبول ونشرت الرايات , وقد زين قصر الخليفة ونصب كرسي الخلافة في وسطه وأمر السفاح بالإنطلاع فبسطت بين يديه وصب عليها الدنانير والدراهم والأسورة ومناطق الذهب والفضة , ثم دعا بأربعمائة من غلمانه من أشدهم وأشجعهم وأعطاهم السيوف المذهبة وقال لهم : كونوا في الأخبيئة والمخادع واسلبوا عليكم الستور وكونوا على استعداد من أمركم , فإذا رأيتموني ضربت بقلنسوتي الأرض فاخرجوا من المخادع وضعوا السيوف في رقاب الحاضرين وكل من ترونه ولو كان من بني عمي .
قال الراوي : ولما تعالى النهار وجلس السفاح على سرير الخلافة , أقبلت
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 163

إليه الناس في الزينة والبهجة الحسنة للسلام عليه والعطاء , وأقبل بنو أمية يرفلون بالحلل السندسية يجرون أرديتهم زرافات ووحدانا حتى تكاملوا سبعين ألفاً من أمية وآل أبي معيط ومن يمت بهم وحاشيتهم , قال : فعند ذلك صعد السفاح الى اعلى محل في قصره وهو متقلد بسيفه , والتفت الى بني أمية وقال : هذا اليوم الذي كنت أعدكم فيه للجزاء والعطاء , فبمن يكون البداء بالعطاء للأمويين أم للهاشميين ؟ فقال كلهم : يا خليفة رسول الله إن بني هاشم هم سادات العرب , فلا يتقدم عليهم أحد ولن يقدم العبد على سيده .
قال : فصاح السفاح بعبد له كان عن يمينه وكان فسيح اللسان : نادي ببني هاشم واحداً بعد واحد حتى نجزل لهم العطاء ونحسن لهم الجوائز , فنادى الغلام برفيع صوته : أين عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم هلم إلينا واقبض عطاءك , فقام سديف قال : وأين عبيدة بن الحارث ؟ قال : وما فعل به ؟ قال : قتله شيخ من هؤلاء يقال له عتبة بن ربيعة . فقال السفاح : يا غلام اضرب على اسمه وإتنا بغيره .
فنادى الغلام: أين أسد الله وأسد رسوله الحمزة بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف , هلم علينا واقبض عطاءك . فقال سديف : وأين حمزة ؟ قال : وما فعل به ؟ قال : قتلته امرأة من هؤلاء القوم يقال لها هند بنت عتبة في احد وأقبلت بعد القتل ومثلث به فشقت جوفه وأخذت كبده لتأكلها فحوله الله حجراً في فمها فسميت آكلة الأكباد , ثم قطعت أصابعه وجعلتها قلادة في عنقها وجدعت أنفه وقطعت مذاكيره . فقال السفاح : يا غلام اضرب على اسمـه , وائتنا بغيره .
فنادى الغلام : أين أول الناس إسلاما وأفضل الوصيين ويعسوب الدين وأمير المؤمنين أين علي بن أبي طالب هلم إلينا واقبض عطاءك . فقال سديف : يا مولاي وأين علي بن أبي طالب ، لقد قتله المرادي عبدالرحمن بن ملجم لعنه الله
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 164

وزين معاوية بن أبي سفيان الشام فرحاً لقتله . فقال السفاح : يا غلام اضرب على اسمه وأتنا بغيره .
فنادى الغلام : أين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وسيد شباب أهل الجنة الحسن بن علي هلم إلينا واقبض عطاءك . وقال : يا مولاي وأين الحسن بن علي ؟ قال السفاح : وما فعل به؟ قال : قتلته جعدة بنت الأشعث بسم دسه معاوية إليه من الشام , فقال : يا غلام اضرب على اسمه وأتنا بغيره .
فنادى الغلام : أين مسلم بن عقيل بن أبي طالب هلم إلينا واقبض عطاءك . فقال سديف : يا مولاي وأين مسلم بن عقيل ؟ قال : وما فعل به؟ قال : قتله هؤلاء القوم فأخذه عبيدالله بن زياد لعنه الله فقتله ورمي بجسده من اعلى القصر الى الأرض وربطوا الحبال في رجليه وجعلوا يسحبونه بالأسواق . فقال السفاح : يا غلام اضرب على اسمه واتنا بغيره .
فنادى الغلام : أين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وسيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب , هلم إلينا واقبض عطاءك , فبكى سديف وصرخ : وا حسينا ونادى : يا مولاي وأين الحسين ؟ فقال السفاح : وما فعل بولد رسول الله ؟ قال : قتله أمير هؤلاء الذين هم جالسون حولك وهم على كرسي الذهب والفضة , قتله بأرض كربلاء عطشاناً وأخذوا رأسه على رمح طويل من كربلاء الى الكوفة ومن الكوفة الى الشام الى يزيد بن معاوية . فقال السفاح : يا غلام اضرب على اسمه واتنا بغيره .
فنادى الغلام : وأين العباس بن علي هلم إلينا واقبض عطاءك . فقال سديف : يا أمير المؤمنين وأين العباس بن علي . قال : وما فعل به ؟ قال : قتله هؤلاء في كربلاء بعد أن قطعوا يمينه وشماله وضربوا رأسه بعمود من حديد . فقال السفاح : يا غلام اضرب على اسمه واتنا بغيره .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 165


