المراقبات 137

وفضله ، وعرض مذلّة الاعتراف بمقدّس أبواب رأفته ورحمته ، ولعمري لو كان للانسان فكرة أو فطنة لكفاه ما صدر في ذلك من أئمّة الحقّ عن كل معجز في إثبات الرسالة والإمامة .
ومن أراد من أهل العلم أن يفهم شيئاً من عظمة هذا الأمر فليعمل دعاءً أو ينشئ مناجاةً ولكن بغير ما تعلّم من أدعيتهم ومناجاتهم ، ويعرضها على ما صدر عنهم فحينئذ يعلم قدر ما صنعوا في ذلك ، ومن كان له ذرّة من معرفة النفس ثمّ غاص في بحار ما أوردوه من الدعاء والمناجاة يصدّق كثرة ما أودعوا فيها من فنون المعارف وحدّ إعجازها ، وهذا العبد المسكين الجاهل ، لا أجد عشر عشير ما بيّنوها من ذلك في الأدعية والمناجاة في غيرها من الأخبار المفصّلات ، بل والخطب أيضاً إلا ما كان منها في مخاطبة الرب تعالى في مقام توحيده وتسبيحه وحمده .
وقد تخيّلت لهذا المطلب أيضاً سرّاً وحكمة ، وهو أنّ الأخبار إنّما هي تكلّم مع الناس ، والأدعية والمناجاة تكلّم مع الله جلّ جلاله ، والذي يظهر من العلم عند التكلّم مع العالم لا يظهر عند التكلّم مع الجاهل .
وبالجملة هذه الأدعية الواردة عنهم عليهم السلام كأنّها جواب ما ورد في القرآن المبين ، بعبارة أخرى كأنّها قرآن مرفوع في جواب القرآن النازل ، والقرآن كلام الرب تعالى ومناجاته مع عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ والأدعية كلام ومناجاة من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأوليائه مع الرب تعالى ، ولا يعرف حقيقة ذلك إلا الأقلون ، ولأئمة الدين في هذه الأدعية الواردة منّة عظيمة علينا يعجز عنها شكر الشاكرين ومن واجب شكر هذه النعمة أن لا يضيّعوها بل يجتهدوا في أعمالها وتصحيحها وتكميل شرائطها .
ولا بأس أن نشير بواجب شرائطها إجمالاً وإن كان لتفصيل ذلك محلٌّ

المراقبات 138

آخر ، لأنّ شهر رمضان ربيع الدعاء والقرآن ، وكذا شرائط قراءة القرآن ، ولنقدّم شرائط القراءة أدباً وأداءً لحقّ تقدّم القرآن ، فنقول : قال الله عزّ وجلّ : «أفلا يَتَدَبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها» (محمد : 24) فمن تدبّر في القرآن لا بدّ أن يعرف بقدر تدبّره معنى الكلام وعظمته ، وعظمة المتكلّم به ، وأحضر قلبه عند قراءته وتدبّر فيها ، وتفهّم مراداتها ، وتخلّى عن موانع الفهم ، وفرض نفسه مخصوصاً بأحكامها ومواعظها فيتأثّر عند ذلك منها ويترقّى بعد تأثّره في مراتب فراسته إلى عوالم بهيّة ، ومقامات سنيّة ، هذه أمور متعلّقة بقراءة القرآن ، بعضها واجب جداً ، وبعضها فضلٌ وأيُّ فضل .
أمّا فهم معنى كلام الله فاجماله أن يعلم أنّ القرآن له حقيقة غير عوالم الألفاظ والمفاهيم والنقوش ، وهو من أنوار الله وله في العوالم مظاهر ، ولمظاهره تأثيرات ، وله في عوالم الآخرة صورة كصورة الأنبياء والملائكة وعباد الله الصالحين ، يتكلّم في هذه الصور ، ويشفع عند الرب تعالى ويُشفّع وهو شافع مشفّع وصادق (ما حل) مصدّق ، وهو في الحقيقة تجلّ من تجلّيات الله جلّ جلاله كلّ ذلك في أخبار أهل البيت عليهم السلام الذين هم قيم القرآن ومع القرآن لا يفترقان .
وفيه تبيان كلّ شيء ، وعلم ما كان وما يكون ، وهو نور يهدي به الله من اتّبع رضوان سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات باذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم ، بل بحقيقة في بعض العوالم اتّحاد مع حقيقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وخلفائه الطاهرين ، كما يكشف عنه قول أمير المؤمنين عليه السلام : أنا القرآن الناطق .
وبالجملة للقرآن حقيقة بحيث لا يصل إلى كنه معرفته هذه العلوم وهو كما قال عزّ وجل : «لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرون» (الواقعة : 68) فالمعرفة بحقيقته

المراقبات 139

ملازمة لمعرفة عظمته ، وهي ملازم لمعرفة عظمة المتكلّم به ، فمن عرفه بهذه المثابة لا بدّ أن يحضر قلبه عند تلاوته ، ويتدبّر في قراءته ، واستفهم مراداتها وإشاراتها ولطائفها ، إنّ في ذلك خيراً كثيراً ، لأنّ في القرآن علم المبدأ والمعاد وهو العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأنواع العلوم بحقائق الأشياء كما هي .
وبالجملة روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : ما أسرَّ إليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً كتمته عن الناس إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في كتابه ، ولا بأس أن نشير إلى مسألة واحدة من وجوه التدبّر والاستفهام ليكون تذكرة لمن أراد أن يذّكّر .
فنقول : إذا قرأ الإنسان مثلاً سورة الواقعة : «أفَرَأيتُم الماءَ الذي تَشرَبون» (الواقعة : 68) فله أن لا يقتصر نظره إلى طعم الماء فليتدبّر من ذلك في وجوه ومن ذلك أن يتدبّر في وإنساناً .
ثم يتفكّر في أجزاء الإنسان ، أجزائه الظاهرة من العظم واللحم وغيرها ، والبصر والسمع وغيرها ، وقواه وأخلاقه الكريمة ، وأخلاقه الرذيلة وآثارها في الدنيا والآخرة ، حتى يصل إلى مراتب عقوله حتى يقف إلى العقل المستفاد ويتفكّر فيه حتى يراه كأنّه عالم مستقلٌّ بإزاء هذا العالم فكأنّه عالم صغير بل يراه عالماً كبيراً .
ثمّ يرجع إلى مبدأ الماء فيرى كما في القرآن أنّه من آثار رحمة الله ثمّ ينظر إلى أنّ الرحمة من الصفات ورأى في الصفات المتّصف (بها) ، وهذا النوع من التدبّر من مبادئ علم المكاشفة ولعلّه إذا استغرق المتدبّر فكره في ذلك يرى ما يصدّق به قول الصادق عليه السلام «ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ومعه وبعده» هذا .

المراقبات 140


ومن التفكّر المفيد في الاستفهام الفكر في أحوال الأنبياء مع كونهم من عوالم القرب والزلفى من الله جلّ جلاله بمكان كيف يصيبهم ما يصيبهم في الدنيا من المصائب والبلايا ، وأنواعها من الفقر والمرض وإيذاء الناس بالتكذيب والافتراء والشتم والضرب والقتل ، وكيف يؤدّبهم الله ويربّيهم في هذه الدنيا بالبلايا والمحن حتّى قال سيد الانبياء صلى الله عليه وآله وسلم مع أنّه حبيب الله : «ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت» وتفكّر في هذه الشؤون واستفاد من ذلك أموراً :
الأول : أن تعرف منه عظمة الله جل جلاله حيث إنّ أمثال هؤلاء العظام مقهورون تحت أحكام حكمته ، ويفعل ما يشاء ولا يسأل عن فعله .
والثاني : أن لا توجب على الله بطاعتك أن يقضي الأشياء على إرادتك .
والثالث : أن لا تيأس من فضله إذا ابتلاك في الدنيا بالفقر والذل ، وسائر البلايا .
والرابع : أن لا تشمت بمؤمن بالبلايا .
والخامس : أن لا تحقّر مؤمناً بالذل في الدنيا ، والفقر ، ولعلّ الله ابتلاه لكرامته .
والسادس : أن ترى هوان الدنيا عند الله ولا تعظّمها بل تستحقرها ، ولا تموّت نفسك حسرة على فواتها .
والسابع : أن تستشعر بإقبال الدنيا على بعدك من درجة المقرّبين ، وبإدبارها على شعار الصالحين ، كما أوحي إلى موسى عليه السلام : إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل : مرحباً بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغناء مقبلاً فقل : ذنب عجّلت عقوبته .
ومنه أيضاً التدبّر في عقوبات أهل المعاصي من الحدود والتعزيرات

المراقبات 141

الشرعية فإنّ قطع اليد لسرقة ربع دينار في حكم الله إنّما يوجب للعاقل خوفاً عظيماً من هذه الجنايات العظيمة التي يوردها في حركاته وسكناته في كلّ يوم من المعاصي القلبيّة والقالبيّة :
ومنه التدبر في أحوال الهالكين من الأمم في أعمالهم وعقابهم ، وقد سأل عيسى على نبيّنا وآله السلام عن بعض هؤلاء عن عملهم الذي أوجب عليهم نزول العذاب وأُجيب : بأنهم كانوا يحبّون الدنيا كحبّ الصبي لأمّه ، ويطيعون أهل المعاصي ، مع خوف قليل وأمل بعيد ، وغفلة في لهو ولعب . وسألهم عن كيفيّة هلاكهم وعذابهم ، قالوا : بتنا في عافية وأصبحنا في هاوية قال : وما الهاوية ؟ قال : بال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة قال : فما قلتم وما قيل لكم ؟ قال : قلنا : ردَّنا إلى الدنيا فنزهد فيها ، قيل لنا كذبتم قال : ويحك كيف لم يكلّمني غيرك من بينهم قال : يا روح الله إنّهم ملجمون بلجم من النار بأيدي ملائكة غلاظ شداد ، وأنا كنت فيهم ولم أك منهم فلمّا نزل العذاب عمّني معهم فإنّي متعلّق بشعرة على شفير جهنّم لا أدري أكب فيها أم أنجو منها .
وتفكّر في معصية أصحاب السبت وعذابهم بالمسخ قردة وخنازير أولاً ثمّ هلاكهم ، ثم تفكّر في أعمالك هل تطمئنّ أن لا يوجد في مثل أعمالهم عملك ؟
وأمثال هذه التفكّرات كان يمنع الصلحاء والأولياء أن يناموا مطمئنين ، ويقولون :
كيف ينام من يخاف البيات ، ويتصفّحون وجوههم في كل يوم مرّات ، كيف حالها هل اسودّت من ظلم المعاصي أم بقيت على حالها ؟
وكيف كان يجب للمستفهم أن يتخلّى من موانع الفهم وإلا فلا ينتفع

المراقبات 142

بالقرآن حقّ الانتفاع ، بل قد يتضرّر إن لم يتخلّ من موانع الفهم وقد عدّوا له وجوهاً ذكروا في أوّلها التقيّد في استقصاء إخراج الحروف من المخارج ، وحفظ حدود محاسن التجويد ، فإنّه يمنع عن التدبّر في معاني الآية فلا يمكنه الاستفهام .
أقول : هذا حقّ إلا أنّه ليس من موانع الإستفهام ، بل من موانع التدبّر الذي هو من أسباب الاستفهام .
والثاني : أن تكون صفة وخلق من الأخلاق الرذيلة والصفات الخبيثة ، توجب طبع القلب عن فهم معاني القرآن كما دلّت عليه بعض الآيات : «كذلك يطبعُ الله على كُلِّ قَلبِ مُتكبّرٍ جَبّار» (غافر : 35) وقوله : «وما يَتَذَكّرُ إلاّ مَن يُنيب» (غافر : 13) فإنّ هذه الصفات في القلب تورث كدورة تمنع عن فهم حقائق الأشياء نظير صداء المرآة التي تمنع عن كرائي الصور فيها .
والثالث : أن يعتقد أمراً باطلاً ويتّخذه لنفسه مذهباً ، ويبني أنّ ما وراءه كفر أو ضلال ، فإن ذلك أيضاً من موانع الفهم لأنّ في أوّل استنارة القلب لرؤية الحقّ بالقرآن قبل تمكّنه يراه كفراً ويدفعه ويؤوله وهذا لا يهتدي إلى الحق أبداً ما دام فيه هذا التعصّب لمذهبه الباطل .
والرابع : أن يجد في تفسير آية تفسيراً ظاهراً ويعتقد أنّ المراد مقصور به ، وأنّ غير هذا المعنى تفسير بالرأي وهو محرّم .
فإذا عرف القارئ حقيقة القرآن وعظمته ، فلا بدّ أن يتدبّر في آياته وإذا تدبّر وتخلّى من موانع الفهم واستفهم لا بدّ أن يتجلّى له مرادات الله على حسب مقامه من الدين ، فإذا شرب من هذا المنهل كاساً أسكره ، وإذا سكر من تجلّيات المعارف الربّانية يتأثّر قلبه بآثار مختلفة باختلاف الآيات ، فيحصل له بحسب كلّ معنى حال ووجد ، لأنّه يرى كلّ آية كأنّه هو المخاطب بها ، أو

المراقبات 143

نزلت في حقّه وهو المخصوص بها ، فيتّصف قلبه بحزن أو سرور ، أو خوف أو رجاء ، أو توكّل أو تسليم ، أو رضا أو توحيد ، فيجيب الآيات بحسب حاله بعوذة واستغفار ، اعتراف وتوبة ، ودعاء شكر ، وتسبيح وتحميد ، وتهليل وتكبير ، بحسب أحواله الحاصلة له في تأثيراته .
فإذا غلبه الخوف حصل له التبرّي من كلّ خير وسعادة مذكورة فيها لعباده الصالحين ، فيتعوّذ من شقاوته إلى ربّه وإذا غلبه الرجاء يتشوّق إلى البلوغ لكلّ مقام سنيّ من مقامات الكاملين ، والعارفين ، والمقرّبين ، فيدعو الله أن يلحقه بهم ، إذا اكتمل له هذه التأثّرات فلا بدّ أن ينتج له من بركات الوحي ونفحات الرب ما يترقّى به حتّى كأنّه يرى الله متكلّماً معه ، ومخاطباً إيّاه ، فكأنّه يشهد بقلبه أنّ الله يخاطبه بألطافه ، ويناجيه بإنعامه وإحسانه ، فيكون حاله التعظيم والإصغاء والفهم والحياء .
ثمّ إن ساعده التوفيق لشكر هذه النعمة بما يليق بها واستقبال هذه النفحة كما هو حقّها زاد الله في إنعامه وأعطاه مقاماً آخر أعلى وأسنى فيكون حاله كأنّه يرى المتكلّم في الكلام ، والصفات في الكلمات كما أشار إليه الصادق عليه السلام فيما روي عنه في «توحيد الصدوق» : «أنّ الله تجلّى لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون» فيكون مقصور الهمّ على المتكلّم ولا يبقى له نظر إلى نفسه ولا قراءته ، ولا إلى سائر الأحوال . رزقنا الله وجميع المؤمنين بهذا المقام مقامهم وأنعم علينا بمثل حالهم بحقّ أوليائه المقرّبين الفائزين صلوات الله عليهم أجمعين .
وأمّا شرائط الدعاء فبعضها يدلّ عليه العقل وبعضها يدلّ عليه النقل ، وبعضها يدلّ عليه الأمران ، فنشير أولاً إلى حقيقة الدعاء ، وهو في اصطلاحنا طلب الداني أمراً من العالي على جهة الخضوع والاستكانة ، فإذا كان حقيقته

المراقبات 144

عبارة عن الطلب ، وهو أمر نفسانيّ علم أنّ الدعاء عن قلب لاه خارج عن حقيقته ، وإذا قيّدنا الطلب بالجهة الخاصّة علم أنّ الخضوع والاستكانة شرط في تحقّقه ، وإذ لا يتحقق الطلب إلا بالرجاء ، علم أنّ الرجاء أيضاً شرط فيه .
وإذ المقصود منه في المقام الدعاء من الله وجب أن يعرف الداعي مدعوّه ، وإذ لا يتحقّق الرجاء إلا بعد الفراغ من قدرة المدعوّ على الإجابة واطّلاعه على الداعي وعلى الحاجة ، اشترط اعتقاد القدرة والعلم في المسؤول تعالى وإذا كان الخضوع يتفاوت بالنسبة إلى العالين ـ بمعنى أنّ درجة من التذلّل تعدّ خضوعاً بالنسبة إلى بعض العالين ولا تعدّ هذه الدرجة خضوعاً إلى أعلى منه ـ والله تعالى أعلى من كل عال ودعاؤه من دون إذنه مخالف لخضوعه .
وإذنه بل طلبه إلى دعائه إنّما ثبت بقوله تعالى : «وإذا سألك عبادي ـ إلى قوله ـ فَليَستَجيبوا لي» (البقرة : 186) وإنّ الطلب الحقيقي لا يتحقّق إلا للخير الواقعي ، والعبد لا يعرف خيره من شرّه كما قال تعالى : «ويَدعُ الإنسانُ بالشرِ دعاءه بالخير» (الإسراء : 11) وإن كان الخير الحقيقي الخالص من جميع وجوه الشرّ منحصراً في قربه ولقائه ، قال في مصباح الشريعة :
«وهو استجابة الكلّ منك للحقّ وتذويب المهجة لمشاهدة الربّ ، وترك الاختيار جميعاً» فعلى الداعي أولاً أن يلتفت بأن يكون دعاؤه خيراً ولا يدعو الله لما هو شرٌّ له وضرر في حقّه ، وأن لا ييأس من إجابته من دعواته إذا لم تظهر آثار الإجابة ، احتمال أن يكون ما طلبه في دعائه شرّاً له ، فيبدّله الله بخيره ، وهو لا يعلم ذلك ، ولا يسيء ظنّه بوعد الله الصادق الوعد للإجابة .
ولعمري إنّ هذا هو السرّ فيما يتراءى ظاهراً من عدم استجابة دعاء الأخيار والله تعالى وعدهم صريحاً الإجابة ، وذلك لأنّ الله تعالى في غاية

