زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 143




= النوع الأول : الموارد التي تُسلب فيها مسؤولية وقوع الفِعل عن ذلك الفاعل المباشر للفعل .. لأنّ ذلك الفعل حَصَلَ ووَقَع من غير إرادة منه .
مثال ذلك : أن يُربّط «زيد» «عمرواً» ثم يَرميه على رَقَبة «خالد» فيكسرها . فنلاحظ في هذا المثال أنّ الكاسر المباشر لرقبة خالد هو عمرو ، ولكنه غير مسؤول عن ذلك الكسر ، لأنّه كان بمنزلة الأداة فقط .. لا أكثر ! بل المسؤول : هو «زيد» الذي قام بربط «عمرو» وألقاه على رقبة خالد .
وهذا النوع من التأثير هو الذي يُعبّر عنه بـ «الإرادة» ، لأنّ «زيد» أراد كسر رقبة خالد .. بهذه الكيفية .
النوع الثاني : الموارد التي لا تُسلَب مسؤولية وقع الفعل عن ذلك الفاعل المباشر للفعل .
مثال ذلك : أن يُعطي «زيد» قِنّينة خمر بيد خالد ، ويقول له : إذهب بهذه القنينة إلى المَزبَلة وفرّغها هناك ، ثم إغسل القنّينة جيّداً وجئني بها ، واعلم ـ يا خالد ـ أنّ السائل الموجود في القنينة هو خمرٌ محرّم .. وليس عصير فواكه ، فاحذر من أن تشربه !
فيذهب خالد بالقنينة إلى مكان لا يراه أحد ويشرب السائل بدلاً من أن يُريقه في المزبلة ، من دون أن يُبالي إلى نصيحة
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 144




= «زيد» ـ الذي يَعلم صِدق كلامه ـ ، ثمّ يغسل خالد فمه ويَغسل القنينة ، ويرجع بها إلى «زيد» .
وهنا ـ يا تُرى ـ هل المسؤول عن شرب الخمر هو «زيد» أم خالد ؟!
الجواب : من الثابت أنّ المسؤول هو «خالد» وإن كان «زيد» مؤثّراً في فعل «خالد» . حيث إنّه كان يعلم ـ مسبقاً ـ أنّ خالداً سوف يشرب الخمر ، لعدم إلتزامه بالدين ، ولكنّ زيد قَدّم له النصائح الكافية والتحذير اللازم ، والإرشادات المُقنعة بأضرار شرب الخمر ومضاعفات ذلك .
وفي هذا النوع الثاني .. يُعبّر عن هذا التأثير بـ «المَشيئة» ويُعبّر عن نيّة «زيد» بـ «شاء» .
وقد جاء ـ في القرآن الكريم ـ نسبة «المشيئة» إلى الله سبحانه ، مثل قوله تعالى «يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء» (سورة النحل ، الآية 93) أي : يؤثّر في إضلال بعض الناس ، ولكن .. لا بكيفيّة تُسلب عنهم المسؤولية ، بل بِجعلهم مُخيّرين في إنتخاب الهدى أو الضلال .
ولذلك تجدُ أنّ المسلمين جميعاً يُكرّرون ـ في صلواتهم ـ جُملة «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد» عند القيام من السجود الثاني أو التشهّد الأول . وهذا يوضّح المعنى ، فأنا
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 145