فقال الغلام : أين زيد بن علي بن الحسين هلم إلينا واقبض عطاءك . فقال سديف : وأين زيد بن علي بن الحسين ؟ فقال السفاح : وما فعل به ؟ قال: قتله هشام بن عبدالملك وصلبه في كناسة الكوفة وبقي مصلوباً اربع سنين حتى عشعشت الفاختة في جوفه , ثم أنزلوه بعد ذلك وأحرقوه وسحقوا عظامه المحترقة وذروها في الهواء , ثم قتلوا ولده من بعده . فقال السفاح : يا غلام اضرب على اسمه وأتنا بغيره .
فنادى الغلام : أين إبراهيم بن علي بن عبدالله بن العباس هلم إلينا واقبض عطاءك , فسكت سديف , فقال السفاح : ويلك يا سديف سكت عن الجواب ؟ قال : يا أمير المؤمنين إني استحي أن اخبرك بما فعل هؤلاء القوم بأخيك . فقال السفاح : سألتك بالله اما أخبرتني ما فعل بأخي . فقال : يا أمير المؤمنين قبضه رجل من هؤلاء القوم يقال له مروان , وأدخل رأسه في جراب بقرة وركب في أسفله كور الحدادين وأمر النافخ ينفخ والجلاد يجلد حتى ضربه عشرة آلاف سوط في ثلاثة أيام , فبكى وصاح صيحة واحدة وأخذ قلنسوته فضرب به الأرض ونادى : يا لثارات بني عبدالمطللب يا لثارات الحسين عليه السلام .
فخرج الغلمان من الأخبية والمخادع بأيديهم السيوف وجعلوا يضربون رقابهم , فكان بنو أمية كلما انحازوا الى جانب تلقتهم الغلمان من ذلك الجانب بضرب السيوف , فما كانت إلا ساعة حتى أتوا على آخرهم , وقد كان خدامهم وعبيدهم حول القصر يحفضون لهم خيولهم وينتظرون خروجهم , وإذا هم يرون الدماء تسيل من كل ميزاب كأنها السيل , فركب كل منهم جواد مولاه وهرب على وجهه .
قال الراوي : وأمر عند ذلك السفاح بالأشلاء فجمعت مثل المبسطة وفرشت فوقهم الأنطاع وجلس عليها السفاح وسديف وجماعة من بني هاشم ,
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 166

ووجوه العباسيين , ثم أمر السفاح بالموائد فصبت وقدموا الطعام , فأكل السفاح وقومه وسديف معهم .
قال : والتفت السفاح الى سديف وقال له : يا سديف هل برد غليلك ؟ فقال : والله يا أمير المؤمنين ما أكلت أكلة أطيب من هذا اليوم ثم أنشأ سديف قائلاً :
الا مـبلغ سـاداة هاشم معشري وجمع قريش والقبائل من فهري
وسادات مخـزوم وأبـناء غالب قريباً من النور المغيب في القبر
ومن كان منهم في المـدينة ثاوياً وسكان بيت الله والركن والحجر
ومن كان منهم في الغريين ثاوياً وذلك علي صاحب النهي والأمر
ومن سـكن الطف المعظم قدره حسين الرضي المدفون بالبلد القفر
بأن سديفاً قـد شـفى الله قـلبه بسـمر رمـاح ثـم مرهفه بتر
وأن أبا العـباس ثـار لـثارهم فلم يبق مـوتـوراً يطالب بالوتر (1)

