زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 119

إنّ مروان لا يَعلم بأنّ المهر شرطٌ في الزواج ، وأن «لا زواجَ بلا مهر» بصَرف النظر عن طرَفي النكاح ـ وهما : الزوج والزوجة ـ وشؤونهما ، سواءً كان أحد الطرفين وضيعاً أو شريفاً ، غنيّاً أو فقيراً .
فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو أشرف الكائنات وأفضل المخلوقين ، وسيد الأنبياء والمرسلين ـ والذي كانت إحدى نَعليه أشرف من جميع بني أميّة قاطبة ـ قد أمهر نساءه ، ولكن مروان يقول : والعجب كيف يُطلب المهر من يزيد ؟
ويتجاوز مروان حدود الصلافة والكذب ويقول : «إنّ يزيد كفوُ مَن لا كفوَ له» أي : انّ يزيد يُعتبر كُفواً ونظيراً لطائفة خاصّة من الناس ، وطبقة عالية وراقية من المجتمع ، وهم العظماء والأشراف الذين ليس لهم نظير يُماثلهم في الشرف ويُساويهم في العظمة ، فإن يزيد كُفوهم ونظيرهم في المجد والشرف .
ويُجيبه الإمام الحسين (عليه السلام) : وأمّا قولك : «إنّ يزيد كفوُ من لا كفو له» فمن كان كفوه قبل اليوم فهو كفوه اليوم ، ما زادته إمارته في الكفاءة شيئاً .
يقول الإمام (عليه السلام) : إنّ يزيد الذي هو حفيد أبي سفيان شيخ المنافقين ، وحصيلة هند : آكلة الأكباد ، وثمرة حمامة : ذات العلم ، وابن معاوية : فرع الشجرة الملعونة في القرآن ، وابن ميسون النصرانية ، كلّ مَن كان كفوه ـ أي : نظيره ومَثيله ومُساويه ـ قبلَ اليوم .. فهو كفوه اليوم أيضاً . إن يزيد هوَ هو ، لم تتغيّر ماهيّته ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 120

ولم تتبدّل هويّته ، بل حاضره مثل ماضيه ، ولاحقُه مثل سابقه ، والإمارة المُغتصبة التي تقمّصها ما زادته إلا زوراً وبُهتاناً .
وأمّا قولك : «بوجهه يُستسقى الغمام» ، فإنّما كان ذلك بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
أقول : الوجه والجاه : القدر والمنزلة . وقد كان المسلمون ـ فيما مضى ـ إذا قلّت عندهم الأمطار يخرجون إلى الصحراء لصلاة الإستسقاء ، ويسألون من الله تعالى أن يَسقيهم المطر ، ولا شك أنّ الذي يتقدّم الناس ويدعو الله تعالى ينبغي أن يكون وجيهاً ، بأن يكون له قدر ومنزلة عند الله (عزّ وجل) .
ولهذا كان الأنبياء يتقدّمون في صلاة الإستسقاء ، ويدعون الله تعالى فيستجيب لهم ، وهكذا نبيّنا وبعض أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) سألوا الله تعالى أن يسقيهم المطر ، فاستجاب الله دعاءهم لمنزلتهم وقدرهم عند الله سبحانه .
وقد قال سيدنا أبو طالب (عليه السلام) ـ في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ :
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى ، عصمةً للأرامل(1)

وقد تكرّر من رسول الله الإستسقاء ، فاستجاب الله دعاءه

(1) المصدر : (مناقب آل أبي طالب) لابن شهر آشوب ، ج 1 ص 23 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 121

