زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 215

فقال : «يا بني إن عمك قد قتل ، وقطعوا يديه على شاطئ الفرات» .
فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً حتى غشى عليه ، فلما افاق من غشيته جعل يسأل أباه عن كل واحد من عمومته ، والحسين (عليه السلام) يقول له : قتل .
فقال : وأين أخي علي ، وحبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة وزهير بن القين ؟
فقال له : يا بني ! إعلم أنه ليس في الخيام رجل إلا أنا وأنت ، وأما هؤلاء الذين تسأل عنهم فكلهم صرعى على وجه الثرى .
فبكى علي بن الحسين بكاءً شديداً ، ثم قال ـ لعمته زينب ـ : يا عمتاه علي بالسيف والعصا .
فقال له أبوه : وما تصنع بهما ؟
قال : أما العصا فاتوكأ عليها ، وأما السيف فأذب به بين يدي أبن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه لا خير في الحياة بعده .
فمنعه الحسين (عليه السلام) عن ذلك وضمه إلى صدره ، وقال له : يا ولدي ! أنت أطيب ذريتي ، وأفضل عترتي ، وأنت خليفتي على هؤلاء العيال والأطفال ، فإنهم غرباء ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 216

مخذولون ، قد شملتهم الذلة (1) ، واليتم ، وشماتة الأعداء ، ونوائب الزمان . (2)
سكتهم إذا صرخوا ، وآنسهم إذا استوحشوا ، وسل خواطرهم بلين الكلام ، فإنه ما بقي من رجالهم من يستأنسون به غيرك ، ولا أحد عندهم يشتكون إليه حزنهم سواك .
دعهم يشموك وتشمهم ، ويبكوا عليك وتبكي عليهم» .
ثم لزمه بيده وصاح بأعلى صوته : «يا زينب ! ويا أم كلثوم ، ويا رقية ! ويا فاطمة !
إسمعن كلامي ، وأعلمن أن إبني هذا خليفتي عليكم وهو إمام

(1) الذلة على قسمين : ظاهرية وواقعية ، ولا شك أن المراد من الذلة ـ هنا ـ : الذلة الظاهرية . . وليست الوكاقعية ، وعلى هذا المعنى يحمل قول الإمام الرضا (عليه السلام) : «إن يوم الحسين . . . . أذل عزيزنا» .
ولعل المقصود من الذلة : هو وقوع حفيدات النبوة وبنات الإمامة في أسر الأعداء ، ومعاناتهن من التعامل القاسي من أولئك .
المحقق
(2) النوائب ـ جمع نائبة ـ : المصائب والمتاعب التي يراها الإنسان طوال حياته . سميت بـ«النوائب» لأن الإنسان كلما تخلص من مصيبة ظهرت في حياته مصيبة أخرى ومن نوع آخر ، فكأن المصيبة اللاحقة نابت عن المصيبة السابقة ، وحلت مكانها ، فسميت بـ«النائبة» .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 217

مفترض الطاعة» .
ثم قال له : «يا ولدي بلغ شيعتي عني السلام ، وقل لهم : إن أبي مات غريباً فاندبوه ، ومضى شهيداً فابكوه» . (1)



(1) كتاب (الدمعة الساكبة) للبهبهاني ، طبع لبنان ، عام 1409 هـ ، ج 4 ، ص 351 ـ 352 .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 218




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 219

الإمام الحسين يودع السيدة زينب


يعتبر التوديع نوععاً من التزود من الرؤية ، فالمسافر يتزود من رؤية من سيفارقهم وهم يتزودون من رؤيته ، والوداع يخفف ألم البعد والفراق ، لأن النفس تكون قد استوفت قسطاً من رؤية الغائب ، وتوطنت على المفارقة ومضاعفاتها .
ولهذا جاء الإمام الحسين (عليه السلام) ليودع عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة ، وودائع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ليودع النساء والأخوات والبنات وأطفاله الأعزاء ، وليخفف عنهم صدمة مصيبة الفراق .
قد تحدث في هذا العالم حوادث وقضايا يمكن شرحها ووصفها ، وقد تحدث أمور يعجز القلم واللسان عن شرحها ووصفها ، بل لا يمكن تصورها .
إنني أعتقد أن تلك الدقائق واللحظات ـ من ساعات