المراقبات 145

العناية لعباده الصالحين وعنايته إنّما تقتضي أن يمنعه عمّا يضرّه واقعاً وإن كان يعتقد فيه خيره وسعادته ، وهذا نظير قتل خضر عليه السلام الغلام ، فإن فرض أنّ أبويه من جهة جهلهما كانا يعتقدان خيرهما في بقاء ولدهما ، ودعوا الله في ذلك ، والله تعالى يعلم أنّ في بقائه كفرهما وهلاكهما ، فإن إجابة دعائهما لبقاء ولدهما إنّما هو في قتل ولدهما لأنّ الداعي إنّما يدعو ويحبّ إتيان مقصوده من جهة أنّه خيره وأنّ فيه سعادته ، دعاؤه للأمور الخاصّة من جهة اعتقاده فيها ذلك ، والله تعالى إذا رأى أنّه جاهل في ذلك ، وأنّ خير في خلافه ، فإجابته الواقعيّة إنّما هي بإعطاء ما هو خير له واقعاً لا فيما يراه خيراً وفيه هلاكه ، وذلك معمول عند العقلاء فيما بينهم .
أما ترى أنّك إذا تخيّلت مثلاً السمّ الذي في الحقّة ترياقاً والترياق الذي في الكأس سمّاً ، وطلبت من أبيك ما في الحقّة لتشربه وتستشفي به وأبوك يعلم أنّه سمٌّ ، فإنّ إجابته لك أن يعطيك من الكأس الذي فيه الترياق وإن تعتقده سمّاً ، ويمنعك عن السم الذي في الحقّة مع أنّك تطلبه منه ، فإن أعطاك من الحقّة مع علمه بأنّه سمٌّ وأنّه مهلك لك ، تقول : طلبتُ من أبي ترياقاً وأعطاني سمّاً .
والله تعالى يعرف بعلمه المحيط بجميع جزئيّات وخصوصيّات حالات عباده أنّ حال عبده الفلاني بحيث لو أعطاه مثلاً ما يريده من المال كان مبعّداً له من رضا ربه وقربه ، وهو لا يعلم ذلك فيطلبه من الله تعالى فحقّ العناية أن تمنعه من ذلك المال ويبدله بالفقر الذي يفرّ منه ، لأنّ المسكين إنّما طلب المال لما تخيّل فيه بجهله السعادة نظير تخيّلك أنّ ما في الحقّة ترياقاً ، والله تعالى يرى أنّ السعادة العظمى إنّما هي في الفقر ، وفي المال شقاوة وهلاك ، فإن أعطاه الله المال مع علمه بأنّ فيه شقاوته ، وهو يطلبه بجهله بموضوع

المراقبات 146

السعادة والشقاوة ، لا يعدّ هذا العطاء إجابة ، وإن أعطاه الفقر فهو إجابة في الحقيقة ، لأنّ الأول وإن وجد فيه صورة الإجابة ولكن روحها مفقودة فيه ، وفي الثاني بالعكس ، وهذا الذي ذكرناه أخذناه من الأخبار بل في بعضها أنّه تعالى من جهة عنايته بعباده المؤمنين ربما يبتليهم بالذنب الصغير لئلا يبتلى بالعجب الذي هو أعظم منه فيهلك .
وكيف كان فالذي يفعله الله في حقّ المؤمن إنّما هو خير له ولو بالنسبة إلى حاله وخصوصيّات شؤونه مع رعاية حكم الحكمة ، فكلّ خير لا يخالف الحكمة والعدل ، ويقتضيه مع رعايتهما خصوصيّات شؤون المؤمن فإنّه تعالى بعنايته يعطيه وإن لم يسأله .
فإن قلت : فإذا كان الأمر على ذلك فما فائدة الدعاء ؟ وما معنى الاجابة ؟
أقول : أمّا فائدة الدعاء إنّما هو في تصحيح حكم الحكمة الإلهية ، لأنّه قدر يصير حال العبد من جهة اقتضاء أحواله وأعماله بحيث تقتضي الحكمة الإلهيّة منعه عن الخير الخاصّ وإذا انضمّ الدعاء بأحواله تكون إجابته في ذلك الخير غير مخالف للحكمة ، فيؤثّر الدعاء في بلوغه خيره ، مع أنّ للدعاء فوائد عظيمة غير الإجابة .
وكيف كان فمن الشرائط المرويّة قطع الطمع عن غير الله والرجاء إلى الله كما يدلّ عليه قوله تعالى : «وادعوه خوفاً وطمعاً» (الأعراف : 56) .
وكما يدلّ عليه الحديث القدسيّ المرويّ في «الكافي» وغيره من الكتب المعتمدة عن أبي عبد الله ، عن آبائه عليهم السلام ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنّ الله أوحى إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه :

المراقبات 147

«وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لأقطعنّ أمل كلّ مؤمّل غيري باليأس ، ولأكسونّه ثوب المذلّة عند الناس ، ولأنحّينّه من قربي ، ولأُبعدنّه من وصلي ، أيؤمّل غيري في الشدائد والشدائد بيدي ، ويرجو غيري ويقرع (بالفكر) باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلّقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني ، فمن ذا الذي أمّلني لنوائبه فقطعته دونها ؟ ومن ذا الذي رجاني لعزيمة فقطعت رجاءه منّي ؟
جعلت آمال عبادي (كلّها) عندي محفوظةً فلم يرضوا بحفظي وملأت سماواتي ممّن لا يملّ من تسبيحي ، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي .
ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحدٌ غيري ؟ أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثمّ أُسأل فلا أُجيب سائلي ؟! أبخيل أنا فيبخّلني عبدي ؟! أو ليس الجود والكرم لي ؟ أو ليس العفو والرحمة بيدي ؟ أو لست أنا محلّ الآمال ؟
فمن يقطعها دوني ؟ أو لم يخش المؤمّلون أن يؤمّلوا غيري ؟ فلو أنّ أهل سماواتي وأرضي أمّلوا جميعاً ثمّ أُعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي عضو ذرّة ، وكيف ينقص ملكُ أنا قيّمه ؟ فيما بؤساً للقانطين من رحمتي ، يا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني» .
وفي الحديث القدسي : «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظنّ بي إلا خيراً» . قال رسول الله : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالاجابة» .
عن الصادق عليه السلام : «إذا دعوت فظنّ حاجتك بالباب» وفي رواية أخرى : «وأقبل بقلبك وظنّ حاجتك بالباب» .

المراقبات 148

وروي أنّه لمّا استغاث فرعون إلى موسى حين أدركه الغرق ولم يغثه أوحى الله إلى موسى لم تغث فرعون لأنّك لم تخلقه ولو استغاث بي لأغثته . وقضيّة قارون وعتاب الله على موسى في عدم استغاثته معروفة .
اعلم يا أخي أنّ الذي تدلّ عليه الأخبار أنّه ما ظنّ أحد بالله ظناً حسناً إلا عامله بما ظنّ ، ولكن قد يغترّ الأكثرون ، ويحسبون عدم المبالاة في الدين حسن الظنّ بالله والعاقل يغتر ، فإذا قال له الشيطان : إن معصيتك من حسن الظن بمغفرة الله ، يطالبه بالدليل ، ويقول لنفسه : لو كان الأمر كما تقول فكيف لا تحسن الظنّ في أمر رزقك وهو أنزل في ضمانه قرآناً وأكّده بالقسم ، وإن كان ظنّك بعناية الله ولطفه وكرمه فليست هذه الصفات مختصّة بالأمور الأخروية فقط وإذا اعتقدت كرمه في أمور دنياك فكيف تضطرب عند فقد أسباب الرزق ، ولا تركن إلى كرمه ؟! من أين هذه الغصص والهموم لأجل الحوائج ، فلو كان لك أب مليٌّ ذو عناية لك وضمن لك رزقك ، هل ترضى بضمانه وتطمئنّ بقوله أم لا ؟ هل ترى عناية الله أقلّ من عناية أبيك ، أو تخاف عدم قدرته ، أو تحتمل أن يبخل عنك ؟ أو لم تؤمن أنّه أرحم الراحمين ، أقدر القادرين ، أجود الأجودين .
وروي أنّ الله إذا حاسب الخلق يبقى رجلٌ قد فضّلت سيّئاته على حسناته فتأخذه الملائكة الى النار وهو يلتفت ، فيأمر الله بردّه فيقول له : لم التفتّ ـ وهو أعلم به ـ فيقول : يا ربّ ما كان هذا ظنّي بك ، فيقول الله تعالى : ملائكتي ! وعزّتي وجلالي ما حسنُ ظنّه بي يوماً ولكن انطلقوا به إلى الجنّة لادّعائه حسن الظنّ .
ومن الشرائط أن لا يظلم أحداً في ماله وعرضه :

المراقبات 149

في الحديث القدسيّ : «منك الدعاء وعليّ الإجابة فلا تحجب عني دعوة إلا دعوة آكل الحرام» .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «من أحبّ أن يستجاب دعاؤه فليطيّب مطعمه ومكسبه» .
وفي ما وعظ الله به عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام : قل لظلمة بني إسرائيل :
لا تدعوني والسحت تحت أقدامكم ، والأصنام في بيوتكم ، فإنّي آليت أن أُجيب دعوة من دعاني فإنّ إجابتي إيّاهم لعن حتّى يتفرّقوا .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «أوحى الله إليّ أن : يا أخا المنذرين ، يا أخا المرسلين أنذر قومك لا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد من عبادي عند أحد منهم مظلمة ، فإنّي ألعنه ما دام قائماً يصلّي حتى يردّ تلك المظلمة ، فأكون سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويكون من أوليائي وأصفيائي ، ويكون جاري مع النبيّين والصدّيقين والشهداء وفي الجنّة» .
وروي في ردّ دعاء الاسرائيلي أنّه كان يدعو بلسان بذيّ ، وقلب عاتٍ غير نقيّ ونيّة غير صادقة» .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر» .
وعن الصادق عليه السلام : «أنّ الله لا يستجيب دعاءً بظهر قلب ساه ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالإجابة» .
وعنه عليه السلام : «أنّ الله لا يستجيب دعاءً بظهر قلب قاسٍ» .

المراقبات 150

وروي أيضاً أنه أربعة لا يستجاب لهم دعوة : رجل جالس في بيته ويقول اللهم ارزقني ، ورجل دعا على امرأته ، ورجل أعطاه الله مالاً فأفسده ، ورجل أدار ماله رجلاً ولم يشهد عليه فجحده ، وزاد في بعض الروايات الدعاء على الجار ، وأن لا يسأل محرّماً أو قطيعة رحم .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام : «يا صاحب الدعاء لا تسأل ما لا يكون ولا يحلُّ» .
وإذا تخلّى عن هذه الأوصاف فليمهّد أسباب الإجابة مثل : الطهارة ، والأوقات الخاصّة ، والأحوال الخاصة ، والصلاة والصوم والبكاء .
روي أنّ بين الجنة والنار عقبة لا يجوز منها إلا البكاؤون من خشية الله .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الله تعالى أخبرني فقال : «وعزّتي وجلالي ما أدرك العابدون درك البكاء عندي شيئاً فإنّي لأبني لهم في الرفيق الأعلى قصراً لا يشاركهم فيه غيرهم .
وروي : ما من عين إلا وهي باكية يوم القيامة إلا عين بكت من خشية الله ، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله إلا حرّم الله سائر جسده على النار ، ولو فاضت على خدّه لم يرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلّة ، وما من شيء إلا وله كيل أو وزن إلا الدمعة فإنّ الله يطفئ باليسير منها بحاراً من النار ، ولو أنّ عبداً بكي في أُمة لرحم الله تلك الأمّة ببكاء ذلك العبد . والأخبار في ذلك كثيرة جداً .
والتحميد والتمجيد ، قال الراوي لأمير المؤمنين عليه السلام :
كيف نمجّد ؟ قال : تقول : «يا من أقرب إليَّ من حبل الوريد ، يا من

السابق السابق الفهرس التالي التالي