وإن فعل أبوالعباس ما فعل ببني امية وقتل ما قتل منهم لم يبلغ معشار ما فعلوا بنو امية بأهل البيت فإنهم :
أبـادوهـم قتـلاً وسـماً ومثلة كأن رسول الله ليس لهم أب
كأن رسول الله من حكم شرعه على آله أن يقتلوا أو يصلبوا
(1) (فائدة): يروى مرسلاً أن السفاح قد فتك ببني أمية مرتين , ففي المرة الاولى كان على ما ذكرنا من قضية سديف , فبهذه الكيفية قتلهم , وأما المرة الثانية فإنه بنى لهم قصراً وجعل اسس ذلك القصر من الملح , حتى إذا اكمل القصر دعاهم إليه فلما اجتمعوا فيه سلط عليهم الماء فأخذ جميع جهاته الى ان ذاب الملح وانهدم عليهم القصر فهلكوا عن آخرهم .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 167



المطلب الثاني والأربعون

في مقتل زيد بن علي بن الحسين عليه السلام

قال أبو الفرج الأصبهاني (1) : اشترى المختار بن أبي عبيدة الثقفي جارية بثلاثين ألف دينار , فقال لها : ادبري فأدبرت , ثم قال لها : اقبلي فأقبلت , فقال لها: والله ما أرى أحد احق بها من علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام , فأرسها إليه وهي ام زيد المصلوب .
وعن الصادق عليه السلام قال : « قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوماً للحسين : يخرج من يخرج من صلبك فتى يقال له زيد يتخطّا هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس ثم يدخلون الجنة بغير حساب » .
وقال علي بن الحسين عليه السلام لرجل من محبيه : « بينا أنا ذات ليلة اصلي إذ ذهب بي النوم فرأيت نفسي كأني في الجنة وكأن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وعلياً وفاطمة والحسن والحسين قد زوجوني جارية من الحور العين , فواقعتها ثم اغتسلت عند سدرة المنتهى وإذا بهاتف يهتف بي : ليهنك بزيد ليهنك بزيد , قال : ثم استيقضت من منامي فقمت وصليت صلاة الفجر , فلما فرغت وإذا بالباب تطرق , ففتحتها , وإذا برجل ومعه جارية وهي متجلبة بجلبابها , فسلم علي وقال لي : أنا رسول
(1) في ص 124 من كتابه مقاتل الطالبين .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 168

المختار إليك وهو يقرؤك السلام ويقول : وقعت هذه الجارية عندنا فاشتريتها وأحببت أن أهديها لكم , ثم أمرت الجارية فدخلت الى الحرم وجلست مع نسائنا وانصرف ذلك الرجل , فأقبل عليها الامام وقال لها : ما اسمك ؟ قالت : حوراء , فعقد عليها وتزوجها فأولدها زيداً » .
وقال بن قولويه : روى بعض أصحابنا قال : كنت عند علي بن الحسين عليه السلام فكان إذا صلى الفجر لم يتكلم حتى تطلع الشمس , فجاءه ذات يوم مولود , فبشروه به بعد صلاة الصبح , قال : فالتفت الى أصحابه وقال: ما اسمي هذا المولود ؟ قال الراوي : فقال كل منهم سمه كذا وكذا , فقال علي بن الحسين عليه السلام : علي بالمصحف , فأتوا به إليه فقبله ووضعه في حجره ثم فتحه فنظر الى اول السطر من الصفحة اليمنى , وإذا قوله تعالى : «وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما» (1) ثم طبقه وفتحه فنظر فيه فإذا في أول الصفحة قوله «ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم» (2) , فقال عليه السلام , هو والله زيد فسمي زيداً » (3) .
وقال خالد مولى الزبير : دخلت يوماً على علي بن الحسين عليه السلام فدعا بولد زيد فجاء إليه وكان يومئذ صبياً , فأقبل إليه يمشي فكبا لوجهه , فقام علي بن الحسين عليه السلام وأخذه ووضعه في حجره وجعل يمسح وجهه وهو يقول : « اعيذك الله يابني أن تكون زيداً المصلوب بالكناسة , فمن نظر الى عورته متعمداً صلى الله وجهه النار » .
(1) سورة النساء من الآية 95 .
(2) سورة التوبة 111 .
(3) ولد زيد بن علي بن الحسين عليه السلام بالمدينة بعد طلوع الفجر سنة ست وستين أو سبع وستين من الهجرة , المجدي لأبي الحسن العمري النسّابة .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 169

