زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 263

نفسها عليه تارةً أخرى .
تبكي عليه بدموع منهمرة متواصلة ، وتندبه من أعماق نفسها ، ندبةً تكاد روحها تخرج مع زفراتها وآهاتها !
تندبه بكلمات منبعثة من أطهر قلب ، خالية عن كل رياء وتصنع ، وكل كلمة منها تعتبر إعلاناً عن حدوث أكبر فاجعة ، وأوجع مصيبة .
إنها سجلت تلك الكلمات على صفحات التاريخ لتكون خالدةً بخلود الأبد ، تقرؤها الأجيال قرناً بعد قرن ، وأمةً بعد أمة ، كي تستلهم منها الدروس والعبر . . . ولكي تبقى المدرسة الزينبية خالدةً بخلود كل المفاهيم العالية والأصول الإنسانية .
نعم ، كلمات تقرع الأسماع اليقظة كصوت الرعد ، فتضطرب منها القلوب وتتوتر منها الأعصاب ، وتسخن الغدد الدمعية المنصوبة على قمة العينين ، فلا تستطيع الغدد حبس الدموع ومنعها عن الخروج والهطول .
وتضيق الصدور فلا تستطيع كبت الآهات ، والنحيب والزفير .
أجل . . إنها معجزة وأية معجزة ، صدرت من سيدة قبل أربعة عشر قرناً ، أراد الله تعالى لها البقاء ، لتكون تلك المعجزة غضة ، وكأنها حادثة اليوم وحدث الساعة .
أجل . . .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 264


كان المفروض أن تفقد السيدة زينب الكبرى وعيها ، وتنهار أعصابها ، وتنسى كل شيء حتى نفسها ، وتتعطل ذاكرتها أمام جبال المصائب والفجائع ، والهموم والأحزان .
نعم ، هكذا كان المفروض ، ولكن إيمانها الراسخ العجيب بالله تعالى ، وقلبها المطمئن بذكر الله (عزوجل) كان هو الحاجز عن صدور كل ما ينافي الوقار والإتزان ، والخروج عن الحالة الطبيعية .
وليس معنى ذلك السكوت الذي يساوي عدم الإهتمام بتلك الفاجعة أو عدم المبالاة بما جرى ، بل لا بد من إيقاظ الشعور العام بتلك الجناية العظمى ، التي صدرت من أرجس عصابة على وجه الأرض .
فلا عجب إذا هاجت أحزانها هيجان البحار المتلاطمة الأمواج ، وتفايض قلبها الكبير . . بالعواطف والمحبة ، وجعلت تندب أخاها بكلمات في ذروة الفصاحة والبلاغة ، وتعتبر أبلغ كلمات سجلها التاريخ في الرثاء والتأبين ، وفي مقام التوجع والتفجع . (1)
قال الراوي : فوالله لا أنسى زينب بنت علي وهي تندب أخاها

(1) وكان ذلك حينما مروا بقافلة الأسارى على مصرع الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الحادي عشر من المحرم .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 265

الحسين بصوت حزين وقلب كئيب :
«يا محمداه ، صلى عليك مليك السماء ، هذا حسين مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، مسلوب العمامة والرداء ، محزوز الرأس من القفا . ونحن بناتك سبايا .
إلى الله المشتكى ، وإلى محمد المصطفى ، وإلى علي المرتضى ، وإلى فاطمة الزهراء ، وإلى حمزة سيد الشهداء .
يا محمداه ! هذا حسين بالعراء (1) ، تسفي عليه ريح الصباء ، قتيل أولاد البغايا .
واحزناه ! واكرباه عليك يا أبا عبد الله .
بأبي من لا هو غائب فيرتجي ، ولا جريح فيداوى .
بأبي المهموم حتى قضى .
بأبي العطشان حتى مضى . . . .»
فأبكت ـ والله ـ كل عدو وصديق . (2)
واعتنقت زينب جثمان أخيها ، ووضعت فمها على نحره وهي تقبله وتقول :
«أخي لو خيرت بين المقام عندك أو الرحيل لاخترت

(1) العراء : الأرض المنبسطة التي لا يستر فضاءها شيء .
(2) كتاب (الملهوف) لابن طاووس ، ص 181 ، وكتاب الإيقاد ، ص 140 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 266

المقام عندك ، ولو أن السباع تأكل من لحمي .
يابن أمي ! لقد كللت عن المدافعة لهؤلاء النساء والأطفال ، وهذا متني قد أسود من الضرب ! ! (1).