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 220

التوديع ـ كانت تجاوزت حدود الوصف والبيان .
فالأحزان قد بلغت منتهاها ، والقلق والاضطراب قد بلغ أشده ، والعواطف قد هاجت هيجان البحار المتلاطمة ، والدموع متواصلة تتهاطل كالمطر ، وأصوات البكاء لا تنقطع ، والقلوب ملتهبة ، بل مشتعلة ، والهموم والغموم متراكمة مثل تراكم الغيوم .
فبعد أن قتل جميع أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وبنو هاشم ، ولم يبق من الرجال أحد ، عزم الإمام على لقاء الله تعالى ، وعلى ملاقاة الأعداء بنفسه المقدسة ، فأقبل إلى المخيم للوداع ، ونادى : «يا سكينة ويا فاطمة ، يا زينب ويا أم كلثوم : عليكن مني السلام ، فهذا آخر الإجتماع ، وقد قرب منكن الإفتجاع !
فعلت أصواتهن بالبكاء ، وصحن : الوداع . . الوداع ، الفراق . . الفراق ، فجاءته عزيزته سكينة وقالت : يا أبتاه إستسلمت للموت ؟ فإلى من أتكل ؟
فقال لها : «يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين ، ورحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة ، فاصبري على قضاء الله ولا تشكي ، فإن الدنيا فانية ، والآخرة باقية .
قالت : أبه ردنا إلى حرم جدنا رسول الله ؟

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 221

فقال الإمام الحسين : هيهات ، لو ترك القطا لغفا ونام .
فبكت سكينة فأخذها الإمام وضمهما إلى صدره ، ومسح الدموع عن عينيها .
ثم إن الإمام الحسين (عليه السلام) دعى النساء بأجمعهن ، وقال لهن : «إستعدوا للبلاء ، واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم» .
ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن ، فسألته السيدة زينب عن سبب ذلك ، فقال : «كأني أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب ويسومونكم سوء العذاب !!
فلما سمعت السيدة زينب ذلك بكت ونادت : واوحدتاه ، واقلة ناصراه ، ولطمت على وجهها !
فقال لها الإمام الحسين : «مهلاً يا بنة المرتضى ، إن البكاء طويل» !!
ثم أراد الإمام أن يخرج من الخيمة فتعلقت به السيدة زينب وقالت : «مهلاً يا أخي ، توقف حتى أتزود منك ومن

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 222

نظري إليك ، وأودعك وداع مفارق لا تلاقي بعده» ؟ فجعلت تقبل يديه ورجليه .
فصبرها الإمام الحسين ، وذكر لها ما أعد الله للصابرين .
فقالت : يا بن أمي طب نفساً وقر عيناً فإنك تجدني كما تحب وترضى .
فقال لها الإمام الحسين : «أخيه إيتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد ، اجعله تحت ثيابي لئلا أجرد بعد قتلي ، فإني مقتول مسلوب ، فارتفعت اصوات النساء بالبكاء .
ولما أراد الإمام أن يخرج نحو المعركة نظر يميناً وشمالاً ونادى : هل من يقدم إلي جوادي ؟
فسمعت السيدة زينب ذلك ، فخرجت وأخذت بعنان الجواد ، وأقبلت إليه وهي تقول : لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ؟ ! (1)
وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين (عليه السلام) أوصى أخته السيدة زينب قائلاً : «يا أختاه ! لا تنسيني في نافلة الليل» . (2)

(1) كتاب «معالي السبطين» ج 2 ص 13 ـ 14 ، المجلس السادس .
(2) كتاب «زينب الكبرى» للشيخ جعفر النقدي ، ص 58 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 223

