زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 189

أزمة الماء

كانت السيدة زينب (عليها السلام) ركناً مهماً في الأسرة الشريفة الطيبة ، وانطلاقاً من صفة العاطفة المثالية التي كانت تمتاز بها ، فقد كانت تشعر بالمسؤلية عن كل ما يرتبط بحياة الأسرة . . بجميع أفرادها .
فكانت مفزعاً للكبار والصغار ، وملاذاً لجميع أفراد العائلة ، ومعقد آمالهم ، فلعلها كانت تدخر شيئاً من الماء منذ بداية أزمة الماء عندهم .
فكان بعض العائلة يأملون أن يجدوا عندها الماء ، جرياً على عادتها وعادتهم ، ولهذا قالت سكينة بنت الإمام الحسين (عليه السلام) :

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 190

«عز ماؤنا ليلة التاسع من المحرم (1) ، فجفت الأواني ، ويبست الشفاه (2) حتى صرنا تنوقع الجرعة من الماء فلم نجدها .
فقلت ـ في نفسي ـ : أمضي إلى عمتي زينب ، لعلها أدخرت لنا شيئاً من الماء ! !
فمضيت إلى خيمتها ، فرأيتها جالسة ، وفي حجرها أخي عبد الله الرضيع ، وهو يلوك بلسانه من شدة العطش ، وهي تارةً تقوم ، وتارةً تقعد .
فخنقتني العبرة ، فلزمت السكوت خوفاً من أن تفيق (3) بي عمتي فيزداد حزنها .
فعند ذلك إلتفتت عمتي وقالت : سكينة ؟
قلت : لبيك .
قالت : ما يبكيك ؟
قلت : حال أخي الرضيع أبكاني .
ثم قلت : عمتاه ! قومي لنمضي إلى خيم عمومتي ،

(1) عز ماؤنا : صار قليلاً جداً ، أو صار عزيزاً لنفاده .
المحقق
(2) وفي نسخة : السقاء : يعني القربة .
(3) تفيق : تشعر .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 191

وبني عمومتي ، لعلهم ادخروا شيئاً من الماء !
قالت : ما أظن ذلك .
فمضينا واخترقنا الخيم ، بأجمعهم ، فلم نجد عندهم شيئاً من الماء .
فرجعت عمتي إلى خيمتها ، فتبعتها من نحو عشرين صبي وصبية ، وهم يطلبون منها الماء ، وينادون : العطش العطش . . . .» (1)


(1) كتاب (معالي السبطين) للمازندراني ج 1 ، ص 320 ، المجلس الثامن : في عطش أهل البيت ، نقلاً عن كتاب (اسرار الشهادة) للدربندي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 192




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 193


الفصل التاسع

  • يوم عاشوراء
  • مقتل سيدنا علي الأكبر (عليه السلام)
  • مقتل أولاد السيدة زينب (عليها اسلام)
  • مقتل سيدنا أبي الفضل العباس (عليه السلام)
  • مقتل الطفل الرضيع (عليه السلام)


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 194




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 195

    يوم عاشوراء


    أصبح الصباح من يوم عاشوراء ، واشتعلت نار الحرب وتوالت المصائب ، الواحدة تلو الأخرى ، وبدأت الفجائع تترى !
    فالأصحاب والأنصار يبرزون إلى ساحة الجهاد ، ويستشهدون زرافات ووحدانا ، وشيوخاً وشباناً .
    ووصلت النوبة إلى أغصان الشجرة النبوية ، ورجالات البيت العلوي ، الذين ورثوا الشجاعة والشهامة ، وحازوا عزة النفس ، وشرف الضمير ، وثبات العقيدة ، وجمال الإستقامة .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 196




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 197

    مقتل سيدنا علي الأكبر


    وأول من تقدم منهم إلى ميدان الشرف : هو علي بن الحسين الأكبر (عليهما السلام) ، فقاتل قتال الأبطال ، وأخيراً . . إنطفأت شمعة حياته المستنيرة ، وسقط على الأرض كالوردة التي تتبعثر أوراقها .
    وتبادر الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مصرع ولده ، ليشاهد شبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقطعاً بالسيوف إرباً إرباً .
    ولا أعلم كيف علمت السيدة زينب بهذه الفاجعة المروعة ، فقد خرجت تعدو ، وهي السيدة المخدرة اللمحجبة الوقورة !
    خرجت من الخيمة مسرعة وهي تنادي : «وا ويلاه ، يا حبيباه ، يا ثمرة فؤاداه ، يا نور عيناه ، يا أخياه وابن أخياه ، واولداه ، واقتيلاه ، واقلة ناصراه ، واغريباه ، وامهجة قلباه .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 198

    ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء ، ليتني وسدت الثرى» .
    وجاءت وانكبت عليه ، فجاء الإمام الحسين (عليه السلام) فأخذ بيدها ، وردها إلى المخيم ، وأقبل بفتيانه إلى المعركة وقال : إحملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه وجاؤا به حتى وضعوه عند الخيمة التي كانوا يقاتلون أمامها . (1)



    (1) كتاب (معالي السبطين) للشيخ المازندراني ، ج 1 ، الفصل التاسع ، المجلس الثالث عشر .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 199

    مقتل أولاد السيدة زينب


    وإلى أن وصلت النوبة إلى أولاد السيدة زينب عليها السلام وأفلاذ كبدها .
    أولئك الفتية الذين سهرت السيدة زينب لياليها ، وأتبعت أيامها ، وصرفت حياتها في تربية تلك البراعم ، حتى نمت وأورقت .
    إنها قدمت أغلى شيء في حياتها في سبيل نصرة أخيها الإمام الحسين عليه السلام .
    وتقدم أولئك الأشبال يتطوعون ويتبرعون بدمائهم وحياتهم في سبيل نصرة خالهم ، الذي كان الإسلام متجسداً فيه وقائماً به .
    وغريزة حب الحياة إنقلبت ـ عندهم ـ إلى كراهية تلك الحياة .
    ومن يرغب ليعيش في أرجس مجتمع متكالب ، يتسابق على إراقة دماء أطهر إنسان يعتبر مفخرة أهل السماء والأرض ؟ !

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 200

    وكان عبد الله بن جعفر ـ زوج السيده زينب ـ قد أمر ولديه : عوناً ومحمداً ان يرافقا الإمام الحسين (عليه السلام) ـ لما أراد الخروج من مكه ـ والمسير معه ، والجهاد دونه .
    فلما انتهى القتال إلى الهاشميين برز عون بن عبد الله بن جعفر ، وهو يرتجز ويقول :
    إن تنكروني فأنا ابن جعفر شهيد صدق في الجنان أزهر
    يطيـر فيها بجناح أخضر كفى بهذا شـرفاً في المحشر

    فقتل ثلاثة فرسان ، وثمانية عشر راجلاً ، فقتله عبد الله بن قطبة الطائي . (1)
    ثم برز أخوه محمد بن عبد الله بن جعفر ، وهو ينشد :
    أشكـو إلى الله من العدوان فعال قوم في الردى عميان
    قـد بدلـوا معـالم القرآن ومحكـم التنزيـل والتبيان
    وأظهروا الكفر مع الطغيان

    فقتل عشرة من الأعداء ، فقتله عامر بن نهشل التميمي . (2)

    (1) وفي نسخة : عبد الله بن قطنة الطائي .
    (2) كتاب (مناقب آل ابي طالب) لابن شهر آشوب ، ج 4 ص 106 . وبحار الأنوار ج 45 ص 33 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 201

    ولقد رثاهما سليمان بن قبة بقوله :
    و سمي النبـي غودر فيهم قد علوه بصارم مصقول
    فإذا ما بكيت عيني فجودي بدمـوع تسيل كل مسيل
    واندبي إن بكيت عوناً أخاه ليس فيما ينوبهم بخذول (1)

    أقول : لم أجد في كتب المقاتل أن السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) صاحت أو ناحت أو صرخت أو بكت في شهادة ولديها ، لا في يوم عاشوراء ولابعده .
    ومن الثابت أن مصيبة ولديها أوجدت في قلبها الحزن العميق ، بل والهبت في نفسها نيران الأسى وحرارة الثكل ، ولكنها (عليها السلام) كانت تخفي حزنها على ولديها ، لأن جميع عواطفها كانت متجهة إلى الإمام الحسين عليه السلام . (2)

    (1) كتاب (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الأصفهاني ، ص 91 .
    (2) وقد جاء ذكر هذين السيدين الشهيدين في إحدى الزيارات الشريفة ، التي ذكرت فيها أسماء شهداء كربلاء في يوم عاشوراء ، ومنها هذه الكلمات :
    «. . . السلام على عون بن عبد الله بن جعفر الطيار في الجنان ، حليف الإيمان ، ومنازل الأقران ، الناصح للرحمن ، التالي للمثاني والقرآن ، لعن الله قاتله عبد الله بن قطبة النبهاني .
    السلام على محمد بن عبد الله بن جعفر ، الشاهد مكان إبيه ، والتالي لأخيه ، وواقيه ببدنه ، لعن الله قاتله عامر بن نهشل التميمي . . .» .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 202

    وهناك وجه آخر قد يتبادر إلى الذهن : وهو أن بكاءها على ولديها قد كان يسبب الخجل والإحراج لأخيها الإمام الحسين ، باعتبار أنهما قتلا بين يديه ودفاعاً عنه ، فكان السيدة زينب ـ بسكوتها ـ تريد أن تقول للإمام الحسين (عليه السلام) : ولداي فداء لك ، فلا يهمك ولا يحرجك أنهما قتلا بين يديك . والله العالم .

    وأما مصدر هذه الزيارة ، فقد حكى الشيخ المجلسي في كتاب (بحار الأنوار) طبع لبنان ، عام 1403 هـ ، ج 98 ص 269 ، وص 271 ، عن كتاب (إقبال الأعمال) عن الشيخ الطوسي . . . قال : خرج من الناحية سنة 252 على يد الشيخ محمد بم غالب : «بسم الله الرحمن الرحيم ، إذا أردت زيارة الشهداء (رضوان الله عليهم) فقف عند رجلي الحسين (عليه السلام) وهو قبر علي بن ا لحسين ، فاستقبل القبلة بوجهك ، فإن هناك حومة الشهداء . . .» .
    والمقصود من جملة «خرج من الناحية» : هو كلما كان يصل إلى الشيعة من جانب الإمام علي الهادي ، ثم الإمام الحسن العسكري ، ثم الإمام المهدي (صلوات الله عليهم) . والذي يناسب التاريخ المذكور ـ وهو سنة 252 ـ أن تكون الزيارة قد صدرت من ناحية الإمام علي الهادي عليه السلام ، والله العالم .
    المحقق
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 203

    مقتل سيدنا أبي الفضل العباس


    لقد كانت العلاقات الودية بين السيدة زينب وبين أخيها أبي الفضل العباس (عليهما السلام) تمتاز بنوع خاص من تبادل المحبة والإحترام ، فقد كانت السيدة زينب تكن إخوتها من أبيها كل عكاطفة وود ، وكان ذلك العطف والتقدير يظهر من خلال كيفية تعاملها مع إخوانها الأكارم .
    وكان سيدنا أبو الفضل العباس ـ بشكل خاص ـ يحترم أخته زينب احتراماً كثيراً جداً .
    وفي طوال رحلة قافلة الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة نحو العراق . . كان العباس هو الذي يقوم بشؤون السيدة زينب ، من مساعدتها حين الركوب أو النزول من المحمل ويبادر إلى تنفيذ الأوامر والطلبات بكل سرعة . . ومن القلب .
    فالسيدة زينب (عليها السلام) محترمة ومحبوبة عند الجميع ،

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 204

    يحبونها لعواطفها وأخلاقها المثالية ، يضاف إلى ذلك : أنها عميدة الأسرة ، وعقيلة بني هاشم ، وابنة فاطمة الزهراء ، وسيدة نساء أهل البيت .
    ومنذ وصول قافلة الإمام الحسين إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم ، إختار سيدنا العباس بن أمير المؤمنين (عليهما السلام) لنفسه نوعاً خاصاً من العبادة : وهي أنه كان إذا جن الليل يركب الفرس ويحوم حول المخيمات لحراسة العائلة .
    والعباس : إسم لامع وبطل شجاع ، تطمئن إليه نفوس العائلة والنساء والأطفال ، ويعرفه الأعداء أيضاً ، فقد ظهرت منه ـ يوم صفين ـ شجاعة عظيمة جعلت إسمه يشتهر عند الجميع بالبطولة والبسالة ، ولا عجب من ذلك فهو ابن أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
    وفي يوم عاشوراء ، لما قتل أكثر أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) أقبل العباس إلى أخيه الحسين واستأذنه للقتال ، فلم يأذن له ، وقال : «أخي أنت صاحب لوائي ، فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات» .
    فقال العباس : يا سيدي لقد ضاق صدري وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين .
    فقال له الإمام الحسين (عليه السلام) : «إذن . . فاطلب

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 205

    لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء» . (1)
    فأقبل العباس وحمل القربة وتوجه نحو النهر ليأتي بالماء . . . . ، وإلى أن وصل إلى الماء وملأ القربة ، وتوجه نحو خيام الإمام الحسين (عليه السلام) . فجعل الأعداء يرمونه بالسهام ـ كالمطر ـ حتى صار درعه كالقنفذ ، ثم قطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب ، فحاربهم وقاتلهم قتال الأبطال ، وكان جسوراً على الطعن والضرب .
    فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وضربه بالسيف على يمينه فقطعها ، فأخذ السيف بشماله واستمر في القتال ، فضربه لعين على شماله فقطع يده ، وجاءته السهام والنبال من كل جانب ، وجاء سهم وأصاب القربة فأريق ماؤها ، وضربه الأعداء بعمود من حديد على رأسه ، فسقط على الأرض صريعاً ، ونادى ـ بأعلى صوته ـ : أدركني يا أخي !
    وكان الإمام الحسين (عليه السلام) قد وقف على ربوة عند باب الخيمة . . وهو ينظر إلى ميدان القتال ، وكانت السيدة زينب واقفة تنظر إلى وجه أخيها ، وإذا بالحزن قد غطى ملامح الإمام الحسين ! فقالت زينب : أخي مالي أراك قد تغير وجهك ؟

    (1) كتاب «تظلم الزهراء» ص 210 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 206

    فقال : أخيه لقد سقط العلم وقتل أخي العباس !
    فكان السيدة زينب إنهد ركنها ، وجلست على الأرض وصرخت : وا أخاه ! وا عباساه !
    وا قلة ناصراه ، واضيعتاه من بعدك يا أبا الفضل !
    فقال الإمام الحسين : «إي والله ، من بعده وا ضيعتاه ! وا إنقطاع ظهراه !
    وأقبل الحسين ـ كالصقر المنقض ـ حتى وصل إلى أخيه فرآه صريعاً على شاطئ الفرات ، فنزل عن فرسه ووقف عليه منحنياً ، وجلس عند رأسه ، وبكى بكاءً شديداً ، وقال : «يعز ـ والله ـ علي فراقك ، الآن إنكسر ظهري ، وقلت حيلتي ، وشمت بي عدوي» .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 207

    مقتل الطفل الرضيع


    قال السيد ابن طاووس (1) : لما رأى الحسين (عليه السلام) مصارع فتيانه وأحبته عزم على لقاء القوم بمهجته ، ونادى :
    هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله ؟
    هل من موحد يخاف الله فينا ؟
    هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا ؟
    هل من معين يرجو ما عند الله بإعانتنا ؟
    فارتفعت اصوات النساء بالعويل ، فتقدم الإمام (عليه السلام) إلى باب الخيمة وقال لأخته زينب : ناوليني ولدي الرضيع حتى أودعه .

    (1) في كتاب الملهوف ص 168 / وذكر في كتاب بحار الأنوار ج 45 ص 46 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 208

    فأخذه وأوما إليه ليقبله فرماه حرملة بن كاهل بسهم فوقع في نحره فذبحه .
    فقال الحسين لأخته زينب : خذيه .
    ثم تلقى الدم بكفيه فلما امتلأتا رمى بالدم نحو السماء وقال : هون علي ما نزل بي أنه بعين الله .
    قال الإمام الباقر (عليه السلام) : فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض . (1)
    وفي رواية أخرى : أن الإمام الحسين (عليه السلام) حينما طلب طفله الرضيع ليودعه ، أقبلت السيدة زينب (عليها السلام) بالطفل ، وقد غارت عيناه من شدة العطش ، فقالت : يا أخي هذا ولدك له ثلاثة أيام ما ذاق الماء ، فاطلب له شربة ماء .
    فأخذه الإمام الحسين (عليه السلام) على يده ، وأقبل نحو أهل الكوفة وقال : «يا قوم : قد قتلتم أخي وأولادي وأنصاري ، وما بقي غير هذا الطفل ، وهو يتلظى عطشاً ، من غير ذنب أتاه إليكم ، فاسقوه شربةً من الماء ، ولقد جف اللبن في صدر أمه !
    يا قوم ! إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل ، فبينما

    (1) كتاب «معالي السبطين» ، ج 1 ، ص 259 ، المجلس السادس عشر .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 209

    هو يخاطبهم إذا أتاه سهم فذبح الطفل من الأذن إلى الأذن !!
    فجعل الإمام الحسين (عليه السلام) يتلقى الدم حتى امتلأت كفه ، ورمى به إلى السماء ، وخاطب نفسه قائلاً : «يا نفس اصبري واحتسبي فيما أصابك» ثم قال : إلهي ترى ما حل بنا في العاجل ، فاجعل ذلك ذخيرةً لنا في الآجل» . (1)
    وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام الحسين (عليه السلام) لما رجع بالرضيع مذبوحاً إلى الخيام ، رأى الأطفال والبنات ـ ومعهن أم الرضيع ـ واقفات بباب الخيمة ينتظرن رجوع الإمام ، لعلهن يحصلن على بقايا من الماء الذي قد يكون الإمام سقاه لطفله .
    فلما رأى الإمام الحسين ذلك ، غير طريقه ، وذهب وراء الخيام ، ونادى أخته زينب لتأتي وتمسك جثمان الرضيع لكي يخرج الإمام خشبة السهم من نحر الطفل !!
    ويعلم الله ماذا جرى على قلب الإمام الحسين وقلب السيدة زينب (عليهما السلام) ساعة إخراج السهم من نحر الطفل .
    ثم إن الإمام حفر الأرض ودفن طفله الرضيع تحت التراب .

    (1) كتاب «معالي السبطين» ، ج 1 ، ص 259 ، المجلس السادس عشر .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 210




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 211


    الفصل العاشر

  • الإمام الحسين يودع ولده المريض
  • الإمام الحسين يودع السيدة زينب
  • الإمام الحسين يخرج إلى ساحة الجهاد
  • عودة فرس الإمام إلى المخيم
  • ذهاب السيدة زينب إلى المعركة


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 212




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 213

    الإمام الحسين (عليه السلام) يودع ولده المريض


    كانت ساعات يوم عاشوراء تقترب نحو العصر ، دقيقة بعد دقيقة ، والإمام الحسين (عليه السلام) يعلم باقتراب تلك اللحظة التي يفارق فيها الحياة بأفجع صورة وأفظع كيفية .
    وها هو ينتهز تلك اللحظات ليقوم بما يلزم ، فقد جاء ليودع ولده البار المريض : الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام .
    وكانت السيدة زينب عليها السلام ـ والتي تفايضت صحيفة أعمالها بالحسنات ـ قد أضافت إلى حسناتها حسنةً أخرى ، وهي تمريض الإمام زين العابدين (عليه السلام) وتكفل شؤونه .
    ودخل الإمام الحسين على ولده في خيمته ، وهو طريح على

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 214

    نطع الأديم (1) ، فلا سرير ولا فراش وثير ، قد امتص المرض طاقات بدنه ، لا طاقات روحه المرتبطة بالعالم الأعلى .
    فدخل عليه ، وعنده السيدة زينب تمرضه ، فلما نظر علي بن الحسين إلى أبيه أراد أن ينهض فلم يتمكن من شدة المرض ، فقال لعمته :
    «سنديني إلى صدرك ، فهذا ابن رسول الله قد أقبل» .
    فجلست السيدة زينب خلفه ، وسندته إلى صدرها .
    فجعل الإمام الحسين (عليه السلام) يسأل ولده عن مرضه ، وهو يحمد الله تعالى ، ثم قال : يا أبت ما صنعت اليوم مع هؤلاء المنافقين ؟
    فقال له الحسين (عليه السلام) : «يا ولدي إستحوذ عليهم الشيطان ، فأنساهم ذكر الله ، وقد شب القتال بيننا وبينهم ، حتى فاضت الأرض بالدم منا ومنهم» .
    فقال : يا أبتاه أين عمي العباس ؟
    فلما سأل عن عمه إختنقت السيدة زينب بعبرتها ، وجعلت تنظر إلى أخيها كيف يجيبه ؟ لأنه لم يخبره ـ قبل ذلك ـ بمقتل العباس خوفاً من أن يشتد مرضه .

    (1) النطع : بساط من الجلد يفرش تحت الإنسان . الأديم : الجلد المدبوع .

    السابق السابق الفهرس التالي التالي