(1) معالي السبطين ج 2 ، الفصل العاشر ، المجلس الرابع عشر .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 267


الفصل الثاني عشر

  • مدينة الكوفة
  • قافلة آل الرسول تصل الكوفة


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 268




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 269

    مدينة الكوفة


    لقد كانت الكوفة : مدينة موالية للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان أهلها ـ رجالاً ونساءً ـ قد تطبعوا بأحسن الإنطباعات في ظل حكومة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بسبب المناهج الصحيحة التي انتهجها الإمام لتربية وإدارة شعبه .
    وكانت لدى أهل الكوفة أحسن الإنطباعات عن الإمام ، نظراً لسيرته الشخصية والإجتماعية والحكومية ، وأسلوب تعامله مع أفراد الشعب إبان حكومته عليهم ، فعواطفه التي شملت جميع طبقات الشعب ، وتوفير لوازم الحياة لهم ، ومواساته معهم في السراء والضراء ، وعدله الواسع الشامل وعطاياه السنية ، وسخاؤه وكرمه ، وعلمه الجم ، وغير ذلك من الفضائل التي تركت إنعكاساتها الإيجابية في نفوس أهل الكوفة ، وأثرت فيهم أحسن الأثر .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 270

    كل هذه الأمور . . جعلت الطابع العام الغالب على الكوفة : هو الولاء والمحبة لآل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
    ومن الطبيعي أن كل عصر ومصر لا يخلو من الأشرار والسفلة ، حتى المدينة المنورة ـ في عهدها الزاهر . . في عصر الرسول الكريم ـ كانت تحتوي على عناصر المنافقين وغيرهم .
    وهنا سؤال يقول : إذا كانت مدينة الكوفة موالية للإمام . . فكيف صدرت من أهلها تلك المواقف المخزية تجاه الإمام الحسين (عليه السلام) ؟ !
    إن الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى مزيد من الشرح والتفصيل ، وهو خارج عن أسلوب الكتاب ، ولكننا نذكر ـ الآن ـ، مثالاً توضيحياً لهذا البحث ونترك دراسة الموضوع إلى فرصة أخرى :
    قد تحدث في فرد من الناس أو شعب من الشعوب حالة شاذة ، غير طبيعية ، تشبه حالة السكر وفقدان الوعي ، فإذا زالت آثار السكر . . عاد الوعي ، ثم الحالة الطبيعية ، ثم الندم !
    وفعلاً . . ترى ذلك الفرد ـ أو الشعب ـ يتعجب من تصرفاته الشاذة خلال حالة سكره ، بل ويتعجب منه عقلاء العالم !

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 271

    ومن الثابت أن العقلاء لا يقبلون أي عذر من ذلك الفرد أو الشعب الذي مر بتلك الحالة الشاذة ، لأن العقل والدين يفرضان على الإنسان أن يوفر في نفسه وقلبه وذهنه خلفية علمية ومناعة دينية وإيمانية تبعده عن هذا النوع من الحالات الشاذة ، وتحفظه من السقوط في هكذا منعطفات مصيرية محتملة .
    وذلك يحصل بتقوية الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة . . في قلب الإنسان ، ثم الإستمرار في شحن النفس بالطاقة الإيمانية التي تقوم بدور مهم في إبعاد الإنسان عن مراكز وصالات وأجواء الإنحراف العقائدي والسلوكي ، وتحميه من السقوط في مهاوي جهنم .
    أجل . .
    لقد كانت مدينة الكوفة ـ قبل عشرين سنة من تاريخ فاجعة كربلاء ـ : عاصمةً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومركزاً لحكومته ، ومقراً لقيادته .
    وكانت السيدة زينب ـ حينذاك ـ في أوج العظمة والجلالة ، وكانت سيدات الكوفة يتمنين الحضور عندها ، وإذا كانت السيدة زينب تنظر إلى إحداهن نظرة ، أو تتكلم معها كلمة ، لكان قلبها يمتلئ فرحاً وسروراً ، وتشعر بالشرف والفخر ، لأن إبنة أمير المؤمنين نظرت إليها أو تكلمت معها ! !

