مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 163

ولله در من قال من الرجال الأبدال :
بأبي بدورا في المدينة طلّعــا أمست بأرض الغاضريـة أفّلا
آساد حرب لا يمسّ عفاتهــا ضرّ الطوى ونزيلها لن يخذلا
من تلق منهم تلق غيثـا مسبلا كرما وإن قابلت ليثــا مشبلا
ومن العجائب أن تقـاد أسودها أسرى وتفترس الكلاب الأشبلا
لهفي لزين العابديــن يقاد في ثقل القيـود مقيـدا ومكبّــلا
متغلغلا فــي قيــده متثقّلا متوجّعـا لمصابــه متوجـلا

=
الغمة : 2 : 321 .
ورواه الطبري الصغير في دلائل الإمامة : ص 206 ح 128 | 18 عن محمد بن إبراهيم قال : حدثني بشر بن محمد ، عن حمران بن أعين قال : كنت قاعدا عند علي بن الحسين عليه السلام ومعه جماعة من أصحابه ، فجاءت ظبية فتبصبصت وضربت بذنبها ، فقال : « هل تدرون ما تقول هذه الظبية » ؟ قلنا : ما ندري . فقال : « تزعم أن رجلا اصطاد خشفا لها وهي تسألني أن أكلّمه أن يردّه عليها » . فقام وقمنا معه حتى جاء إلى باب الرجل ، فخرج إليه والظبية معنا ، فقال له علي بن الحسين عليه السلام : « إن هذه الظبية زعمت كذا وكذا ، وأنا أسألك أن تردّ عليها » . فدخل الرجل مسرعا داره وأخرج إليه الخشف وسيّبه ، فمضت الظبية والخشف معها وأقبلت تحرك ذنبها ، فقال علي بن الحسين عليه السلام : « هل تدرون ما تقول » ؟ فقلنا : ما ندري .
فقال : إنها تقول : « ردّ الله عليكم كلّ حقّ غصبتم عليه ، وكلّ غائب وكلّ سبب ترجونه وغفر لعلي بن الحسين كما ردّ عليّ ولدي » . ونحوه في ص 202 ح 122 | 12 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 164

أفدي الأسير وليت خدي موطئا كانت له بين المحامل محمـلا

فيا إخواني المؤمنين وخلاني الموالين ، أمثل زين العابدين ، وقدوة الساجدين ، يجوز أن تستامه أولاد الكافرين ، الإذلال والتوهين ، وتغلّ منه اليسار واليمين ، وتجعل في عنقه الأغلال ، ويسرى به على بزلّ الجمال ؟ فكم صادف يوم الطف من شدائد تسيخ لها شماريخ الأطواد ، ويذوب من سماعها الصم الصلاد .
روى المفيد في إرشاده عن الثقات أن زين العابدين عليه السلام لما دخل مع سبايا آل محمد الكوفة فنظر إلى اجتماع الناس فبكى ثم أومأ إليهم بالسكوت فسكتوا ، فقام قائما وحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه ثم قال :
« أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي ، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات ، من غير ذحل ولا ترات ، أنا ابن من هتك حريمه ، وذبح فطيمه وسلب نعيمه ، وانتهب ماله ، وسبي عياله ، أنا ابن من قُتل صبرا ، وكفاني بهذا فخرا .
أيها الناس ، ناشدتكم الله ، هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق وقاتلتموه وقتلتموه ، فتبّا لما قدّمت أيديكم وسوأة لرأيكم ، بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ يقول لكم : قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي ؟

قال : فارتفعت أصوات الناس بالبكاء وقال بعضهم لبعض : لقد هلكتم وما تعلمون .
ثم قال : « رحم الله امرءا قبل نصيحتي ، وحفظ وصيّتي في الله ورسوله وأهل بيته ، فإنّ لنا برسول الله أسوة حسنة » .
فقالوا كلهم : نحن كلنا يا ابن رسول الله سامعون لك ، حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فأمرنا بأمرك يرحمك الله تعالى ، فإنّا حرب لمن حاربك ، وسلم لمن سالمك ، لنأخذ وترك ووترنا ممن ظلمك وظلمنا .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 165

