سياسة الحسين 75

الوثبة(1)» فيجيبها ـ رابطاً على قلبها ـ : «والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلا الأشوس(2) الأقعس(3) ، يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل بمحالب امه»(4) .
ولعل المعترض يزعم من باب الأفتراض أن هذا الوجه لا يقاوم محذور انتهازهم الفرصة ، وتعلقهم بالمحاذير ، واستغلالهم رخصته فيتفرقوا عنه كما أمرهم .
فنقول في جوابه حاشا اولئك الصفوة الكرام أن يعلق بهم هذا الوهم ، أو يمر بخيال سيدهم فيهم هذا ، الإحتمال ، لأنه أعرف بنفسياتهم منهم ، ولقد عبروا عن تفانيهم في سبيل نصرته بأوسع ما تحتمله الألفاظ ، وإن ضاقت عن مكنون خواطرهم ، ويكفيك شاهداً أن مسلم بن عوسجة(5) يقول : «والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعين مرةً لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك(6)» وجاء زهير(7) بعده فانتهى الى الألف(8) وما ذاك إلا لأن السبعين والألف هما الغاية في المبالغة في عرف العرب .

(1) مقتل الحسين للسيد المقرم ص 219 .
(2) الاشوس : الجرئ على القتال الشديد فيه .
(3) رجل اقعس أي ثابت عزيز منيع .
(4) مقتل الحسين للسيد المقرم ص 219 .
(5) هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة . . . الاسدي كان رحمه الله شريفاً عابداً متمسكاً .
قال أهل السير إنه ممن كاتب الحسين من الكوفة ووفى له وممن أخذ له عليه السلام البيعة عند ورود مسلم بن عقيل الكوفة ولما هبط حسين الفضيلة والصلاح كربلاء خف اليه ولازمه حتى نال الشهادة بين يديه .
انظر ترجمته في ابصار العين للمحقق الشيخ محمد السماوي ص 61 . b (6) منتهى الآمال ج 1 ص 626 . (7) يريد رحمه الله زهير بن القين الانماري البجلي كان من الاشراف والشجعان المعروفين وكان اول امره عثمانياً فحج سنة ستين من الهجرة في أهله وعدد من رفقائه ثم عاد فوافق الحسين في الطريق فهداه الله تعالى وانتقل علويا ورافق الحسين الى كربلاء حيث استشهد مع من استشهد بين يديه عليه السلام .
له رضوان الله عليه ترجمة وافية في ابصار العين ص 95 وما بعدها .
(8) الايقاد للسيد العظيمي ص 97 .
سياسة الحسين 76


على أنه لو فرضنا من باب المحال ـ وفرض المحال ليس بمحال ـ أنه مر بهاجس الحسين ما ذكره المعترض في انصاره ـ وحاشاهم ـ لوجب عليه أن يخطب فيهم خطبته ويجعلهم في حل من بيعته ، كما خطب في الطريق باوشاب الناس وذوي الأطماع وبين لهم صراح الأمر ، فتفرقوا عنه ذات اليمين وذات الشمال وميز الله الخبيث من الطيب ، إذ لو حذا هؤلاء الصفوة والبقية الباقية حذو اولئك كان الأولى به أن يتخلى منه كما فارق سلفهم ، ثم كان على يقين من وجهة امره مع القوم ، وإذا استغلوا رخصته وتعلقوا بالأعذار كما فرضه فيهم أولى وأجدر ، فلا يغامر فيهم سيد الشهداء ويقابل فيهم جموع الأعداء ، ولكن فرض المحال ليس بمحال ولا ينتج إلا المحال .
الثاني : أنه عليه السلام قد شحذ عزائمهم بخطبته ، وصقل هممهم بهذه الرخصة ، على حد قول الشاعر «دع عنك لومي فإن اللوم إغراء» ألم تر أنهم قد شاع السرور في نفوسهم بعدها ، وبدا الفرح على اسارير وجوههم ، وخرجوا من طورهم المعهود فيهم من الرزانة والوقار الى حيث أخذ يضاحك بعضهم بعضاً ويهازل بعضهم بعضاً وخف بهم الشوق الى مصافحة السيوف ومعانقة الحتوف دون مهجته المرتضى ووديعة المصطفى ، حتى طالت عليهم ليلة عاشوراء فما أجدرهم بقول مادحهم وراثيهم :
إن دعوا خفوا الى داعي الوغى واذا النادي احتبى كانوا ثقالا(1)


(1) البيت من قصيدة عصماء للمغفور له شاعر اهل البيت السديد حيدر الحلي رحمه الله مطلعها :
عثر الدهر ويرجوا أن يقالا تربت كفك من راج محالا

ويعجبني أن أنقل لك ما ذكره الشيخ علي الخاقاني في ترجمته السيد حيدر المثبتة في صدر ديوانه عطر الله تربته قال الخاقاني اجتمع المصري المعروف احمد شوقي بأحد طلاب البعثة العراقية وهو في طريقه الى (السوريون) فقال له اقرأ لي شعاراً فراتياً فقرأ له ذلك الطالب من شعر بعض شعراء الفرات فقال له شوفي لا إقرأ لي :
عثر الدهر ويرجوا ان يقالا تربت كفك . . .