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 272

    ولكن اليوم . . وبعد حوالي عشرين سنة ، تغيرت الأوضاع عما كانت عليه قبل ذلك ! ! وأخذت الكوفة طابعاً شاذاً يختلف عما مضى ، فقد إنقلبت إلى جو من الإرهاب والإرعاب ، وانتشر الآلاف من الشرطة والجواسيس ، وهم في حالة التأهب والإستعداد ، خوفاً من هياج الناس ، وخنقاً لكل صوت يرتفع ذد السلطة .
    هذا . . ويضاف إلى ذلك : أن المئات ـ أو الآلاف ـ من الموالين للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان الطاغية ابن زياد قد سجنهم كي لا يلتحقوا بأصحاب الإمام الحسين في كربلاء .
    وهناك من أخفى نفسه في البيوت كي لا يتعرض للقتل من قبل السلطة حيث لم يستطع الإلتحاق بالإمام بسبب الأعداد الهائلة من الشرطة التي كانت السلطة قد نشرتهم في جميع نواحي وبوابات مدينة الكوفة .
    وعدا من التحق بالإمام الحسين في كربلاء ـ من أهل الكوفة ـ ونصروه ، وقتلوا في سبيل الدفاع عنه ، ويبلغ عددهم أكثر من عشرين رجل ، مذكورة أسماؤهم في الكتب المفصلة التي تتحدث عن فاجعة كربلاء الدامية .

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 273

    قافلة آل الرسول تصل الكوفة


    وذكر الطريحي في كتاب (المنتخب) عن مسلم الجصاص قال :
    دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة ، فبينما أنا أجصص الأبواب ، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة (1) ، فأقبلت على خادم كان يعمل معنا ، فقلت : ما لي أرى الكوفة تضج ؟
    قال : الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد بن معاوية .
    فقلت : من هذا الخارجي ؟
    قال : الحسين بن علي !
    فتركت الخادم حتى خرج ، ولطمت على وجهي ، حتى

    (1) الزعقات ـ جمع زعقة ـ : الصيحة . الزعق : الصباح ، كما في كتاب «لسان العرب» لابن منظور ، و«الصحاح» للجوهري .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 274

    خشيت على عيني أن تذهبا ، وغسلت يدي من الجص ، وخرجت من ظهر القصر ، وأتيت إلى الكناس (1) فبينا أنا واقف ، والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبلت نحو أربعين شقة ، تحمل على أربعين جملاً (2) ، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة .
    وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير وطاء (3) ، وأوداجه تشخب دماً ، وهو مع ذلك يبكي ويقول :
    يا أمة السوء لا سقياً لربعكم يـا أمة لـم تراع جدنـا فينا

    إلى آخر الأبيات .
    وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز ، فصاحت بهم أم كلثوم :
    يا أهل الكوفة ! إن الصدقة علينا حرام !
    وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم ، وترمي به إلى الأرض .

    (1) الكناس والكناسة : محلة بالكوفة . كما في «معجم البلدان» للحموي .
    (2) شقة : المحمل والهودج .
    (3) وطاء : القماش وشبهه الذي يوضع على ظهر الجمل ، لراحة الراكب .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 275

    كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم ! !
    ثم إن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل وقالت :
    «صه يا أهل الكوفة ! تقتلنا رجالكم ، وتبكينا نساؤكم ؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله ، يوم فصل القضاء» .
    فبينما هي تخاطبهن ، وإذا بضجة قد ارتفعت ، وإذا هم قد أتوا بالرؤوس ، يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام) وهو رأس زهري ، قمري (1) ، أشبه الخلق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولحيته كسواد السبج (2) ـ قد انتصل منها الخضاب (3) ، ووجهه دارة قمر طالع (4) ـ والريح تلعب بها

    (1) زهري : أي مشرق اللون . . رغم إنفصاله عن الجسد . وزهري : تشبيه بنجم «الزهرة» المشهورة بالإشراقة والإضاءة المميزة في نورها . والتي هي عبارة عن اللون الأبيض المشرق المزيج مع لون الورد المحمدي ، أي : اللون الأحمر الفاتح . قمري : أي : أن وجهه مستدير الشكل . . وليس مستطيلاً .
    المحقق
    (2) السبج : معرب شبه ـ : وهو حجر أسود ، يضرب به المثل في شدة السواد .
    (3) إنتصل منها الخضاب : أي بدأ اللون الأسود يذهب من أصول الشعر .
    (4) دارة قمر طالع : أي مستدير وجميل ، كالقمر ليلة البدر ، حيث يكون متكامل القرص وشديد الإنارة .
    المحقق
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 276