فقال لهم (عليه السلام) : « هيهات هيهات أيتها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين شهواتكم ، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل ؟! كلا ورب الراقصات ، فإن الجرح لما يندمل ، قتل أبي بالأمس وأهل بيته معه ، ولم ينسنى ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي ، ووجدهم بين لهاتي ومرارتهم بين حناجري وحلقي ، وغصصهم تجري في فراش صدري ، ومسألتي بأن لا تكونوا لنا ولا علينا » .
ثم إنه (عليه السلام) أنشأ يقول :
لا غرو أن قتل الحسين فشيخه قد كان خيرا من حسين وأكرما
فلا تفرحوا يا آل كوفـان بالذي أصاب حسينا كان ذلك أعظمـا
قتيل بشاطي النهر روحي فداؤه وكان جزى المردي هناك جهنّما (1)

وروى ابن طاوس في كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » أنّ علي بن الحسين (عليهما السلام) لما دخل على يزيد بن معاوية لعنه الله أمر بإحضار خطيب ومنبر ، وأمر الخطيب أن يصعد المنبر ويعلم الناس بمساوئ الحسين وعلي (عليهما السلام) وما فعلا ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم أكثر الوقعية في علي والحسين (عليهما السلام) ، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد لعنهما الله ، فذكرهما بكل جميل ! فصاح به علي بن الحسين (عليهما السلام): « ويلك أيها الخاطب ، اشتريت رضى المخلوق بسخط الخالق ، فتبوء مقعدك من النار » .
ثم قال : « يا يزيد ، أتأذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات لله فيهن

(1) ما عثرت على الحديث في إرشاد المفيد ، لكنه موجود في الملهوف لابن طاوس : ص 199 مع اختلاف قليل في بعض الألفاظ ، وفي آخره بعد الأبيات : ثم قال عليه السلام : « رضينا منكم رأسا برأس ، فلا يوم لنا ولا علينا » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 166

رضىً ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجر وثواب » ؟
قال : فأبى يزيد عليه ، فقال الناس : يا أمير (1) ، ائذن له يصعد المنبر ، فلعلنا نسمع منه شيئا .
فقال يزيد : إنه إذا صعد المنبر لا ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان .
فقيل له : يا أمير ، وما قدر ما يُحسن هذا .
فقال يزيد : إن هذا من أهل بيت زقّوا العلم زقّا .
قال : فلم يزالوا به حتى رضي ، فقام عليه السلام وصعد المنبر وخطب خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب ، ثم قال :
« أيها الناس ، أعطينا ستا وفضلنا بسبع ، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين ، وفضّلنا بأن منّا النبي المختار ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا البضعة ، ومنّا الطيار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأمة .
من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي ونسبي .
أيها الناس ، أنا ابن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الزكاة على أطراف الرداء ، أنا ابن خير من اتّزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجّ ولبّى ، أنا ابن من حُمِل على البراق في الهوى ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى .
أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين ، وطعن برمحين (2) ، وهاجر

(1) في الأصل : « أمير المفسدين » ، وفي المقتل للخوارزمي : « أمير المؤمنين » .
(2) المثبت من المقتل للخوارزمي ، وفي الأصل : « بالسيفين ... بالرمحين » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 167

الهجرتين ، وبايع البيعتين ، [ وصلى القبلتين ] ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين .
أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل يس ، [ ورسول ربّ العالمين ] .
أنا المؤيّد بجبرئيل والمنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن [ حرم ] المسلمين ، [ والمجاهد أعداءه الناصبين ، ] وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب لله ورسوله من المؤمنين ، أول (1) السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان كلمة العابدين ، ناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، وبستان حكمة الله ، وعيبة علمه .
سمح ، سخيّ ، بهيّ ، بهلول ، زكيّ ، مطهر ، جريّ ، رضيّ ، أبطحيّ ، مقدام (2) ، همام ، صابر ، صوّام ، مهذّب ، قوّام ، [ شجاع قمقام ] .
قاطع الأصلاب ، مفرّق الأحزاب ، أربطهم عنانا ، وأثبتهم جنانا ، [ وأجرأهم لسانا ، ] وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة .
أسد باسل ، وسمّ قاتل ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأعنّة وقوّمت الأسنّة طحن الرحى ، ويديرهم فيها دوران الريح الهشيم (3) .
كبش العراق ، وليث الحجاز ، [ الإمام بالنص والاستحقاق ] ، مكي ، مدني ، [ أبطحي ، تهامي ، ] حنفي ، عقبيّ ، بدريّ ، أحدي ، شجري ، مهاجريّ .
من العرب سيدها ، ومن الوغى ليثها (4) ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين

(1) في المقتل : « أقدم » .
(2) في المقتل للخوارزمي : « زكي ، أبطحي ، رضي ، مرضي ، مقدام » .
(3) في المقتل للخوارزمي : « ويذروهم ذروا الريح الهشيم » .
(4) المثبت من المقتل للخوارزمي ، وفي الأصل : « من العرب ليثها ، ومن الوغى سيدها » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 168

الحسن والحسين ، [ مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كل طالب ، غالب كلّ غالب ، ] ذاك جدّي علي بن أبي طالب » .
ثم قال : «أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء ، [ أنا ابن الطهر البتول ، أنا ابن بضعة الرسول ]
» .
فلم يزل يقول : « أنا ، أنا » ، حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشى يزيد أن تكون فتنة ، فأمر المؤذن أن يقطع عليه الكلام ، فلما قال المؤذن « الله أكبر » ، قال علي (عليه السلام) : « [ كبرت كبيرا لا يقاس ولا يدرك بالحواس ، ] لا شيء أكبر من الله » .
فلما قال : « أشهد أن لا إله إلا الله » ، قال علي بن الحسين (عليهما السلام) : « شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي [ ومخي وعظمي ] » .
فلما قال المؤذن : « أشهد أن محمدا رسول الله ، التفت إلى يزيد وقال : « يا يزيد محمد [ هذا ] جدي أم جدك ؟ فإن قلت (1) إنه جدك ، فقد كفرت ، وإن قلت إنه جدي ، فلِمَ قتلت عترته وانتهكت حرمته » ؟! (2) .

(1) في المقتل للخوارزمي : « فإن زعمت » .
(2) أشار إلى الخطبة السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 219 ، والمذكور فيه إلى : « ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوّء مقعدك من النار » .
والخطبة بتمامه رواها الخوارزمي في المقتل : 2 : 69 مع اختلاف في بعض الألفاظ وإضافات قليلة ، وما بين المعقوفات منه .
وروى الخطبة مختصرا بنحو آخر ابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 182 عن كتاب الأحمر عن الأوزاعي مع اختلاف في الألفاظ ، وفيه بعد قوله عليه السلام : « أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أنا ابن المقتول ظلما » : « أنا ابن المجزوز الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتى قضى ، أنا طريح كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا من ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه على السنان يهدى ، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تسبى ، أيها الناس إن الله تعالى وله الحمد

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 169

ولله در من قال من الرجال :
معشـر منهـم رســول الله و الكاشف الكرب إذا الكرب عرى
صهــر البـاذل عنـه نفسـه وحسام الله في يـوم الوغــى
أول الناس إلى الداعــي الذي لم يقدّم غيــره لمــا دعـى
ثم سبطــاه الشهيــدان فـذا بحسى السم وهــذا بالضبــا
وعلــيّ وابنــه الباقــر و الصادق القول وموسى والرضا
وعلــي وأبــوه وابـنــه والذي ينتظــر القــوم غدا
ا جبال المجــد عــزا وعلا وبدور الأرض نـورا وسنــا
جعــل الله الــذي نالكــم سبب الوجــد طويلا والبكـا
لا أرى حزنكــم يُنسـى ولا رزؤكم يُسلى وإن طـال المدى

=
ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن حيث جعل راية الهدى والعدل والتقى فينا ، وجعل راية الضلال والردى في غيرنا ، فضلنا أهل البيت بست خصال : فضلنا بالعلم والحلم والشجاعة والسماحة والمحبّة والمحلّة في قلوب المؤمنين ، وآتانا ما لم يؤت أحدا من العالمين من قبلنا ، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 170

قد مضى الدهر ونمضـي بعدهم لا الجوى باخ ولا الدمع رقـى
أنتم الشافـون من داء العمــى وغدا الساقون من حوض الروى
نــزل الديــن عليكم بينكـم وتخطّى الناس طــرّا وطوى

روي في الكتاب المذكور عن مولىً لزين العابدين (عليه السلام) قال : رأيت سيدي يوما برز إلى الصحراء ، فتبعته فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت بإزائه فسمعت له شهيقا وبكاءا ، فأحصيت عليه أن قال ألف مرة : « لا إله إلا الله حقا حقا ، لا إله إلا الله تعبّدا ورقّا ، لا إله إلا الله إيماناً وصدقا » .
ثم رفع رأسه من السجود فإذا لحيته ووجهه قد غمّرا بالدموع ، فقلت : يا سيدي ، أما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقلّ ؟!
فقال لي : « ويحك ، إنّ يعقوب بن إسحاق كان نبيا من الأنبياء ، وكان له اثنا عشر ولدا (1) ، فغيّب الله عنه واحدا منهم (2)فشاب رأسه من الحزن ، واحدَودَبَ ظهره من الغمّ ، وذهب بصره من البكاء ، هذا وابنه حيّ (3)في دار الدنيا ، وأنا قد رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مضرّجين بدمائهم لا مغسّلين ولا ملحّدين ، تسفي عليهم الرياح ، وتكفّنهم الدبور بمورها ، فكيف ينقضي حزني (4) ويقلّ بكائي عليهم » ؟! (5)

(1) في المصدر : « كان نبيا ابن نبي ابن نبي له اثنا عشر ابنا » .
(2) في المصدر : « فغيّب الله سبحانه واحدا منهم » .
(3) في المصدر : « وذهب بصره من البكاء وابنه حيّ » .
(4) في المصدر : « صرعى مقتولين ، فيكف ينقضي حزني » .
(5) رواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 234 مع مغايرة ذكرناها في الهامش .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 171

فآه آه ، يا لها من مصيبة اشتدّ ضرامها ، واحْلَوْلكَ قتامها ، واستوحشت آكامها ، وحام منها على أهل الشريعة حمامها ، وجبّ بباترها سنامها ، واستمر على أرباب الهداية دوامها ، واستشاط على إشراقها ظلامها ، فلا غرو إن بكاها سيد العباد وإمامها ، فلقد طوّقها فادحها وسقامها ، وهدّ ركنه كرّها وصدامها ، فلئن فاه بهذا الغرور الدرر ، واستخرجاه من قاموس الفكر ، ونظّم لئالي هذه العقود ، ورصّع فرائد جواهرها بأجياد هذه البنود ، فهو حريّ بذلك ، لسلوكه تلك المسالك .
روي في كتاب فقه الرضا أنه لما دنى أوان أفول البدر المضيء ، وحان زوال الإمام الرضيّ ، من دار التعب والعناء ، ومحلّ الوصب والضنى ، وقرب انتقاله إلى الحضرة العلوية ، ليشاهد جمال الطلعة القدسية ، ويفوز بوصال محبوبه ، وينال غاية مطلوبه ، نصّ على القائم بمقامه ، وأوصى إليه بما أوعز إليه من مبدئه إلى ختامه ، ثم قال له : « يا محمد الباقر ، أنت الإمام بعدي بنصّ الملك القادر ، فاعلم يا بُنيّ ، إن الوليد بن عبدالملك سوف يقتلني بالسم المهلك ، وإني مفارقك عن قريب ، فإذا انغمس بدر أجلي في المغيب ، فلا يلي غسلي غيرك ، فإنّ الإمام لا يغسّله إلا إمام مثله .
واعلم يا بُنيّ ، إن أخاك عبدالله سيدعو الناس إلى نفسه ، فإذا فعل ذلك فامنعه ، فإن امتنع وإلا فدعه فإنّ عمره قصير
» (1).

=
ورواه مختصرا ابن قولويه في كامل الزيارات : ص 213 باب 35 ح 307 | 2 ، وابن شهرآشوب في المناقب : 4 : 179 ، والمجلسي في البحار : 46 : 110 ح 4 من باب حزنه وبكائه على أبيه عليهما السلام عن كامل الزيارات .
(1) ورواه الراوندي في الخرائج 1 : 264 ح 8 وعنه المجلسي في البحار : 46 : 166 ح 9 من باب أحواله وأولاده وأزواجه عليه السلام .
ورواه الإربلي في كشف الغمة : 2 : 349 في تاريخ الإمام الباقر عليه السلام .
هكذا في الخرائج وكشف الغمة ، ولم يثبت في مصدر آخر ادعاء عبدالله بن علي بن الحسين

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 172


=
الإمامة كما أنه لم يذكر في المصادر المعتمدة أن الشيعة افترقت بعد وفاة الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام ، بل الذي ادّعى الإمامة بعد شهادة والده ، هو عبدالله بن جعفر الصادق عليه السلام الملقّب بـ « الأفطح » ، والمنسوبة إليه الفرقة الفطحية .
قال المفيد في الإرشاد : 2 : 169 باب ذكر الإمام بعد علي بن الحسين عليه السلام ، باب ذكر إخوته وطرف من أخبارهم ، وكان عبدالله بن علي بن الحسين أخو أبي جعفر عليه السلام يلي صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وصدقات أميرالمؤمنين عليه السلام ، وكان فاضلا فقيها ، وروى عن آبائه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبارا كثيرة ، وحدّث الناس عنه وحملوا عنه الآثار .
وفي معجم رجال الحديث للسيد الخوئي رحمه الله : 10 : 264 برقم 7012 : قال السيد المرتضى في مقدمة الناصريات : وروى أبوالجارود زياد بن المنذر قال : قيل لأبي جعفر الباقر عليه السلام : أيّ إخوتك أحبّ إليك وأفضل ؟ فقال : « أما عبدالله فيدي التي أبطش بها ، ـ وكان عبدالله أخاه لأبيه وأمه ـ وأما عمر فبصري الذي أبصر به ، وأما زيد فلساني الذي أنطق به ، وأما الحسين فحليم يمشي على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » .
وأما عبدالله الأفطح بن جعفر الصادق عليه السلام ، قال الكشي في رجاله : ص 254 برقم 472 بعد ترجمة عمار بن موسى الساباطي : الفطحية هم القائلون بإمامة عبدالله بن جعفر بن محمد عليه السلام ، وسموا بذلك لأنه قيل أنه كان أفطح الرأس ، وقال بعضهم : إنه كان أفطح الرجلين ، وقال بعضهم : إنهم نسبوا إلى رئيس من أهل الكوفة يقال له « عبدالله بن فطيح » ، والذين قالوا بإمامته عامة مشايخ العصابة وفقهائها مالوا إلى هذه المقالة ، فدخلت عليهم الشبهة لما روي عنهم عليهم السلام إنهم قالوا : « الإمامة في الأكبر من ولد الإمام إذا مضى » ، ثم منهم من رجع عن القول بإمامته لما امتحنه بمسائل من الحلال والحرام لم يكن عنده فيها جواب ، ولما ظهر منه من الأشياء التي لا ينبغي أن تظهر من الإمام ، ثم إن عبدالله مات بعد أبيه بسبعين يوما ، فرجع الباقون إلا شذاذا منهم عن الخبر الذي روي أن الإمامة لا تكون في الأخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام ، وبقي شذاذ منهم على القول بإمامته ، وبعد أن مات قالوا بإمامة أبي الحسن موسى عليه السلام .
وروي عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال لموسى : « يا بني ، إنّ أخاك سيجلس مجلسا ويدّعي الإمامة ، فلا تنازعه بكلمة ، فإنه أوّل أهلي لحوقا بي » .
وقال أيضا في ص 282 رقم 502 في ترجمة هشام بن سالم : جعفر بن محمد قال : حدثني الحسن بن علي بن النعمان قال : حدثني أبو يحيى ، عن هشام بن سالم قال : كنا بالمدينة بعد

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 173


=
وفاة أبي عبدالله عليه السلام أنا ومؤمن الطاق أبو جعفر والناس مجتمعون على أنّ عبدالله صاحب الأمر بعد أبيه ، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس مجتمعون عند عبدالله ، وذلك أنهم رووا عن ابي عبدالله عليه السلام إن الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة ، فدخلنا نسأله عما كنا نسأل عنه أباه ، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟ قال : في مئتين خمسة . قلنا ففي مئة . قال : درهمان ونصف درهم ! قلنا له : والله ما تقول المرجئة هذا ! فرفع يده إلى السماء فقال : لا والله ما أدري ما تقول المرجئة . فخرجنا من عنده ضلالا لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول ، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد وإلى من نتوجه ، نقول : إلى المرجئة ، إلى القدرية ، إلى الزيدية ، إلى المعتزلة ، إلى الخوارج ؟!
قال : فنحن كذلك إذ رأيت رجلا شيخا لا أعرفه يومئ إليّ بيده ، فخفت أن يكون عينا من عيون أبي جعفر ، وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق من شيعة جعفر فيضربون عنقه ، فخفت أن يكون منهم ، فقلت لأبي جعفر : تنح فإني خائف على نفسي وعليك وإنما يريدني ليس يريدك فتنحّ عني لا تهلك وتعين على نفسك . فتنحى غير بعيد وتبعت الشيخ وذلك إني ظننت أني لا أقدر على التخلّص منه ، فما زلت أتبعه حتى ورد بي باب أبي الحسن موسى عليه السلام ثم خلاني ومضى ، فإذا خادم بالباب فقال لي : ادخل رحمك الله .
قال : فدخلت فإذا أبو الحسن عليه السلام ، فقال لي ابتداءا : « لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية ، ولا إلى الزيدية ، ولا إلى المعتزلة ، ولا إلى الخوارج ، إليّ ، إليّ ، إليّ » .
فقلت له : جعلت فداك ، مضى أبوك ؟ قال : « نعم » .
قال : قلت : جعلت فداك ، مضى في موت ؟ قال : « نعم » .
قلت : جعلت فداك ، فمن لنا بعده ؟ فقال : « إن شاء الله يهديك هداك » .
قلت : جعلت فداك ، إن عبدالله يزعم أنه من بعد أبيه ؟! فقال : « يريد عبدالله أن لايعبد الله » .
قال : قلت : جعلت فداك ، فمن لنا بعده ؟ فقال : « إن شاء الله يهديك هداك أيضا » .
قلت : جعلت فداك ، أنت هو ؟ قال : « ما أقول ذلك » .
قلت في نفسي : لم أصب طريق المسألة . قال : قلت : جعلت فداك ، عليك إمام ؟ قال : « لا » .
قال : فدخلني شيء لا يعلمه إلا الله إعظاما له وهيبة أكثر ما كان يحلّ بي من أبيه إذا دخلت عليه ، قلت : جعلت فداك ، أسألك عما كان يسأل أبوك ؟ قال : « سل تخبر ولا تذع ، فإن أذعت فهو الذبح » . قال : فسألته فإذا هو بحر .

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 174

قال الباقر (عليه السلام) : « وكان ذلك في خاطري ، فلما كانت الليلة التي وعد فيها قال لي : يا بُني ، آتني بوضوء » .
قال أبو جعفر : « فقمت مسرعا وأتيته بماء في إناء في الوقت الذي أمر به ، فلما وضعته بين يديه إلتفت إليّ وقال : لا أبغي هذا . فقلت : ولِمَ يا أبت ؟ فقال : إن فيه

=
قال : قلت : جعلت فداك ، شيعتك وشيعة ابيك ضلال ، فألقي إياهم وأدعوهم إليك ؟ فقد أخذت عليّ بالكتمان ؟ فقال : « من آنست منهم رشدا فألق عليه وخذ عليهم بالكتمان ، فإن أذاعوا فهو الذبح » . ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ .
قال : فخرجت من عنده فلقيت أبا جعفر ، فقال لي : ما وراك ؟ قال : قلت : الهدى . قال : فحدّثته بالقصة .
قال : ثم لقيت المفضل بن عمر وأبا بصير ، قال : فدخلوا عليه وسلموا وسمعوا كلامه وسألوه ، قال : ثم قطعوا عليه .
قال : ثم لقينا الناس أفواجا . قال : فكان كل من دخل عليه قطع عليه إلا طائفة مثل عمار وأصحابه ، فبقي عبدالله لا يدخل عليه أحد إلا قليلا من الناس .
قال : فلما رأى ذلك وسأل عن حال الناس ، قال : فأخبر أنّ هشام بن سالم صدّ عنه الناس ، قال : فقال هشام : فأقعد لي بالمدينة غير واحد ليضربوني !
ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد : 2 : 221 في باب ذكر طرف من دلائل أبي الحسن موسى عليه السلام ، عن جعفر بن محمد بن قولويه ، عن محمد بن يعقوب الكليني ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبي يحيى الواسطي ، عن هشام بن سالم نحوه إلى قوله : « وبقي عبدالله لا يدخل عليه من الناس إلا القليل » .
وقال الشيخ المفيد في الإرشاد : 2 : 210 في باب ذكر أولاد أبي عبدالله عليه السلام : فصل ، وكان عبدالله بن جعفر أكبر إخوته بعد إسماعيل ولم تكن منزلته عند أبيه كمنزلة غيره من ولده في الإكرام ، وكان متهما بالخلاف على أبيه في الإعتقاد ، ويقال : إنه كان يخالط الحشوية ويميل إلى مذهب المرجئة وادعى بعد أبيه الإمامة واحتجّ بأنه أكبر إخوته الباقين ، فاتبعه على قوله جماعة من اصحاب أبي عبدالله عليه السلام ثم رجع أكثرهم بعد ذلك إلى القول بإمامة أخيه موسى عليه السلام لما تبيّنوا ضعف دعواه وقوّة أمر أبي الحسن عليه السلام ودلالة حقه وبراهين إمامته وأقام نفر يسير منهم على أمرهم ودانوا بإمامة عبدالله بن جعفر وهم الطائفة الملقبة بالفطحية ، وإنما لزمهم اللقب لقولهم بإمامة عبدالله وكان أفطح الرجلين ، ويقال : لقبوا بذلك لأنّ داعيهم إلى إمامة عبدالله كان يقال له : عبدالله بن الأفطح .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 175

ميتة
» .
قال أبو جعفر : « فقمت مسرعا وأتيت بمصباح ونظرت فيه وإذا فيه فارة ميتة ، فتركته وجئت بغيره ، فأخذه ولم يقل شيئا ، ثم قال لي : يا بُنيّ ، هذه الليلة التي وعدت فيها .
ثم طلب شرابا ، فأتيته بماء وقلت له : اشرب ، فنظر فيه ويداه ترتعشان (1) ، ثم قال : يا بُنيّ إني سأقبض في ليلتي هذه ، وإنها الليلة التي قبض فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2) .
ثم أغمي عليه ثلاث مرات ، ثم فتح عينيه وقرأ «إذا وقعت الواقعة » (3) و «إنا فتحنا » (4) ، ثم قال : «الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض » الآية (5) (6) ، ثم إنه أشرق من وجهه نور ساطع يخطف الأبصار ، ففاضت نفسه المقدسة الشريفة
» .
وكانت وفاته (عليه السلام) ليلة السبت الثامنة والعشرين من صفر سنة خمس وتسعين

(1) رواه ابن طاوس في فرج المهموم : 228 مع اختلاف في الألفاظ ، وعنه المجلسي في البحار : 46 : 43 ح 41 باب معجزاته ومعالي أموره عليه السلام .
ورواه الكليني في الكافي : 1 : 468 ح 4 من باب مولد علي بن الحسين عليه السلام .
ورواه الشيخ حسن بن سليمان الحلي في مختصر بصائر الدرجات : ص 7 مع إضافات ، وعنه المجلسي في البحار : 46 : 148 ح 4 من باب وفاته عليه السلام .
(2) ورواه الراوندي في الخرائج في الجزء 10 باب 9 ح 7 في ترجمة الإمام الباقر عليه السلام مع اختلاف ، وعنه المجلسي في البحار : 46 : 213 ح 6 ، وفي ص 149 في ترجمة الإمام السجاد عليه السلام ح 7 من باب وفاته عليه السلام .
(3) سورة الواقعة : 56 : 1 .
(4) سورة الفتح : 48 : 1 .
(5) سورة الزمر : 39 : 74 .
(6) ورواه الكليني في الكافي : 1 : 468 ح 5 من باب مولد علي بن الحسين عليه السلام ، وعنه المجلسي في البحار : 46 : 152 ح 13 من باب وفاته عليه السلام .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 176

من الهجرة النبوية ـ صلوات الله عليه ـ ، ولعنة الله على قاتليه (1) ، ولله در من قال :
وزين العباد رهيـن القيــود ويمنـاه مغلولــة واليسـار
يرى رحله مغنمــا للعــدا ونسوتـه ما لهـن اختفــار
وينظــر والــده جثــة على الترب يسفى عليها الغبار
يروم الوصول لمثوى أبيــه وليس له بالنهوض اقتــدار
فلهفي لتلك الوجـوه الحسـان عراهنّ بعـد البهـاء اصفرار
ولهفي لأبدانهــا الناعمـات يؤلم بالسوط منهـا القفــار
يسقن أسارى كمثــل العبيد يباشـر أوجههـنّ البشــار
تسيـر بهنّ لأرض الشئــام بحال المذلــة عجف عشار
مصاب عظيــم لـه قلّ أن تمور السما أو تغـور البحار

فعلى مثل الإمام السجاد ، وسيد العباد والزهّاد ، فلتقدّ الضمائر والأكباد ، عوض الجيوب والأبراد ، وتطلّق نواعم البساط والمهاد ، وتتجافى العيون عن

(1) اعلم أنّ في تاريخ وفاته عليه السلام خلاف شديد بين العلماء والمؤرخين ، والمشهور منها يوم الثاني عشر ، أو يوم الثامن عشر ، أو يوم الخامس والعشرين من المحرم ، سنة أربع وتسعين ، أو خمس وتسعين ، على خلاف .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 177

السنة والرقاد ، أو لا تكونون أيها الإخوان الأمجاد ، والخلان الأنجاد ، كمن قدح هذا الفادح ذو الأنكاد في خبايا ضميره والفؤاد ، ولفح حريق هذا القادح المفاد ، بين حنايا ضلوعه والأكباد ، فأنشأ وأطال الإنشاد ، ولله دره فقد أجاد .

السابق السابق الفهرس التالي التالي