زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 165

إيهاً يا أُختها ! إتّقي الله ، وتَعزّي بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأنّ أهل السماء لا يَبقون ، وأنّ كلّ شيء هالِك إلا وجه الله ، الذي خلق الخلق بقُدرته ، ويَبعث الخلق ويعيدهم وهو فردٌ وحده .
جدّي خيرٌ مني ، وأبي خيرٌ منّي ، وأُمّي خيرٌ منّي ، وأخي [الحسن] خيرٌ منّي ، ولي ولكلّ مسلم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أُسوة .
فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : «يا أُختاه إني أقسمتُ عليكِ ، فأبِرّي قَسَمي(1).
لا تَشُقّي عَلَيّ جَيباً ، ولا تَخمشي عليّ وجهاً ، ولا تَدعي عليّ بالويل والثُبور إذا أنا هلكتُ» .
ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي ، وخرج إلى أصحابه ...(2)

* * * *

أقول : سمعتُ من بعض الأفاضل : أنّ هذه الأبيات كانت مشؤمة عند العَرب ، ولم يُعرف قائلُها ، وكان المشهور عند الناس : أنّ

(1) أبرّي قَسَمي : أجيبيني إلى ما أقسَمتُكِ عليه ، ولا تَحنَثي ذلك . كما في «لسان العرب» . المحقق
(2) كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد ، ص 232 . وذكره الطبري ـ المتوفّى عام 310 هـ ـ في تاريخه ج 5 ص 420 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 166

كلّ مَن أحسّ بخطر الموت أو القتل كان يتمثّل بهذه الأبيات .
ولا يَبعدُ هذا الكلام من الصحّة ، لأنّ الأبيات مُشتملة على عتاب الدهر وتوبيخه لا غير ، ولعلّ لهذا السبب أحسّت السيدة زينب باقتراب الخطر من أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) وقالت : هذا الحسين يَنعى إليّ نفسه .
وهكذا الإمام زين العابدين (عليه السلام) تَراه قد استَنبَطَ من قراءة هذه الأبيات نُزول البلاء .
حيث إنّ هذه الأبيات لا تُصرّح ـ بظاهرها ـ بشيء من هذه الأمور ، كخطر الموت أو اقتراب موعد القتل .

* * * *

هذا .. والظاهر أنّ نهي الإمام الحسين أُخته السيدة زينب عن شقّ الجيب وخَمش الوجه إنّما كان خاصّاً بساعة قتل الإمام ، بعد الإنتباه إلى قول الإمام : «إذا أنا هلكتُ» .
وبعبارة أخرى : إنما منَعَها أن تَشُقّ جيبها أو تخمش وجهها ساعة مصيبة مقتل الإمام وشهادته . والسيدة زينب إمتثَلت أمر أخيها ، ولم تفعل شيئاً من هذا القبيل عند شهادة الإمام في كربلاء . وإنّما قامت ببعض هذه الأعمال في الكوفة ، وفي الشام في مجلس يزيد ، عندما شاهدت ما قام به يزيد (لعنة الله عليه) من أنواع الإهانة برأس الإمام الحسين عليه السلام .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 167

ولعلّ نهي الإمام أخته عن شقّ الجيب ـ في تلك الساعة أو الساعات الرهيبة ـ كان لهذه الحِكمة : وهي أن لا يظهر منها أثر الضعف والإنكسار والإنهيار ، أمام أولئك الأعداء الألدّاء ، فقد كان المطلوب من السيدات ـ حينذاك ـ الصبر والتجلّد وعدم الجزع أمام المصائب .
لانّ هذا النوع من الشجاعة ـ وفي تلك الظروف بالذات ـ ضروري أمام العدوّ الحاقد ، الذي كان يتحيّن كلّ فرصة للقيام بأيّ خطوة تُناسب نفسيّته اللئيمة ، تجاه تلك العائلة المكرّمة الشريفة ، وكانت مواجهة الحوادث بصبر جميل ومعنويّات عالية ، تعني تفويت الفُرص أمام تفكير العدوّ القيام بأيّ نوع من أنواع الاعتداء والإهانة وسحق الكرامة تجاه تلك السيدات الطاهرات المفجوعات ، اللواتي فقدن المُحامي والمدافع عنهن !