قال الراوي : ودخل زيد يوماً على هشام بن عبدالمطلب , فقال له هشام : أنت المؤهل نفسك للخلافة ؟ وما أنت وذاك ؟ وإنما أنت ابن أمة , فقال زيد : إني لأعلم أحداً أحبه الله مثل إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن أمة , وما تنكر من ابن امة وجده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأبوه أمير المؤمنين .
ويروي في مروج الذهب أن قال له : إن الامّهات لا يقعدون بالرجال عن الغايات وقد كانت ام اسماعيل أمة لام إسحاق فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله نبياً وجعل للعرب أباً فأخرج من صلبه خير البشر محمد صلى الله عليه واله وسلم , فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وأبن علي عليهم السلام وقام وهو يقول :
شـرده الـخوف فأزرى به كذاك مـن يكره حر الجلاد
منخرق السربال يشكو الوجي تنكبه أطـراف سمـر حداد
قد كان فـي الموت له راحة والموت حتم في رقاب العباد
أن يحـدث الله لـه دولـة يترك آثـار العـدا كالرماد

ثم خرج من عنده وهو يقول : لم يكره قوم قط حر السيف إلا ذلّوا , فلما وصل إلى الكوفة اجتمع عليه أهلها فلم يزالوا به حتى بايعه مائة ألف سيف , فلما قام بالحرب ونادى بشعار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : يا منصور أمتك , نقضوا بيعته , فلما رأى ذلك قال : أين الذين بايعوني ؟ فعلوها حسينية ثم أنشأ يقول :
أذل الحياة وعز الممات وكـلاً أراه طـعاماً وبـبـلا
فإن كـان لابد من واحد فسيري إلى الموت سيراً جميلا

قال : واشتبك الحرب فاصيب زيد بسهم في جانب جبهته اليسرى , فنزل إلى دماغه فأقبل إليه ورده يحيى فانكب عليه , وقال له : ابشر فإنك ترد على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام , قال : قال : أجل أي بني وما تصنع من بعدي ؟ قال : اقاتلهم . فقال زيد : افعل يا بني فإنك على الحق وهم على الباطل , ثم إن يحيى نزع السهم من جبهة أبيه وخرج الدم كالميزاب , ثم خرجت
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 170

روحه , فحملوه الى بستان فيه نهر ماء فقطعوا الماء الذي يجري فيه , وحفروا له حفيرة في وسط النهر فدفنوه وأجروا الماء عليه , وكان معهم سندي فذهب الى يوسف بن عمرو الثقفي وأخبره , فجاء اللعين وأخرجه من قبره وصلبه في الكناسة بالكوفة , فمكث اربع سنين مصلوباً , حتى عشعشت الفاختة في جوفه , ونسج العنكبوت في جوفه على عورته .
ولما هلك هشام , كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف ابن عمرو , أما بعد : إذا أتاك كتابي هذا فاعمد الى عجل أهل الكوفة فاحرقه وأنسفه في اليم نسفاً (1) , فأنزله اللعين وأحرقه وذراه في الهواء .
قال حمزة بن عمران : دخلت على أبي عبدالله الصادق عليه السلام فقال لي : من أين أقبلت ؟ قلت : من الكوفة , فبكى بكاء شديداً وجرت دموعه على لحيته حتى ابتلّت , فقلت له : ما يبكيك يابن رسول الله ؟ قال : « ذكرت عمي زيداً » .
قلت : وما الذي أصاب جبهته , قال المرحوم الخطيب الشيخ يعقوب النجفي رحمه الله :
يبـكي الامام لـزيد حين يذكره وإن زيداً بسهم واحداً ضربا
فكيف حال علي بن الحسين وقد رأى أباه لنبل القوم قد نصبا

وكان الصادق عليه السلام كلما ذكر السهم يبكي .
أقول : ما يصنع حين يذكر السهم الذي وقع في قلب جده الحسين عليه السلام يوم عاشوراء وكلما عالج أراد أن ينتزعه من موضعه ما تمكن , انحنى على قربوس سرج فرسه وقائلاً : « بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله » فاستخرج السهم من قفاه وسال الدم كالميزاب , خرّ صريعاً الى الأرض :
سهم أصابك يابن بنت محمد قلباً أصاب لفاطم وفؤادا
(1) انظر مقاتل الطالبين : 139 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 171



