زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 519

والله العالم كم كانت كلمات الشكوى تمرّ بخاطر السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) حين كانت تبثّ آلامها وأحزانها عند قبر أخيها الإمام الحسين ؟ ممّا جرى عليها وعلى العائلة طيلة تلك الرحلة المُزعجة .
وما يُدرينا ..؟ ولعلّها كانت سعيدة ومُرتاحة الضمير بما قامت به طيلة تلك الرحلة !
فقد ايقظت عشرات الآلاف من الضمائر الغافلة ، وأحيَت آلاف القلوب الميّتة ، وجعلت أفكار المنحرفين تتغيّر وتتبدّل مائة وثمانين درجة على خلاف ما كانت عليه قبل ذلك !
كلّ ذلك بسبب إلقاء تلك الخطَب المفصّلة ، والمحاورات الموجزة التي دارت بينها وبين الجانب المُناوئ ، أو الافراد المحايدين الذين كانوا يجهلون الحقائق ولا يعرفون شيئاً عن أهل البيت النبوي الطاهر .
وتُعتبر هذه المساعي من أهمّ إنجازات السيدة زينب الكبرى ، فقد أخذوها أسيرة إلى عاصمة الأمويّين ، وإلى البلاط الأموي الذي أُسّس على عداء أهل البيت النبوي من أول يوم ، والذي كانت موادّه الإنشائية ـ يوم بناء صرحه ـ من النُصب والعداء لآل رسول الله ، ومكافحة الدين الإسلامي الذي لا ينسجم مع أعمال الأمويين وهواياتهم .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 520

أخذوها إلى مقرّ ومسكن طاغوت الأمويّين ، وبمحضر منه ومشهد ، ومسمع منه ومن أسرته . خطبت السيدة زينب تلك الخطبة الجريئة ، وصبّت جام غضبها على يزيد ، ووَصَمته بكلّ عارٍ وخِزي ، وجعلت عليه سبّة الدهر ، ولعنة التاريخ !!
نعم ، قد يتجرّأ الإنسان أن يقوم بمغامرات ، إعتماداً على القدرة التي يَملكها ، أو على السلطة التي تُسانده ، وأمثال ذلك .
ولكن ـ بالله عليك ـ على مَن كانت تعتمد السيدة زينب الكبرى في مواجهاتها مع أولئك الطواغيت وأبناء الفراعنة ، وفاقدي الضمائر والوجدان ، والسُكارى الذين أسكرتهم خمرة الحكم والإنتصار ، مع الخمرة التي كانوا يشربونها ليلاً ونهاراً ، وسرّاً وجهاراً ؟؟!
هل كانت تعتمد على أحد غير الله تعالى ؟!
ويُمكن أن نقول : إنّها قالت ما قالت ، وصنعت ما صنعت ـ في إصطدامها مع الظالمين ، أداءً للواجب ، وهي غير مُبالية بالعواقب الوخيمة المحتملة ، والأضرار المتوقّعة ، والأخطار المتّجهة إلى حياتها .. فليكن كلّ هذا . فإنّ الجهاد في سبيل الله محفوف بالمخاطر ، والمجاهد يتوقّع كل مكروه يُحيط به وبحياته .
ونقرأ في بعض كتب التاريخ : أنّ قافلة آل الرسول مكثت في كربلاء مدّة ثلاثة أيام ، مشغولة بالعزاء والنياحة ، ثم غادرت كربلاء نحو المدينة المنوّرة .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 521

الرجوع إلى مدينة الرسول


وصلت السيدة زينب الكبرى إلى وطنها الحبيب ، ومسقط رأسها ، ومهاجَر جدّها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وكانت قد خرجت من المدينة قبل شهور ، وهي في غاية العز والإحترام بصُحبة إخوتها ورجالات أسرتها ، واليوم قد رجعت إلى المدينة وليس معها من أولئك السادة الأشاوس سوى ابن أخيها الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فرأت الديار خالية مِن آل الرسول الطاهرة .
وترى ديارَ أميّةٍ معمورةً وديار أهل البيت منهم خالية

وجاء في التاريخ : أنّ السيدة زينب (عليها السلام) لمّا وصلت إلى المدينة توجّهت نحو مسجد جدّها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعها جماعة من نساء

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 522

بني هاشم ، وأخذت بعُضادَتي باب المسجد(1) ونادت : «يا جدّاه ! إنّي ناعية إليك أخي الحسين» !! ، وهي مع ذلك لا تجفّ لها عبرة ، ولا تفتُـرُ عن البكـاء والنحيـب .(2)
إنّ الأعداء كانوا قد منعوا العائلة عن البكاء طيلة مسيرتهنّ من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ، وهنّ في قيد الأسر والسَبي ، حتى قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) «إن دمعت من أحدنا عينٌ قُرع رأسه بالرمح»(3).
والآن .. قد وصلت السيدة إلى بيتها ، وقد ارتفعت الموانع عن البكاء ، فلا مانع أن تُطلق السيدة سراح آلامها لتنفجر بالبكاء والعويل ، على أشرف قتيل وأعزّ فقيد ، وأكرم أسرة فقدتهم السيدة زينب في معركة كربلاء .
وخاصةً إذا اجتمعت عندها نساء بني هاشم ليُساعدنها على البكاء والنياحة على قتلاها ، وحضرت عندها نساء أهل المدينة ليُشاركنها في ذرف الدموع ، ورفع الأصوات بالصراخ والعويل .
والبلاغة والحكمة تتطلّب من السيدة زينب أن تتحدّث

(1) أي : الخشبتين المنصوبتين عن يمين الباب وشماله . كما في «لسان العرب» .
(2) كتاب «بحار الأنوار» ج 45 ، ص 198 . المحقق
(3) بحار الأنوار ج 45 ص 154 ، باب 39 ، نقلاً عن كتاب (إقبال الأعمال) .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 523

عمّا جرى عليها وعلى أسرتها طيلة هذه الرحلة ، من ظلم يزيد وآل أبي سفيان وعملائهم الأرجاس الأنذال .
وتتناوب عنها السيدات الهاشميات اللاتي حضرن في كربلاء ونظرن إلى تلك المآسي والفجائع ، وشاهدن المجازر التي قام بها أتباع الشياطين من بني أميّة .
كانت النسوة يخرُجن من مجلس العزاء وقد احمرّت عيونهنّ من كثرة البكاء ، وكلّ امرأة مرتبطة برجل أو أكثر ، من زوج أو أبٍ أو أخ أو إبن ، وتقصّ عليهم ما سمعته من السيدة زينب (عليها السلام) من الفجائع التي وقعت في كربلاء وفي الكوفة ، وفي طريق الشام ، وفي مجلس يزيد ، وفي مدينة دمشق بصورة خاصّة .
كان التحدّث عن أيّ مشهد من تلك المشاهد المؤلمة يكفي لأن تمتلئ القلوب حقداً وغيظاً على يزيد وعلى من يدور في فَلكه ، وحتى الذين كانوا يحملون الحبّ والوداد لبني أميّة ، إنقلبت المحبّة عندهم إلى الكراهية والبغض ، كما وأنّ الذين كانوا يُكنّون الطاعة والإنقياد للسلطة الحاكمـة صـاروا على أعتاب التمـرّد والثورة ضـدّ السلطة .(1)

(1) وقد جاء في التاريخ : أنّ عبد الله بن جعفر كان جالساً في داره يستقبل الناس الذين يريدون أن يعزّوه باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) واستشهاد ولديه عون وجعفر ، إذ دخل عليه رجل وعزّاه .
=
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 524

ومن الطبيعي أنّ الأخبار كانت تصل إلى حاكم المدينة ، وهو من نفس الشجرة التي أثمرت يزيد وأباه وجدّه ، فكان يرفع التقارير إلى يزيد ويُخبره عن نشاطات السيدة زينب ، ويُنذره بالإنفجار ، وانفلات الأمر من يده ، قائلاً : «إن كان لك في المدينة حاجة فأخرج منها زينب» .
جُبَناء ، يحكمون على نصف الكرة الأرضية ويخافون من بكاء امرأة لا تملك شيئاً من الإمكانات والإمكانيّات .

