زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 288

«كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب»
إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو إمام الخطباء والبلغاء والمتكلمين ، وقد كان له أسلوب خاص ، ومستوى رفيع في كلامه وخطبه ، يمتاز عن كلام غيره ، وفي أعلى قمة الفصاحة والبلاغة ، وجودة التعبير ، وعلو المستوى الأدبي والعلمي .
فمن ناحية : كان يسترسل في كلام . . دون أي توقف أو شرود ذهني ، وكان ينطق بالحروف . . دون أي تلكؤ في التلفظ ، فقد كان في غاية التمكن من الكلام والخطابة .
ومن ناحية أخرى : كانت الكلمات الأدبية الرفيعة منقادة له بشكل عجيب ، فهي تنبع من لسانه نبعاً طبيعياً . . دون أي تكلف أو تحضير مسبق ، وكان لصوته نبرة معينة .
وراوي هذه الخطبة كان ممن رأى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وسمع كلامه ، وها هو الآن . . يستمع إلى كلام السيدة زينب (عليها السلام) وبالمقارنة بين الكلامين يظهر له أن خطبة السيدة زينب صورة طبق الأصل لكلام أبيها ، من ناحية الأسلوب والبيان والمستوى وغير ذلك .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 289

«وقد أومات إلى الناس أن اسكتوا ، فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس» .
في ذلك المجتمع المتدفق بالسيل البشري ، وفي ذلك الجو المملوء بالهتافات والأصوات المرتفعة من الناس ، وأصوات الأجراس المعلقة في أعناق الإبل .
في بلدة إنتشر في جميع طرقها الآلاف من الشرطة كي يخنقوا كل صوت يرتفع ضد السلطة ، ويراقبوا حركات الناس وسكناتهم بكل دقة ، ويقضوا على كل إنتفاضة متوقعة .
في هذه الظروف وصل موكب آل رسول الله إلى الكوفة ، محاطاً بالحرس ، عملاء بني أمية ، وشر طبقات البشر ، وأرجس جميع الأمم .
في تلك الأجواء والظروف أشارت السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) إلى الناس أن اسكتوا . فتصرفت في الانسان والحيوان والجماد . إحتبست الانفاس في صدور الناس , ووقفت الإبل وسكنت عن الحركة , وسكنت الأجراس المعلقة فوق الإبل .
نعم , بإشارة واحدة , وبتلك الروح القوية , والنفس المطمئنة استولت على الموقف .
فقالت :

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 290

«الحمد الله , والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار»
افتتحت كلامها بحمد الله , ثم الصلاة على أبيها , رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وهذا منتهى البلاغة , فإنها ـ بهذا الإفتتاح ـ عرّفت نفسها ـ لتلك الجماهير المتجمهرة ـ بأنها بنت رسول الله , فالحفيدة تعتبر بنتاً , كما إن الجد يعتبر أباً , ولهذا قالت : الصلاة على أبي : محمد (صلى الله عليه واله وسلم)
ومما يستفاد من هذا التعبير هو التأكيد على مسألة مهمة جداً وهي مسألة بنوّة أولاد السيدة فاطمة لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) كما هو صرح آية المباهلة في قوله تعالى« قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ...» (1)
وقد كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يؤكدون على هذه النقطة ، كما أن أعداءهم النواصب كانوا يحاولون ـ دائماَ ـ التشكيك والمناقشة فيها ، وقد ذكرنا كلمة موجزة حول هذه النقطة في كتابنا : فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد .

(1) سورة آل عمران ، الآية 61 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 291

«أما بعد ، يا أهل الكوفة ! يا أهل الختل والغدر»
الختل : الغدر (1) ، وقال البعض : هو الخدعة عن غفلة (2). وفي نسخة : «والختر» : وهو شبه الغدر (3) ، لكنه أقبح أنواع الغدر (4).
لقد كانت لهذه الكلمات أشد الأثر في نفوس أهل الكوفة ، فإنها قد أوجدت فيهم اليقظة والوعي بصورة عجيبة ، حتى شعروا أن ضمائرهم بدأت تؤنبهم ، وان وجدانهم صار يوبخهم على جرائمهم الفجيعة وجناياتهم العظيمة .
فقد ذكرتهم كلمات السيدة زينب (عليها السلام) بماضيهم المخزي وتاريخهم الأسود ، حيث صدر منهم الغدر مرات عديدة ، فمنها :
1 ـ في يوم صفين عند تحكيم الحكمين ، غدر أهل الكوفة بالإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)

(1) الخاتل : الغادر . أقرب الموارد للشرتوني .
(2) المعجم الوسيط . وقال ابن عباد ـ في «المحيط» ـ الختل : الخدعة عن غفلة .
(3) كتاب «العين» للخليل بن أحمد .
(4) كما في كتاب «القاموس» للفيروز آبادي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 292

الذي كان الحق يتجسد فيه بأكمل وجه ، وخذلوه بتلك الكيفية المؤلمة !
2 ـ وحينما قتل الإمام أمير المؤمنين تهافت أهل الكوفة على مبايعة إبنه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) . وعندما خرج معاوية لحرب الإمام الحسن ، خذله أهل الكوفة وقعدوا عن نصرته غدراً منهم ، فخلا الجو لمعاوية وفعل ما فعل ، وضرب الرقم القياسي في الجريمة واللؤم !
3 ـ وبعد موت معاوية أرسل أهل الكوفة إثني عشر ألف رسالة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) أيام إقامته في مكة ، يطلبون منه التوجه إلى العراق لينقذهم من الإستعمار الأموي الغاشم . وضمنوا رسائلهم الأيمان المغلظة ، والعهود المؤكدة . . لنصرة الإمام والدفاع عنه بأموالهم وأنفسهم .
فبعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل ، فبايعه الآلأاف من أهل الكوفة ، ثم تفرقوا عنه وغدروا به ، وفسحوا المجال للدعي بن الدعي : عبيد الله بن زياد أن يلقي القبض على مسلم بن عقيل ويقتله ، واجتمع أطفال الكوفة وشدوا حبلاً برجل مسلم ، وجعلوا يسحبون جثمانه الطاهر في أسواق الكوفة . . بمرأى من الناس ! ! !

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 293

4 ـ وحينما لبى الإمام الحسين (عليه السلام) رسائل أهل الكوفة وجاء إلى العراق ، ووصل إلى أرض كربلاء ، ومعه عائلته والصفوة الطيبة من رجال أهل بيته ، خرج أهل الكوفة ، وقتلوا جميع من كان مع الإمام ، وأخيراً . . قتلوا الإمام الحسين عطشاناً وبتلك الكيفية المقرحة للقلوب ، ثم أحرقوا خيام الإمام ، وأسروا عائلته ونساءه وأطفاله ، وقطعوا الرؤوس من الأبدان ورفعوها على رؤوس الرماح ، وجاءوا بها من كربلاء إلى الكوفة .
هذا هو الملف الأسود ، المليء بالغدر والخيانة .
فحينما نظرت السيدة زينب (عليها السلام) إلى دموع أهل الكوفة ، وسمعت أصوات بكائهم لم تنخدع بهذه المظاهر الجوفاء ، بل وجهت خطابها إلى جميع الحاضرين هناك ، ولعلها كانت تقصد بكلامها الذين إشتركوا في جريمة فاجعة كربلاء . . بشكل أو بآخر ، ولم تقصد كل من كان حاضراً وسامعاً لخطابها :
«أتبكون ؟ !»
إعتبرت السيدة زينب (عليها السلام) بكاءهم ـ لدى المقايسة مع ما قاموا به من الجرائم ـ نوعاً من النفاق والتلون المشين ، فإن رجالهم الذين باشروا الجريمة ـ وهي مجزرة كربلاء الدامية ـ ونساءهم هن اللواتي قمن بتربية