المطلب الثالث والثلاثون

في بقية قضية زيد بن علي بن الحسين عليه السلام

ذكر صاحب المقاتل : أنه لما قتل زيد بن علي بن الحسين عليه السلام ودفنه ابنه يحيى في النهر , وأجرى عليه الماء , استخرجه يوسف بن عمرو بعد الدفن وقطع رأسه وبعث برأسه وبرؤوس أصحابه الى هاشم بن عبدالملك مع زهير بن سليم , ودفع هشام لمن أتاه بالرأس عشرة دراهم ونصبه على باب دمشق .
ويروى أنه ألقى الرأس أمامه فأقبل الديك ينقر رأسه فقال بعض من حضر من الشاميين :
اطردوا الديك عن ذوابة زيد فلقد كان لا يطاه الدجاج

قال الراوي : وبعث هشام بالرأس من الشام الى مدينة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فنصب عند قبر النبي صلى الله عليه واله وسلم يوماً وليلة , وكان العامل على المدينة محمد بن إبراهيم بن هشام المخزومي , فتكلم معه ناس من أهل المدينة أن ينزله , فأبى إلا ذلك , فضجت المدينة بالبكاء من دور بني هاشم , وكان كيوم الحسين عليه السلام , ونظر الى الرأس كثير بن المطلب السهمي فبكى وقال : نظر الله وجهك أبا الحسين , وقتل قاتليك , وكان كثير يميل الى بني هاشم لأن ام أبيه المطلب أروى بنت عبدالمطلب ابن هاشم بن عبد مناف , فقال له الوالي : بلغني عنك كذا وكذا ؟ قال : هو كما بلغك , فحبسه , وكتب الى هشام بن عبدالملك يخبره , فقال كثير وهو في الحبس :
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 172

إن امرءاً كانت مساويه حـب النـبي لغير ذي ذنـب
وكذا بنـي حسن والدهم من طاب في الارحام والصلب
ويرون ذنـباً إن أحبكم بـل حبـكـم كفـارة الـذنب

وحدث عيسى بن سوادة قال : كنت بالمدينة لما جيء برأس زيد ونصب في مؤخر المسجد على رأس رمح , وأمر الوالي فنودي في المدينة برأت الذمة من رجل بلغ الحلم لم يحضر المسجد , فحضر الناس الغرباء وغيرهم ولبثوا سبعة أيام كل يوم يخرج الوالي فيقوم الخطباء من الرؤساء فيلعنون علياً والحسين وزيداً وأشياعهم , فإذا فرغوا قام القبائل عربيهم وأعجميهم , وكان بني عثمان أول من قام الى ذلك , حتى إذا صلى الظهر وانصرف وعاد بالغد مثلها سبعة أيام , وقام رجل من قريش يقال له : محمد بن صفوان الجمحي فأمره الوالي بالجلوس , ثم عاد من غير أن يدعى فقال له الوالي : اقعد , فقال : إن هذا مقام يقدر عليه أحد , فإذن له الوالي بالكلام , فأخذ في خطبته فلعن علياً وأهل بيته والحسين وزيداً ومن يحبهم , فبينا هو كذلك إذ وضع يده على رأسه ووقع على الأرض , فظننا أن خطبته انتقضت فتبيناه وإذا به يصيح من رأسه , ولم يزل كذلك حتى ذهب بصره .
قال الراوي : ثم سير الرأس الشريف الى مصر , فنصب بالجامع فسرقه أهل مصر ودفنوه في مسجد محرس , قال الكندي : قدموا بالرأس الى مصر سنة اثنتين وعشرين ومائة يوم الأحد لعشر خلون من جمادي الآخرة , واجتمع عليه الناس في المسجد , ودفن في مصر وهو مشهد صحيح لأنه طيف به بمصر ثم نصب على المنبر بالجامع سنة أثنتين وعشرين ومائة .
ويحدث ابن عبد الظاهر أن الأفضل أمير الجيوش لما بلغته حكاية رأس زيد بن علي عليه السلام أمر بكشف المسجد , وكان وسط الأكوام ولم يبق من معالمه إلا محرابه , فوجد هذا العضو الشريف .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 173