الإمام الحسين يخرج إلى ساحة الجهاد


كانت تلك اللحظات من أصعب الساعات في حياة السيدة زينب ، من هول قرب الفاجعة والمستقبل المخيف المرعب .
وهل يستطيع القلم واللسان من وصف تلك الدقائق ، وتأثيرها على قلب السيدة زينب عليها السلام ؟
لقد توجه أخوها إلى ساحة القتال بعد أن قدم أعز أصحابه ، وأشرف شبابه ، وأكرم عشيرته ضحايا في سبيل الله ، ولم يبق له ومعه أحد من الرجال سوى ولده العليل .
ونتيجة الذهاب إلى المعركة معلومة : القتل والشهادة ! !
لقد ترك الإمام الحسين (عليه السلام) أغلى ما عنده ، وهم عائلته الذين هم أشرف عائلة على وجه الأرض ، وأكثرها عفافاً وخفارة ، وهن مخدرات الرسالة وعقائل النبوة ، اللاتي كانت حياتهن مشفوعة بالعز والإحترام .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 224

تركهم في وسط البر الأقفر ، قد أحاط بهن سفلة المجتمع ، وأراذل الناس ، من باعة الضمائر ، والهمج الرعاع ، وفاقدي الفضيلة . أولئك الذين سلموا أنفسهم واستسلموا لأقذر سلطة في التاريخ ، وأرجس جهاز حاكم في العالم .
والعائلة المكرمة تعرف إتجاه أولئك الأشرار الأوباش ، ونفسياتهم ، فالمخاوف والأخطار تهاجم قلوب العائلة الشريفة من كل جانب .
فمن ناحية : الإحساس باقتراب الخطر من حياة الإمام الحسين (عليه السلام) .
ومن ناحية أخرى : ترقب إستيلاء العدو الشرس المتوحش على سرادق الوحي ومخيمات النبوة .
ومضاعفات هذه الاحتمالات من العواصف والأعاصير التي سوف تجتاح حياة السيدات . . كلها أمور تدعو إلى القلق والخوف والوحشة .
والآن . . نقرأ ما جاء في كتب التاريخ حول ذهاب الإمام الحسين إلى ساحة المعركة :
ولما قتل جميع أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ورجال أهل بيته ، ولم يبق منهم أحد ، عزم الإمام على لقاء القوم بنفسه ، فدعى ببردة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالتحف بها ، وأفرغ عليها درعه الشريف ، وتقلد

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 225

سيفه ، واستوى على متن جواده ، ثم توجه نحو ميدان الحرب والقتال ، فوقف أمام القوم وجعل يخاطب أهل الكوفة بقوله :
«ويلكم على م تقاتلونني ؟ !
على حق تركته ؟ !
أم على شريعة بدلتها ؟ !
أم على سنة غيرتها» ؟ !
فقالوا : بل نقاتلك بغضاً منا لأبيك ، وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين . (1)
وجاء في بعض كتب التاريخ : أن الإمام الحسين (عليه السلام) وقف أمام القوم وسيفه مصلت في يده ، آيساً من الحياة ، عازماً على الموت ، وهو يقول :
أنـا ابن علي الطهر من آل هاشم كفانـي بهذا مفخـراً حين أفخر
وجـدي رسول الله أكرم من مشى ونحن سراج الله في الخلق نزهر

(1) معالي السبطين ، ج 2 ص 5 ، الفصل العاشر ، المجلس الثاني .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 226

و فـاطم أمي من سلالة أحمـد و عمي يدعى ذا الجناحين جعفر
و فينـا كتـاب الله أنزل صادقاً وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر
ونحـن أمان الله للنـاس كلهـم نسـر بهذا فـي الأنـام ونجهر
ونحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا بكأس رسول الله مـا ليس ينكر
وشيعتنا في الحشر أكرم شيعـة و مبغضنـا يوم القيـامة يخسر
فطـوبى لعبد زارنا بعد موتنـا بجنة عدن صفوها لا يكدر (1)

فصاح عمر بن سعد : «الويل لكم ! أتدرون لمن تقاتلون ؟ ! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتال العرب ، إحملوا عليه من كل جانب» . فحملوا عليه وحمل عليهم كالليث المغضب ، فقتل منهم مقتلةًَ عظيمة ، وكانت الرجال تشد عليه فيشد عليها ، فتنكشف عنه كالجراد