وأتم القصيدة له .
سياسة الحسين 77


الثالث : أنه أراد ارتفاع منزلتهم عند الله ، لأن درجات أهل الجنان متفاوتة جداً كما يقول تعالى : «وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً » (1) فلعله علم ـ والله ورسوله ووليه أعلم ـ أن درجاتهم في الجنة بعد رخصته لهم وامتناعهم عن فراقة تعلقاً بالمعاذير ترتفع عند الله ، وأنهم سيبلغون معه الى درجة« ورضوان من الله أكبر»(2) ولقد قسنا ما هناك على ما هنا «وقسنا الأخير على الأول» فقد رأيناهم استحقوا بعد تطوعهم بنفسوهم على القتل دون حبيب الله وابن احبيبه أن يكشف عن بصائرهم فيروا منازلهم في الجنة بأبصارهم ، وهم في قيد الحياة(3) ، فيا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً .
الرابع : لعل بين أبي السبطين وولديه الريحانتين فرقاً في تكليفهم الخاص بهم عند الله والذي قد تنكشف لنا بعض وجوهه من اثاره ، وهو حفظ المرتضى لبيضة الإسلام وتربيته لدوحة الدين بصبره وترك حقه ما لم تكمل له العدة ، وزاد عليه سليله المجتبى بضنه باخوته وحامته على القتل ما لم يستكملها علماً منه بأنه اذا نهض قبل استكمالها استأصل معاوية وأهل الغدر من الكوفة شأفتهم انقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهناك المصيبة والبلاء ، وأما شهيد الأباء والعظمة فإنه ضن أيضاً بإخوته وحامته وصفوة أنصاره على القتل ، بعد أن علم صدق نياتهم وعزم أن يقف في وجه تيار الأهوال بنفسه ، ويحطم كيان دولة الجور والظلم بهمته التي لا يثنيها القضاء ولا يصرفها القدر ، فقتله وحده أهون على نفسه من قتلهم معه ما لم يمتنعوا عن ذلك أشد الأمتناع فلا يضن عليهم بالفوز معه بدرجته المغشاة بالنور .
بربك أيها المعترض هلم لتسبح معي في فضاء الفكر الواسع فإن شئت فصوب النظر الى الحضيض الأسفل ، وقل أن الحسين أراد أن يفرق أصحابه وحامته في

(1) سورة الاسراء / 21 .
(2) سورة التوبة / 72 .
(3) انظر منتهى الآمال للمحقق الثبت الشيخ عباس القمي ج 1 ص 626 .
سياسة الحسين 78

المدائن والسواد حتى إذا أصبح الله الصباح ورآه بنو أمية قد غرق عسكره ولم يتأهب لقتالهم أدركتهم الرأفة بد ورضوا منه بدون النزول على حكمهم ، بل أذنوا له أن ينصرف بنسائه وأطفاله الى أي ثغر من ثغور المسلمين فيكون له ما لهم وعليه ما عليهم وإن شئت ـ وكان الأولى أن تشاء ذلك ـ فصعد النظر الى الذروة العالية ، لنرى الحسين كيف يحلق وحده في جو الإباء والعظمة ، فيريد أن يتجرد من الأعوان مع وجود الأعوان ، ويتخلى من الأنصار مع وجود الأنصار ، ليكون إمام الأباة غير مدافع ، وواحد أبطال العظمة بلا استثناء وإني ذكرت له امتياز بينه وبين أبيه تبعاً لغيري فقلت :
لم يتفق لشجاع مثل موقفه من ها هنا فانظر التاريخ للقدم
لاقى خميسين من جند ومن محن فكان بينهما أرسى من العلم

لكن هذا الفارق أعظم ، بل هو في نظري أعظم وسام للعز ادخره الله لحبيب رسول الله ، وأشرف خاصة قرن الله بها في دنيا العظمة والإباء اسم الحسين .
ودع ما كان بين الحسين وبين ربه ، فليس لنا أن نتداخل بين العاشق ومعشوقه ، حيث ارا دأن يمثل بين يديه متجرداً عن جميع علائق الدنيا ، حتى لتكاد نفسه تفارق مركز بدنها شوقاً للقائه ، مترفعاً بحبه الحقيقي الصادق عن دجرة قول القائل :
تركت الخلق طراً في هواكا وأيتمت العيال لكي أراكا

من يدرينا لعله لذلك استحق أن يخاطبه مولاه ويخلع عليه حلة ندائه : «يا أيتها النفس المطمئنة * إرجعي الى ربك راضيةً مرضيةً فادخلي في عبادي وأدخلي جنتي»(1) ولكن ما أدري يا أبا عبد الله دخلت جنة ربك وهي بأية حالة ، هل كانت فرحةً بمقدمك المفدى أم جزعةً بمصرعك الفظيع :
هل زرت جنة عدن وهي في جزع عليك أم بك طرف الخلد مكحول


(1) سورة الفجر / 27 ـ 28 ـ 29 ـ 30 .
سياسة الحسين 79

أم هز عطفك بشر في النعيم وفي خبا النساء ضرام النار مشعول(1)

* * *



(1) البيتان لمؤلف الكتاب الماثل بين يديك وقد جاءا في ضمن قصيدته العامرة التي استهلها بقوله :
المحد عند حدود البيض مكفول ولا يتم لرب الجبن مأمول

وقصيدته هذه ما قرأتها في مجلس إلا وانبى غير واحد من الحضار مستفهماً مني عن اسم ناظمها وما ذلك إلا لأنها من الشعر الرصين الذي قيل في الامام الحسين عليه السلام ويمكنك الوقوف عليها في ديوانه المطبوع الحاوي للكثير من الاشعار الراثقة التي جادت بها قريحته رحمه الله .
سياسة الحسين 80