= (الإنسان) أقوم وأقعد .. ولكن بفضل القوة الالهية التي جعلها في جسم البشر جميعاً . ولو أراد الله أن يقطع هذه القوة لَفَعَل ولتحقّق ذلك ، ولكنّه شاء أن تبقى هذه القوة موجودة إلى أجل مُعيّن .
ولمزيد من التوضيح .. نذكر هذا المثال الثالث : قال الله تعالى ـ في القرآن الكريم ـ : «ولو شاء الله ما اقتَتَل الذين من بعدهم ـ من بعد ما جاءتهم البيّنات ـ ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، ولو شاء الله ما اقتَتَلوا ، ولكنّ الله يفعل ما يريد» (سورة البقرة ، الآية 253) . وهنا سؤال قد يتبادر إلى بعض الأذهان : وهو أنّ قوله تعالى : «ولو شاء الله ما اقتتلوا» يدلّ على أن الإنسان مُسَيّر لا مُخيّر ، لأنّ في الآية تأكيد لنسبة الإقتتال إلى مشيئته سبحانه ؟
ونُجيب عن هذا السؤال بـ :
أولا :
قل للذي يدّعي في العلم فلسفةً حَفِظت شيئاً وغابَت عنك أشياء
فإنّ اللازم أن يصرف الإنسان وقتاً كافياً لمعرفة القضايا العقائدية التي يحتاج فهمها إلى مزيد من الانتباء والدقّة .
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 146




= ثانياً : إنّ الله (سبحانه) مَنَح القُدرة لجميع الناس ، وبيّن لهم طريق الخير والشر ، والفضيلة والرذيلة ، ونهاهم عن الشرّ والرذيلة ، ولكن لم يكن نهيه من نوع أنّه يشلّ أعضاءهم إذا أرادوا الحرام ، فإذا فَعَل العبد حراماً ، يكون هو المسؤول الأول والأخير عن ارتكابه للحرام ، ولذلك فهو يستحق العقوبة ، لكن يجوز ـ من باب المجاز ـ نسبة ذلك الفعل إلى الذي أعطى القوة لجميع الخلق ، وأراد أن يخلق خلقاً من نوع معيّن إسمه «البشر» ، يكون مخيّراً في أعماله .. لا مسَيّراً كبعض المخلوقات الأخرى ، مثل الجمادات .
وهنا ملاحظة أخيرة نذكرها : وهي أنّه ـ رغم وجود موارد معيّنة لإستعمال كلّ واحدة من هاتين الكلمتين ـ إلا أنّ في اللغة العربية ـ بما في ذلك القرآن الكريم ـ ، تُستعمل كلّ واحدة من هاتين الكلمتين : «شاء» و«أرادَ» .. في موارد ومجالات الكلمة الأخرى ـ أحياناً ، أو غالباً ـ ، وهذا أمر شائع وثابت .
والجدير بالذكر : أنّنا نجد ـ في الآية التي ذكرناها في المثال الثالث ـ أنّ كلمة «شاء» جاءت أولاً وأُريدَ منها معنى «المشيئة» ، ثمّ في نفس الآية جاءت كلمة «شاء» وأُريدَ منها معنى «أراد» ، ممّا يدلّ على أنّ كل واحدة من هاتين الكلمتين ـ «شاء» و«أراد» ـ تُستعمل مكان المعنى الآخر ، ولكنّ وجود الفرق بين المعنَيَين ثابت وصحيح ودقيق .
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 147




= ونذكر ـ هنا ـ هذا الحديث ونَترك فهمه للأذكياء من القُرّاء الكرام :
لقد رُوي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ـ في حديث طويل ـ :«... . إنّ لله إرادتَين ومشيئتَين : إرادةُ حَتم وإرادة عَزم ، ينهى وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء ، أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة ، وهو شاء ذلك ، ولو لم يشأ لم يأكلا ، ... وأمر إبراهيم بذبح إسماعيل ، وشاء أن لا يذبحه ...» المصدر : كتاب «التوحيد» للشيخ الصدوق ، ص 64 .
وهنا سؤال أخير : وهو : لماذا أعطى الله تعالى القُدرة لعباده على الشر والإنحراف ، مع إمكانه تعالى أن لا يُعطيهم ذلك ؟
الجواب : لقد أراد الله تعالى أن يَخلق فصيلة مُعيّنة من الخلق ـ تمتاز عن غيرها من المخلوقات ـ ، تكون لهم القدرة والإختيار على أفعال الخير وأفعال الشر ، وبيّن لهم النصائح الكافية ، على لسان الأنبياء وفي الكتب السماويّة .
ولو كان الله سبحانه يُجبر الخلق على الخير وترك الشر .. لم يكن للإنسان فضلٌ على غيره من المخلوقات !
وعِلم الله تعالى بما سيفعله كل واحد من البشر .. لا يُنافي إعطائه الإختيار الكامل لهذا النوع من المخلوقات .
وبعد كل هذا التفصيل ، نقول :
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 148




= إنّ الله تعالى ما أراد أن يرى الإمام الحسين (عليه السلام) قَتيلاً (أي : مقتولاً) ولكنّه شاء ذلك ، ونَفس هذا المعنى يأتي بالنسبة إلى مأساة سَبي النساء الطاهرات .
إذ من الواضح أنّ الله سبحانه الذي اختار الإمام الحسين (عليه السلام) مصباحاً ومَناراً لهداية الأمّة الإسلامية .. لا يريد كَسر هذا المصباح وحِرمان الأمة من بركات وجوده عليه السلام ، ولكنّه كان يعلم بأنّ أهل الكوفة سوف يَغدرون به ويَقتلونه .
وبتعبير أوضح نقول : لقد كان المُخطّط الإلهي العام يَطلب من الإمام الحسين (عليه السلام) أن يَخرُج نحو العراق ، مُلبّياً بذلك رسائل أهل الكوفة ، والتي بلغت أكثر من إثني عشر ألف رسالة ـ وكانت أكثرها جماعيّة ، أي : رسالة واحدة عن لسان 40 رجل ، تحمِل توقيعاتهم وأسماءهم ـ كلّ لك .. «إتماماً للحجّة» على أهل الكوفة ، ولئلا يكون للناس على الله حجّة ـ في يوم القيامة ـ بعد وصول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ضواحي الكوفة ، وتلبيته لرسائلهم الكثيرة .
وكان الله تعالى يعلم أن ثمن تلبية دعوة وطلب هذا العدد الكثير من البشر .. سوف يكون غالباً جِدّاً وجداً ، وهو قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وسَبي نسائه الطاهرات ، بعد حصول الغدر الفظيع من أكثر أهل الكوفة !!
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 149




= إلا أنّ قانون «إتمام الحجّة» كان يتطلّب ذلك . هذه سُنّة الله في الخَلق ، وعادته مع جميع الأمم والخلائق . أنّه يُوفّر ويُمهّد لهم وسائل الهداية ، ويُبقيهم على حالة الاختيار في إنتخاب المصير ، وعلى طبائع الذين يَرفضون طريق الهداية ، ويتجاوبون مع ما تُمليه عليه نفسياتهم البعيدة عن الفضائل ، ويختارون العاقبة السيئة والمصير الأسود .
وبالتالي .. يَجزي الله المطيعين له ، ويُعاقب العاصين أوامره . ويمنح الدرجات العالية ـ في الجنّة ـ لعظيم أوليائه : سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ويُعوّض نساءه بأنواع النعم والكرامة ، إزاء ما تحمّلنه من المصائب .. بصبر جميل ، ودونَ أيّ إنتقاد للمقدّرات الإلهية .
هذا .. والتفصيل الأكثر يحتاج الى دراسة مستقلة .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 150




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 151

الإمام الحسين يَصطحب العائلة


لقد عرفنا أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم ـ بِعلم الإمامة ـ بأنّه سيفوز بالشهادة في أرض كربلاء ، وكان يعلم تفاصيل تلك الفاجعة وأبعادها .
ولعلّ بعض السُذّج من الناس كان يعتبر اصطحاب الإمام الحسين عائلته المكرّمة إلى كربلاء منافياً للحكمة ، لأن معنى ذلك تعريض العائلة للإهانة والمكاره ، وأنواع الاستخفاف .
وما كان أولئك الناس يعلمون بأنّ اصطحاب الإمام الحسين (عليه السلام) عائلته المَصونة ـ وعلى رأسهن السيدة زينب ـ كان من أوجب لوازم نجاح نهضته المباركة .
إذ لولا وجود العائلة في كربلاء لكانت نهضة الإمام ناقصة ، غير متكاملة الأجزاء والأطراف .
فإنّ أجهزة الدعاية الأموية ما كانت تتحاشى ـ بعد إرتكاب