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 294

أولئك الرجال . . على الغدر ، وهاهم يبكون ! !
يبكون وهم يشاهدون تلك الرؤوس المقدسة على رؤوس الرماح ، ويشاهدون حفيدات الرسالة وبنات الإمامة على النياق . . بتلك الحالة المقرحة للقلوب !
من الطبيعي أن يبكي كل من يشاهد هذه المشاهد ، ولكن . .
ما هي فائدة هذا البكاء ؟ !
ولماذا عدم القيام بتغيير أنفسهم ؟ !
لماذا عدم بناء نفوسهم ونفسياتهم ؟ !
لماذا عـدم الهجوم على مـن أصدر الأوامر وهـو الطاغية ابن زياد وحاشيته الفاسدة ؟ !
إن الحاكم الطاغي لا يستطيع الظلم والتعدي إلا مع وجود الأرضية المساعدة والأجواء الملائمة للظلم والطغيان . والناس ـ بنفاقهم وخذلانهم لآل الرسول الكريم ـ هم الذين مهدوا للظالمين القيام بتلك الفاجعة المروعة !
وهذا درس لكل مجتمع يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويريد أن يعيش في ظل حكومة عادلة .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 295


«فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة» .
رقأت الدمعة : سكنت (1) أو إنقطعت بعد جريانها وجفت . الرنة :الصوت الحزين عند البكاء .
لما رأت السيدة زينب (عليها السلام) ذلك البكاء الذي كله نفاق . . دعت عليهم ، ومن ذلك القلب الملتهب بالمصائب والأحزان ، دعت أن تمر عليهم ظروف وأحوال تجعل بكاءهم متواصلاً ودموعهم مستمرةً في الجريان ، لا تهدأ ولا تنقطع ، ولا تهدأ رنتهم ، أي : بكاءهم المصحوب بالنحيب والعويل ، بعد أن قاموا بتلك الأعمال الإجرامية .
وهنا . . نقطة مهمة يجب أن لا نغفل عنها ، وهي :
رغم أن في أغلب المجتمعات يوجد الأخيار والأشرار ، والطيبون وغيرهم ، ومدينة الكوفة كانت كذلك إلا أن الطابع العام عليهم في ذلك اليوم كان هو التلون كل يوم بلون ، والغدر ، وقلة الإلتزام بالأسس الدينية .
من هنا . . فإذا جاءهم حاكم طاغ ، وعرف منهم هذه الطبائع والصفات المذمومة يسهل عليه التسلط عليهم واتخذاهم مساعدين وأعواناً له في تحقيق أهدافه الإجرامية

(1) كتاب الصحاح للجوهري .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 296

الفاسدة .
وهم ـ أيضاً ـ يتسارعون إلى التجاوب والتعاطف معه ، غير مبالين بنتائج ذلك .
وعلاج هذا المجتمع هو التكلم معهم بكل صراحة ، وبالكلام اللاذع ، فالملف الأسود لأهل الكوفة كان يقتضي أن تواجههم السيدة زينب (عليها السلام) بهذه الشدة وبأعلى درجات التوبيخ والشجب والمؤاخذة إزاء ما اقترفوه من جرائم متتالية ، كل واحدة منها تهتز منها الجبال .
نعم . . لم يكن ينفع معهم ـ يومذاك ـ إلا هذا الأسلوب من الكلام اللاذع ، فلم تعد النصائح والمواعظ تؤثر فيهم !
والسيدة زينب ـ بملاحظة أنها إمرأة (1)، وأنها بنت الإمام أمير المؤمنين ـ كانت لها القدرة على التعنيف في الكلام مع الناس ، ولإمتلاكها القدرة العظيمة على البيان والخطابة ، فقد كانت مؤهلة للقيام بهذا الدور الكبير ، لإيقاظ بعض تلك الضمائر الميتة من سباتها

(1) لا يسمح بمؤاخذتها ولا يمكن للمجرمين قتلها بسهولة لوجود صيانة خاصة لكل امرأة في العرب .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 297