كيف برزو للجيش آحاداً



الشجاعة قوة إرادة في القلب ، ومضاءة عزيمة في النفس تبعث صاحبها على تحريك عضلاته(1) على الإقدام على المخاطر وتربأ به عن الإحجام وتولية الدبر ، وقد تكون غريزيةً في النفس ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، وقد تكون موروثةً من العنصر ، وللعناصر اثرها العجيب وعملها القوي في تركيز الملكات في محالها المستعدة لقبولها ولكنها في الغالب تكتسب من التدرب والتمرن ، فإن العادات قهارة (ولكل إمرئ من دهره ما تعودا)(2) ، وللبيئة التي يعيش بها الإنسان عاملها الفعال حيث يتحقق عنده أن الأقدام مكرمة وفخار ، والجبن منقصة وذلة وعار لشخص الجبان وسبة خالدة في أعقابه فيضحي ببدنه دون سمعته وبحياته الفانية أمام ذكره وصيته والذكر للإنسان عمر ثاني .
أما القتال الذي يراد به وجه الله سبحانه فيكون مبعث الشجاعة فيه ـ علاوة على ما ذكرنا ـ قوة الإيمان في النفس ورسوخ العقيدة في القلب ، لذلك تقدر بمقياس تعلقه وشدة إرتباطه بمبادئه المقدسة ومبلغ أخذه بنصيبه منها .
وقد اختار الله لحبيبه الحسين أنصاراً توفرت فيهم بواعث الشجاعة وتكثرت فيهم دواعي البسالة ، كانوا شجعاناً في طبايعهم وغرائزهم وكانوا فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين ، كما شهد لهم عدوهم(3) ، وقد لمس الإيمان قرارة نفوسهم ، فأحبوا الحسين لذاته ومعناه وتسابقوا للموت دونه مستأنسين به

(1) جمع عضلة : كل عصبة يجتمع معها اللحم المؤلف .
(2) هذا صدر بيت وأما عجزه فهو (وعادات سيف الدولة الطعن في العدا) .
والبيت لحكيم الشعراء أبي الطيب المتنبي وهو من قصيدة يمدح بها سيف الدولة الحمداني .
(3) قال بن أبي الحديد المعتزلي في ج 3 ص 263 من شرحه على النهج قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد : ويحك أقتلتم ذرية رسول الله فاندفع قائلاً (عظظت بالجندل إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ثارت علينا عصابة أيديها على مقابض سيوفها كالاسود الضارية تحطم الفرسان يميناً وشمالاً وتلقي انفسها على الموت لا تقبل الامان ولا ترغب . . .) .
سياسة الحسين 81

استئناس الطفل بمحالب امه(1) ، وخلفوا به جده رسول الله لما وعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما(2)» وحفظوا به بيضة الإسلام لأنه يتجلى لأعينهم بشخصه الرباني ، ونصروا المثل العليا لأنها تتمثل بأسمى معانيها في نفسه الكريمة ، وذادوا عن حوض العدل وشريعة الأنصاف وردعوا الظلم ووقفوا سداً منيعاً في وجه تياره ، والأخذ بيد المظلوم غريزة النفوس البشرية السليمة فضلاً عن كبرائها من عظماء الرجال ، فقد دعاه أهل الكوفة ليحملهم على المحجة البيضاء والطريق اللاحب ، وينقذهم من مخالب امية السبعية التي عاشت فساداً بدينهم ودنياهم ، ولا كما عاث فرعون فساداً في بني اسرائيل وبلادهم ، فلما لبى دعوتهم عدوا عليه يقتلونه ومن معه من انصاره وأطفاله تلبيةً لدعوة امية من غير ما رأفة ولا رحمة .
ولقد ضاعف قوتهم المعنوية وزادها سبب هو أعظم الأسباب وأقواها ألا وهو اتصالهم بالحسين ، فأسرتهم أخلاقه وسرت اليهم طبائعه وجذبت قلوبهم ونفسياتهم نفسيته العظيمة ، كما يجذب الحديد المغناطيس فكأن الله خلقهم له عن جديد على مثاله وطبعهم على غراره . هذا وبله(3) ما يرجونه ـ كما بشرهم ـ من دخول الجنة ومعانقة الحور العين على حد قول بعضهم(4) «والله ما بيننا

(1) قال السيد حيدر الحلي في احدى روائعه ولقد احسن كل الاحسان :
يتسابقون الى الكفاح ثيابهم فيها وعمتهم قناً وشفار
متنافسين على المنية بينهم فكأنما هي غادة معطاء

(2) هذا هو حديث الثقلين وهو حديث تناقلته كتب الفريقين سنة وشيعة وقد ذكره من علماء الجمهور ما يلي :
1 ـ الامام احمد بن حنبل في ج 3 من مسنده .
2 ـ ابن عبد ربه الاندلسي في ج 2 من العقد الفريد .
3 ـ ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة .
4 ـ ابن الجوزي في تذكرة الخواص .
5 ـ القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ، وغير هؤلاء كثير .
(3) بله : اسم فعل بمعنى دع واترك / المؤلف .
(4) أراد رحمه الله بهذا البعض برير بن خضير الهمداني رضي الله عنه .
انظر الملهوف على قتلى الطفوف ص 155 .
سياسة الحسين 82