    يميناً وشمالاً ، فالتفتت زينب ، فرأت رأس أخيها ، فنطحت جبينها بمقدم المحمل ، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها ، وأومأت إليه بخرقة ، وجعلت تقول :
    يـا هـلالاً لمـا استتـم كمالاً غالـه خسفه فأبـدى غروبا
    ما توهمت يـا شقيق فـؤادي كـان هذا مقـدراً مكتوبـاً
    يا أخي ! فاطم الصغيرة كلمها فقـد كـاد قلبهـا أن يذوبا

    إلى آخر الأبيات (1).
    وجاء في التاريخ : أن قافلة آل الرسول لما اقتربت من الكوفة ، إجتمع أهلها للنظر إليهن ، فأشرفت إمرأة من الكوفيات ـ من سطح دارها ـ وقالت : من أي الأسارى أنتن ؟
    قلن : نحن أسارى آل محمد !
    فنزلت من سطحها وجمعت ملاءاً وأزراً ومقانع ، فاعطتهن فتغطين . (2)

    (1) كتاب «المنتخب» للطريحي ، ج 2 ، ص 464 ، المجلس العاشر . وبحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 45 ، ص 114 ـ 115 .
    (2) كتاب (بحار الأنوار) ج 45 ، ص 108 ، نقلاً عن السيد ابن طاووس .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 277


    الفصل الثالث عشر

  • خطبة السيدة زينب في الكوفة
  • نص خطبة السيدة زينب في الكوفة
  • شرح خطبة السيدة زينب في الكوفة
  • كيف ولماذا قطعوا على السيدة زينب خطابها
  • نص خطبة السيدة زينب برواية أخرى


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 278




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 279

    خطبة السيدة زينب في الكوفة


    تعتبر خطبة السيدة زينب ـ في الكوفة وفي مجلس يزيد في الشام ـ في ذروة الفصاحة ، وقمة البلاغة ، وآيةً في قوة البيان ، ومعجزة في قوة القلب والأعصاب ، وعدم الوهن والانكسار أمام طاغية بني أمية ومن كان يحيط به من الحرس المسلحين ، والجلاوزة والجلادين الذين كانوا على أهبة الإستعداد ينتظرون الأوامر كي ينفذوها بأسرع ما يمكن من الوقت .
    وهنا سؤال قد يتبادر إلى الذهن وهو :
    إن السيدة زينب كانت سيدة المحجبات المخدرات ، ولم يسبق لها أن خطبت في مجلس رجال أو معجم عام ، وليس من السهل عليها أن ترفع صوتها وتخطب في تلك الأجتماعات ، فلماذا قامت السيدة بإلقاء الخطب على مسامع الجماهير مع تواجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) ؟

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 280

    ومع العلم أن الإمام زين العابدين كان أقوى وأقدر منها على فنون الخطابة ، وأولى من التحدث في جموع الرجال ؟
    لعل الجواب هو : أن الضرورة أو الحكمة إقتضت أن يسكت الإمام زين العابدين طيلة هذه المسيرة كي لا يجلب إنتباه الناس إلى قدرته على الكلام ، وحتى يستطيع أن يصب جام غضبه كله على يزيد ، في الجامع الأموي ، بمرأى ومسمع من آلاف المصلين الذين حضروا يومذاك لأداء صلاة الجمعة خلف يزيد .
    فلو كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يخطب في أثناء هذه الرحلة . . في الكوفة وغيرها ، فلعله لم وين يكن يسمح له بالخطابة في أي مكان آخر ، فكانت تفوته الفرصة الثمينة القيمة ، وهي فرصة التحدث في تلك الجماهير المتجمهرة في الجامع الأموي ، علماً بأنه لم يبق من آل الرسول في تلك العائلة رجل سوى الإمام زين العابدين .
    ولهذا السبب كانت السيدة زينب تتولى الخطابة في المواطن والأماكن التي تراها مناسبة .
    وليس معنى ذلك أنها فتحت الطريق أمام النساء ليخطبن في جموع الرجال ، أو المجتمعات العامة كالأسواق والساحات وغيرها ، بل إن الضروري القصوى كانت وراء خطبتها عليها السلام .
    هذا أولاً .
    ثانياً : لقد كانت حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) مهددة بالخطر طوال هذه الرحلة ـ وخاصة في الكوفة ـ فكم من مرة

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 281

    حكموا على الإمام بالقتل والإعدام ، لولا أن دفع الله تعالى عنه شرهم ؟ !
    فما ظنك لو كان الإمام (عليه السلام) يخطب في شارع الكوفة أو في مجلس الدعي بن الدعي عبيد الله بن زياد ، والحال هذه ؟ !
    هل كان يسلم من القتل ؟
    طبعاً : لا .
    إنهم أرادوا أن يقتلوه وهو ـ بعد ـ لم يخطب شيئاً ، فكيف لو كان يخطب في الناس ويكشف لهم عن مساوئ بني أمية ومخازيهم ، ويبين لهم أبعاد ومضاعفات جريمة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه وأهل بيته ؟ ؟ !

    * * * *


    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 282




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 283

    نص خطبة السيدة زينب في الكوفة


    والآن . . نذكر نص الخطبة ، ثم نشرح بعض كلماتها :
    قال بشير بن خزيم الأسدي (1) :
    ونظرت إلى زينب بنت علي (عليه السلام) يومئذ فلم أر خفرةً ـ والله ـ أنطق منها (2) ، كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (3) ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا .

    (1) المصادر التي تذكر خطبة السيدة زينب في الكوفة كثيرة ، ونحن اعتمدنا على كتاب «الملهوف» للسيد ابن طاووس (رضوان الله عليه) .
    (2) خفرةً : المرأة الشديدة الحياء .
    (3) تفرغ : تصب ، الإفراغ «الصب ، قال تعالى : «أفرغ علينا صبراً» .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 284

    فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ، ثم قالت :
    «الحمد لله والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار .
    أما بعد :
    يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر ! !
    أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة .
    إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم .
    ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف ؟ والصدر الشنف ؟ وملق الإماء ؟ وغمز الأعداء ؟
    أو كمرعى على دمنة ؟ أو كفضة على ملحودة ؟
    ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون .
    أتبكون ؟ وتنتحبون ؟
    إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً .
    فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً .
    وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ؟ ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهلا الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ،

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 285

    ومنار حجتكم ، ومدرة سنتكم ؟ ؟
    ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة .
    وَيلكم يا أهل الكوفة !
    أتدرون أيّ كبدٍ لرسولا لله فَرَيتُم ؟!
    وأيّ كريمةٍ له أبرزتم ؟!
    وأي دم له سفكتم ؟!
    وأيّ حرمةٍ له هتكتم ؟!
    لقد جئتم بها صَلعاء عَنقاء سَوداء فَقماء ، خَرقاء شَوهاء ، كطِلاع الأرض وملء السماء .
    أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وأنتم لا تُنصَرون .
    فلا يَستَخفّنكم المُهَل ، فإنّه لا يَحفِزُه البِدار ، ولا يَخافُ فَوتَ الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد» .(1)
    قال الراوي : «فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حَيارى

    (1) كتاب «الملهوف» للسيد ابن طاووس ، المتوفّى سنة 664 هـ ، ص 192 ـ 193 .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 286

    يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم . ورأيت شيخاًَ واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : «بأبي أنتم وأمي ! ! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى» . (1)



    (1) كتاب «الملهوف» للسيد ابن طاووس ، ص 193 ـ 194 . وسوف نذكر نص الخطبة على رواية كتاب «الإحتجاج» للشيخ الطبرسي ، وذلك لوجود بعض الفروق وزيادة بعض الإضافات ، ـ بعد الفراغ من شرح هذه الخطبة ـ إن شاء الله تعالى .
    المحقق
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 287

    شرح خطبة السيدة زينب في الكوفة


    قبل أن أبدأ بشرح بعض كلمات الخطبة أجلب إنتباه القارئ الذكي إلى بعض ما يرويه الراوي لهذه الخطبة ، وهو قوله :
    «فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها»
    يقال : خفرت الجارية : إذا استحت أشد الحياء ، فهي خفرة . ومن الطبيعي أن المرأة الخفرة يمنعها حياؤها من أن ترفع صوتها ، أو تخطب في مكان مزدحم ، فمن الواضح أنها إذا لم تمارس الخطابة لا تقوى على النطق والتكلم كما ينبغي ، ولكن راوي هذه الخطبة يقول : «فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها» أي : لم أر أقوى منها على التكلم ، وأقدر على الخطابة ، رغم كونها شديدة الحياء .

    السابق السابق الفهرس التالي التالي