وذكر خطيب مصر أبوالفتوح ناصر الزيدي وكان من جملة من حضر الكشف أنه رأى في جبهة زيد أثراً في سعة الدرهم , قال : فضمخ وعطر وحمل الى داره حتى عمر هذا المشهد .
قال صاحب العطر الشاهد : يزار مشهد زيد بمصر يوم الاحد من كل اسبوع يقصده عامة الناس ليلاً ونهاراً , وله مولد في كل عام يحضره الناس والظاهر أنما يزار في كل أحد لأنه كان الكشف عليه يوم الأحد تاسع عشر من ربيع الأول سنة خمس وعشرين وخمسمائة , وكان زيد عليه السلام من اباة الضيم (1) , قال الكواز رحمه الله /
وزيد قد كان الإباء سجية لآبائه الغر الكرام الأطايب
(1) (فائدة) قال الراوي : وبينا زيد يقاتل أصحاب يوسف بن عمرة إذ انفصل رجل من كلب على فرس له رائع , وصار من قرب من زيد فشتم الزهراء فاطمة , فغضب يزيد , وبكى حتى ابتلت لحيته , والتفت الى من معه , وقال : أما أحد يغضب لفاطمة ؟ أما أحد يغضب لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم ؟ أما أحد يغضب لله ؟ قال سعيد بن خيثم : أتيت الى مولى لي كان معه مشمل (المشمل كمنبر سيف قصير يتغطى به تحت الثوب) فأخذته منه وتسترت خلف النظارة والناس يومئذ فرقتين مقاتلة ونظارة ثم صرت وراء الكلبي وقد تحول من فرسه وركب بغلة فضربته في عنقه فرقع راسه بين يدي البغلة وشد أصحابه علي وكادوا يرهقوني , فلما رأى أصحابنا ذلك كبروا وحملوا عليهم واستنقذوني , فركبت البغلة وأتيت زيداً فقبل بين عيني , وقال : أدركت والله ثارنا , ادركت والله شرف الدنيا والآخرة وذخرهما , ثم أعطاني البغلة .
(فائدة) : قال أرباب التاريخ : ولما جن الليل من ليلة الجمعة الثالثة من صفر سنة مائة وإحدى وعشرين , رمى زيد بسهم غرب أصاب جبهته ووصل الى الدماغ , وكان الرامي له مملوك ليوسف بن عمرو اسمه راشد ويقال من أصحابه اسمه داود بن كيسان !
(فائدة) : ولما اصيب زيد عليه السلام بالسهم فجاء أصحابه إليه وأدخلوه بيت حران كريمة مولى بعض العرب في سكة البريد في دور أرحب وشاكر وجاؤا إليه بطبيب يقال له شقير , وفي مقاتل الطالبيين اسمه سفيان , فقال له الطبيب: إن نزعته من رأسك مت , فقال : الموت أهون علي مما أنا فيه , فأخذ الكلبتين فانتزعه , وفي ذلك الحين مات رضوان الله عليه .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الثاني 174

كـأن علـيه ألقـى الشــبح الذي تـشكل فـيه شـبه عيسى لصالب
فقل للذي أخـفى عن العـين قبره متى خفيت شمس الضحى بالغياهب
ولو لم تنمّ الـقوم فيه الى الـعدى عليه لنمت عليه واضحات المناقب
كأن الـسما والأرض فيه تنـافسا فنـال الفـضا عفواً سنى الرغائب
عجبت وما إحدى العجائب فاجئت بمقـتل زيـد بـل جميع العجائب

وقال أحمد بك شوقي أمير الشعراء من مقصورة له :
وثار لثـارات زيد بن علي ابن الحسين بـن الوصـي المرتضى
يطلب بالـحجة حـق بيته والحـق لا يـطـلــب إلا بالـقنا
فتـى بلا رأي ولا تجربة جرى علـيه مـن هشـام وما جرى
اتخذ الـكوفة درعـاً وقناً والإعزل الأكشـف مـن فيها احتمى
من تكفه الكوفة يـعلم أنها لا نـصر عـند أهـلـها ولا غـنى
سائل علياً فهو ذو علم بها واسـتخبر الحـسين تعــلم النـبا
فمات مقتولاً وطال صلبه وأحـرقـت جثـته بعــد الـبـلا
* * *
أبـادوهم قتـلاً وسمّاً ومـثله كأن رسول الله ليس لـهم أب
كأن رسول الله من حكم شرعه على آله أن يقتلوا أو يـصلبوا
* * *
فما بين مسموم ومشرد وبين قتيل بالدماء مخلق

فالقتيل الذي صار دماؤه خلوقا له بل غسلاً له هو سيد شباب أهل الجنة أبو عبدالله الحسين عليه السلام , قال الشريف الرضي رحمه الله :
غسلته دماؤه قلّبته أرجل الخيل كفنته الرمول

السابق السابق الفهرس