وبين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم(1)» بل روي أنه أرادهم منازلهم وهم في قيد الحياة ، فلا تعجب إذا لاقى كل واحد منهم بمفرده جيش الكوفة بقضه قضيضه وعدده وعدته ، ونقل لك التاريخ أنه ضاق بقتال أشدائهم ذرعاً واعتصم مقاتلته عنهم بالفرار والهزيمة فإن الأرادة إذا عظمت صغر لديها كل كبير ، والبواعث النفسية اذا توفرت تضاءل(2)في جانبها كل عدد , فكأنما خلفت هذه البواعث في نفس كل واحد عزائم لا منتهى لها مدة وشدة وعدة ، فتراه إذا برز وحده للجيش بأسره .
يصول فرداً بجيش من عزائمه وتراً ولكنه للجمع قد وترا(3)

بشمم الحسين وإبائه وصلابة الإيمان الذي خامر نفسه يحيي الهيجاء بثغره البامس وقد قطبت في وجهه وكشرت عن أنيابها ، ويخمد لهبها المحتدم غيظاً وغضباً بوجهه الوضيىء الوضاح ، فكانوا من أظهر مصاديق قول أمير المؤمنين (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم(4) ولست احابيهم الثناء ، أو أكيل لهم المدح جزافاً فهذا العدو يعترف لهم بذلك ، حيث لام العذول بعض من حضر منهم وقعة الطف ، فقال فيما قال : «ثارت علينا عصابة أيديها على مقابض سيوفها كالأسود الضارية ، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً ، تلقي نفسها على الموت ، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ولا يحول بينها وبين حياض المنية الخ ، وهذا أعرف الناس بنفسياتهم سيدهم الحسين يشهد لهم بكلمته الثمينة الخالدة(5) : «أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت ابر ولا

(1) ابصار العين للشيخ محمد السماوي ص 71 .
(2) تضاءل : صغر وضعف / المؤلف .
(3) للمؤلف قدس سره وقد جاء في ضمن قصيدته التي ندب فيها الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ورثى جده الحسين وقد مرت الاشارة اليها .
(4) انظر خطبة المتقين شرح محمد عبده ج 2 ص 60 .
(5) الواردة في ضمن خطبته التي خطبها ليلة العاشر من المحرم في اصحابه المغاوير والتي استهلها بقوله (اثني على الله تعالى احسن من الثناء واحمده في . . .) .
انظر مقتل الحسين للسيد المقرم ص 212 .
سياسة الحسين 83

أوصل من أهل بيتي» أجل والله لم يسجل التاريخ منذ بزوغ فجره الى يوم الناس هذا لواحد من بني الإنسان لاقى بمفرده جيشاً برمته ، فلم يهن عجزاً ولم يستكن ذلاً ، ولم تحز عزيمته جبناً ، اللهم الا ما كان ممن عجبت من حملاته ملائكة السموات يوم احد «إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم»(1) ، «ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين»(2) وعلي يذود بهم المشركين ويرد كتائبهم عن وجه سيد المرسلين ، يحصد الرؤوس حصداً ويقد بسيفه قداً ، وجبرئيل يشيد بذكره وينوه بمدحه منادياً بين السماء والأرض .
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي(3)

اذاً فلا تحسبنا مبالغين في مدحهم أو مغرقين في وصفهم إذا قلنا فيهم :
فإن لم يكن فيهم علي فكلهم علي أمير المؤمنين إذا كرا

لقد تضاحكوا للقاء الموت جذلاً وأجنهم حب الحسين فرحاً حتى نضوا الدروع عن أجسادهم واصحروا بها لسيوف الأعداء ورماحهم ، ودعوا على أنفسهم أن تأكلهم السباع أحياءً إن هم تركوه وحده وانصرفوا عنه ولم ينصروه ، وتمنوا أن يقتلوا دونه ثم يحيوا ثم يحرقوا يفعل ذلك بهم مراراً ، وقد صدقوا الله ما عاهدوه ، فقد روي أنه لما وقف بينهم يندبهم ويرثيهم ويدعوهم لنصرته وحماية حرمه (وهم جثث فوق الصعيد هوامد) قد فرق بين رؤوسهم وأجسادهم دبت بهم تلك الأماني الحلوة بدل الأرواح ، ونهضت بهم عزائمهم بعدما سرت في عروقهم وشرايينهم عوض الدماء ، فأخذت جثثهم تضطرب على وجه الأرض كأنها تستأذنه بالقيام ولقاء الأعداء كما استأذنوه في حياتهم بالبراز غير آبهين

(1) آل عمران / 153 .
(2) التوبة / 25 .
(3) اقول : يروق لي هنا أن ادعوك الى أن تقرأ ما كتبه ابن ابي الحديد المعتزلي في ج 14 ص 250 من شرحه على النهج عن شجاعة أمير المؤمنين عليه السلام الفائقة وبسالته النادرة في هذه المعركة .
سياسة الحسين 84