العميق .
ولا نعلم ـ بالضبط ـ كيفية إلقائها للخطبة من ناحية درجة الحماس والحرارة ، ولكننا نعلم أنها ورثت الخطابة من جدها رسول الله إمام الفصاحة ، ومن والدها : إمام نهج البلاغة ! !
«إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً» .
شبهت السيدة زينب أهل الكوفة بالمرأة التي نقضت غزلها ، وهذا التشبه مستقى من القرآن الكريم ـ ويا له من مستوى رفيع في البلاغة والأدب الراقي ـ وإليك بعض التوضيح :
قال الله تعالى ـ في القرآن الكريم ـ : «ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم» . (1)
وقد جاء في كتب تفسير القرآن الكريم أن امرأةً حمقاء من قريش ، تسمى بـ«ريطة بنت عمرو بن كعب» (2) كانت تغزل ـ

(1) سورة النحل ، الآية 92 .
(2) ولعل إسمها : زيطة ! لكي يتطابق الإسم مع المسمى .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 298

مع جواريها ـ الصوف والشعر ـ من الصباح إلى نصف النهار ـ وتصنع بذلك خيوطاً جاهزة للنسيج ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن طوال هذا الوقت ، ولا يزال دأبها ذلك . (1)
«من بعد قوة» أي : كانت تنكث غزلها من بعد إحكام وإتقان وإستحكام وفتل للغزل ، في المرة الأولى وكأنها تريد أن تصنع من ذلك الغزل أقمشة . فبعد النكث والنقض كان يفقد الصوف معظم قوته .
«انكاثاً» جمع نكث ، وهو الصوف والشعر ، يبرم ـ ويعمل منه الخيوط ـ ثم ينكث : أي : ينقض ويفل ليغزل مرةً ثانية .
وقد شبه الله تعالى ناقض العهد بتلك المرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة وإتقان .
«تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»
أيمان ـ جمع يمين ـ : وهو القسم والحلف .
الدخل : المكر والخيانة .
أي : كانوا يحلفون بالوفاء بالعهد ، ويضمرون في أنفسهم الخيانة . وكان الناس يطمئنون إلى عهدهم . .

(1) «والجنون فنون» .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 299

لكن أولئك كانوا ينقضون العهد .
وبعد هذا التمهيد . . نقول : لقد شبهت السيدة زينب (عليها السلام) أهل الكوفة بتلك المرأة الحمقاء ، من ناحية عدم الوفاء بعهودهم ونقضهم لها . بسبب صفة الغدر المتجذرة في نفسياتهم اللئيمة ، البعيدة عن الإنسانية ، وعن التفكير في نتائج الأمور ومضاعفاتها .
«ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف»
الصلف : صلف الرجل : تمدح بما ليس عنده ، إعجاباً بنفسه وتكبراً (1).
ويقال : أصلفت الرجل إذا أبغضته ومقته ، ويعبر عن البخيل ـ أيضاً ـ بهذه الكلمة . (2)
هذا ما ذكره علماء اللغة ، ولكن الذي يتبادر إلى الذهن ـ من كلمة الصلف ـ : هو الوقح ، ولا مانع من تفسير الكلمة بهذا المعنى . . فبكاؤهم بعد ارتكابهم تلك الجرائم يدل على شدة وقاحتهم وقلة حيائهم .

(1) كما في كتاب (أقرب الموارد) للشرتوني .
(2) كما في كتاب (المحيط في اللغة) للصاحب بن عباد .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 300

النطف : المتلطخ بالعيب . (1)
«والصدر الشنف»
الشنف : شدة البغض (2). والشنف : المبغض . (3) والمعنى : الصدر الذي يحتوي على شدة البغض والعداء لأهل البيت (عليهم السلام) . «وملق الإماء»
الملق ـ بفتح اللام ـ الود واللُطف ، وأن تعطي باللسان ما ليس في القلب والفعل (4).
والمعنى : أنكم مجتمع للصفات الرذيلة ، ففيكم حالة التملق والتذلل لمن لا يستحق ذلك من الحكام الخونة أمثال : يزيد وابن زياد اللئيمين ، وحاشيتهما القذرة ، فكما أن الإماء ـ جمع أمة ـ : وهي العبدة . يتملقن إلى المالك لجلب مودته ، ويعطينه باللسان من الود

(1) كما في كتاب (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي ، و«الصحاح» للجوهري .
(2) كتاب «العين» للخليل بن أحمد ، والمحيط في اللغة ، لابن عباد .
(3) المنجد في اللغة .
(4) القاموس المحيط ، للفيروز آبادي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 301

والمشاعر ما ليس في قلوبهن ، بل يفكرن في مصالحهن حتى لو استوجب ذلك لهن التذلل والتملق والخضوع لمن ليس أهلاً لذلك ، أنتم ـ يا أهل الكوفة ! كذلك تتملقون إلى حكامكم . . من منطلق المصالح ، لا الإخلاص والوفاء ! «وغمز الأعداء »
الغمز : الإشارة بالجفن والحاجب (1) ولعل السيدة زينب (عليها السلام) تقصد من هذه الكلمة : أنكم يا أهل الكوفة انتم غمز الأعداء ، أي : إن الأعداء (وهم : ابن زياد وحاشيته) ينظرون إليكم من جانب عيونهم غمزاً . . ويتعاملون معكم بمنتهى التحقير والإذلال ، فلا كرامة لكم عندهم ، بل يريدونكم عبيداً وخدماً وجسوراً للوصول إلى أهدافهم . . من دون أن يكنوا إليكم أية محبة أو تقدير أو إحترام . فيعتبر هذا الكلام ـ من السيدة زينب ـ تنبيهاً لأهل الكوفة على مدى فقدان عزة النفس لديهم ، حيث جعلوا أنفسهم أدوات طيعة وذليلة بيد أفراد لؤماء ، وهم ناسين للكرامة التي أرادها الله تعالى للبشر .
إننا نرى ـ في زماننا هذا ـ أن الموظفين المتكبرين

(1) كتاب «العين» للخليل بن أحمد .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 302

لا يرفعون رؤوسهم ليستمعوا إلى ما يقوله المراجع لهم ، بل ينظرون إليه بجانب عيونهم تحقيراً وإذلالاً له ! !
وهكذا كانت نظرة الحكام إلى أعوانهم والمتعاطفين معهم .
ثم ذكرت السيدة زينب (عليها السلام) مثالاً آخر لبيان حقيقة أهل الكوفة والكشف عن واقعهم ، وأن ظاهرهم يختلف ـ تماماً ـ عن باطنهم ، وأن ما يقولونه بألسنتهم ، فشبهتهم بالأعشاب التي تنبت وتنمو في أماكن وسخة وغير صحية ، فقالت (عليها السلام) :
«أو كمرعى على دمنة»
المرعى : محل العشب الذي يسرح فيه القطيع .
الدمنة : المحل الذي تتراكم فيه أرواث الحيوانات وابوالها وتختلط مع التراب في مرابضهم ، فتتلبد وتتماسك الأوساخ المتكونة من الروث والبول والتراب ، ثم ـ بسبب الرطوبة الموجودة ـ ينبت هناك نبات أخضر ، جميل المنظر واللون ، ولكن الجذور نابتة في مكان وسخ مليء بالجراثيم والميكروبات ! (1)

(1) ذكر هذا المعنى في أكثر كتب اللغة بعبارات مختلفة والمضمون واحد ، ونحن ذكرنا ذلك بتعبيرنا .
«المحقق»
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 303


كذلك أهل الكوفة كان لهم ظاهر حسن ، وكانت لهم حضارة عريقة ، لكن باطنهم وواقعهم كان قبيحاً ، يشتمل على الخبث والغدر ، والخيانة والكذب والنفاق ، والجرأة على الله تعالى ، وسحق القيم والمفاهيم ، وعدم التخلق بالفضائل ، والتي من أبرزها : الوفاء بالعهد ، وترجيح الدين على كل شيء .
هذا . . ونعود لنذكر ـ مرةً أخرى ـ أنه كان في الكوفة جمع غفير من المؤمنين الأخيار الطيبين ، لكن الأشرار ـ بتعاونهم مع الحكم الفاسد ـ كانوا قد شكلوا هذه الواجهة القبيحة ، وكونوا هذه السمعة السيئة لجميع أهل البلد ! !
ثم ذكرت السيدة زينب (عليها السلام) مثالاً آخر فقالت :
«وكفضة على ملحودة»
اللحد : القبر . الملحودة : الجثة الموضوعة في القبر .
إذا وضعت علامة مصنوعة من الفضة على قبر رجل منحرف دينياً ، فسوف يكون ظاهر القبر جميلاً ، لكن الجثة التي في داخل القبر جيفةً متعفنة . كذلك أهل الكوفة كانوا أهل التمدن والحضارة والثقافة ، لكنهم في

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 304

الباطن كانوا بمنزلة الجيفة ، حيث تجمعت فيهم المساوئ الأخلاقية ، كنقض العهد والغدر والخيانة وغيرها ، فكونت لهم سوء الملف والسوابق المخزية .
وفي نسخة : «كقصة على ملحودة»
والقصة : هي : الجص : وهي البودرة والتراب المطبوخ الذي يخلط مع الماء فيصير طيناً ابيض اللون ، ويوضع ذلك الطين ما بين الطابوق ويكون سبباً لتماسك أجزاء البناء (1).
فما فائدة ذلك القبر الذي يجصص ـ ليكون جميل الظاهر ـ ، لكنه يتضمن جثماناً نتناً لرجل خبيث أو إمرأة منحرفة ؟ ! !
وقد يستفاد ـ من بعض كتب التاريخ ـ أن المتفرجين والمستمعين لخطاب السيدة زينب (عليها السلام) إنقسموا إلى ثلاث أقسام :
1 ـ قوات الشرطة التابعين لابن زياد .
2 ـ المحايدين .
3 ـ الأفراد الذين تفاعلوا مع كلمات خطبة السيدة زينب

(1) قال الخليل في كتاب «العين» القصة : لغة في الجص . وجاء في القاموس المحيط : «القصة : الجصة» .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 305

(عليها السلام) وتأثروا بكلامها ، وبدأوا يبكون ! !
كيف لا . . وهم يسمعون صوتاً يشبه صوت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من ابنته الشجاعة !
ولعلها كانت تخطب في ساحة كبيرة من ساحات مدينة الكوفة ، حيث كانت تستوعب أكبر قدر ممكن من الجماهير : المستمعين والمتفرجات ، الذين وقفوا على جانبي الطريق ، أو على سطوح دورهم ينظرون ويستمعون .
«ألا : ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون»
هذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى : «ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون» . (1)
والمعنى : بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة ، أن سخط الله اليهم . والمعنى ـ هنا ـ يا أهل الكوفة : إن أعمالكم قد أوجبت عليكم غضب الله وسخطه ، والبقاء الدائم في نار جهنم .

(1) سورة المائة ، الآية 80 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 306


«أتبكون وتنتحبون» ؟ !
الإنتحاب : رفع الصوت بالبكاء الشديد .
«إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً»
إشارة إلى قوله تعالى : «فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً» (1) ، والمعنى : فليضحك هؤلاء المنافقون قليلاً ، لأن الضحك ـ حتى لو إستمر ـ فإنه ينتهي بفناء الدنيا ، وهو قليل لدى المقايسة مع بكائهم الدائم في يوم القيامة ، لأن ذلك : «يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» (2) وهم يبكون فيه كثيراً . . وباستمرار .
وهذا تهديد وإنذار من السيدة زينب لأهل الكوفة ، وليس أمراً لهم بالضحك ، بل أمر بالتقليل من الضحك ، ـ وتهديد ضمني ـ أن لا مبرر لضحك وفرح يتعقبه بكاء طويل وعذاب مستمر .
«فلقد ذهبتم بعارها وشنارها»
يقال : ذهب بها : أي إستصحبها . والعار : كل شيء

(1) سورة التوبة ، الآية 82 .
(2) سورة المعارج ، الآية 4 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 307

يلزم منه عيب (1) أو كل ما يعير به الإنسان من قول أو فعل ، أو يلزم منه عيب أو سب . (2)
والشنار : العيب والعار (3) والأمر المشهور بالشنعة . (4)
«ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً»
ترحضوها : تغسلوها .
غسل : ما يغسل به ، كالماء والمواد المنظفة المزيلة للأوساخ .
قد يقوم الإنسان بجريمة صغيرة يستطيع محاصرة مضاعفاتها ، وقد تكون الجريمة كبيرة جداً تأبى أن يحاصر أحد مضاعفاتها وآثارها ، أو ينسب الغفلة أو السهو والإشتباه إلى مباشر تلك الجريمة ، ويجعل الإعتذار سبباً وطريقاً للعفو عن ذلك المجرم وإغلاق ملفه . فالمعنى : لا يمكن لكم التخلص من مضاعفات هذه الجناية العظمى ، فقد تعلقت الجريمة بأعناقكم ، وسجلت

(1) القاموس للفيروز آبادي .
(2) أقرب الموارد للشرتوني .
(3) مجمع البحرين ، للطريحي . وكتاب «العين» للخليل بن أحمد .
(4) أقرب الموارد للشرتوني .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 308

في التاريخ . . بحيث لا يمكن تغطيتها أو إنكارها ! ! أو ذكر توجيهات واهية وسخيفة لهذا الجرم العظيم والذنب الجسيم !
«وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ؟»
رحض : رحض الثوب : غسله .
أي : كيف تغسلون عن أنفسكم ، وتمحون وتمسحون عن ملفكم هذه الفاجعة العظيمة ، وهي قتل ولد رسول الله خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ !
وبعبارة أخرى :
كيف وبأي وجه يمكن لكم أن تبرروا قتل سليل خاتم النبوة ؟ ! والسليل : هو الولد .
كيف يمكن لكم غسل هذا الذنب العظيم عن أنفسكم ؟ !
وهل هناك مجال للإعتذار في ارتكاب جريمة بهذا الحجم ومع تلكم الكيفية والملحقات ؟ ؟ ! !
«ومعدن الرسالة ؟ وسيد شباب أهل الجنة ؟»
إن الإمامة : هي إمتداد للرسالة ، وكما أن الرسول يختاره الله تعالى . . لا الناس ، كذلك الإمام والخليفة . .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 309

يختاره الله تعالى أيضاً . . وليس الناس
والإمام الحسين (عليه السلام) هو الخليفة الشرعي الثالث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمته .
فلم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) رجلاً مجهولاً خامل الذكر ، غير معروف عند الناس ، بل كان مشهوراً عند جميع المسلمين بكل ما للعظمة والجلالة والقداسة من معان ، وأحاديث رسول الله في مدحه والثناء عليه . . كانت محفوظة في ذاكرة الجميع ، وآيات القرآن الكريم كانت تمجده بما هو أهل لذلك ، فـ«آية التطهير» تشهد له بالعصمة والطهارة عن كل رجس ، وآية «إطعام الطعام» تنبئ عن نفسيته التي بلغت القمة في الإخلاص وحب الخير للآخرين ، و«آية القربى» جعلت إظهار المحبة ومشاعر الود له أجراً لبعض أتعاب الرسول الكريم ، و«آية المباهلة» اعلنت أنه الإبن المميز للرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه واحد من «أهل البيت» الذين بدعائهم يغير الله تعالى الموازين الكونية .
وأحاديث النبي العظيم حول مكانته ومنزلة أخيه الإمام الحسن . . كانت أشهر من الشمس في رائعة النهار ، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» ، «الحسن والحسين إمامان . . إن

(1) كتاب «بحار الأنوار» ج 43 ، ص 261 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي