زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 540

شططاً(1). «لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتّم حريصٌ بالمؤمنين رؤوف رحيم»(2).
فإن تُعزوه وتَعرفوه تَجدوه أبي دون نسائكم(3)، وأخا ابن عمّي دون رجالكم ، ولَنِعم المعزيّ إليه(4) (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فبَلّغ الرسالة ، صادعاً بالنذارة(5)، مائلاً عن مدرجة المشركين(6)، ضارباً ثَبَجَهم(7)، آخذاً باكظامهم(8)، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يكسرُ الأصنام ، وينكت الهام(9)، حتى انهزم الجمع وولّوا الدُبُر ، وحتى تفرّى

(1) شططاً : ظُلماً وجوراً .
(2) سورة التوبة ، الآية 128 .
(3) تُعزوه : تَنسبوه .
(4) المعزّي إليه : المنسوب إليه .
(5) صادعاً : مُظهراً . النذارة : الإنذار والتخويف .
(6) مدرجة المشركين : طريقهم ومَسلَكهم .
(7) الثَبَج ـ بفتح الثاء والباء ـ : الظَهر ، وقيل : ما بين الكاهل إلى الظهر .
(8) الكظم : ـ بفتح الكاف والظاء ـ : الفَم أو الحلق أو مخرج النفَس .
(9) نَكتَه على هامته : إذا ألقاه على رأسه .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 541

الليل عن صُبحه(1)، وأسفَر الحقّ عن محضه(2)، ونَطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين(3)، وطاح وشيظ النفاق(4)، وانحلّت عُقَد الكفر والشِقاق(5) وفُهتُم بكلمة الإخلاص(6)، في نَفَر من البيض الخِماص(7)، وكنتـم على شفـا حفـرةٍ من النـار(8)، مُذقة الشارب(9)، ونُهزة الطامع(10)، وقَبسة العجلان(11)، وموطئ الأقدام ، تشربون

(1) تفرّى : إنشقّ .
(2) أسفَر : إذا انكشف وأضاء . والمَحض : الخالص .
(3) شقاشق ـ جمع شقشقة ـ : وهي شيء يَشبه الرئة يخرج من فَم البعير إذا هاج .
(4) الوشيظ : الأتباع والخدَم .
(5) الشقاق : الخلاف .
(6) فُهتم : تلفّظتم ، تفوّهتم .
(7) البيض ـ جمع أبيض ـ والخِماص ـ جمع خَميص ـ : وهو الجائع .
(8) شفا حُفرة : جانبها المُشرف عليها ، أو : حافّتها .
(9) المذقة ـ بضمّ الميم ـ شربة من اللبن الممزوج بالماء .
(10) النهزة ـ بضمّ النون ـ : الفُرصة .
(11) قبسة العجلان : الشُعلة من النار التي يأخذها الرجل العاجل .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 542

الطَرق(1)، وتَقتاتون القِدّ والوَرق(2)، أذلّةً خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد اللّتيّا والتي ، وبعد أن مُنِيَ بِبُهم الرجال(3)، وذُؤبان العَرَب ، ومَرَدَة أهل الكتاب(4)، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، أو نَجَم(5) قرنٌ للشيطان ، أو فَغَرت(6) فاغرةٌ من المشركين ، قَذَفّ أخاه في لَهَواتها(7)، فلا

(1) الطرق ـ بفتح الطاء وسكون الراء ـ : الماء الذي خاضَت فيه الإبل وبالَت فيه .
(2) تَقتاتون : تَجعلون قُوتكم . القِدّ ـ بكسر القاف ـ : قطعة جلد غير مدبوغ ، ويُحتمل أن يكون بمعنى القديد : وهو اللحم المُجفّف في الشمس . الوَرَق : ورق الأشجار .. على اختلاف أنواعها .
(3) مُني ـ فعل ماضي مجهول ـ : ابتُلي . والبُهَم ـ على وزن الغُرَف ـ جَمع بهمة : وهو الشجاع الذي لا يُهتدى مِن أين يؤتى .
(4) مردة ـ بفتح الميم والراء والدال ـ : جَمع مارِد وهو العاتي .
(5) نَجَمَ ـ فعل ماضي ـ : طَلَع . وقرن الشيطان : أتباعُه .
(6) فغر : فَتَح . فاغرة فاها : أي : فاتحة فمَها .
(7) اللهوات ـ جَمع لَهاة ـ : لحمة مُشرفة على الحلق في أقصى الفم .
أخاه : المقصود هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 543

يَنكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه(1)، ويُخمِدَ لَهَبَها بسيفه(2)، مكدوداً في ذات الله(3)، مُجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، مُشمّراً ناصحاً ، مُجدّاً كادحاً(4)، وأنتم في رَفاهية من العيش(5)، وادِعون فاكهون آمنون(6)، تتربّصون بنا الدوائر(7)، وتتوكّفون الأخبار(8) ، وتنكصون عند النزال(9)، وتفرّون من القتال .
فلمّا اختار الله لنبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) دارَ

(1) ينكفئ : يَرجع . يطأ : يَدوس . صِماخها : أُذُنَها . بأخمَصه : بباطن قَدَمه .
(2) يُخمد : يُطفئ . لَهبَها : إشتعالها .
(3) المكدود : المُتعَب .
(4) شمّرَ ثوبه : رَفَعَه . مُجدّاً ـ بضم الميم وكسر الجيم ـ : مُجتهداً ، والكادح : الساعي .
(5) رفاهية : سٍعة .
(6) وادعون : مرتاحون . فاكهون : ناعمون .
(7) الدوائر : العواقب المذمومة والمفاجآت المؤسفة .
(8) تتوكّفون : تتوقّعون بلوغ الأخبار .
(9) تنكصون : ترجعون وتتأخّرون . والنزال : القتال .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 544

أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظَهَر فيكم حسكة النفاق(1)، وسمل جلباب الدين(2)، ونطق كاظم الغاوين(3)، ونَبَغَ خامل الأقلّين(4)، وهَدَر فنيق المبطلين(5)، فخطر في عرصاتكم(6)، وأطلع الشيطان رأسه من مِغرَزه(7) هاتفاً بكم ، فألفاكم لِدَعوته مستجيبين ، وللغِرّة فيه ملاحظين .(8)
ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غِضابا(9)، فـوسَمتـم غيـرَ إبلكـم(10)، وأوردتم غير

(1) الحسكة والحسيكة : الشوكة .
(2) سمل الثوب : صارَ خَلِقاً . والجِلباب . ثوبٌ واسع .
(3) كاظم الغاوين : الساكت ، الضالّ ، الجاهل .
(4) ظهر مَن خَفي صوته واسمه .. من الأذلاء ، غير المشهورين .
(5) هدر البعير : ردّد صوته في حنجرته . والفنيق : الفحل من الإبل .
(6) خطر : إذا حرّك ذنبه ، مِن منطلق الإعجاب بنفسه .
(7) المغرز ـ بكسر الراء ـ : ما يُختفى فيه .
(8) الغِرة ـ بكسر الغين ـ : الانخداع ، ومُلاحظين : ناظرين ومُراعين ، ومُتجاوبين للإنخداع .
(9) أحمشكم : أغضَبَكم .
(10) الوَسم : الكيّ ، وَسَمَه : كواه ، لِتَبقى في جسمه علامة خاصّة تُميّزه عن غيره .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 545

شِربكم(1)، هذا والعهد قريب ، والكلم رَحيب(2)، والجُرحُ لمّا يَندَمل(3)، والرسول لمّا يُقبَر(4)، إبتداراً زعمتم خوف الفتنة(5)، «ألا : في الفتنة سَقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين» .
فهيهات منكم ! وكيف بكم ؟ «وأنّى تؤفكون»(6)، وكتابُ الله بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلّفتموه وراء ظهوركم .
أرَغبةً عنه تريدون ؟ أم بغيره تحكمون ؟ «بئس للظالمين بدلاً» ، «ومَن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبَل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» .

(1) الشِرب ـ بكسر الشين ـ : النصيب من الماء .
(2) الكلم : الجرح . رَحيب : واسع .
(3) اندمل : تَماثَل للشفاء والإلتئام .
(4) يُقبَر : يُدفَن .
(5) ابتداراً : مُعاجلةً منكم في غصب الخلافة .
(6) تؤفكون : أي تُصرفون .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 546

ثمّ لم تَلبثوا إلا رَيث أن تسكن نفرتُها(1)، ويَسلَس قيادها(2)، ثمّ أخذتم تورون وَقدَتها ، وتُهيّجون جمرتها(3)، وتَستجيبون لِهتاف الشيطان الغويّ ، وإطفاء أنوار الدين الجليّ ، وإخماد سنن النبي الصفيّ ، تسرّون حسواً في ارتغاء ، وتمشون لاهله ووُلده في الخَمَر والضراء(4)، ونَصبر منكم على مثل حزّ المدى(5)، ووَخز السنان في الحشى(6)، وأنتم ـ الآن ـ تزعمون أن لا إرثَ لنا ، «أفحكم الجاهلية يبغون» ؟ ، «ومَن أحسن من الله حُكماً لقومٍ يوقنون» ؟ أفلا تعلمون ؟ بلى تجلّى لكم ـ كالشمس الضاحية ـ أنّي ابنته .
أيها المسلمون ! ءأُغلَبُ على إرثيَه .
ياابنَ أبي قُحافة !

(1) رَيث : قَدَر . نفرتها ، نَفَرت الدابة : جَزَعت وتباعَدَت .
(2) يسلس : يَسهل .
(3) تورون : تُخرجون نارها . تُهيّجون : تُثيرون .
(4) الخمر ـ بفتح الخاء والميم ـ : ما يستُرك من الشجر وغيره .
(5) المُدى ـ بضم الميم ـ جمع مُدية : وهي الشفرة أو السكينة .
(6) الوَخز : الطعن . والسنان : رأس الرمح .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 547

أفي كتاب الله أن تَرثَ أباك ولا أرِث أبي ؟؟
لقد جئت شيئاً فريّاً !!(1).
أفعلى عَمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ إذ يقول : «ووَرثَ سليمان داود»(2). وقال ـ فيما اقتصّ مِن خبر زكريّا ـ إذ قال : «فهَب لي من لدنك وليّاً يَرثني ويرث من آل يعقوب»(3).
وقال : «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»(4). وقال : «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأُنثَيَين»(5).
وقال : «إن تَركَ خيراً الوصيّة للوالدَين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين»(6).
وزعمتم أن لا حَظوة لي ؟(7) ولا أرث مِن أبي !

(1) فريّاً : أمراً عظيماً أو منكراً قبيحاً .
(2) سورة النمل ، الآية 16 .
(3) سورة مريم ، الآية 5 ـ 6 .
(4) سورة الأنفال ، الآية 75 .
(5) سورة النساء ، الآية 11 .
(6) سورة البقرة ، الآية 180 .
(7) حظوة : النَصيب .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 548

أفخصّكم الله بآية أخرَجَ أبي منها ؟
أم تقولون : إنّ أهلَ مِلّتين لا يتوارثان ؟
أوَلستُ أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟
أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي ؟
فدونَكها مخطومة مرحولة(1)، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحَكَم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولكلّ نبأ مستقرّ ، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، ويحلّ عليه عذاب مقيم .
ثمّ رمت بطَرفها نحو الأنصار فقالت : يا معشر النَقيبة ، وأعضاد المِلّة ، وحَضَنَة الإسلام(2)، ما هذه الغميزة في حقّي ؟(3)، والسِنَة عن ظلامتي ؟! ، أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبي يقول : «المَرءُ يُحفَظ في وُلده» ؟
سَرعان ما أحدثتم ، وعَجلان ذا إهالة ، ولكم طاقة

(1) مَرحولة : يُقال : ناقة مخطومة ومرحولة ، الخِطام ـ بكسر الخاء ـ : الزِمام ، ومرحولة : مِن الرحل : وهو للناقة كالسَرج للفَرس .
(2) حضَنة ـ جمع حاضِن ـ : بمعنى الحافظ .
(3) الغَميزة : الضعف أو الغفلة .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 549

بما أُحاول ، وقوّة على ما أطلب وأُزاول(1) .
أتقولون : ماتَ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فخطَبٌ جليل ، استَوسع وَهنه(2)، واستنهر فتقه ، وانفَتَق رَتقه ، وأظلمت الأرض لِغَيبَته ، وكُسفَت النجوم لمصيبته ، واكدت الآمال(3)، وخشعت الجبال ، وأُضيع الحَريم(4) وأُزيلَت الحُرمة عند مماته ، فتلك ـ والله ـ النازلة الكبرى(5)، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة(6) أعلنَ بها كتاب الله ـ جلّ ثناؤه ـ في أفنيَتِكم(7)، في مَمساكم ومَصبَحِكم ، هتافاً وصُراخاً ، وتلاوةً وألحاناً ، ولَقَبلَه ما حلّ بأنبيائه ورسله ، حكمٌ فَصل ، وقضاءٌ حتم ، «وما محمد إلا رسول قد خَلَت مِن

(1) أُزاول : أقصد .
(2) استوسَع وَهنه : إتّسع غاية الإتّساع وهنُه .
(3) أكدت : انقطعت .
(4) الحريم : ما يَحميه الرجل ويُقاتل عنه .
(5) النازلة : الشديدة .
(6) البائقة : الداهية .
(7) أفنيتكم ـ جمع فِناء ، بكسر الفاء ـ : جوانب الدار من الخارج ، أو العَرَصة المتّسعة أمام الدار .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 550

قبله الرسل ، أفإن مات أو قُتلَ انقلبتم على أعقابكم ومَن يَنقلِب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين»(1).
ثمّ رَمَت بطرفِها نحو الأنصار وقالت :
إيهاً بَني قيلة !(2).
أَأُهضَم تُراثَ ابي ؟ ، وأنتم بمرأىً منّي ومَسمَع ، ومنتدى ومَجمَع(3) تلبسُكم الدعوة ، وتَشملكم الخبرة(4)، وأنتم ذَوو العَدَد والعُدّة ، والأداة والقوّة ، وعندكم السلاح والجُنّة ، تُوافيكم الدعوة فلا تُجيبون ؟ ، وتأتيكم الصَرخة فلا تُعينون ؟ ، وأنتم مَوصوفون بالكفاح ، مَعروفون بالخير والصلاح ، والنُخبة التي انتُخبِت ، والخيرة التي اختيرت(5).
قاتَلتُم العَرَب ، وتحمّلتم الكدّ والتَعَب(6)، وناطحتم

(1) سورة آل عمران ، الآية 144 .
(2) إيهاً : بمعنى هيهات ، أو مزيداً من الكلام .
(3) مُنتدى : مجلس القوم .
(4) الخبرة : العِلم بالشيء .
(5) الخيرة ـ بكسر الخاء وسكون الياء ـ المُفضّل من القوم .
(6) الكدّ : الشِدّة .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 551

الأُمم ، وكافحتم البُهَم(1)، لا نَبرح أو تَبرحون ، نَأمُركم فتَأتَمرون ، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرَ حلبُ الأيام ، وخَضَعَت ثَغرة الشِرك ، وسَكنَت فَورة الإفك ، وخَمُدت نيران الكفر ، وهَدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى حِرتُم بعد البيان ؟ ، وأسررتم بعد الإعلان ؟ ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ؟ ، «ألا تُقاتِلون قوماً نَكثوا أَيمانهم وهَمّوا بإخراج الرسول ، وهم بَدؤكم أوّل مرّة ، أتخشَونَهم فالله أحقّ أن تَخشَوه إن كنتم مؤمنين»(2).
ألا : قد أرى أن قد أخلَدتم إلى الخفض(3) وأبعدتم مَن هو أحقّ بالبَسط والقَبض ، وخلَوتم إلى الدعة(4)، ونَجَوتم مِن الضيق بالسعة ، فمَجَجتم ما وَعَيتم(5)، ودسعتُم الذي تسوّغتم(6)، «فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإنّ الله

(1) البهَم ـ جمع بهمة ـ : الشجاع .
(2) سورة التوبة ، الآية 13 .
(3) الخفض : الراحة .
(4) الدعة : الراحة والسُكون .
(5) مَجَجتم : رَميتم . وَعيتم : حفِظتم .
(6) دسعتم : تقيّأتم . وتسوّغتم : شَربتُم بسهولة .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 552

لغنيّ حميد» ، ألا : قد قلتُ ما قلتُ على معرفة منّي بالخذلة التي خامَرتكم(1) والغَدرة التي استَشعرَتها قلوبكم(2).
ولكنّها فيضَة النفس(3)، ونَفثة الغيظ(4)، وخَوَر القنا(5)، وبثّة الصدر ، وتَقدِمة الحُجّة ، فدونكموها ، فاحتَقِبوها دَبِرَة الظَهر(6)، نقبةَ الخُف(7)، باقية العار ، مَوسومةً بغضب الله ، وشَنار الأبد(8)، مَوصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة ، فبِعَين الله ما تفعلون ، «وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقَلَب ينقلبون» ، وأنا ابنةُ نذير لكم بين يَدَي عذاب شديد ، فاعملوا إنّا عاملون ، وانتظروا إنّا منتظرون .

(1) خامَرتكم : خالطتكم .
(2) استشعَرَتها : لبسَتها .
(3) فاضَ صدرُه بالسِرّ : باحَ به .
(4) كالدم الذي يُرمى به من الفم ويدلّ على وجود قرحة .
(5) ضَعف النَفس عن التحمّل .
(6) دونكموها : خّذوها . دبرة : مَقروحة .
(7) نقبة الخُف : رَقيقة الخُفّ .
(8) شنار : العَيب والعار .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 553

فأجابها أبو بكر (عبد الله بن عثمان)(1) وقال :
يابنَة رسول الله ! لقد كانَ أبوكِ بالمؤمنين عطوفاً كريماً ، رؤفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً ، إن عَزَوناه وجَدناه أباكِ دونَ النساء(2)، وأخا إلفِكِ دون الأخِلاّء(3)، آثره على كلّ حميم(4)، وساعده في كل أمر جسيم ، لا يُحبّكم إلا كل سعيد ، ولا يُبغضكم إلا كل شقيّ .
فأنتم عترة رسول الله الطيّبون ، والخيرة المنتجبون ، على الخَير أدِلّتُنا ، وإلى الجنّة مسالكنا ، وأنتِ يا خيرة النساء ، وابنة خير الأنبياء ، صادقةٌ في قولك ، سابقة في وُفور عقلك ، غير مردودة عن حقّك ، ولا مصدودة عن صدقك(5)، والله ما عَدَوتُ رأيَ رسول الله !!!(6) ولا عَمِلتُ إلا بإذنه ، وإنّ الرائد لا يكذِبُ أهلَه(7)، وإنّي أُشهد الله وكفى به شهيداً ، أنّي

(1) أي : أبو بكر بن أبي قُحافة .
(2) عَزَوناه : نَسَبناه .
(3) وفي نسخة : وأخا بَعلك . والمعنى واحد .
(4) حَميم : قريب .
(5) مَصدودة : ممنوعة .
(6) عَدَوتُ : جاوزتُ .
(7) الرائد : الذي يَتقدّم القوم ، يَبحَث لهم عن الماء والكلأ ومَساقط الثمار .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 554

سمعتُ رسول الله يقول : «نحنُ معاشر الانبياء لا نورّث ذهباً ولا فضّةً ولا عقاراً ، وإنّما نورثّ الكتاب والحِكمة ، والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلوالي الأمر بَعدنا ، أن يَحكُم فيه بحُكمه» .
وقد جعلنا ما حاولتِهِ في الكُراع والسلاح(1)، يُقاتلُ بها المسلمون ، ويُجاهدون الكفّار ، ويُجالدون المَردة الفُجّار(2). وذلك بإجماع من المسلمين !! لم أنفَرِد به وَحدي ، ولم أستَبِدّ بما كان الرأي فيه عندي(3)، وهذه حالي ومالي ، هي لكِ ، وبَينَ يديكِ ، لا تُزوى عنكِ(4)، ولا تُدّخر دونكِ ، وأنتِ سيدة أمّة أبيكِ ، والشجرة الطيبة لِبنيك ، لا يُدفَع مالَك من فضلكِ ، ولا يوضع في فَرعك وأصلكِ ، حُكمك نافذ فيما مَلَكت يَداي ، فهل تَرينّ أن أُخالف في ذلك أباك ؟
فقالت (عليها السلام) :
سبحان الله ! ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن

(1) الكراع ـ بضمّ الكاف ـ : جماعة الخيل .
(2) يُجالدون : يضاربون .
(3) استبدّ : انفرد بالأمر مِن غير مُشارك فيه .
(4) تُزوى عنك : تُقبَض عنك .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 555

كتاب الله صادفاً(1)، ولا لأحكامه مُخالفاً ، بل كان يتّبع أثَره ، ويَقفو سُوَره(2)، أفتُجمِعون إلى الغَدر إعتلالاً عليه بالزور ، وهذه بعد وفاته شبيهٌ بما بُغيَ له من الغَوائل في حياته(3).
هذا كتاب الله حَكَماً عدلاً ، وناطقاً فَصلاً ، يقول : «يَرثُني ويَرثُ مِن آل يَعقوب» ، «ووَرث سليمانُ داودَ» ، فبيّن (عزّ وجل) فيما وزّع عليه من الأقساط ، وشَرع مِن الفرائض والميراث ، واباحَ مِن حظّ الذُكران والإناث ، ما أزاحَ علّة المُبطلين ، وأزالَ التظنّي والشُبُهات في الغابرين(4)، كلا ، «بل سَوّلت لكم أنفسُكم أمراً فصبرٌ جميل ، والله المُستعان على ما تَصِفون» .
فقال أبو بكر :
صَدق الله وصدق رسوله وصدقت ابنته ، أنتِ معدن الحِكمة ، ومَوطن الهدى والرحمة ، ورُكن الدين ، وعَين الحُجّة ، لا أُبعدُ صوابكِ ، ولا أُنكر خِطابكِ ، هؤلاء المسلمون

(1) صادِفاً : مُعرِضاً . يُقال : صَدَفَ عن الحقّ إذا أعرضَ عنه .
(2) يَقفو : يَتبع .
(3) الغوائل ـ جَمع غائلة ـ : الحادثة المهلكة .
(4) التظنّي : إعمال الظن . الغابرين : الباقين .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 556

بَيني وبينَكِ ، قَلّدوني ما تَقَلّدتُ ، وباتّفاق منهم أخذتُ ما أخذت ، غير مُكابرٍ ولا مُستبدّ ولا مُستأثر ، وهم بذلك شهود .
فالتفتت فاطمة (عليها السلام ) إلى الناس وقالت :
مَعاشر الناس ! المُسرعة إلى قيل الباطل ، المُغضية على الفِعل القبيح الخاسر(1)، أفلا تتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟
كلا ، بل ران على قلوبكم ما أسأتم مِن أعمالكم . فأُخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولَبئسَ ما تأوّلتم ، وساء ما به أشَرتُم ، وشرّ ما منه اعتضَتّم(2)، لَتجدنّ ـ والله ـ محمله ثقيلا ، وغِبّه وبيلاً(3)، إذا كُشِف لكم الغطاء وبانَ ماوراءه الضرّاء ، وبَدا لكم من ربّكم مالَم تكونوا تحتسبون ، وخَسِر هنالك المبطلون .
ثمّ عطفت على قبر أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت :

(1) المغضية : الساكتة ، الراضية .
(2) اعتضتّم : من الإعتياض وهو أخذ العوض .
(3) الغِبّ ـ بكسر الغين ـ : العاقبة . الوَبيل : الشديد الثقيل .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 557

قـد كان بَعدك أنبـاءٌ و هَنبَثـة(1) لـو كنتَ شاهدَها لم تَكثُر الخُطبُ(2)
إنّـا فَقَدنـاك فَقدَ الأرض وابِلَها(3) و اختلّ قومُك فاشهَدهم وقد نَكبوا(4)
وكلّ أهـلٍ لـه قُربى ومنـزلةٌ عنـد الإله على الأدنين مُقتَـربُ
أبدَت رجالٌ لنا نجوى صدورهم(5) لمّا مَضَيتَ و حالَت دونَك التُرُب
تَجَهّمَتنا رجـالٌ و استخفّ بِنـا لَمّا فُقِدتَ ، وكلّ الإرث مُغتَصَبُ(6)

(1) الهنبثة : الأمر الشديد المختلف .
(2) الخطب ـ بضمّ الخاء والطاء ـ جَمع خَطب ، بفتح الخاء ـ : المصائب الشديدة .
(3) الوابل : المطر الغزير الكثير .
(4) نَكبوا : عَدَلوا عن الطريق .
(5) نجوى ـ هنا ـ : الأحقاد الكامنة المَخفيّة سابِقاً .
(6) مُغتصَب : مغصوب .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 558

وكنتَ بَدراً ونـوراً يُستَضاءُ به عليك تَنزلُ مِن ذي العِزّة الكُتُب
وكان جبريل بالآيـات يؤنسنـا فقد فُقِدتَ ، فكلّ الخير مُحتَجَبُ
فليتَ قَبلَك كـان الموتُ صادفنا لمّا مَضَيتَ وحالت دونك الكُثُبُ(1)
إنا رُزينا بمـا لَم يُرزَ ذو شَجَنٍ(2) مِن البريّة لا عَجمٌ و لا عَـرَبُ

ثمّ انكفأت (عليها السلام)(3) ، وأمير المؤمنين (عليه السلام) يتوقّـع رجوعهـا إليه(4)، ويتطلّع طلوعها عليه ، فلمّا استقرت بها الدار قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام) :

(1) الكُثب ـ بضمّ الكاف والثاء ـ جمع كثيب ـ : وهو الرَمل .
(2) رُزينا : من الرزيّة وهي المصيبة . والشَجَن : الحُزن .
(3) انكفأت : رَجَعت .
(4) يتوقّع : ينتظر .

السابق السابق الفهرس التالي التالي