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 168




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 169

زحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد (عليهم السلام)


كانت السيدة زينب (عليها السلام) تَشعر باقتراب الخطر يوماً بعد يوم ، وساعةً بعد ساعة ، وكيف لا ؟ والسيل البشري يتدفّق نحو أرض كربلاء لقتل ريحانة رسول الله وسبطه الحبيب ؟
وآخر راية وصلت إلى كربلاء : راية شمر بن ذي الجوشن في ستّة آلاف مقاتل ، ومعه الحُكم الصادر مِن عبيد الله بن زياد ، يأمر فيه ابن سعد أن يُخيّر الإمام الحسين بين أمرين :
1 ـ الإستسلام .
2 ـ الحرب .
فزحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد (عليهم السلام) ونظرت السيدة زينب إلى أسراب من الذئاب تتراكض نحو بيوت الرسالة والإمامة .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 170

ويعلم الله تعالى مدى الخوف والقلق والإضطراب الذي استولى على قلوب آل رسول الله .
وأقبلت السيدة زينب تبحث عن أخيها ، لتُخبره بهذا الهجوم المُفاجئ في تلك السويعات الأخيرة من اليوم التاسع من المحرّم ، قريب الغروب .
وأخيراً ، وصلت إلى خيمة الإمام الحسين (عليه السلام) وإذا بالإمام جالس ، وقد احتضن ركبتيه ، ووضع رأسه عليهما ، وقد غلبه النوم .
واستيقظ الإمام على صوت أخته الحوراء تُخاطبه ـ بصوت مليء بالرُعب ، مزيج بالعاطفة والحنان ـ .. قائلةً :
أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت ؟
فرفع الإمام الحسين رأسه وقال : أُخيّه ! إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الساعة في المنام ، وقال لي : «إنّك تروح إلينا» .
أو «إنّي رأيت ـ الساعة ـ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي عليّاً ، وأمّي فاطمة ، وأخي الحسن وهم يقولون : يا حسين إنّك رائحٌ إلينا عن قريب»(1) .

(1) كتاب (الملهوف على قتلى الطفوف) للسيد ابن طاووس ، طبع ايران ، عام 1414 هـ ، ص 151 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 171

فلطمت السيدة زينب وجهها ، وصاحت : واويلاه ، وبكت .
فقال لها الإمام الحسين : ليس لك الويل يا أخيّة ، لا تُشمِتي القوم بنا ، أُسكتي رحمك الله .(1).
فنهض الإمام الحسين (عليه السلام) وأرسل أخاه العبّاس ابن علي مع عشرين فارساً من أصحابه ، وقال : «يا عباس إركب ـ بنفسي أنت يا أخي ـ حتّى تلقاهم وتقول لهم مالكم وما بدا لكم ؟؟ وتسألهم عمّا جاء بهم ؟
فأتاهم العباس وقال لهم : ما بَدا لكم وما تريدون ؟
قالوا : قد جاء أمر ابن زياد أن نَعرِض عليكم : أن تنزلوا على حُكمه ، أو نُناجزكم !
فقال العباس : لا تَعجَلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله ، فأعرض عليه ما ذكرتم .
فتوقّف الجيش ، وأقبل العباس إلى أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) وأخبره بما قاله القوم .
فقال الإمام إرجع إليهم .. فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدٍ وتدفعهم عنّا العشيّة ، لعلّنا نُصلّي لربنا الليلة

(1) كتاب «معالي السبطين» للمازندراني ، ج 1 ، ص 204 ، الفصل الثامن ، المجلس الأول .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 172

وندعوه .. فهو يعلم أني أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه ؟
فمضى العباس إلى القوم فاستمهلهم ، وأخيراً .. وافقوا على ذلك .(1)



(1) كتاب «معالي السبطين» للمازندراني ، ج 1 ، ص 332 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 173


الفصل الثامن

  • ليلة عاشوراء
  • أزمة الماء

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 174




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 175

    ليلة عاشوراء


    إن مشكلة كبيرة واحدة تحدث في حياة الإنسان قد تسلبه القرار والاستقرار ، وتورثه الأرق والقلق والسهر ، وترفض عيناه النوم ، فكيف إذا أحاطت به عشرات المشاكل الكبيرة ؟ !
    من الواضح أن أقل ما يمكن أن تسببه تلك المشاكل هو : الإنهيار العصبي ، وفقدان الوعي ، واختلال المشاعر وتبلبل الفكر ، وتشتت الخاطر .
    فهل نستطيع أن نتصور كيف انقضت ليلة عاشوراء على آل رسول الله ؟ !
    فالهموم والغموم ، والخوف والتفكر حول الغد ، وما يحمله من الكوارث والفجائع ، وبكاء الأطفال من شدة العطش ، ـ وغير ذلك من المميزات تلك الليلة ـ جعلت الليلة فريدة من نوعها في تاريخ حياة أهل البيت (عليهم السلام) .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 176

    وفي ساعة من ساعات تلك الليلة خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من منطقة المخيم ، راكباً جواده ، يبحث في تلك الضواحي حول التلال والربووات ـ المشرفة على منطقة المخيم ـ التي كان من الممكن أن يمكن العدو خلفها غداً ، إذا اشتعلت نار الحرب .
    ويرافقه في تلك الجولة الإستطلاعية نافع بن هلال ، وهو ذلك البطل الشجاع المقدام ، وكان من أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له ، فلنستمع إليه :
    إلتفت الإمام خلفه وقال : من الرجل ؟ نافع ؟
    قلت : نعم ، جعلني الله فداك ! ! أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة معسكر هذا الطاغي .
    فقال : يا نافع ! خرجت أتفقد هذه التلال مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم تحملون ويحملون .
    ثم رجع (عليه السلام) وهو قابض على يساري ، وهو يقول : «هي ، هي ، والله ، وعد لا خلف فيه» .
    ثم قال : يا نافع ! ألا تسلك ما بين هذين الجبلين (1) من وقتك

    (1) ليس في أرض كربلاء جبل ، وإنما فيها تلال وربوات لا تزال موجودة ويقال لها ـ بالغة الدارجة ـ : علوة وعلاوي ، ولعل الإمام (عليه السلام) قصد من الجبلين : التلال الموجودة في تلك المنطقة .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 177

    هذا ، وتنجو بنفسك ؟
    فوقعت على قدميه ، وقلت : إذن ثكلت نافعاً أمه ! !
    سيدي : إن سيفي بألف ، وفرسي مثله ، فو الله الذي من علي بك لا أفارقك حتى يكلا عن فري وجري (1).
    ثم فارقني ودخل خيمة أخته ، فوقفت إلى جنبها (2) رجاء أن يسرع في خروجه منها .
    فاستقبلته زينب ، ووضعت له متكئاً ، فجلس وجعل يحدثها سراً ، فما لبثت أن اختنقت بعبرتها ، وقالت : وا أخاه ! أشاهد مصرعك ، وأبتل برعاية هذه المـذاعير (3) من النساء ؟ والقوم ـ كما تعلم ـ ما هم عليه من الحقد القديم .
    ذلك خطب جسيم ، يعز علي مصرع هؤلاء الفتية الصفوة ، وأقمار بني هاشم !
    ثم قالت : أخي هل إستعلمت من أصحابك نياتهم ؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ، واصطكاك الأسنة !

    (1) أي : حتى يعجز السيف عن القطع ، ويعجز الفرس عن الركض .
    (2) جنبها : أي جنب الخيمة .
    (3) المذاعير ـ جمع مذعور ـ : وهو الذي أخافوه .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 178

    فبكى (عليه السلام) وقال : أما والله لقد لهزتهم (1) وبلوتهم ، وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس (2) يستأنسون بالمنية دوني إستيناس الطفل بلبن أمه .
    قال نافع بن هلال : فلما سمعت هذا منه بكيت ، واتيت حبيب بن مظاهر ، وحكيت له ما سمعت منه ومن أخته زينب .
    فقال حبيب : والله لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة !
    قلت : إني خلفته عند أخته وهي في حال وجل ورعب ، وأظن أن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة والزفرة ، فهل لك ان تجمع اصحابك وتواجههن بكلام يسكن قلوبهن ويذهب رعبهن ؟ فلقد شاهدت منها ما لا قرار لي مع بقائه .
    فقال لي : طوع إرادتك ، فبرز حبيب ناحية ، ونافع إلى ناحية ، فانتدب أصحابه .
    فتطالعوا من مضاربهم (3) فلما اجتمعوا قال ـ لبني هاشم ـ : إرجعوا إلى منازلكم ، لا سهرت عيونكم ! !
    ثم خطب أصحابه وقال : يا أصحاب الحمية وليوث

    (1) يقال : لهزته اي : خالطته ، والمقصود : الإختبار والإمتحان .
    (2) الأشوس : الجريء على القتال الشديد والأقعس : الرجل الثابت العزيز المنيع .
    (3) المضارب ـ جمع مضرب ـ : الخيمة .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 179

    الكريهة !
    هذا نافع يخبرني الساعة بكيت وكيت ، وقد خلف أخت سيدكم وبقايا عياله يتشاكين ويتباكين . أخبروني عما أنتم عليه ؟
    فجردوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم ، وقالوا : يا حبيب ! والله الذي من علينا بهذا الموقف ! لئن زحف القوم لنحصدن رؤوسهم ، ولنلحقنهم بأشياخهم أذلاء ، صاغرين ولنحفظن وصية رسول الله في أبنائه وبناته !
    فقال : هلموا معي .
    فقام يخبط الأرض (1) ، وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ، ونادى : «يا أهلنا ويا سادتنا ! ويا معشر حرائر رسول الله ! هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبغي السوء بكم ، وهذه أسنة غلمانكم أقسموا أن لا يركزوها إلا

    (1) يخبط الأرض : يضرب الأرض برجليه ضرباً شديداً ، وهو مأخوذ من ضرب البعير الأرض برجله . قال الخليل في كتاب (العين) : الخبط : شدة الوطئ بأيدي الدواب . وجاء في (المعجم الوسيط) خبط الشيء : وطأه وطئاً شديداً . ولعل المقصود : سرعة الركض ، أو نوع خاص من المشي العشائري . . يكون مزيجاً مع ضرب الأرجل بالأرض ، كنوع من التدريب للقتال قبل الحرب ، أو لإيجاد الحماس ورفع المعنويات .
    المحقق
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 180

    في صدور من يفرق ناديكم ! (1)
    فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : أخرجهن عليهم يا آل الله !
    فخرجن ، وهن ينتدبن (2) ويقلن : حاموا أيها الطيبون عن الفاطميات ، ما عذركم إذا لقينا جدنا رسول الله ، وشكونا إليه ما نزل بنا ؟
    وكان حبيب وأصحابه حاضرين يسمعون وينظرون ، فو الله الذي لا إله إلا هو ، لقد ضجوا ضجة ماجت منها الأرض ،

    (1) أسنة : رماح .
    يركزوها : الركز : غرزك شيئاً منتصباً . . كالرمح ونحوه ، يقال ركزه ركزاً في مركزه إي : ثبته في مكانه . كما في «لسان العرب» . ناديكم : محل اجتماعكم . النادي : مجلس القوم ماداموا مجتمعين فيه .
    (2) وفي نسخة : يندبن .
    ينتدبن : الإنتداب : بمعنى الإسراع ، وبمعنى تلبية الطلب ، فيكون المعنى : «يتسارعن» في خروجهن من الخيام ، أو : «يلبين» أمر الإمام لهن بالخروج لهم . قال الطريحي في «مجمع البحرين» : ندبه لأمر فانتدب : أي : دعاء لأمر فأجاب .
    وذكر في بعض كتب اللغة : أن الإنتداب : هو طلب شيء من شخص في حالة الحرب وإسراع الشخص في تلبية الطلب . كما يستفاد هذا المعنى من كتاب (العين) للخيل ، وكتاب (المحيط في اللغة) للصاحب بن عباد .
    المحقق
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 181

    واجتمعت لها خيولهم وكان لها جولة واختلاف صهيل ، حتى كأن كلاً ينادي صاحبه وفارسه . (1) (2)
    وروي عن فخر المخدرات السيدة زينب (عليها السلام) أنها قالت : «لما كانت ليلة عاشر من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده ، يناجي ربه ، ويتلو القرآن .
    فقلت ـ في نفسي ـ : أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده ؟ والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك .
    فأتيت إلى خيمة العباس ، فسمعت منها همهمة ودمدمة ، (3)

    (1) الظاهر أن المراد : حتى كأن كل واحد من الخيل ينادي ـ في صهيله ـ صاحبه وفارسه . . لركوب استعداداً للإنطلاق والقتال .
    المحقق
    (2) كتاب (الدمعة الساكبة) ج 4 ص 273 ، المجلس الثاني : فيما وقع في ليلة عاشوراء ، نقلاً عن الشيخ المفيد ، رضوان الله عليه . وكتاب (معالي السبطين) للشيخ محمد مهدي المازندراني ، المجلس الرابع : وقائع ليلة عاشوراء .
    (3) الهمهمة : هو الصوت الذي يسمع ولايفهم معناه ، بسبب خفائه أو اختلاطه مع أصوات أخرى . قال إبن منظور في (لسان العرب) : الهمهمة : الكلام الخفي ، وهمهم الرجل : إذا لم يبين كلامه ، والهمهمة : الصوت الخفي ، وقيل : هو صوت معه بحح .
    وقال ابن دريد في (جمهرة اللغة) : الهمهمة : الكلام الذي لا يفهم .
    المحقق
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 182

    فوقفت على ظهرها (1) فنظرت فيها ، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة ، وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته ؛ فخطب فيهم خطبة ـ ما سمعتها إلا من الحسين ـ : مشتملة على الحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي وآله .
    ثم قال ـ في آخر خطبته ـ : يا إخوتي ! وبني إخوتي ! وبني عمومتي ! إذا كان الصباح فما تقولون ؟
    قالوا : الأمر إليك يرجع ، ونحن لا نتعدى لك قولاً . (2)
    فقال العباس : إن هؤلاء (أعني الأصحاب) قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلا بأهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم .
    نحن نقدمهم إلى الموت لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة . (3)
    فقامت بنو هاشم ، وسلوا سيوفهم في وجه أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه !

    (1) ظهرها : أي ظهر الخيمة ، بمعنى خلفها وورائها .
    (2) لا نتعدى : لا نتجاوز من رأيك إلى رأي غيرك .
    (3) عالجوا : حاولوا التخلص من الموت بسيوفهم . . محاولةً بعد محاولة ، ومرةً بعد اخرى .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 183

    قالت زينب : فلما رأيت كثرة إجتماعهم ، وشدة عزمهم ، وإظهار شيمتهم ، سكن قلبي وفرحت ، ولكن خنقتني العبرة ، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين وأخبره بذلك ، فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ، ونظرت فيها ، فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم ، مجتمعين كالحلقة ، بينهم حبيب بن مظاهر ، وهو يقول :
    «يا اصحابي ! لم جئتم إلى هذا المكان ؟ أوضحوا كلامكم ، رحمكم الله» .
    فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة !
    فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم ؟
    قالوا : لذلك .
    قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم قائلون ؟
    فقالوا : الرأي رأيك ، لا نتعدى قولاً لك .
    قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب ، لئلا يقول الناس : قدموا ساداتهم للقتال ، وبخلوا عليهم بأنفسهم .
    فهزوا سيوفهم على وجهه ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه .
    قالت زينب : ففرحت من ثباتهم ، ولكن خنقتني العبرة ،

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 184

    فانصرفت عنهم وأنا باكية ، وإذا بأخي الحسين قد عارضني (1) ، فسكنت نفسي (2) ، وتبسمت في وجهه .
    فقال : أخيه .
    قلت : لبيك يا أخي .
    فقال : يا أختاه ! منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة ، أخبريني : ما سبب تبسمك ؟
    فقلت له : يا أخي ! رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا .
    فقال لي : يا أختاه ! إعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذر ، وبهم وعدني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
    هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم ؟

    (1) عارضني : واجهني .
    (2) هناك احتمالان في كيفية قراءة «فسكنت نفسي» هما :
    1 ـ سكنت نفسي : بمعنى أنها حاولت أن تتغلب على ما بها من البكاء ، وتمسح آثار الحزن والكآبة عن ملامحها . . لكي لا تزيد من هموم الإمام . وعلى هذا . . لا تكون الجملة تكملة . . بل جملة مستأنفة .
    2 ـ سكنت نفسي : بمعنى أنه زال القلق عن نفسها ، وارتاح قلبها . . بما رأته وسمعته من موقف بني هاشم وموقف الأصحاب . فتكون الجملة تكملة لـ«ففرحت من ثباتهم» .
    المحقق
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 185

    فقلت : نعم .
    فقال : عليك بظهر الخيمة .
    قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ، فنادى أخي الحسين : «إين إخواني وبنو أعمامي» ؟
    فقال الحسين : أريد أن أجدد لكم عهداً .
    فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن ، وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم بالجلوس ، فجلسوا .
    ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير ، أين نافع بن هلال ؟ أين الأصحاب ؟
    فأقبلوا ، وتسابق منهم حبيب بن مظاهر ، وقال : لبيك يا أبا عبد الله !
    فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا .
    فخطب فيهم خطبةً بليغة ، ثم قال :
    «يا أصحابي ! إعملوا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حل من بيعتي ، ومن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في سواد هذا الليل .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 186

    فعند ذلك قامت بنو هاشم ، وتكلموا بما تكلموا ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهم .
    فلما رأى الحسين حسن إقدامهم ، وثبات أقدامهم ، قال : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم ، وانظروا إلى منازلكم في الجنة .
    فكشف لهم الغطاء ، ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين : العجل العجل ! فإنا مشتاقات إليكم .
    فقاموا بأجمعهم ، وسلوا سيوفهم ، وقالوا : يا أبا عبد الله ! إئذن لنا أن نغير على القوم ، ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء .
    فقال : إجلسوا رحمكم الله ، وجزاكم الله خيراً .
    ثم قال : ألا ومن كان في رحله إمرأة فلينصرف بها إلى بني أسد . (1)
    فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي ؟
    فقال : إن نسائي تسبى بعد قتلي ، وأخاف على نسائكم من السبي .
    فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته ، فقامت زوجته إجلالاً له ، فاستقبلته وتبسمت في وجهه .

    (1) الرحل : ما تستصحبه في السفر . . من الأثاث أو الزوجة أو غير ذلك ، كما يستفاد من «لسان العرب» .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 187

    فقال لها : دعيني والتبسم !
    فقالت : يا بن مظاهر ! إني سمعت غريب فاطمة ! خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة ، فما علمت ما يقول ؟
    قال : يا هذه ! إن الحسين قال لنا : ألا ومن كان في رحله إمرأة فليذهب بها إلى بني عمها ، لأني غداً أقتل ، ونسائي تسبى .
    فقالت : وما أنت صانع ؟
    قال : قومي حتى ألحقك ببني عمك : بني أسد .
    فقامت ، ونطحت رأسها بعمود الخيمة ، وقالت :
    «والله ما انصفتني يا بن مظاهر ، أيسرك أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي ؟ !
    أيسرك أن تسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري ؟ !
    أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء ؟ !
    والله أنتم تواسون الرجال ، ونحن نواسي النساء» .
    فرجع علي بن مظاهر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يبكي .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 188

    فقال له الحسين : ما يبكيك ؟
    قال : سيدي . . أبت الأسدية إلا مواساتكم ! !
    فبكى الإمام الحسين ، وقال : جزيتم منا خيراً . (1)



    (1) معالي السبطين للمازندراني ج 1 ، المجلس الثالث في وقائع ليلة عاشوراء .

    السابق السابق الفهرس التالي التالي