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 152

جريمة قتل الإمام الحسين ـ أن تُعلن براءتها من دم الإمام ، بل وتُنكر مقتل الإمام نهائياً ، وتنشر في الأوساط الإسلامية انّ الإمام توفّي على أثر السكتة القلبيّة ، مثلاً !!
وليس في هذا الكلام شيء من المبالغة ، ففي هذه السنة ـ بالذات ـ إنتشرت في بعض البلاد العربية مجموعة من الكتب الضالّة التائهة ، بأقلام عُملاء مُستأجرين ، من بهائم الهند ، وكلاب باكستان ، وخنازير نَجد .
ومن جملة تلك الأباطيل التي سوّدوا بها تلك الصفحات ، هي إنكار شهادة الإمام الحسين ، وأن تلك الواقعة لا أصل لها أبداً .
ولا أُجيب ـ على ما ذكره أولئك الكُتّاب العملاء ـ سوى بقول الشاعر :
مِن أين تَخجل أوجهٌ أمويّة سَكَبت بلذّات الفجور حياءها ؟

فهذه الفاجعة قد مرّت عليها حوالي أربعة عشر قرناً ، وقد ذكرها الألوف من المؤرخين والمحدّثين ، واطّلع عليها القريب والبعيد ، والعالم والجاهل ، بل وغير المسلمين ايضاً لم يتجاهلوا هذه الفاجعة المروّعة .
وتُقام مجالس العزاء في ذكرى إستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في عشرات الآلاف من البلاد ، في جميع القارّات ، حتى صارت هذه الفاجعة أظهر من الشمس ، وصارت كالقضايا البديهيّة

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 153

التي لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها ، بسبب شُهرتها في العالم .
وإذا بأفراد قد تجاوزوا حدود الوقاحة ، وضربوا الرقم القياسي في صلافة الوجه وانعدام الحياء ، يأتون وينكرون هذه الواقعة كلّياً .
ولقد رأيتُ بعض مَن يدور في فلك الطواغيت ، ويجلس على موائدهم ، ويملأ بطنه من خبائثهم ، أنكر واقعة الجمل وحرب البصرة نهائيّاً ، تحفّظاً على كرامة إمراءة خرجت تقود جيشاً لمحاربة إمام زمانها ، وأقامت تلك المجزرة الرهيبة في البصرة ، التي كانت ضحيّتها خمسة وعشرين ألف قتيل .
هذه محاولات جهنّمية ، شيطانية ، يقوم بها هؤلاء الشواذ ، وهم يظنّون أنّهم يستطيعون تغطية الشمس كي لا يراها أحد ، ويريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يُتمّ نوره .
وهذه النشاطات المسعورة ، إن دلّت على شيء فإنّما تدل على هويّة هؤلاء الكُتّاب وماهيّتهم ، وحتى يَعرف العالَم كله أن هؤلاء فاقدون للشرف والضمير ـ بجميع معنى الكلمة ـ ولا يعتقدون بدينٍ من الأديان ، ولا بمبدأ من المبادئ ، سوى المادة التي هي الكل في الكلّ عندهم !!
أعود إلى حديثي عن إصطحاب الإمام الحسين (عليه السلام) عائلته المكرّمة في تلك النهضة :
إنّ تواجد العائلة في كربلاء ، وفي حوادث عاشوراء بالذات