وأرسل غيثاً مدراراً ، كل ذلك كرامة لوجه رسول الله وجاهه ومنزلته العظيمة عند الله سبحانه ، ولكن مروان يقول : «بوجه يزيد يُستسقى الغمام !!» .
وأنا أقول : نعم ، بوجهه يُستسقى الغمام ، لفجوره وخموره ، وقماره ومنكراته ، وموبقاته ومخازيه ، وجرائمه ونسبه . وبهذه الفضائل !! يُستسقى بوجهه الغمام !!
اليس هكذا ؟!
«واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبط يزيد بكم » . يقول هذا الأحمق : إنّ الذين يتمنّون أن يخطب يزيد منهم ، أكثر مِن الذين يتمنّون أن يخطبوا منكم فتياتكم !!
إنّ مروان اللعين يريد أن يقول : إنكم تزدادون شرفاً بهذه المصاهرة ، وأمّا يزيد فإنّه لا يزداد شرفاً بها ، لأنّه أرفع منزلةً وأعلى قدراً مِن أن يتشرّف بهذه المصاهرة .
إقرأ كلامه واضحك !
فأجابه الإمام : وأمّا قولك : «مَن يغبطنا به أكثر ممّن يغبطه بنا ، فإنّما يَغبطنا به أهل الجهل ، ويغبطه بنا أهل العقل» .
ومعنى كلام الإمام : أنّ الذين يجهلون القيم الإنسانية ، والمفاهيم الدينية هم الذين يتمنّون أن يخطب يزيد منهم ، لأنهم ينظرون إلى ما يتمتّع به يزيد من متاع الدنيا والرفاه والرخاء .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 122

وأمّا العقلاء ، الذين يفهمون المقاييس الأخلاقية ، والقيم الروحيّة ، فهم يتمنّون أن يخطبوا منّا فتياتنا ، لأنّنا في أوج العظمة ، وذروة الشرف ، وقمّة الفضائل .
ثم قال الإمام ـ بعد كلام ـ : «إشهدوا جميعاً أنّي قد زوّجت أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر من ابن عمّها القاسم بن محمد بن جعفر ، على أربعمائة وثمانين درهماً ، وقد نحلتها ضيعتي(1) بالمدينة(2) وإنّ غَلّتها في السنة(3) ثمانية آلاف دينار ، ففيها لهما غنى إن شاء الله» .
أقول : قد اشتهر ـ في ذلك الزمان ـ كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : «بناتُنا لبنينا ، وبنونا لبناتنا» ، ومَن أولى من الإمام الحسين بتطبيق هذا الكلام ؟ . وقد سبقه إلى ذلك أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما زوّج ابنته زينب الكبرى من ابن عمّها عبد الله بن جعفر .
ولهذا بادر الإمام الحسين (عليه السلام) إلى تزويج إبنة أخته من ابن عمّها ، وقد دفع الصداق من ماله ، وأمّن حياتهما

(1) نحلتها : أعطيتها . ضَيعَتي : مزرعتي أو بستاني .
(2) أو قال : أرضي بالعقيق ، والعقيق : اسم منطقة في ضواحي المدينة .
(3) غلّتها : وارِدها . قال الطريحي ـ في مجمع البحرين ـ : الغلّة : الدخل الذي يحصل من الزرع والتمر واللبن والإجارة والبناء ونحو ذلك ، وجمعُه : الغلات .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 123

الاقتصادية بتلك المزرعة ، الكثيرة البركة ، التي وهبها لها .
فتغيّر وجه مروان ، وقال : «أغدراً يا بني هاشم ؟ تأبون إلا العداوة ؟» .
إنّ هذا العدو الغادر ينسب الغدر والعداوة إلى آل رسول الله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .
فقال مروان :
أردنـا صهركم لِنُجِدّ وُدّاً قـد اخلقه به حدث الزمان
فلمّـا جئتكـم فجَبَهتموني و بُحتم بالضمير من الشنان

وهنا .. ما أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يستمرّ في محاورة ذلك الحقير ، وأن يُلقم مروان الحجر أكثر من هذا ، فتقدّم ذكوان(1) وأجاب مروان :
أمـاط الله عنهم كـل رجـسٍ و طهّرهـم بـذلك فـي المثاني
فمـا لهم سـواهم مـن نظيـر و لا كفـوٌ هنـاك و لا مُدانـي
أيجعـل كـلّ جبـارٍ عنيدٍ(2) إلى الأخيار من أهل الجنان ؟(3)

(1) ذكوان : اسم رجل .. كان عبداً للإمام الحسين (عليه السلام) ثمّ أعتقه الإمام . وكان عالماً شاعراً أديباً ، جريئاً على الكلام . المحقق
(2) وفي نسخةٍ : أتجعل . ولعل الصحيح : أيُجعل ، أو : أيَجعل . المحقق
(3) المصدر : كتاب المناقب لابن شهرآشوب ، ج 4 ص 38 ـ 39 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 124

أقول : لقد روى الشيخ المجلسـي (رحمة الله عليه) هذا الخبر في كتاب (بحار الأنوار) عن بعض الكتب القديمة ، ونسبه إلى الإمام الحسـن المجتبـى (عليه السلام)(1). وليس بصحيح ، لأن إمارة يزيد كانت بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهذه الخطبة كانت في أيّام إمارة يزيد وكونه وليّاً للعهد .