بتفريق رؤوسهم عن أجسادهم ولا محتفين بفراق أرواحهم ، وأيم الله لو أذن لهم بالقيام لقاموا ، وببراز الأعداء لبارزوهم أشد من البراز الأول ، لكنه أومى اليهم بالسكون وأشار إليهم أن يعودوا كما كانوا ، فسكنوا امتثال أمره ، وعادوا الى نومتهم طواعية رأيه ، واذا كان هذا سيرهم معه في حياتهم ودأبهم بعد مماتهم فلا نرى صاحب الرواية مبالغاً في وصفه إذ يقول وقف الحسين على أصحابه كالطير المتكسرة أجنحته ، وأخذ يدعوهم بأسمائهم واحداً واحداً ، يا مسلم بن عقيل ، ويا هاني بن عروة ، ويا حبيب بن مظاهر ، ويا زهير بن القين ، يا فلان ويا فلان ، يا ابطال الصفا ويا ليوث الهيجاء ، مالي أناديكم فلا تجيبون وأعوكم فال تسمعون ، أنتم نيام أرجوكم تنتبهون أم حالت مودتكم عن أمامكم فلا تسمعون ، هذه نساء الرسول لفقدكم قد علاهن النحول ولكن صرعكم والله ريب المنون وغدر بكم الدهر الخؤون(1)
أحباي لو غير الحمام اصابكم عتبت ولكن ما على الموت معتب
الى الله أشكو لا الى الناس أشتكي أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب

* * *



(1) انظر مقتل الحسين لأبي مخنف ص 133 .
سياسة الحسين 85


لماذا بشر وحده أباه بالرؤا



في ظني أن المعترض سيقول ، أية خصوصية لعلي بن الحسين الأكبر(1) ، دون أصحاب أبيه من صاغيته(2)وأنصاره ، فيدعوا أباه وهو في دور الإحتضار : «يا أبتاه هذا جدي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربةً لا اظمأ بعدها أبداً وهو يقول العجل العجل فإن لك كأساً مذخورةً حتى تشربها الساعة(3)» ، فإنه إن كان قد زوال الحرب عطشاناً ، فمن الذي زوالها منهم وهو ريان ، وإن كان أمسهم بالحسين عليه السلام رحماً فإن الأجنبي أولى بتوفير الأجر لأنه كالمتطوع السابق بالجميل والأحسان ، وأما مثل الأكبر فهو قائم بواجبه ، وقد سار في الأمثال «لا شكر على أداء الواجب» فخير علاج لهذا الخبر أن نعتبره من الموضوعات ، شأن غيره من الأخبار فهي كثيرة جداً .
قلنا أما كون الواجب لا شكر فيه بل كون المتطوع أفضل منه فغير تام ، بل قد تقرر في علم الفقه ، أن الواجب أفضل من المستحب ، على أن جهاد أنصار الحسين وأولاده وأخوته على شاكلة واحدة إن واجباً وإن مستحباً ، ولو لم يكن في الواجب شكر لما أثاب الله المجاهدين بل الأنبياء والمرسلين .
فأما كون أجرهم بالأستحقاق أو بالتفضيل من الله سبحانه فلا يدخل في

(1) هو علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليه السلام .
كنيته : (ابو الحسن) كما يظهر من الزيارة المروية عن الامام الصادق عليه السلام على لسان ابي حمزة الثمالي .
جاء في ص 416 من (كامل الزيارات) لابن قولويه القمي رحمه الله ان الامام الصادق قال لابي حمزة بعد كلام (ثم ضع خدك على القبر ـ يريد قبر علي بن الحسين ـ وقل صلى الله عليك يا ابا الحسن ثلاثاً بأبي انت وامي . . .) .
لقبه : (الاكبر) لكونه اكبر اولاد امامنا الحسين عليه السلام .
ولد في الحادي عشر من شهر شعبان سنة 23 واستشهد يوم العاشر من محرم سنة 61 فيكون له من العمر ما يقارب سبعا وعشرين سنة .
(2) صاغية الرجل : قومه الذين يميلون اليه / المؤلف .
(3) مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 31 .
سياسة الحسين 86

غرضنا ، ولا يدور عليه محور بحثنا ، ولكنا نرى الله سبحانه يقول لنبيه ، باني كيان الإسلام ورافع قواعد الدين وسيد المجاهدين في سبيله ، « وكان فضل الله عليك عظيم»(1) وفي موضع آخر «إن فضله كان عليك كبيرا»(2) وأما الإلتجاء للإعتقاد بوضع الخبر وتكذيبه لأدنى شبهة تعوض في الذهن وقبل علاجه بوجه مقبول في العقل فبعيد عن مساغ ، العرف وساحة الأصول الخطابية عند كافة الناس ، نعم يلتجأ الى ذلك إذا خالف ضرورة الشرع أو صادم بداهة العقل والوجدان ، أو عارض عل الأقل ما هو أشهر منه متناً أو أصح منه سنداً .
فنقول في الجواب أن حديث هتاف الأكبر بأبيه ليس فيه أي إختصاص للأكبر ، ولا يمنع من أن غيره سقاه الرسول ماءً وهو في قيد الحياة ، فبشر بذلك غيره ، فلا نحتاج للبحث عن هذا الإختصاص أورد الحديث إذا فقد الوجه ، إلا إذا قلنا بحجية مفهوم اللقب(3) ، والتاريخ لم يضمن لنا نقل كل حادثة تقع فيه فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، ولو سلمنا أن الأكبر عليه السلام اختص بأن ينطلق لسانه فيبشر أباه دون بقية أنصاره ، فيمكن أن نتصور لذلك وجوهاً :
الأول : لعله كان أشد من غيره عطشاً ، إلا أباه عليه السلام أرواحنا فداه ، ألا تراه لما رجع من الحرب شاكياً له العطش لم يحوله على غيره في إقناعه بأن هناك من هو أشد منه عطشاً ليسو عن عطشه ، لأن المصاب إذا نظر لمصاب غيره المساوي لمصابه أو الأشد ، تسلى عن مصيبته ، ولهذا قص الله على نبينا أخبار الأمم السالفة في تكذيبهم انبياءهم ورسلهم «وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك»(4) وقالت الخنساء(5) في رثاء أخيها صخر :