= فقال عبد الله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون !
فقال رجل يُقال له : «أبو السلاسل» : هذا ما لَقينا من الحسين بن علي ! فحَذَفه (أي : رماهُ) عبد الله بن جعفر بنعله ، وقال له : يابن اللَخناء ! (يُقال في السبّ : يابنَ اللخناء ، أي : يابن المرأة المُنتنَة) أللحسين تقول هذا ؟!
ثم قال : «والله لو شهدته لأحببت أن لا أُفارقه حتى أُقتَل معه ، والله إنّه لمِمّا يُسكّن نفسي ، ويُهوّن عليّ المُصاب ، أنّ أخي وابن عمّي أُصيبا مع الحسين ، مواسيَين له ، صابرَين معه .
ثم أقبل على جلسائه فقال : الحمد لله ، عزّ عليّ مصرع الحسين ، إن لم أكن واسيتُ حسيناً بيدَيّ فقد واساه ولداي .
المصدر : كتاب «بحار الأنوار» ج 45 ، ص 122 ـ 123 . وذكره الطبري في تاريخه ، ج 5 ، ص 466 . المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 525

إنهم يعرفون أنفسهم ، ويعرفون غيرهم ، يعرفون أنفسهم أنهم يحكمون على رقاب الناس ، ويعرفون أنّ غيرهم يملكون قلوب الناس .
من المؤسف المؤلم أن يُحسَب هؤلاء الظلمة مِن المسلمين ، وأن تُحسَب جناياتهم على الدين الإسلامي .
وأيّ إسلام يرضى بهذه الجناية التي تقشعرّ منها السماوات والأرض ؟!
هل هو إسلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
أم إسلام بني أميّة ؟!
إسلام معاوية ، ويزيد بن معاوية ، وعمر بن سعد ، والدعيّ بن الدعيّ عبيد الله بن زياد ؟!!
ولا مانع لدى يزيد أن يأمر حاكم المدينة بإبعاد السيدة زينب مِن مدينة جدها الرسول .
ولكن السيدة إمتنعت عن الخروج من المدينة ، وكأنّها لا تَهاب الموت ، ولا تخاف مِن أيّ رجس من أولئك الأرجاس .
وهل يستطيع الأعداء أن يَحكُموا عليها بشيء أمرّ من الإعدام ؟
فلا مانع ، فلقد صارت الحياة مبغوضة عندها ، والموت خير لها من الحياة تحت سلطة الظالمين .
إنّها تلميذة مدرسة كان أساتذتها يقولون : «إنّي لا أرى

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 526

الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً» .
وتحدّث السلطة ، وأعلنت إمتناعها عن الخروج من المدينة . ولكنّ عدداً من السيدات الهاشميات إجتمعن عندها وذكّرنها بيزيد وطغيانه ، وأنّه لا يخاف من الله تعالى ، ومن الممكن أن تتكرّر فاجعة كربلاء ، بأن يأمر الوالي بإخراج السيدة من المدينة قَسراً وجَبراً ، فيقوم بعض من تبقّى من بني هاشم لأجل الدفاع ، وتقع الحرب بين الفريقين ، وتُقام المجزرة الرهيبة .
فقرّرت السيدة زينب (عليها السلام) السفر إلى بلاد مصر .
ولماذا اختارات مصر ؟
إنّ أحسن بلاد الله تعالى عند السيدة زينب ـ بعد المدينة المنوّرة ـ هو مصر ، لأنّه كان لآل رسول الله في بلاد مصر رصيدٌ عظيم .. من ذلك الزمان إلى هذا اليوم . والسبب في ذلك أنّ أفراداً من الخط المُوالي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا قد حكموا مصر في تلك السنوات ، أمثال : قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، ومحمد بن أبي بكر ، وأخيراً مالك الأشتر النخعي .(1)

(1) وقد ذكر تفاصيل ذلك المَقريزي المتوفى عام 845 هـ في كتابه «المواعظ والإعتبار» ، طبع لبنان ، سنة 1418 هـ ، ج 2 ص 93 ، وج 4 ، ص 151 حيث قال : «... ومصر ـ يومئذ ـ من جيش علي بن أبي طالب» وص 156 و157 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 527


الفصل التاسع عشر

  • بعض ما رُويَ عن السيدة زينب
  • 1 ـ خُطبة السيدة فاطمة الزهراء
  • 2 ـ حديث أمّ أيمن
  • 3 ـ متفرّقات


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 528




    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 529

    بعضُ ما رُويَ عن السيدة زينب


    من القطع واليقين أنّ السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) كانت قد سمعت ما لا يُحصى من الأحاديث من جدّها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخويها : الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) ورَوت عنهم الشيء الكثير الكثير .
    وكيف لا ؟ وقد فَتحت عينَيها في مَهبط الوحي والتنزيل ، وترعرعت ونَمَت في أحضان مصادر التشريع الإسلامي ، وتراجمة الوحي الإلهي ، ومنابع المعارف والأحكام السماويّة .
    ولكن .. هل ساعدتها الظروف أن تتحدّث عمّا سمعت وشاهدت في حياتها المُباركة من أسلافها الطاهرين ؟
    وما يُدرينا ، فلعلّها حدّثت شيئاً ممّا رأت ورَوَت ، ولكنّ الدهر الخَؤون لم يحتفظ بمَرويّاتها ، فضاعت وتلفت تلك الكنوز ،

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 530

    وأبادت الحوادث تلك الثروات الفكريّة والعلميّة(1)، وقد بقي منها الشيء اليسير اليسير ، فمنها :


    (1) لقد تعرّض التراث الإسلامي الشيعي لغارات قاسية من قِبل أعداء الدين ، منذ فاجعة وفاة الرسول الكريم .. وإلى عصرنا الحاضر . فبعد وفاة ذلك النبي العظيم بدأت حملة شَعواء وهجوم عنيف ضدّ تراث أهل البيت (عليهم السلام) تحت أقنعة الدين والمصلحة الإسلامية العامّة !! ، فبإسم «مُكافحة الأحاديث المنسوبة ـ كِذباً ، إلى النبي الكريم» مُنع تداول الحديث وكتابته ، وكان الهدف ـ الأول والأخير ـ من ذلك : هو منع تداول كل حديث نبوي يرتبط بمدح أهل البيت ، وبتفسير الآيات القرآنية النازلة في شأنهم ، وسدّ الطريق أمام كلّ صحابي يريد الدفاع عن آل الرسول الطاهرين ، عن طريق الاستدلال بالقرآن الكريم ـ المؤيّد بالتفسير الصحيح ـ والأحاديث النبوية الصحيحة التي كانت حديثة عهد بالصدور . وعلى هذا النهج ورواية (المَنع من تداول تلك الأحاديث) سار الأمويّون والعباسيون والإمبراطورية العثمانيّة .. وإلى يومنا هذا .
    ولولا ضيق المجال لذكرنا استعراضاً سريعاً لأرقام مُذهلة عن التراث الشيعي العظيم الذي تعرّض للإتلاف والإبادة ، مع الوثائق والاثباتات التاريخيّة ، كشاهد ودليل على هذا القول . المحقق
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 531

    1 ـ خطبة السيدة فاطمة الزهراء


    لقد ذكرنا في كتاب (فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد) أنّ خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تُعتبر معجزة من معاجز السيدة فاطمة ، لأنّها في قمّة الفصاحة وذروة البلاغة ، وذكرنا ـ هناك ـ بعض مزايا الخطبة .
    والعجب كل العجب أنّ السيدة زينب رافقت السيدة فاطمة الزهراء ـ يومذاك ـ إلى المسجد ، وسجّلت الخطبة كلّها في قلبها وذكراتها ، لتكون راويةً لخطبة أمّها ، ولتكون همزة وصل في إيصال صوت أمّها إلى مسامع الأمم والمِلَل ، وجهازاً إعلاميّاً في بثّ هذه الخطبة إلى العالم ، وعلى مرّ الأجيال والقرون .
    ويجب أن لا ننسى أن عُمرها كان ـ يومذاك ـ حوالي خمسة أعوام فقط ، فانظر إلى الذكاء المدهش والإستعداد الكامل والمؤهّلات الفريدة من نوعها .
    لقد ذكر الشيخ الصدوق في كتاب (علل الشرائع) شيئاً من خطبة

    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 532

    السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بسنده عن أحمد بن محمد بن جابر ، عن زينب بنت علي عليه السلام .(1)
    وروى أيضاً بسنده عن عبد الله بن محمد العَلَوي ، عن رجال من أهل بيته ، عن زينب بنت علي ، عن فاطمة عليها السلام .
    وروى أيضاً بسنده عن حفص الأحمر ، عن زيد بن علي ، عن عمّته زينب بنت علي ، عن فاطمة (عليها السلام) مِثله .
    وإليك نصّ الرواية :
    روى عبد الله بن الحسن باسناده عن آبائه ، أنّه لمّا أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك ، وبلغها ذلك ، لاثَت خمارَها على رأسها(2) واشتَملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمةٍ من حفدتها ونساء قومها(3)، ما تَخرُم مشيتها مشية رسول الله

    (1) علل الشرائع ، ج 1 ص 289 باب 182 .
    (2) لاثَت : شدّت ، والخمار : ثوبٌ يغطّى به الرأس .
    (3) اللُمة ـ بضمّ اللام وتخفيف الميم ـ : الجماعة . الحفدة : الخدم والأعوان . كما في «القاموس» و«لسان العرب» . والظاهر أن المقصود ـ هنا ـ : مجموعة من نساء بني هاشم ومن النساء اللواتي كنّ يُشاركنها في الفكر والإتّجاه والهدف ، ورافَقنَها إلى المسجد .
    ويمكن أنّه كان وراء مجموعة النساء وكلاء السيدة فاطمة ، الذين كانوا يُشرفون على شؤون أراضي فدك وبساتينها . المحقق
    (4) كناية عن شدّة التستّر .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 533

    (صلى الله عليه وآله وسلم)(1) حتى دخلت على أبي بكر ، وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم(2).
    فنيطت دونها مُلاءة(3).
    فجلست ثم أنّت أنّةً أجهش القوم بالبكاء فارتجّ المجلس ، ثمّ أمهلت هُنيئة(4) حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم(5)، إفتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسوله ، فعاد القوم في بكائهم ، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها . فقالت (عليها السلام) :
    الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما

    (1) ما تَفرُق مشيتُها عن مشية أبيها من حيث الكيفية والوقار .
    (2) الحَشد : الجماعة .
    (3) نيطت : عُلّقت . والمُلاءة : الإزار ، أو المِلحَفة ، كما في «لسان العرب» . ويُعبّر عنها ـ حاليّاً ، في بعض البلاد ـ بـ «الشَرشَف» و«المَلافة» ، ويُستعمل في مجالات متعدّدة ، منها : السِتار ، ومنها الإلتحاف بها في موسم الربيع . والمقصود أنّه أُسدِلَ بين السيدة وبين القوم سِتراً وحجاباً . المحقق
    (4) وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 211 : «ثمّ أمهَلَت طويلاً» .
    (5) النَشيج : صوت البكاء مع التوجّع ، الفَورة : الشِدّة .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 534

    قَدّم ، من عُموم نِعَمٍ ابتداها ، وسُبوغ آلاءٍ أسداها(1)، وتمام مِنَنٍ والاها ، جمّ عن الإحصاء عددها(2)، ونأى عن الجزاء أمدها(3)، وتفاوت عن الإدراك أبَدُها .
    ونَدَبَهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها(4) واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالنَدب إلى أمثالها(5).
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمّن القلوب موصولها(6)، وأنارَ في التفكير معقولَها .

    (1) سُبوغ النعم : إتّساعها وشُمولها لِمُختلف جوانب الحياة . أسداها : أعطاها .
    (2) جمّ : كثُر .
    (3) نأى : بَعُد ، وهكذا تفاوت . الأمد : الغاية ومنتهى الشيء .
    (4) نَدَبَهم : دعاهم . والإستزادة : طلب زيادة النِعَم عن طريق الشكر ، لكي تتّصل وتستمرّ وتدوم .
    (5) ثنى بالنَدب : أي : كما أنّه ندَبهم لاستزادتها بالشُكر .. كذلك نَدَبهم إلى أمثالها مِن موجبات الثواب والأعمال التي تُسبّب دوام النِعَم .
    (6) جعل القلوب مُحتوية لمعنى كلمة التوحيد .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 535

    المُمتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صِفَته ، ومِن الأوهام كيفيّته . إبتدع الأشياء لا من شيء كان قَبلها(1)، وأنشأها بلا احتذاء أمثلةٍ امتثَلها(2)، كوّنها بقُدرته ، وذَرأها بمشيئته(3)، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلا تثبيتاً لحِكمته ، وتنبيهاً على طاعته ، وإظهاراً لقدرته ، وتعبّداً لبَريّته ، وإعزازاً لدعوته .
    ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادة لعباده مِن نقمته(4)، وحياشةً لهم إلى جنّته(5).
    وأشهد أنّ أبي (محمّداً) عبده ورسوله ، إختاره وانتجبه قبلَ أن أرسَلَه ، وسمّاه قبل أن اجتَبَله(6). واصطفاه قبل أن ابتَعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية

    (1) ابتَدَع : أحدَثَ وابتكر .
    (2) الإحتذاء : الاقتداء . وحذو النعل بالنَعل : أي قطع النعل على مثال النعل وقَدرها .
    (3) ذَرأها : خَلقَها .
    (4) ذيادة : مَنعاً .
    (5) حياشة لهم : سَوقَهم .
    (6) اجتَبله : فطَره ، أو خَلَقه .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 536

    العدم مقرونة ، عِلماً من الله تعالى بمئائل الأمور(1)، وإحاطةً بحوادث الدهور ، ومعرفةً بمواقع المقدور .
    ابتعثه الله إتماماً لأمره ، وعزيمةً على إمضاء حُكمه ، وإنفاذاً لمقادير حتمه . فرأى الأُمَم فِرَقاً في أديانها ، عُكّفاً على نيرانها ، وعابدةً لأوثانها ، مُنكرةً لله مع عِرفانها ، فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ظُلَمَها(2)، وكشف عن القلوب بُهَمَها(3)، وجلى عن الأبصار غُمَمَها(4)، وقام في الناس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الصراط المستقيم .
    ثمّ قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبةٍ وإيثار ، فمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن تَعَب هذه الدار في راحة ، قد حُفّ بالملائكة الأبرار ، ورضوان الرب الغفّار ، ومُجاورة الملك الجبّار ، صلى الله على أبي ، نبيّه

    (1) المئائل : جمع مآل ، أي المرجع ، وما ينتهي إليه الأمر .
    (2) ظُلَم : جمع ظُلمة .
    (3) البُهَم ـ جمع بهمة ـ : وهي مشكلات الأمور .
    (4) الغُمَم ـ جمع غُمّة ـ : الشيء المُلتبس المستور .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 537

    وأمينه على الوحي وصفيّه ، وخِيَرته من الخلق ورضيّه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته .
    ثمّ التفتت إلى أهل المجلس وقالت : أنتم ـ عباد الله ـ نصب أمره ونَهيه(1)، وحَمَلة دينه ووَحيه ، وأُمَناء الله على أنفسكم(2)، وبُلَغاؤه إلى الأمم(3)، زعيم حقّ له فيكم ، وعهد قَدّمه إليكم ، وبقيّة استخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع(4)، والضياء اللامع(5)، بيّنة بصائره ، مُنكشفة سرائره(6)، مُتجلّية ظواهره(7)،

    (1) منصوبون لأوامره ونواهيه .
    (2) أُمَناء : جمع أمين .
    (3) البُلَغاء ـ جمع بليغ ـ والمقصود ـ هنا ـ : المبلّغ .
    (4) الساطع : المرتفع ، او المُتلألأ .
    (5) اللامع : المضيء .
    (6) البصائر : جمع بصيرة ، والمراد ـ هنا ـ : الحُجَج والبَراهين .
    والسرائر : جمع سريرة ، والمقصود ـ هنا ـ : الأسرار الخفيّة واللطائف الدقيقة .
    (7) متجلّية : مُنكشفة ، أو : واضحة .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 538

    مُغتبط به أشياعه(1)، قائد إلى الرضوان ، مودٍّ إلى النجاة استماعه ، به تُنال حُجَج الله المنوّرة ، وعزائمه المفسَّرة(2)، ومحارمه المُحذّرة ، وبيّناته الجالية(3)، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة(4)، ورُخَصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة(5).
    فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق ، والصيام تثبيتاً للإخلاص ، والحجّ تشييداً للدين ، والعَدل تنسيقاً للقلوب(6)، وإطاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامَتنا أماناً من الفُرقة ، والجهاد عزّاً للإسلام ، والصبر معونةً على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف مصلحةً للعامّة ، وبرّ

    (1) الغِبطة : أن تتمنّى مثل حال المغبوط إذا كان بحالة حسنة .
    (2) العزائم ـ جمع عزيمة ـ : الفريضة التي افترضها الله تعالى .
    (3) الجالية : الواضحة .
    (4) المندوبة : المَدعوّ إليها .
    (5) المكتوبة ـ هنا ـ : الواجبة .
    (6) التنسيق : التنظيم .
    زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 539

    الوالدين وِقايةً من السخط ، وصِلَة الأرحام منماةً للعدد(1)، والقِصاص حِقناً(2) للدماء ، والوَفاء بالنذر تعريضاً(3) للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبَخس(4)، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القَذف حِجاباً عن اللعنة ، وترك السرقة إيجاباً للعفّة .
    وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة ، فَـ «اتّقوا الله حقّ تُقاته ، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون» ، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنّه «إنّما يخشى الله من عباده العلماء» .
    ثمّ قالت : أيها الناس ! إعلَموا أنّي فاطمة ! وابي محمد . أقولُ عَوداً وبِدءاً(5)، ولا أقولُ ما أقول غَلَطاً ، ولا أفعل ما أفعل

    (1) منماة ـ على وَزن مسحاة ـ : إسم آلة للنموّ ، ولعلّها مصدر ميمي للنموّ .
    (2) حِقناً : حِفظاً .
    (3) تعريضاً : إذا جعلتَه في عرضة الشيء .
    (4) المكاييل ـ جمع مِكيال ـ : وهو ما يُكال به . والموازين : جَمع ميزان . والبَخس : النَقص .
    (5) عوداً وبدءاً : آخراً وأوّلاً .

    السابق السابق الفهرس التالي التالي