(1) بحار الأنوار ، ج 44 ص 119 ، باب 21 ، حديث 13 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 125

الفصل الخامس

  • إستعراض موجَز لحياة السيدة زينب الكبرى


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 126




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 127

    بمقدار ما كانت حياة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) مشفوعة بالقداسة والنزاهة ، والعفاف والتقوى ، والشرف والمجد ، كانت مليئة بالحوادث والمآسي والرزايا ، منذ نعومة أظفارها وصِغر سنّها إلى أواخر حياتها .
    فلقد فُجعت بجدّها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان لها من العمر ـ يومذاك ـ حوالي خمس سنوات ، ولكنّها كانت تُدرك هول الفاجعة ومُضاعفاتها .
    ومن ذلك اليوم تغيّرت معالم الحياة في بيتها ، وخيّمت الهموم والغموم على أسرتها ، فقد هجم رجال السقيفة على دارها لإخراج أبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من البيت لأخذ البيعة منه ، بعد أن أحرقوا باب الدار وكادوا أن يُحرقوا الدار بمَن فيها .
    وقد ذكرنا في كتاب : (فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد) شيئاً من تلك المصائب التي انصبّت على السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الضرب المبرّح وإسقاط الجنين ، وغير ذلك ممّا

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 128

    يطول الكلام بذكره .
    وكانت جميع تلك الحوادث بمرأى من السيدة زينب ومَسمَع ، فلقد سمعت صراخ أمّها من بين الحائط والباب ، وشاهدت الأعداء الذين أحاطوا بها يضربونها بالسوط والسيف المغمَد ، وغير ذلك ممّا أدّى إلى إسقاط إبنها المحسن ، وكسر الضلع ، وتورّم العضُد الذي بقي أثره إلى آخر حياتها .
    و ـ بعد شهور ـ فُجعت السيدة زينب بوفاة أمّها (سلام الله عليها) وهي في رَيَعان شبابها ، لأنّها لم تبلغ العشرين من العمر ، ودُفنت ليلاً وسرّاً ، في جوّ من الكتمان ، وعُفّي موضع قبرها إلى هذا اليوم .
    ومنذ ذلك الوقت كانت السيدة زينب ترى أباها أمير المؤمنين (عليه السلام) جليس الدار ، مسلوب الإمكانيات ، مدفوعاً عن حقّه ، صابراً على طول المدة وشدّة المحنة .
    وبعد خمس وعشرين سنة ـ وبعد مقتل عثمان ـ أكرهوه أن يوافق على بيعة الناس له ، فبايعوه بالطوع والرغبة ، وبلا إجبار أو إكراه من أحد ، وكان أول من بايعه : الطلحة والزبير ، وكانا أوّل مَن نكث البيعة ونقض العهد ، والتحقا في مكّة بعائشة ، وحرجوا طالبين بدم عثمان ، وقادا الناكثين (للبيعة) من المناوئين للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقصدا البصرة وأقاما مجزرة رهيبة ـ في واقعة الجمل المعروفة ـ وكانت حصيلتها خمسة وعشرين ألف قتيل .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 129

    وبعد فترة قصيرة أقام معاوية واقعة صفّين ، وقاد القاسطين ، واشتدّ القتال وكاد نسل العرب أن ينقطع من كثرة القتلى ، وتوقّف القتال لأسباب معروفة مفصّلة .
    ثمّ أعقبتها واقعة النهروان التي قُتل فيها أربعة آلاف .
    وتُعتبر هذه الحروب من أهمّ الإضطرابات الداخلية في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .
    وانتهت تلك الأيام المؤلمة بشهادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومَقتله على يد عبد الرحمن ابن ملجم !
    ولمّا قام اخوها : الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) بأعباء الإمامة تخاذل بعض أصحابه في حربه مع معاوية ، وصدرت منهم الخيانة العظمى التي بقيت وصمة عارها إلى هذا اليوم ، فاضطرّ الإمام الحسن (عليه السلام) إلى إيقاف القتال حِقناً لدماء مَن بقي من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
    وخلا الجوّ لمعاوية بن أبي سفيان وعُملائه ، وظهر منهم أشدّ أنواع العداء المكشوف للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وسنّ معاوية لعن الإمام على المنابر في البلاد الاسلامية ، وأمر باختلاق الأحاديث في ذمّ الإمام والمسّ بكرامته .
    كلّ ذلك بمرأى من السيدة زينب ومسمع .
    وطالت مدّة الإضطهاد عشر سنين ، وانتهت إلى دسّ السمّ إلى

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 130

    الإمام الحسن (عليه السلام) بمكيدة من معاوية ، وقضى الإمام نحبه مسموماً ، ورشقوا جنازته بالسهام حتى لا يدفن عند قبر جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .(1)
    وهكذا امتدّت سنوات الكبت والضغط ، وبلغ الظلم الأموي القمّة ، وتجاوز حدود القساوة ، وانصبّت المصائب على الشيعة في كلّ مكان ، بكيفيّة لا مثيل لها في التاريخ الإسلامي يومذاك ، مِن قطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلب الأجساد ، وأمثال ذلك من الأعمال الوحشيّة البربريّة !(2)
    وعاصر الإمام الحسين (عليه السلام) تلك السنوات السود التي انتهت بموت معاوية واستيلاء إبنه يزيد على منصّة الحكم .
    هذه عُصارة الخلاصة للجانب المأساوي في حياة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) المليء بالكوارث والحوادث ، طيلة نيّف وأربعين سنة من عمرها .
    وأعظم حادثة ، وأهمّ فاجعة حدثت في حياة السيدة زينب هي فاجعة كربلاء التي أنست ما قبلها من الرزايا ، وهوّنت ما بعدها من الحوادث والفجائع .

    (1) كتاب المناقب ، لابن شهرآشوب ج 4 ، ص 42 و44 .
    (2) كتاب سُليم بن قيس الهلالي ، طبع بيروت ، مؤسسة البعثة ، ص 165 ـ 166 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 131


    الفصل السادس

  • السيدة زينب وفاجعة كربلاء
  • مجيء إبن زياد إلى الكوفة
  • يوم التروية
  • الإمام الحسين يصطحب العائلة
  • الإمام الحسين في طريق الكوفة


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 132




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 133

    السيدة زينب وفاجعة كربلاء


    لا بدّ مِن أن نبدأ من أوائل الواقعة ، مع رعاية الإختصار ، ليكون القارئ على بصيرة أكثر من الأمر :
    مات معاوية بن أبي سفيان في النصف من شهر رجب ، سنة 60 من الهجرة ، وجلس ابنه يزيد على منصّة الحكم ، وكتب إلى الولاة في البلاد الاسلامية(1) يُخبرهم بموت معاوية ، ويطلب منهم أخذ البيعة له من الناس .
    وكتب إلى والي المدينة كتاباً يأمره بأخذ البيعة له من أهل المدينة بصورة عامّة ، ومن الإمام الحسين (عليه السلام) بصورة خاصّة ، وإن امتنع الإمام عن البيعة يلزم قتله ، وعلى الوالي تنفيذ الحُكم .
    واستطاع الإمام الحسين أن يتخلّص مِن شرّ تلك البيعة ،

    (1) الوُلاة ـ جمع والي ـ : وهو حاكم البلد ، ويُعبّر عنه ـ حالياً ـ بالمحافظ .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 134

    وخرج إلى مكة في أواخر شهر رجب ، وانتشر الخبر في المدينة المنوّرة أن الإمام امتنع عن البيعة ليزيد . وانتشر الخبر ـ أيضاً ـ في مكة ، ووصل الخبر إلى الكوفة والبصرة .
    وكانت رحلة الإمام الحسين إلى مكة بداية نهضته (عليه السلام) ، وإعلاناً واعلاما صريحاً بعدم اعترافه بشرعيّة خلافة يزيد ، واغتصاب ذلك المنصب الخطير .
    وهكذا استنكف المسلمون أن يدخلوا تحت قيادة رجل فاسد فاسق ، مُستهتر مفتضح ، متجاهر بالمنكرات .
    فجعل أهل العراق يكاتبون الإمام الحسين (عليه السلام) ويطلبون منه التوجّه إلى العراق ليُنقذهم من ذلك النظام الفاسد ، الذي غيّر سيماء الخلافة الإسلامية بأبشع صورة وأقبح كيفيّة !
    كانت الرسل والمراسلات متواصلة بين الكوفة ومكة ، ويزداد الناس إصراراً وإلحاحاً على الإمام الحسين أن يُلبّي طلبهم ، لأنه الخليفة الشرعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنصوص عليه بالخلافة من جدّه الرسول الكريم .
    فأرسل الإمام الحسين (عليه السلام) إبنَ عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، والتفّ الناس حول مسلم ، وبايعوه لأنّه سفير الإمام ومبعوثه ، وبلغ عدد الذين بايعوه ثمانية عشر ألفاً ، وقيل : أكثر مِن

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 135

    ذلك . فكتب مسلم إلى الإمام يُخبره باستعداد الناس للتجاوب معه ، والترحيب به ونصرته ـ كما فهمه مسلم مِن ظواهر الأمور ـ .
    وقرّر الإمام أن يخرج من مكة نحو العراق مع عائلته المصونة وإخوته وأخواته ، وأولاده وأبناء عمّه وجماعة مِن أصحابه وغيرهم .
    وخاصّة بعدما عَلِم بأنّ يزيد قد بعث عصابة مسلّحة ، مؤلّفة من ثلاثين رجل ، وأمرهم بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة ، أينما وجدوه .. حتى لو كان مُتعلّقاً بأستار الكعبة !


    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 136




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 137

    مجيء ابن زياد الى الكوفة


    وجاء عبيد الله بن زياد ابن أبيه من البصرة الى الكوفة والياً عليها من قِبل يزيد بن معاوية ، وجعل يهدّد الناس بجيش موهوم ، قادم من الشام .
    واجتمع حوله الذين كانوا لا يتعاطفون مع الإمام الحسين ، وجعل ابن زياد يُفرّق الناس عن مسلم بالتهديد والتطميع ، فانفرج الناس عن مسلم ، وتفرّقوا عنه .
    وفي اليوم الذي خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة نحو العراق كانت الأمور منقلبة ضدّ مسلم في الكوفة ، وأخيراً أُلقي عليه القبض وقُتل (رضوان الله عليه) .
    وفي أثناء الطريق بلغ خبر شهادة مسلم إلى الإمام الحسين ، فكانت صدمة على قلبه الشريف .
    ولا نعلم ـ بالضبط ـ هل رافقت السيدة زينب الكبرى عائلة

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 138

    أخيها من المدينة ؟ أم أنّها التَحقت به بعد ذلك ؟
    وخَفيت علينا كيفيّة خروجها من المدينة المنوّرة إلى مكّة ، ولكنّنا نعلم أنّها كانت مع عائلة أخيها حين الخروج من مكّة ، وفي اثناء الطريق نحو الكوفة ، وعاشت أحداث الطريق من لقاء الحرّ بن يزيد الرياحي بالإمام ، ومُحاولته إلقاء القبض على الإمام في أثناء الطريق وتسليمه إلى عبيد الله بن زياد .
    وإلى أن وصلوا إلى كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم ، ونزل الإمام ومَن معه ، ونَصَبوا الخيام ينتظرون المُقدّرات والحوادث .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 139

    يوم التروية


    يوم التروية : هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة(1) ، وهو اليوم الذي يزدحم فيه الحُجّاج في بلدة مكة المكرمة ، فالقوافل تدخل مكّة من جميع أبوابها .
    وطائفة من الحجاج يخرجون في هذا اليوم إلى منى ويبيتون فيها ليلة واحدة ، فإذا أصبح الصباح من يوم عرفة ـ وهو اليوم التاسع ـ يخرجون إلى أرض عرفات .
    وبعضهم يبقى في مكة حتى يوم عرفة ، ثم يخرج إلى عرفات ، إستعداداً لأداء مناسك الحجّ .