(1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 45 ، ص 48 ـ 49 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 227

المنتشر ! (1)
فحمل على ميمنة عسكرهم وهو يقول :
الموت أولى من ركوب العار والعـار أولى من دخول النار

ثم حمل على ميسرة الجيش وهو يقول :
أنـا الحسين بن علـي آليـت أن لا أنـثنـي
أحمـي عيـالات أبي أمضي على دين النبي

فجعلوا يرشقونه بالسهام والنبال حتى صار درعه كالقنفذ ، فوقف ليستريح وقد ضعف عن القتال ، فبينما هو واقف إذ أتاه حجر فأصاب جبهته المقدسة ، فسال الدم على وجهه ، فأخذ الثوب ليسمح الدم عن عينه ، فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب ، فوقع السهم على صدره قريباً من قلبه ، فقال الإمام الحسين : «بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله» ، ورفع رأسه إلى السماء وقال : «إلهي . . إنك تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره» !
ثم أخذ السهم وأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب ، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت دماً رمى به إلى السماء ، ثم وضع يده على الجرح ثانياً فلما امتلأت لطخ به

(1) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 45 ص 50 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 228

رأسه ولحيته ، وقال : «هكذا أكون حتى القى جدي رسول الله وأنا مخضوب بدمي وأقول : يا رسول الله قتلني فلان وفلان» . (1)
فعند ذلك طعنه صالح بن وهب بالرمح على خاصرته طعنةً ، سقط منها عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن ، وهو يقول : «بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله» ثم جعل يجمع التراب بيده ، فيضع خده عليها ثم يناجي ربه قائلاً : «صبراً على قضائك وبلائك ، يا رب لا معبود سواك» .
ثم وثب ليقوم للقتال فلم يقدر ، فبكى بكاءً شديداً ونادى : «واجداه وامحمداه ، وا أبتاه واعلياه ، واغربتاه ، واقلة ناصراه !!
ءأقتل مظلوماً وجدي محمد المصطفى ؟!
ء أذبح عطشاناً وأبي علي المرتضى ؟ !
ءأترك مهتوكاً وأمي فاطمة الزهراء» ؟ ! (2)
فخرج عبد الله بن الإمام الحسن (عليه السلام) وهو غلام لم يراهق (في الحادية عشر من عمره) من عند النساء ،

(1) بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 53 .
(2) نفس المصدر .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 229

فشد حتى وقف إلى جنب عمه الحسين ، فلحقته زينب بنت علي لتحسبه ، فأبى وامتنع عليها إمتناعاً شديداً وقال : والله لا أفارق عمي وجاء حتى جلس عند الإمام ، وجعل يطلب منه أن ينهض ويرجع إلى المخيم ، وفي هذه الأثناء . . أقبل أبحر بن كعب إلى الحسين والسيف مصلت بيده ، فقال له الغلام : ويلك يا بن الخبيثة اتقتل عمي ! فضربه أبحر بالسيف فاتقاه الغلام بيده (1) وأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، ونادى الغلام : يا عماه ، فأخذه الإمام الحسين وضمه إليه وقال : «يا بن أخي إصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الأجر ، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين» ، فرماه حرملة بسهم فذبحه في حجر عمه الحسين . (2)
وبقي الإمام الحسين (عليه السلام) مطروحاً على الأرض . . والشمس تصهر عليه ، فنادى شمر بالعسكر : ما وقوفكم ؟ ! إحملوا عليه .

(1) لعل المعنى : أن الغلام مد يده على جسم عمه الحسين لكي لا تصل الضربة إليه ، لكن العدو أنزل السيف ولم يرحم الغلام . أطنها : قطعها . أي : قطع السيف يد الغلام إلى الجلد .
(2) بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 53 ـ 54 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 230

فحملوا عليه من كل جانب ، وضربه زرعة بن شرؤيك بالسيف على كتفه ، وطعنه الحصين بن نمير بالرمح في صدره .
فصاح عمر بن سعد : ويلكم أنزلوا وحزروا رأسه ! وقال لرجل : ويلك إنزل إلى الحسين وأرحه !
فأقبل عمرو بن الحجاج ليقتل الحسين ، فلما دنى ونظر إلى عينيه ولى راجعاً مدبراً ، فسألوه عن سبب رجوعه ؟ قال : نظرت إلى عينيه كأنهما عينا رسول الله !!
وأقبل شبث بن ربعي فارتعدت يده ورمى السيف هارباً . . . .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 231

عودة فرس الإمام الحسين إلى المخيم


وكان فرس الإمام الحسين . . فرساً أصيلاً من جياد خيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وقد بقي حياً إلى ذلك اليوم ـ فلما رأى ما جرى على صاحبه (أي سقوط الإمام عن ظهره إلى الأرض) جعل يحمهم ويصهل ويشم الإمام الحسين ويمرغ ناصيته بدمه ، ثم توجه نحو خيام الإمام (عليه السلام) بكل سرعة . . وهو هائج هياجاً شديداً ، وقد ملأ البيداء صهيلاً عظيماً ، فلما وصل إلى المخيم جعل يضرب الأرض برأسه عند خيمة الإمام الحسين ، وكأنه يريد إخبار العائلة بما جرى على راكبه ، حتى سقط على الأرض عند باب الخيمة .
فخرجت النساء والأطفال من الخيام فرأين الفرس خالياً من راكبه ، فارتفعت صياح النساء ، وخرجن حافيات باكيات ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 232

يضربن وجوههن ، لما نزل بهن من المصيبة والبلاء ، وهن يصحن : «وا محمداه ، واعلياه ، وافاطماه ، واحسناه ، واحسيناه» .
وصاحت سكينة : «قتل ـ والله ـ أبي الحسين ، ونادت : واقتيلاه ، وا أبتاه ، واحسيناه ، واغربتاه» . (1)


(1) معالي السبطين ، ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر ، رواه عن كتاب (تظلم الزهراء) .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 233

ذهاب السيدة زينب إلى المعركة


ولما سقط الإمام الحسين (عليه السلام) على الأرض خرجت السيدة زينب من باب الخيمة نحو الميدان ، وهي تنادي : وا أخاه ، واسيداه ، وا أهل بيتاه ، ليت السماء أطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل .
ثم وجهت كلامها إلى عمر بن سعد ، وقالت : يا بن سعد ! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟ !
فلم يجبها عمر بشيء .
فنادت : ويحكم !! ما فيكم مسلم ؟ ! (1)
فلم يجبها أحد بشيء .
ثم انحدرت نحو المعركة وهي تركض مسرعةً ، فتارةً تعثر

(1) وفي نسخة : أما فيكم مسلم ؟
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 234

بأذيالها ، وتارةً تسقط على وجهها من عظم دهشتها حتى وصلت إلى وسط المعركة ، فجعلت تنظر يميناً وشمالاً ، فرأت أخاها الحسين (عليه السلام) مطروحاً على وجه الأرض ، وهو يخور في دمه ، ويقبض يميناً وشمالاً ، ويجمع رجلاً ويمد أخرى ، والدماء تسيل من جراحاته ، فجلست عنده وطرحت نفسها على جسده الشريف ، وجعلت تقول :
ءأنت الحسين ؟ !
ءأنت أخي ؟ !
ءأنت ابن أمي ؟ !
ءأنت نور بصري ؟ !
ءأنت مهجة فؤادي ؟ !
ءأنت حمانا ؟ !
ءأنت رجانا ؟ !
ءأنت ابن محمد المصطفى ؟ !
ءأنت ابن علي المرتضى ؟ !
ءأنت ابن فاطمة الزهراء ؟ (1)

(1) أقول : يحتمل أن السيدة زينب قالت هذه الكلمات بصيغة السؤال . .
ومن منطلق الإستغراب حيث رأت أخاها العزيز وهو بتلك الحالة المؤلمة ، خاصةً . . وأنها عارفة بعظمته ، وجلالة قدره .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 235

كل هذا ، والإمام الحسين لا يرد عليها جواباً ، لأنه كان مشغولاً بنفسه ، وقد استولى عليه الضعف الشديد بسبب نزف الدم وكثرة الجراحات .
فقالت : أخي ! بحق جدي رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبي : علي المرتضى إلا ما خاطبتني ، وبحق أمي فاطمة الزهراء إلا ما جاوبتني .
يا ضياء عيني كلمني .
يا شقيق روحي جاوبني .
فعند ذلك جلست خلفه ، وأدخلت يديها تحت كتفه وأجلسته حاضنةً له بصدرها .
فانتبه الإمام الحسين من كلامها ، وقال لها ـ بصوت ضعيف ـ : «أخيه زينب ! كسرتي قلبي ، وزدتيني كرباً على كربي ، فبالله عليك إلا ما سكنت وسكت» .
فصاحت : «وايلاه ! يا أخي وابن أمي ، كيف أسكن وأسكت ، وانت بهذه الحالة ، تعالج سكرات الموت ؟ !
روحي لروحك الفداء ! نفسي لنفسك الوقاء» .

ويحتمل أنها قالت هذه الكلمات لا بصيغة السؤال أو منطلق الإستغراب ، بل من منطلق العاطفة والحنان ، ولعلها تحصل على كلمة جوابية منه (عليه السلام) فتعلم أنه لا زال حياً .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 236

فبينما هي تخاطبه ويخاطبها ، وإذا بالسوط يلتوي على كتفها ، وقائل يقول : تنحي عنه ، وإلا الحقتك به ، فالتفت وإذا هو شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله) .
فاعتنقت أخاها ، وقالت : والله لا أتنحى عنه ، وإن ذبحته فأذبحني قبله .
فجذبها عنه قهراً ، وقال : والله إن تقدمت إليه لضربت عنقك بهذا السيف .
ثم جلس اللعين على صدر الإمام ، فتقدمت السيدة زينب إليه ، وجذبت السيف من يده .
وقالت : يا عدو الله ! إرفق به لقد كسرت صدره ، واثقلت ظهره ، فبالله عليك إلا ما أمهلته سويعةً لا تزود منه .
ويلك ! أما علمت أن هذا الصدر تربى على صدر رسول الله وصدر فاطمة الزهراء ؟ !
ويحك ! هذا الذي ناغاه جبرئيل ، وهز مهده ميكائيل ! !
. . . . دعني أودعه ، دعني أغمضه ، . . . فلم يعبأ اللعين بكلامها ، ولا رق قلبه عليها . (1)

(1) كتاب «تظلم الزهراء» للسيد رضي بن نبي القزويني ، ص 232 ، طبع بيروت ـ لبنان ، عام 1420 هـ .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 237

ويستفاد من بعض كتب المقاتل أن السيدة زينب (عليها السلام) لم تكن هناك حين مجيء الشمر ، بل أسرعت إلى المخيم ، إمتثالاً لأمر الإمام الحسين (عليه السلام) حيث أمرها بالرجوع إلى الخيام .
ووقعت الفاجعة العظمى والرزية الكبرى ، ألا وهي : مقتل الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) .
فبدأت الأرض ترتجف تحت أرجل الناس ، وانكسفت الشمس ، وأمطرت السماء دماً عبيطاً (1) وتراباً أحمر .
فاقبلت العقيلة زينب إلى مخيم الإمام زين العابدين (عليه السلام) وقالت : يا بن أخي : ما لي أرى الكون قد تغير ؟ والشمس منكسفة ؟ والأرض ترجف ؟ !
فقال لها : يا عمة : أنا عليل مريض لا أستطيع النهوض إرفعي جانب الخيمة وسنديني إلى صدرك لا نظر ما الذي جرى !
فنظر إلى المعركة وإذا بفرس أبيه الحسين يجول في الميدان خالي السرج وملقى العنان ، ورأي رمحاً عليه رأس الإمام الحسين !
فقال يا عمة : إجمعي العيال والأطفال ، لقد قتل أبي

(1) الدم العبيط : هو الدم الطري غير المتخثر .

السابق السابق الفهرس التالي التالي