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 154

لم يُبقِ مجالاً للأمويين ولا لغيرهم ـ في تلك العصور ـ لإنكار شهادة الإمام الحسين .
إنّ الأمويين الأغبياء ، لو كانوا يَفهمون لاكتَفوا بقتل الإمام الحسين فقط ، ولم يُضيفوا إلى جرائمهم جرائم أخرى ، مِثل سَبي عائلة الإمام الحسين (عليه السلام) ، ومُخدّرات الرسالة ، وعقائل النبوة والوحي ، وبنات سيد الأنبياء والمرسلين .
ولكنّهم لكي يُعلنوا إنتصاراتهم في قتل آل رسول الله (عليهم السلام) أخذوا العائلة المكرّمة سبايا من بلد إلى بلد .
وكانت العائلة لا تدخل إلى بلد إلا وتوجد في أهل ذلك البلاد الوعي واليقظة ، وتكشف الغطاء عن جرائم يزيد ، وتُزيّف دعاوى الأمويّين حول آل رسول الله : بأنّهم خوارج وأنّهم عصابة مُتمرّدة على النظام الأموي .
ونُلخّص القول ـ هنا ـ فنقول : كان وجود العائلة ـ في هذه الرحلة ، والنهضة المباركة ـ ضرورياً جداً جداً ، وكان جزءاً مُكمّلاً لهذه النهضة .
إنّ هذه الأسرة الشريفة كانت على جانب عظيم من الحِكمة واليقظة ، والمعرفة وفهم الظروف ، واتّخاذ التدابير اللازمة كما

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 155

تقتضيه الحال(1).


(1) ولزيادة الفائدة نقول :
لقد ذكر العالم الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه «السياسة الحسينيّة» ما يلي : «وهل نشكّ ونرتاب في أنّ الحسين لو قُتل هو ووُلده .. ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لَذَهَب قَتلُه جباراً ، ولم يَطلُب به أحد ثاراً ، ولَضاع دمه هدراً . فكان الحسين يعلم أنّ هذا عملٌ لابدّ منه ، وأنّه لا يقوم به إلا تلك العقائل ، فوجب عليه حتماً أن يحملهنّ معه لا لأجل المظلوميّة بسببهنّ فقط ، بل لنظرٍ سياسي وفكر عميق ، وهو تكميل الغرض وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد ، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أن تقضي على الإسلام ، ويعود الناس إلى جاهليّتهم الأولى» .
ويقول العلامة البحّاثة الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه : «السيدة زينب بطلة التاريخ» ص 212 ما نصّه : «لقد كان من أروع ماخطّطه الإمام في ثورته الكبرى : حَملُه عقيلة بني هاشم وسار مخدّرات الرسالة معه إلى العراق ، فقد كان على عِلم بما يجري عليهنّ من النكبات والخطوب ، وما يَقُمن به من دور مشرق في إكمال نهضته وإيضاح تضحيته ، وإشاعة مبادئه وأهدافه ، وقد قُمن حرائر النبوة بإيقاظ المجتمع من سُباته ، وأسقطن هيبة الحكم الاموي ، وفتحن باب
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 156




= الثورة عليه ، فقد ألقينَ من الخُطب الحماسيّة ما زَعزع كيان الدولة الأموية .
إنّ من ألمع الأسباب في استمرار خلود مأساة الحسين (عليه السلام) واستمرار فعّالياتها في نشر الإصلاح الاجتماعي هو حمل عقيلة الوحي وبنات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الإمام الحسين ، فقد قُمنَ ببَلورة الرأي العام ، ونَشََرن مبادئ الإمام الحسين وأسباب نهضته الكبرى ، وقد قامت السيدة زينب (عليها السلام) بتدمير ما أحرزه يزيد من الإنتصارات ، وألحقت به الهزيمة والعار» .
ويقول الدكتور احمد محمود صبحي في كتابه «نظرية الإمامة» ص 343 : «ماذا كان يكون الحال لو قُتل الحسين ومَن معه جميعاً من الرجال إلا أن يُسجّل التاريخ هذه الحادثة الخطيرة من وجهة نظر أعدائه ، فيَضيع كلّ أثر لقضيّته .. مع دمه المسفوك في الصحراء» . المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 157

الإمام الحسين في طريق الكوفة


رويَ أن الإمام الحسين (عليه السلام) لمّا نزل الخزيمية(1) قام بها يوماً وليلة ، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب (عليها السلام) فقالت :
يا أخي ! ألا أُخبرك بشيء سمعته البارحة ؟
فقال الحسين (عليه السلام) : وما ذاك ؟
فقالت : خَرجتُ في بعض الليل فسمعت هاتفاً يهتف ويقول :
ألا يـا عيـنُ فاحتفلي بجهد ومَن يبكي على الشهداء بعدي
علـى قـومٍ تسـوقهم المنايا بمقـدار إلـى إنجـاز وعـدِ

(1) الخزيميّة : نقطة توقّف ، ومحل نزول الحجّاج ، للإستراحة والتزوّد بالماء ، وتقع بين مكة والكوفة . المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 158

فقال لها الحسين (عليه السلام) : يا أختاه كل الذي قُضيَ فهو كائن .(1)
وقد التقى الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى الكوفة برجل يُكنّى «أبا هرم» ، فقال : يابن النبي ما الذي أخرجك من المدينة ؟!
فقال الإمام : «... . وَيحَك يا أبا هرم ! شَتَموا عِرضي فصَبرتُ ، وطلِبوا مالي فصبرتُ(2) ، وطلبوا دمي فهربت !
وأيمُ الله ليَقتلونني ، ثمّ ليُلبِسنّهم الله ذُلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وليُسلّطنّ عليهم من يُذلّهم .(3)

(1) كتاب «نفس المهموم» للشيخ عباس القمي ، ص 179 .
(2) لعلّ ا لأصح : وأخذوا مالي . المحقق .
(3) الحديث مرويّ عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، مذكور في كتاب «أمالي الصدوق» ص 129 ، حديث 1 ، وذكره الشيخ المجلسي في «بحار الأنوار» ج 44 ص 310 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 159


الفصل السابع

  • وصول الإمام الحسين إلى أرض كربلاء
  • زَحف جيش الأموي نحو خيام آل محمد (عليهم السلام)


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 160




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 161

    وصول الإمام الحسين إلى أرض كربلاء


    وفي الطريق إلى الكوفة ، إلتقى الإمام الحسين (عليه السلام) بالحرّ بن يزيد الرياحي ، وكان مُرسلاً مِن قِبَل ابن زياد في ألف فارس ، وهو يريد أن يذهب بالإمام إلى ابن زياد ، فلم يوافق الإمام الحسين على ذلك ، واستمرّ في السير حتى وصل إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم سنة 61 للهجرة .
    فلمّا نزل بها ، قال : ما يُقال لهذه الأرض ؟
    فقالوا : كربلاء !
    فقال الإمام : «اللهم إنّي أعوذُ بك من الكرب والبلاء» ، ثم قال لأصحابه : إنزِلوا ، هاهنا مَحَطّ رحالنا ، ومَسفك دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا . بهذا حدّثني جدّي رسول الله

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 162

    (صلى الله عليه وآله وسلم) .(1)
    قال السيد ابن طاووس في كتاب «الملهوف» :
    لمّا نزلوا بكربلاء جلس الإمام الحسين (عليه السلام) يُصلح سيفه ويقول :
    يـا دهرُ أفٍ لك من خليل كم لك بالإشراق و الأصيل
    مِن طـالبٍ وصاحبٍ قتيل و الدهـر لا يقنـعُ بالبَديل
    وكـلّ حيّ سالكٌ سبيلـي(2) ما أقربَ الوعد من الرحيلِ
    وإنّما الأمر إلى الجليلِ

    فسمعت السيدة زينب بنت فاطمة (عليها السلام) ذلك ، فقالت : يا أخي هذا كلام مَن أيقَن بالقَتل !
    فقال : نعم يا أختاه .
    فقالت زينب : واثكلاه ! ينعى إليّ الحسين نفسه .
    وبكت النِسوة ، ولَطمن الخدود ، وشقَقن الجيوب ، وجعلت أمّ كلثوم تنادي : وامحمّداه ! واعليّاه ! وا أمّاه ! وا فاطمتاه !

    (1) كتاب «الملهوف» ص 139 .
    (2) وفي نسخة :
    وإنّما الأمر إلـى الجليـل وكـلّ حيّ فإلـى سبيلـي
    ما أقرب الوعد إلى الرحيل إلـى جنـانٍ وإلى مقيـلِ

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 163

    واحَسَناه ! واحُسيناه ! واضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله ... إلى آخره .(1)
    ورَوى الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد) هذا الخبر بكيفيّة أُخرى وهي :
    قال علي بن الحسين [زين العابدين] (عليهما السلام) :
    إنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب تُمرّضني ، إذ اعتزل أبي في خِباء له(2) ، وعنده جوين مولى أبي ذرٍ الغفاري ، وهو يعالج سيفه(3) ويُصلحه ، وأبي يقول :
    يا دهـر أفّ لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيل
    مِـن صاحب وطالبٍ قتيل والدهـر لا يقنـع بالبديل
    و إنّمـا الأمـر إلى الجلل وكلّ حـي سـالكٌ سبيلي

    فأعادها مرّتين أو ثلاثاً ، حتّى فهمتُها ، وعَرفت ما أراد ، فخَنَقتني العبرة ، فرددتها ، ولَزِمتُ السكوت ، وعلِمت أنّ البلاء قد نزل .
    وأمّا عمتي : فإنّها سَمِعت ما سمعتُ ، وهي إمرأة ، ومن شأنها النساء : الرقّة والجزع ، فلم تِملِك نفسها ، إذ وَثَبت تجرّ ثوبها ،

    (1) كتاب (الملهوف على قتلى الطفوف) للسيد علي بن موسى بن طاووس ، المتوفّى سنة 664 هـ ، ص 139 .
    (2) خِباء : خيمة .
    (3) ضمير هو : يرجع إلى جوين ، يُعالج : يُحاول إعداده للإستعمال في القتال .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 164

    حتى انتهت إليه فقالت :
    واثكلاه ! ليتَ الموت أعدَمَني الحياة ، اليوم ماتت أُمّي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثِمال الباقين !
    فنظر إليها الإمام الحسين فقال لها : يا أُخيَّة ! لا يُذهِبنّ حِلمَك الشيطان .
    وتَرقرَقَت عيناه بالدموع ، وقال : يا أُختاه ، «لو تُرك القَطا لغَفا ونامَ»(1).
    فقالت : يا ويلتاه ! أفتغتصب نفسك اغتصاباً ؟(2) فذاك أقرَحُ لقلبي ، وأشدّ على نفسي ، ثمّ لطمت وجهها ! وأهوَت إلى جيبِها فشقّته ، وخرّت مغشيّاً عليها .
    فقام إليها الإمام الحسين (عليه السلام) فَصَبّ على وجهها الماء ، وقال لها :

    (1) القطا : طائرٌ معروف ، واحدة : القطاة . قالوا ـ في الأمثال ـ : «لو تُرك القطا ليلاً لَنام» يُضرَبُ مثلاً لِمَن حُمِل أو أُجبِر على مكروه من غير إرادته ، وذلك أنّ القطا لا يطير ليلاً إذا أذا أزعجوه وأفسدوا عليه راحته ، فإذا طار القطا ليلاً كان ذلك علامة على أنّ عدوّاً يُلاحقه .
    ومعنى كلام الإمام الحسين (عليه السلام) : إنّ العدوّ لو كان يتركُنا لكنّا نَبقى في وطننا في المدينة ، ولكنّه أزعجنا وأخرجَنا من بلادنا ، وسيَبقى يُلاحقنا إلى أن نَسلَم منه أو يَقتُلنا . المحقق
    (2) أي : تُقتَل ظُلماً وقَهراً .

    السابق السابق الفهرس التالي التالي