    (1) التروية : روّى تَرويةً : تزوّد بالماء . وقد جاء في الحديث أنّه سُئل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن سبب تسمية اليوم الثامن بيوم التروية ؟ فقال : «لأنّه لم يكن بعرفات ماء وكانوا يستقون من مكّة من الماء لِرَيّهم ، وكان يقول بعضهم لبعض : تروّيتم .. تروّيتم ؟؟ فسُمّي يوم التروية لذلك» . رواه الشيخ الصدوق في كتاب «علل الشرائع» ج 2 ص 141 ، باب 171 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 140

    في هذا اليوم الذي كانت مكة تموج بالحجّاج ، خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكّة ، بجميع من معه من الأهل والأولاد والأصحاب .
    إذن ، فمِن الطبيعي أن تكون مغادرة الإمام الحسين من مكة ـ في هذا اليوم ـ تجلب إنتباه الحجّاج ، وتدعو للتساؤل ، وخاصّةً بعد أن علموا بأنّ الإمام مكث في مكّة .. طيلة أربعة أشهر ، فما الذي دعاه أن يُغادر مكّة في هذا اليوم الذي يقصد الحجاج مكة لأداء المناسك الحج ؟!
    وما المانع من أن يبقى الإمام أياماً قلائل لإتمام حجّة ، ثم مغادرة مكة ؟
    والإمام الحسين (عليه السلام) أولى من غيره بأداء الحج ورعاية هذه الأمور !
    فلا عجب إذا تقدّم إليه بعض الناس يعترضون عليه ويسألونه عن سبب خروجه من مكة في هذا اليوم ، فكان الإمام يُجيب كلّ واحد منهم بما يُناسب مستواه الفكري والعقلي .
    إنّ هناك دواع ودوافع وأسباباً كثيرة اجتمعت ، وفرضت على الإمام أن يخرج من مكة في ذلك اليوم ، ونسأل الله تعالى أن يوفّقنا لذكر بعضها في كتاب (الإمام الحسين من المهد الى اللحد) إن شاء الله تعالى .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 141

    ومِن جملة الذين تقدّموا إلى الإمام وسألوه عن سبب خروجه هو عبد الله بن جعفر زوج السيدة زينب الكبرى .
    فإنّه حاول ـ حسب تفكيره ـ أن يَردّ الإمام عن مغادرة مكّة نحو العراق ، ولكن الإمام قال له : «إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام ، وأمرني بما أنا ماضٍ له» .
    فقال له : فما تلك الرؤيا ؟
    قال : «ما حدّثت أحداً بها ، ولا أنا مُحدّثٌ بها حتى ألقى ربّي»(1).
    فلمّا يئس منه عبد الله بن جعفر أمر إبنَيه عوناً ومحمّداً بمرافقة الإمام ، والمسير معه ، والجهاد دونه .(2)
    وفي كتاب «المنتخب» للطُريحي أن محمد بن الحنفية لمّا بلغه الخبر أن أخاه الإمام الحسين خارج من مكة إلى العراق ، جاءه وأخذ بزمام ناقته وقد ركبها ، وقال له :
    يا أخي ! ألم تَعِدني النظر فيما سألتك ؟
    قال : بلى .

    (1) كتاب الإرشاد للشيخ المفيد ، ص 219 فصل «خروج الإمام الحسين مِن مكة» ، وبحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 44 ص 366 ، باب 37 .
    (2) نفس المصدر .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 142

    قال : فما حمَلَك على الخروج عاجلاً ؟
    فقال : قد أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما فارقتُك وقال :
    «يا حسين أُخرج إلى العراق فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً مُخضّباً بدمائك» .
    فقال محمد : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فإذا علمتَ أنّك مقتول فما معنى حَملك هؤلاء النساء معَك ؟
    فقال : لقد قال لي جدّي :
    «إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا ، وهنّ أيضاً لا يُفارقنَني ما دُمت حيّا(1)»(2).

    (1) المنتخب للطريحي المتوفّى عام 1085 هـ ، ج 2 ص 424 المجلس التاسع ، وروي هذا الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب بحار الأنوار للمجلسي ج 44 ص 364 باب 37 .
    (2) هناك فرقٌ بين كلمة «شاءَ» وكلمة «أرادَ» ، فكلمة «شاءَ» تُستَعمَل ـ أساساً ـ في موارد معيّنة ، وتدلّ على معنى قريبٍ من معنى «أراد» . ولكن تختلف الموارد حسب الحالات المختلفة للإستعمال .
    بعد هذا التمهيد نقول :
    إنّ تأثير الإنسان في فعل الغَير هو على نوعين :

    السابق السابق الفهرس التالي التالي