(1) سورة النساء / 113 .
(2) سورة الأحزاب / 87 .
(3) مثال عدم حجية مفهوم اللقب أن تقول محمد رسول الله فانه لا تنفي رسالة غيره كموسى / المؤلف .
(4) سورة فاطر / 4 .
(5) هي تماضر بنت عمرو بن الشريد من بني سليم كانت اشعر نساء عصرها لها شعر كثير جله في رثاء اخويها معاوية وصخر .
سياسة الحسين 87

ولولا كثرة الباكين حولي على قتلاهم لقتلت نفسي

فتسلى الأكبر عن عطشه ، بل نسي النار الملتهبة بين أضلاعه لما وضع أبوه لسانه في فمه(1) ، فأحس من يبوسة اللسان ، شدة اوار العطش ، في الجنان(2) ومن بعد عهده بالريق أن القلب لا يدور فيه دم الحياة ، وسوف تسكن عروقه وشرايينه(3) ولا تنبض في آخر الأرماق إذ اللسان دليل القلب ، والعنوان حاك عن المعنون ، فطبيعي وهو الذي يتفانى في سبيل حياة أبيه لأنها حياة مبدئه المقدس ودينه الحق أن ينسى عطش قلبه ، ولا يحس منه بشئ ، وبديهي أن تتضاعف قوته المعنوية فينشط على جهاد العدو ، ولا بدع فقد سمعنا بالكثير من العشاق لم يحسوا بوقع السلاح ولا ألم النار ان سمعوا أنين معشوقهم ، فأي عاشق أصدق عشقاً من الأكبر ، وأي معشوق أولى بالحب الصادق والعشق الحقيقي من ريحانة الرسول وقرة عين الزهراء البتول .
وسبب آخر لشدة عطش الأكبر وهو : طول مزاولته للحرب فقد ضج العسكر من كثرة من قتل منهم وغبر في وجوه القوم ، حتى ظنوا أن حيدراً الكرار قد شق ضريحه وجاء لنصرة ولده ، وعندها حمي بعض أبطال الجيش ، وهم طارق وأبوه وابنه فحاربوه مبارزةً واحداً بعد واحد ، فكانوا بين يديه وشدة بأسه كالعصافير في مخالب الصقر(4) ، صم رماه بن سعد بذخيرته من الجيش وبطله الذي أعده للشدائد بكر بن غانم فأمر الحسين أمه ليلى(5) أن تدعوا لولدها الوحيد ثقةً

(1) انظر مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 31 .
(2) الجنان : القلب / المؤلف .
(3) الشرايين : جمع شريان : العرق النابض الذي يجري يه الدم الأحمر / المؤلف .
(4) لما برز علي بن الحسين الاكبر عليه السلام دعا عمر بن سعد بطارق بن كثير وكان فرساً . . .
اقرأ تتمة الخبر في كتاب اسرار الشهادة للفاضل الدربندي ص 370 .
(5) هي ليلى بنت أبي مرة بن مسعود الثقفي حسب ما جاء في كتاب الارشاد لشيخ المفيد ج 2 ص 106 وكتاب اعلام الورى للطبرسي ج 1 ص 478 ، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 247 .
وتتمني هذه المرأة الجليلة الى بيت جليل شريف فإن جدها عروة احد العظيمين اللذين قالت قريش فيهما (لولا انزل هذا القران على رجل من القريتين عظيم) .
فقد ذكره المفسرون في تفاسيرهم ان المراد بالقريتين مكة المكرمة والطائف ، والعظيم الاخر هو الوليد بن المغيرة المخزومي .
سياسة الحسين 88

بحديث النبي صلى الله عليه وآله : «دعاء الوالدة في ولدها مستجاب(1)» فنصر الله علياً على قرنه بكر بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما نصره جده علياً على مناجزة بطل الأحزاب بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعد قتله وقف يتحداهم للمبارزة ويدعوهم للمناجزة ، فلم يبرز اليه أحد ، فرجع الى أبيه يطلب الجائزة شربة ماء يتقوى بها على القوم الظالمين ـ يا لفظاعة الخطب عند الحسين عليه السلام ، يا لعظم مصيبة الوالد إذا لم يجد ما يسعف به الوليد بشئ يطلبه منه وقد مست له الحاجة ، عزيز علينا والله أن يطلب الينا أبناؤنا شيئاً عزيزاً وجوده ، ثم لا نقدر على إسعافهم به ، فكيف إذا كان مبذولاً لكل أحد كالماء .
فرده بأبي وأمي الى الميدان رداً جميلاً ، بعد أن دفع لسانه في فمه ، ليكون على اطميئنان أن أباه أشد منه عطشاً ، وإن لم يزاول الحرب والقتال ، فلو كان هناك ماء لآثره به كما آثره بريقه ، بناء على استمرار بقائه في حلقه .
فانصاع يؤثره عليه بريقه لو كان ثمة ريقه لم يجمد
كل حشاشته كالصاليه الغضا ولسانه ظمأ كشقة مبرد(2)

وسبب ثالث لشدة عطش الأكبر كأبيه الحسين ، أن جسديهما لم يستطع أحد حملهما بغير وسيلة تجمع أوصالهما ، من كثرة الجروح التي أصابتهما فجسد الحسين رفعه زين العابدين لقبره ببارية أتا بها بنو أسد(3) ، والأكبر جمع أبوه الحسين أوصال جسده بردائه لما أراد حمله الى الخيام ، ولا شك أن كثرة الجراح توجب شدة استعار نار العطش واللواح(4) .
نقول واذا ثبت أن الحسين وولده الأكبر كانا أشد عطشاً من كل من عداهما

(1) اسرار الشهادة ص 370 .
(2) من قصيدة تعد من محاسن الشعر وهي للمغفور له الشيخ عبد الحسين العاملي رحمه الله يرثي بها علي الأكبر عليه السلام مطلعها :
حجر على عيني يمر بها الكرى من بعد نازلة بعترة احمد

(3) نفس المهموم للشيخ عباس القمي ص 391 .
(4) اعلم أن العطش والظماء واللواح والاوام والصدى كلها مترادفة أو متقاربة / المؤلف .
سياسة الحسين 89

لزم نبي الرحمة أن يخصهما ويسقيهما وهما في دور الإحتضار .
الثاني : أن الحسين قارن في تسلية ولده بين دفع لسانه في فمه وبين قوله له : «يا بني قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدك محمداً فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً(1)» فأراد الله أن يعجل البشارة لحبيبه وابن حبيبه بأنه قد أنجز له وعده ، ولم يخلف له ظنه وثقته به ، فسقى مهجة قلبه بحوض نبيه من كأس وليه شربةً لا يظمأ بعدها أبداً ، والحسين وإن اعتقد ذلك في أنصاره كلهم ، بل اعتقده لهم الأعداء ، ولكن للتصريح لذةً كما جاء في الأمثال ، فما ألذ وقع هذه البشارة في مسامع الحسين ، إني أظن أن الأكبر مضى الى ربه وهو مطمئن أن سرور الحسين بهذه البشارة سيندك فيه حزنه بمصاب ولده البار الحبيب .
الثالث : لقد صح في الروايات أن الأكبر كان يشبه رسول الله خلقاً وخلقاً ومنطقاً ، ولقد كانت مصيبة أهل البيت عليهم السلام برسول الله عظيمةً جداً ، وشوقهم لرؤية وجهه المبارك وخلقه العظيم ومنطقه العذب الفصيح لا يزال يزيد وينمو على توالي الشهور والأيام ، فلما ولد الأكبر فأشبه بهذه الصفات خف بعض وجدهم وأخذوا يشبعون نهمهم لرؤية وجه الرسول بالنظر لوجه شبيه الرسول ، وربما قيل أنه كان يأمره بالأذان قباله وجهه ليسمع اسم الرسول بنغمة صوت الرسول المنبعثة من شمائل الرسول فلما برز الأكبر وحده للقاء جيش الكوفة بكامله :
فتلقى الجموع فرداً ولكن كل عضو في الروع منه جموع(2)

أتبعه أبوه بصره ، وكله وجد عليه وهيام ، وقيل أخذ يهرول خلفه لأنه سلب فؤاده ولبه حيث صرع فيه ، الأمل واليأس ، فالأمل برجوعه يحيا ويعيش إخلاداً لشجاعته التي يعهدها في ولده ، فقد جاءته حبوةً من جده حيدر الكرار واليأس يعظم ويشتد لأنه رآه مشتاقاً للشهادة وجوار الملك الجبار ، ألم تسمع الى قوله

(1) بحار الأنوار ج 45 ص 43 .
(2) للسيد حيدر الحلي رحمه الله وقد جاء في ضمن قصيدته التي استهلها بقوله :
قد عهدنا الربوع وهي ربيع اين لا اين انسها المجموع
سياسة الحسين 90

للنساء ولقد تعلقن به لما هم بالرجوع : «دعنه فقد اشتاق الحبيب الى حبيبه» لذلك أرسلها زفرةً من قرارة نفسه ورفع سبابته الى السماء شاكياً لإله الأرض والسماء قائلاً فيما قال : «اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنا إذا اشتقنا الى نبيك نظرنا الى وجهه(1)» فالآن ـ وقد أيسنا منه ـ الى أي وجهة نتوجه ؟
فطبيعي والحال هذه أن أمل الحسين عليه السلام قد ذوى بموت الأكبر من جده رسول الله وسلوته عن رسول الله ، فأين الوجه الذي ينظره اذا اشتاق ، وكله شوق للنظر الى جده ، لذلك أخذ الأكبر بدوره يسليه عن نفسه بنفسه ، قائلاً له هذا جدي فكأنه يقول له إذا انقطع أملك من رسول الله وذوى رجاؤك من شبهه وعوضه وبديله وعجل اللحاق به ، فها هو عندي حاضر ، ولقدومك منتظر ، فتحظى حينئذ برؤية الأصل وفرعه ، والمعوض وعوضه .
الرابع : لقد ترك الأكبر والده الحسين عليه السلام يتلهف للقاء رسول الله فهو في رغبة شديدة لرؤية حباً لذاته ، وهو في شوق عظيم للمثول بين يديه ، ليتمتع من رؤية وجهه ويسرح نظره في رياض قسماته ، وهو في حنين الإتصال به ليبث له ما يكن ضميره من شكاته ، وربما سمعه الأكبر يوصي بذلك بعض أنصاره وحماته ، وفي ظني أن أحر شكوى يبثها لرسول الله إذا اتصل به منع امته ولده ومهجة قلبه من ورود الماء على شدة حاجته إليه ، وهو ميسور تحت أيديهم ، تتمرغ فيه الكلاب والخنازير ، فما إن مثل الأكبر بين يدي جده رسول الله حتى هتف بالحسين : «هذا جدي قد سقاني شربةً فلا أظمأ بعدها أبداً(2)» فكأنه يقول له لقيت جدي وقمت مقامك بالشكاية لديه ، ونبت منابك في التظلم بمجرد أن مثلت بين يديه ، فاعداك في الشكوى وسقاني شربةً لا أظمأ بعدها أبدا« وما

(1) بحار الأنوار ج 45 ص 42 .
(2) مقتل الخوارزمي ج 2 ص 31 .
سياسة الحسين 91

عند الله خير وأبقى»
(1) «وللاخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى»(2)
الخامس : انك سمعت ما جاء في الرواية في مسير الحسين ، حيث هومت عيناه بالنوم ساعةً ، وانتبه وهو يقول إنا لله وإنا إليه راجعون ، فأقبل عليه ولده علي الأكبر ، وقال له يا أبت لم استرجعت لا أراك الله سوءً ، فقال يا ولدي خفقت خفقةً ، فرايت فارساً وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير بهم ، فقال له ابنه علي با أبه أفلسنا على الحق ، فقال بلى يا بني والذي اليه مرجع العباد ، فقال يا أبه إذاً لا نبالي بالموت ، فقال له الحسين جزاك الله خير ما جزى ولداً عن والده(3) ـ فيستفاد من هذه الرواية أن علياً الأكبر تجلى بأجلى مظاهر الحرص في حب الجهاد وفي سبيل الله نصرةً للحق وازهاقاً للباطل وزياداً عن شريعة العدل والهدى الى آخر نفس يلفظه من أنفاس حياته ، وإذ قد صرع عن جواده ـ ولا تسل عما أصابه من الجراحات التي لا تعد ولا تحصى ـ أراد أن يوصي لمن خلفه من أنصار أبيه أن لا يكلوا عن الجهاد أجل «حب لأخيك المؤمن ما تحب لنفسك» كما أوصى سعد بن الربيع(4) لأخوانه الأنصار بنصرة رسول الله بعد أن صرع في واقعة احد إذ قال لمن جاء ينظره كامر الرسول أفي الأحياء هو أم الأموات ـ وكان من الانصار ـ «أبلغ قومك عني السلام وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم إن خلص الى نبيكم وفيكم عين تطرف(5)» فقال الرسول تعليقاً على وصيته وإشادةً بإيمانه المتين «رحم الله سعداً نصرنا حياً

(1) سورة القصص / 60 .
(2) سورة الضحى / 4 ـ 5 .
(3) انظر ارشاد المفيد ج 2 ص 82 ، وروضة الواعظين ج 1 ص 180 ، وتاريخ الطبري ج 4 ص 308 .
(4) هو سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك . . . الخزرجي الانصاري .
شهد العقبة الاولى والثانية وشهد بدراً وقتل يوم احد .
انظر ترجمته في اسد الغابة لابن الاثير ج 2 ص 293 .
(5) الاستيعاب للقرطبي ج 2 ص 157 .
سياسة الحسين 92

وأوصى بنا ميتاً(1)» وكذلك حبيب لما استعد لقبول وصية مسلم بن عوسجة بنصرة الحين الغريب ، ولكن وصية الأكبر كانت أبلغ أثراً من وصية سعد وابن عوسجة ، لأن وصيتهما مجردةً عن المصلحة المرتبة على الجهاد ، فقد جاءا بالوصية على حقيقتها ، والأكبر كنى عنها بذكر المصلحة وهو الاستقاء بعد شدة ذلك العطش من حوض الرسول بكأسه الأوفى ، والمجاهد بعد في قد الحياة الدنيا فما بالك به إذا انتقل الى الحياة الدائمية الأبدية نعم لهم «البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم » (2) وقد ذكر علماء البيان أن الكناية أبلغ من التصريح ، لإقترانها بالدليل والبرهان ، ألا ترة شهداء بئر معونة أو احد لما رأوا جزاءهم عند الله وبما أعد الله للمجاهدين لئلا يكلوا عن الجهاد ، فقال لهم الله أنا أبلغهم عنكم وأوحى الى نبيه الصادق المصدق : «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما اتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين»(3)
السادس : لقد رجع علي بن الحسين الى الميدان ناسياً عطشه ، أن رأى التفاوت عظيماً في المقياس بين عطشه وعطش أبيه ، وإذا كان أبوه أشد منه عطشاً فينبغي أن يسقى قبله بكأس الرسول الأوفى ، وإذا لم تأت نوبته بعد في السقيا لأنه لم يدخل في دور الإحتضار ، فاللازم الإنتقال الى البشارة لأن ذكر العيش نصف العيش فما إن رأى الأكبر الكأسين بيد جده المصطفى يتلقى بهما الأشدين عطشاً ، حتى هتف بأبيه يبشره بهما ، ولكنه رآى قصارى مقصد الحسين

(1) تنقيح المقال ج 2 ص 13 .
(2) سورة يونس / 64 .
(3) سورة آل عمران / 169 ـ 170 ـ 171 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي