المراقبات 195

حقائقها كما ترى ، لذلك سمّوها دار الغرور ، وإن عظم عليك تصديق ذلك فانظر فيما تعلمه بالعلم البتّي من موارد خطاء الحسّ وتأمّل فيها ، هل تجد بينها وبين سائر المحسوسات فرقاً ؟ فإذا فقد الفرق جاء الإمكان بحكم التسوية ، فإذا ثبت الإمكان ثبت الوقوع أيضاً بالأخبار الناصّة في خطأ الحسّ في هذه الدنيا ، وهي كثيرة .
منها الأخبار التي دلّت على نطق الجمادات ، والحسّ منكره ، ومنها ما وردت في أحوال القبر من القيام والصراخ والنار والتكلّم والبستان والنعم ، فإنّ الحسّ ينكرها ، وما دلّت على وجود الملائكة وتصرّفاتهم في هذا العالم ، وما دلّت على أنّ كلّ ما في هذا العالم من الجماد والنبات والحيوان ، إنّما تجيء أرزاقهم من عالم الملكوت ، وكلّ هذه الأخبار إنّما دلّت على وجود أشياء كثيرة ، وعوالم عديدة ينكرها الحسّ .
وكيف ما كان يسمّى هذا العالم دار غرور ، لأنّها غرّت أهله بصورة لا حقيقة لها ، وبحقائق لا صورة لها ، فإنّ جواهرها كالأعراض ، وأعيانها كالسراب ، والأشياء التي ترى فيها قارّة سائلةٌ على التحقيق ، ولا أصل لما يحكم به أهلها بحقائق من الأحكام والصفات ، بل ما يوجد باقتضاء هذا العالم يحكم بامتناعه في غيره من العوالم واقعاً بل كل ما فيها غرور ووهم وخيال ، والمؤمن الذي كشف عن بصيرته حجاب الناسوت ، تتجلّى له حقائق الأشياء ويسمّى رفع الحجاب تجافياً عن دار الغرور ، وتجلّي الحقائق إنابة إلى دار الخلود .
ثمّ إنّ أمثال هذه الأوقات التي فتح فيها أبواب رحمته ، أزيد من سائر الأوقات وندب عباده الى ذكره وعبادته ، وضمن لهم ما ضمن من ألطافه الخاصّة ، فحكمها أن يزيد العبد فيها جهة الرجاء ويبسط أكفّ آماله إلى كرم

المراقبات 196

الله ومزيد نواله ، وللخبيث في هذه الأوقات إصرار في ترجيح (....) ليتطرّق بذلك على الكسل في العمل .
ثمّ يختم ليلته بما مرّ مراراً ممّا يختم به الليالي الشريفة من التوسّل بالحماة المعصومين عليهم السلام وتوديع العمل عندهم ، وعرضه على الله بأيديهم ، وأن يتضرّع إليهم في إصلاحه ، وأن يرغبوا إلى الله في قبوله وتبديله بالعمل الصالح وتربيته .
ثمّ ليعلم أنّه ورد في أخبار الأئمة عليهم السلام أنّ شرافة الليالي والأيام متلازمة بمعنى (أنّه) إذ أشرف اليوم تعدّت شرافته إلى ليلتها وإذ أشرفت الليلة تعدَّت شرافتها إلى يومها فيجب مراقبة أيّام هذه الليالي أيضاً بالإخلاص في العبادات كما يجب في لياليها .

المراقبات 197

فيما يتعلق بالليلة الأخيرة

وفيها مهامّ لأهل اليقظة ، منها ما ورد لقبول أعمال شهر رمضان ، وهو عمل شريف وهو ما رواه السيد (قدس) في «الإقبال» عن جعفر بن محمد الدوريستي ، من كتاب الحسني باسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم [أنّه] قال :
من صلّى آخر ليلة من شهر رمضان عشر ركعات ، يقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة واحدة ، و«قل هو الله أحد» عشرة مرّات ، ويقول في ركوعه وسجوده عشر مرّات : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» ويتشهد في كل ركعتين ثمّ يسلّم .
فإذا فرغ من آخر عشر ركعات قال بعد الفراغ من التسليم : «أستغفر الله» ألف مرّة ، فإذا فرغ من الاستغفار سجد ويقول في سجوده : «يا حيّ يا قيّوم ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، يا أرحم الراحمين يا إله الأولين والآخرين اغفر لنا ذنوبنا ، وتقبّل منّا صلواتنا ، وصيامنا وقيامنا» قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والذي بعثني بالحق نبيّاً إنّ جبرئيل خبّرني عن إسرافيل عن ربّه تبارك وتعالى أنّه لا يرفع رأسه من السجود حتى يغفر الله له ، ويتقبّل منه شهر رمضان ، ويتجاوز عن ذنوبه ، وإن كان قد أذنب سبعين ذنباً كلّ ذنب أعظم من ذنوب العباد ، ويتقبّل من جميع أهل الكورة التي هو فيها ـ إلى أن قال ـ : هذه هديّة لي خاصّة لأمّتي من الرجال والنساء ، ولم

المراقبات 198

يعطها الله عزّ وجلّ أحداً ممّن كان قبلي من الأنبياء وغيرهم .
أقول : ينبغي للمؤمن الذي له عناية على إصلاح الناس ، وله حظٌ من الرحمة الرحيميّة أن لا يترك هذا العمل من جهة أن نفعه على العباد عظيم جدّاً كيف يمكن أن لا يهتمّ العالم الذي ينصب نفسه للموعظة طول الشهر لهداية الناس ، وتصحيح أعمالهم ، وهو يعلم علماً قطعيّاً أنّ وعظه لا ينفع لكلّ من يحضر مجلس وعظه ، فضلاً عن أهل كورته ، وقد يزيد أهلها على جماعات من المؤمنين ، ونفعهم أيضاً لا يبلغ معشار هذا النفع الذي ذكر في الرواية من المغفرة وقبول أعمال الشهر كلّها بهذا العمل الذي لا مؤونة فيه بمقدار مؤونة وعظم يوم واحد .
فإن قيل : إنّ الرواية ليست قطعيّة .
قلت : هب أنّها ضعيفة يكفي للعامل أخبار التسامح .
فإن قيل : هب أنّ أخبار التسامح جعلها بمنزلة الرواية القطعيّة فأين القطع بقبول هذا العمل ، ليقطع بالنفع المذكور ؟
قلت : هذا مشترك الورود على الوعظ والعمل ، وهو في العمل أهون من الوعظ ، لأنّ تصحيح النيّة في الوعظ أصعب من تصحيح نيّة العبادات من وجوه أظهرها كون الوعظ موافقاً لحبّ الجاه ، والوعظ لا يكون إلا بملأٍ من الناس ، هذا .
ومن المهمّات أن يطالع ما روي عن سيد العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام وما كان يفعله في هذه الليلة ، ويتفكّر في مقامه وعبادته ، وجهده الشديد وعمله هذا ، ثمّ لينظر ما حقّه أن يفعل مع سوء حاله ، وذلِّ مقامه ، وتقصيره في عبادة ربّه ؟

المراقبات 199

روى سيّدنا قدّس الله سرّه العزيز في «الإقبال» باسناده إلى الشيخ أبي محمد هارون بن موسى التلّعكبريّ رضي الله عنه بإسناده إلى محمد بن عجلان قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :
كان عليّ بن الحسين عليه السلام إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً ولا أمة ، وكان إذا أذنب العبد أو الأمة يكتب عنده : أذنب فلان ، وأذنبت فلانة يوم كذا وكذا ، ولم يعاقبه ، فيجتمع عليهم الأدب .
حتى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان ، دعاهم وجمعهم حوله ، ثمّ أظهر الكتاب ثمّ قال : يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤدّبك أتذكر ذلك ؟ فيقول : بلى يا بن رسول الله ، حتّى يأتي على آخرهم ويقرّرهم جميعاً .
ثمّ يقوم وسطهم ويقول لهم : ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا عليّ بن الحسين إنّ ربّك قد أحصى عليك كلّ ما عملت ، كما أحصيت علينا كلّ ما عملنا ، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ ، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة [ممّا أتيت] إلا أحصاها ، وتجد كلّ ما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كلّ ما عملنا لديك حاضراً ، فاعفُ واصفح كما ترجو من المليك أن يعفو عنك ، فاعف عنّا تجده عفوّاً ، وبك رحيماً ، ولك غفوراً ، ولا يظلم ربّك أحداً ، كما لديك كتاب ينطق بالحقّ علينا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناها إلا أحصاها .
فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل : «إنّها إن تَكُ مثقال حبّةٍ من خَردل» (لقمان : 16) يأت بها يوم القيامة ، وكفى بالله حسيباً وشهيداً ، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح ، فإنّه يقول : «وليَعفوا وليَصفَحوا ألا تُحبّون أن يَغفر الله لكم» (النور : 22) .

المراقبات 200

[قال] : وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقّنهم ، وهم ينادون ، معه وهو واقفٌ بينهم يبكي وينوح ، ويقول :
ربّنا إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا فقد ظلمنا أنفسنا ، فنحن [قد] عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت ، فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين ، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا وقد أتيناك سائلين ومساكين ، وقد أنخنا بفنائك وببابك ، ونطلب نائلك ومعروفك وعطاءك ، فامنن بذلك علينا ولا تخيّبنا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين ، إلهي كرمت فأكرمني ، إذ كنت من سؤالك ، وجدت بالمعروف فأخلطني بأهل نوالك يا كريم .
ثمّ يقبل عليهم ويقول : قد عفوت عنكم ، فهل عفوتم عنّي وممّا كان منّي إليكم من سوء ملكه فإنّي مليك سوء ، لئيمٌ ، ظالمٌ ، مملوكُ مليكٍ كريم جواد عادل محسن متفضّل ، فيقولون قد عفونا عنك يا سيّدنا وما أسأت .
فيقول لهم : قولوا : اللهمّ اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا ، فأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقّ ، فيقولون ذلك : فيقول : اللهمّ آمين رب العالمين ، اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي ، فيعتقهم .
فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس ، وما من سنة إلا وكان يعتق فيها من آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين نفساً إلى أقل أو أكثر .
وكان يقول : إنّ لله تعالى في كلّ ليلة من شهر رمضان [عند الإفطار] سبعين ألف ألف عتيق من النار ، كلاً قد استوجب النار ، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه ، وإنّي لأحبّ أن يراني الله وقد

المراقبات 201

أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار .
وما استخدم خادماً فوق حول كامل ، إذا ملك عبداً في أوّل السنة أو في وسط السنة ، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني ، ثمّ أعتق ـ كذلك كان يفعل حتى لحق بالله ، و[لقد] كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة ، فيأتي بهم عرفات ويسد بهم تلك الفرج والخلال وإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وقدَّمَ لهم جوائز من المال .
أقول : فإن قدر أن يشبّه نفسه بإمامه ، ويقتدي به في صورة هذا العمل الجليل ، فليفعل هنيئاً له ، وإن لم يقدر عليه فليفعل لا محالة بالقدر الميسور ، وأقلّه أن يحفظ ما يظلمه به أولاده وأهله وخادمه وأجيره ، ويتجاوز عنه في آخر ليلة من شهر رمضان ، والأولى أن يذكر ما حفظ واحداً بعد واحد ويناجي ربّه بأن يقول :
اللهمّ إنّ عبدك فلاناً ظلمني في الأمر الفلاني فصبرت ، وإنّ فلاناً ظلمني في الأمر الفلاني فصبرت ، ويذكرهم إلى آخرهم ، ثمّ يقول :
اللهمّ إنّك تعلم أنّ عبادك هؤلاء ظلموني وما منعني عن الانتقام منهم إلا خوفك ، وقد كففت عنهم يدي رجاء أن تكفّ عنّي بأسك ، وأنت أمرت عبادك بالعفو ، فلا تمنعهم ذلك لأنّك أولى به من المأمورين .
اللهمّ إنّك مننت عليَّ بالعفو عمّن ظلمني فلا تحرمني عفوك ، لأنّ منّك عليَّ بعفوي أعظم من عفوك منّي ، فمتى سمحت بالأعظم فلا تمنع الأدون .
اللهمّ إنّ العبد لا يملك حقّاً والحقّ لمالكه ، فالحقّ لك على من ظلمني ، فإذا أمرتني بالعفو عنه ، فقد عفوت عنه ، فإذا عفوت عنه فاعف عنّي .

المراقبات 202

اللهمّ إنّك أمرت في جواب التحيّة بالأحسن ومن الأحسن في قبال عفوي عن ظالمي لوجهك أن تعتق رقبتي من النار ، والرجاء لفضلك وكرم عفوك أن تبدّل سيّئاتي بعد عفوك بأضعافها من الحسنات ، وترفع لي بذلك رفيع الدرجات ، فلا تخيّب رجائي .
ثمّ اعلم أنّ مجرّد قصد هذه المطالب بالقلب وإن كان مؤثّراً في المقام إلا أنّ في ذكرها بالخصوص وإتيانها بالجوارح أثراً خاصاً من وجوه شتّى :
أحدها : أنّ العمل بالقلب كما أنّه عبادة له فإجراء ما فيه على الجوارح أيضاً عبادة للجوارح ، فعند الاتيان بالجوارح تتحقّق العبادة بها أيضاً .
وثانيها : أنّها تؤثّر في القلب تأثيراً خاصّاً ورقّة لا يؤثره مجرّد الأمر القلبيّ ، ويصير سبباً لعمل آخر مؤثّر أيضاً فيمتدّ الفيض الدائم .
وثالثها : أنّ ظهورها على الجوارح يصير سبباً لتأثّر الغير وتأسّيه ، ويفيد فائدة السنّة الحسنة ، والشاهد على ذلك أنّه لو اكتفى الامام عليه السلام في ذلك بالأمر القلبيّ لما نقل لنا ذلك ولم نعمل به ، وكيف كان للجوارح أيضاً حظٌّ من نور العمل ، فيؤثّر عملها في القلب نوراً زائداً على نور عمله .
ومن المهمّات أن يحاسب نفسه في عمل شهر رمضان كما يحاسب الشريك شريكه في آخر العمل ، ويلاحظ رأس ماله الذي هو عمره وإيمانه وبركات شهر رمضان وأنواره ، ويعتبر هل ازداد إيمانه بالله وبرسوله وكتابه وحججه واليوم الآخر من مقامات الدين ؟
وكيف أخلاقه الناشئة من المعارف المذكورة ؟ من الخوف والرجاء والصبر والزهد والتجرد لذكر الله والفكر المؤدّين إلى الأنس ، والمعرفة المؤدّية إلى المحبّة المتبوعة بالرضا والتوكّل والتسليم والتوحيد ، وانشراح

المراقبات 203

الصدر من نور المعرفة في مشاهدة الغيوب ، وانفساح القلب في احتمال البلايا وحفظ السرّ ، وكيف تجافيه عن دار الغرور ، وإنابته إلى دار الخلود ؟ هل لشهر رمضان وأعماله تأثير في ذلك أم بقي على ما كان عليه قبله ؟
ويحاسبها في أفعالها وحركات جوارحها هل بقيت على حالها أم ازدادت مراقبة أحكامه تعالى فيها ؟ لا سيّما بالنسبة إلى حركات لسانه في التكلّم بما لا يعني ، والخوض في الباطل ، والكذب والغيبة والافتراء والتعرّض لأعراض المؤمنين والفحش والإيذاء وغيرها ، فإن رآها كلّها على ما كان فليعلم أنّ ذلك من سوء عمله في هذا الشهر العظيم البركة ، وأنّ ظلمة ذنوبه قد فاقت على أنوار هذا الشهر النور المنير ، وإلا فلا يمكن أن لا تؤثّر أنوار شهر رمضان ، وليالي القدر ، وهذه الدعوات الجليلة في تنوير قلبه وتطهيره من أرجاس الرذائل ، والقلب المستنير لا يجيء منه الشر .
وليخف هذا المغبون عن خطر دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال : «من انسلخ عنه شهر رمضان ولم يغفر له فلا غفر الله له» فإنّه من أشدّ المصائب ، وأعظم الخطرات فليعمد إلى إصلاح حاله مستمدّاً من الله وملتجئاً إلى رحمته ، ومحترفاً إلى بابه ، قائلاً بلسان حاله : «أمّن يُجيب المضطرّ إذا دعاه ويَكشِفُ السوء» (النمل : 62) وليبك على خطاياه ، ولتكن عليه شواهد صدق الاعتراف ، قائلاً بلسان حاله : «لا إله إلا أنتَ سبحانك إنّي كنتُ من الظالمين» (الأنبياء : 87) .
ومن علامة [صلاح] الحال أن يكون عليه سمة مذلّة الخاطئين ، ووجل قلوب المذنبين ويستغفر الله جلّ جلاله بقدر ذنوبه ، وإن لم تعنه نفسه العوّادة بالكسل عن إتيان حقّ الاستغفار ؛ فإن قدر أن يأتي الله من الباب الذي أتاه إبليس ونال مراده وهو باب عدم القنوط فليفعل ، وإن لم يمكنه ذلك أيضاً

المراقبات 204

فليجرّ نفسه إلى مجلس القود كما فعله بعض التائبين ، فوقع منه بالقبول ، وبالجملة فعليه أن يستعلج في آخر الشهر كلّ ما أفسد من دينه ، حتّى يستعدّ ليوم العيد ، والوفود فيه إلى الله ، لئلا يحرم عن فوائده فإنّ الحرمان في هذا اليوم خسران عظيم .
ومن المهمّات أن يودّع شهر رمضان ، ويتأثّر من مفارقته ، وقد ورد في ذلك أدعية ومناجاة مع شهر الله الأعظم فاخرة جداً .
وإن أشكل عليك وداع الزمان الذي ليس من قبيل الحيوان الشاعر للصحبة والتوديع ، فانظر إلى جواب السيد قدّس الله سرّه في الإقبال ، وإن لم تقنع به فاستمع لما يتلى عليك :
فاعلم أنّ الزمان والمكان وسائر الأشياء غير الحيوان وإن كانوا في عالمهم هذا وبصورهم هذه غير شاعرين إلا أنّ كلّها في بعض العوالم العالية لها حياة وشعور ومنطق وبيان ، وحبٌّ وبغض ، كما تكشف عن ذلك الأخبار الكثيرة الواردة في أحوال عوالم البرزخ والقيامة ، ومكاشفات أهل الكشف ، فإن لكل ما يوجد في هذا العالم وجوداً في عوالم أخرى هي سابقة على هذا العالم في الوجود ، وللموجودات في كلّ عالم صور وأحكام مخصوصة بعالمها ، تختلف مع الصور والأحكام الكائنة في غير هذا العالم .
ومن أحكام بعض العوالم العالية أنّ كلّ ما يوجد فيها يكون ذا حياة وشعور ، لأنّ الدار دار حياة وحيوان ، كما دلّت الأخبار على أنّ الدار الآخرة كذلك ولعلّ في قول الله تعالى : «وإنّ الدارَ الآخرة لهيَ الحَيَوان» (العنكبوت : 64) أيضاً إشارة إلى ذلك حيث حكم على الدار بأنّها هي الحيوان .
ومن الأخبار الدالّة على حياة موجودات عالم الآخرة ، ما ورد فيها من

المراقبات 205

تكلّمات الفواكه في الجنّة ، وفرح السرير ، واستبشاره من تكئة المؤمن ، بل ومنها ما دلّت على تكلّمات الأرض مع المؤمن والكافر فإنّها ليست بعالمها هذه ، ولذا لا يسمعها أهل هذا العالم ، بل بملكوتها .
ومن هذا القبيل تكلّم الحصى في يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث إنّ نطقها وتكلّمها بملكوتها ، وإعجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّما هو بإسماع نطق لسان ملكوتها إلى هذه الأسماع الدنيويّة .
بل كلّ ما أظهر نبيٌّ أو وليٌّ معجزاً من قبيل إنطاق جماد وإحيائه فهو من هذا الباب ، فإن عصا موسى وطير عيسى حياتهما إنّما هي بملكوتهما ، وهي غيب عن أهل هذا العالم إلا إذا أظهره الله عليهم لحكمة في إظهاره ، فالزمان في بعض عوالمها حيٌّ وله شعور ، فلا بأس أن يودّع ويخاطب بعالمه هذا .
والأهمّ أن يكون العامل والمودّع أهلاً للوداع معه ، وصادقاً فيما يظهره من الأحزان عند التوديع ، لئلا يختم شهره بالكذب والنفاق في مثل هذا المقام الفاخر .
ولا يستقيم ذلك إلا لمن صاحبه شوقاً ومحبّةً ، لا كرهاً وتكلفاً ، أيضاً لا يستقيم لمن صاحبه مخالفاً لمقتضاه ، لأنّ المخالف لم يكن مصاحباً في الحقيقة ليودّع صاحبه .
وكيف كان يشترط في حقيقة الوداع أن يكون المودّع محزوناً لفراق من يودّعه ، ولا يكون محزوناً لفراقه إلا إذا أحبّ مصاحبته ، والمحبّ لصاحبه لا يخالفه بل يراقبه ويطيعه في محابّه ومراده ، فإن كنت راضياً لمجيء شهر الصيام وصومه وعبادته ، ومحبّاً له ومراقباً لإتيان الأعمال التي جاء بها شهر رمضان ، ومجدّاً في ذلك ، ومعتقداً لكرامته وفضله ونفعه كما حقّه ، فلا بدّ أن تحزن من فراقه ويعزّ عليك خروجه .

المراقبات 206

وحينئذ إذا قلت : «السلام عليك من قرينٍ جلّ قدره موجوداً ، وأفجع فراقه مفقوداً» كنت صادقاً ، وهكذا لو ناجيت ربّك وقلت مخاطباً إيّاه : «نحن مودّعوه وداع من عزّ فراقه فغمّنا ، وأوحش انصرافه عنّا فهمّنا» كنت صادقاً فيما تخاطب ربّك في مناجاته وأمّا لو كنت والعياذ بالله متثاقلاً في صحبته ، ومتكلفاً في قبول ما جاء به من الصيام والقيام ، ومتبرّماً ببقائه ، وخاطبته بأمثال هذه الألفاظ أو أظهرت في مناجاة ربّك ما ذكر وأمثاله وأجابك شهر رمضان بالردّ والتكذيب وقال : «أماتستحيي ممّا تقول ، وأنت لم تكن راضياً بصحبتي ، وكنت متثاقلاً عن جواري ، وغير معتنٍ لما أتحفت إليك من الخيرات ، والتحف والهدايا ، ولم تستقبلني بالشوق والرغبة ، ولم تصاحبني بالأنس والمحبّة ، بل كنت شائقاً لخروجي ومفارقتي ، والآن أنت فرح بمفارقتي بقلبك ، ومظهر الأحزان بلسانك» .
أو أعرض عنك (ربّك) في جواب مناجاتك ، أو عاقبك بتهوينك جناب قدسه بمشافهة الكذب والفرية ، كيف تكون حالك يا مسكين ويا مغبون ويا خاسر ويا مهلك نفسه ، ومضيّع نعمة ربّه ، إذا أخذك ربّك بكذبك ونفاقك ، وعاقبك في وداعك بعقاب الكذب والفرية ، هل لك حجّة في دفع هذا العقاب ؟.
وبالجملة إن كنت عارفاً بحرمة شهر رمضان وقدر منزلته عند الله ، وبقدر فضله ونعمته عليك ، وعاملته بمقدار حسن صنيعه بك ، وكريم معاملته معك .
وتعرف ذلك أن تقدّره مثل ضيف كريم شريف نزل بساحتك ، فعزّ بنزوله مقامك وكثر نفعك ، بما ورد في أخبار أعمال شهر رمضان .
وإجمال ذلك أنّه صار سبباً لنجاتك من السجّين ، وبلغ بك إلى ذروة

المراقبات 207

التقريب في أعلى علّيين ، مع الأنبياء والصدّيقين ، وأقعدك «في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدر» (القمر : 55) مع الأنبياء والمرسلين ، والملائكة المقرّبين ، كيف يكون حالك مع هذا الضيف ؟ وابتهاجك بصحبته ؟ وكيف تراقبه وتفديه بنفسك وأهلك وكلّ ما يعزّ عليك ؟ وكيف تكون وحشتك من فراقه ؟ فعند ذلك تكون في وداعه على حال يظهر منك ما ظهر من وداع سيّد الساجدين ، ويودّعك شهر رمضان أيضاً بمثل ما تودّعه ، بل وأفضل ، ويظهر في فراقك فوق ما أظهرت ، لأنّ العناية من العالي أتمّ وأكمل ممّن دونه .
ثمّ إنّك إن وجدت حالك مختلفة في أوقات الشهر ، ورأيته في بعض الأوقات والحالات صاحباً موافقاً لشهر رمضان ، فرحاً لصحبته ، مستنيراً من أنواره ، مستفيضاً من بركاته ، ومقدّساً فيوضاته ، عارفاً لفوائده ، شاكراً لنعمه ، ذاكراً لمننه ، مجدّاً في مراقبته ، حائزاً لذخائره ، فائزاً لجليل مآثره ، وفي بعض الأوقات غافلاً عن ذلك ، أو مخالفاً أحياناً لمقتضاه ، فعليك أن تشمّر في آخر ليلة منه أن ترضيه بالاعتذار الصادق ، وإظهار الندم والتوبة عن ظهر القلب ، لا عن لقلقة اللسان ، فإنّه ضيف كريم أرسله إليك أكرم الأكرمين ، لينفعك لا ليضرّك ، يرضى عنك بتلطّف يسير في الاعتذار .
وعالج مصيبتك التي أوردتها على نفسك في طول الشهر بصدق الندم ، وخالص الاستعداد ، ومن التلطّف أن تقول :
«اللهمّ إنّك أكرمتنا بهذا الشهر العظيم بكرامة عظيمة لا يقدّر قدرها أحد وقد ضيّعناها ، وظلمنا فيه أنفسنا بما أنت أعلم به من كلّ أحد ، وهذا الشهر قد تصرّ لياليه وأيّامه ، فالآن أدركني نفح من نفحاتك فاستيقظت من نومة غفلتي وأدركت عظيم مصيبتي ، وجليل جنايتي ، وقد أشرفت على الهلكة ، وهنا أنا ذا بين يديك ، معترف بإساءتي ، وإضاعتي لهذه الكرامة الفاخرة ،

المراقبات 208

وتعرُّضي للهلكة الدائمة ، والحسرة العظيمة ، فالآن من عذابك من يستنقذني ؟ وعمّا لزق بقلبي من آثار أعمالي من يخلّصني ؟ وأنا مع ما فيه من سوء حالي ، ومهوى هلكتي استشعرت من تنبيهك وتذكيرك إيّاي أنّك لم تكلني إلى نفسي وغفلتي ، ولم تغلق باب التوبة عنّي فلا أيأس من روحك ، فإنّه لا ييأس من روحك إلا القوم الكافرون ، ولا أقنط من رحمتك ، لأنّه لا يقنط من رحمتك إلا القوم الخاسرون .
فاسألك برحمتك التي أنجيت بها كلّ هالك من عبادك ، وبقبولك الذي قبلت به سحرة فرعون ، وبإجابتك التي أجبت بها فرعون ، وأجبت أبغض خلقك إبليس حيث استنظرك ، أن تنجيني من هلكتي ، وتقبلني بقبولك ، وتجيب دعوتي في هذه الليلة ، فتبدّل سيّئاتي بأضعافها من الحسنات ، وتمحو اسمي في هذا الشهر المبارك من ديوان الأشقياء في مهوى السجّين ، وتكتبني في ديوان السعداء في أعلى علّيين ، وتلحقني بأوليائك السابقين ، وأصفيائك المقرّبين ، بمحمّد وآله الطيّبين الطاهرين صلواتك عليهم أجمعين .
اللهمّ إنّ ذنوبي وقلّة حيائي قد سوّدت وجهي عندك ، فبوجوه آل محمد صلواتك عليهم أتوجّه في قبولي وإجارتي : «اللهمّ إنّ الشهر دار ضيافتك ، وأنت كرهت للمضيف أن يمنع ضيفه القرى ، وإن كان الضيف ممّن لا يهلكه المنع ، والمضيف ممّن ينقصه الاحسان ، وأنت إذا منعتني قراك ، بتُّ طاوياً في حماك ، ووصلت إلى الهلاك يا من لا يزيد إحسانه إلا في ملكه» .
ثمّ راقب أن تختم الشهر بالصدق في الإنابة ، وأن لا ترجع إلى ما كنت فيه من مخالفة مراد ربّك ومولاك .
ثمّ تعمد في أواخر نهار اليوم الآخر ، الذي هو يوم عرض أعمال الشهر ، إلى أن تناجي خفير يومك من المعصومين عليهم السلام وتبسط في مناجاته

المراقبات 209

بأدب التواضع والتوسّل وتنشئ لذلك من النطق والبيان ، ما يهيّج عليك إشفاقهم ، ويستمطر عليك سحاب رأفتهم وكرامتهم ، وأن تفوّض أعمال شهرك إليهم بالاعتذار ، والتضرّع في السؤال والابتهال ، أن يصلحوها بشفاعتهم ودعائهم ، ويرغبوا إلى الله أن يقلبها بكرم عفوه ويبدّلها بأضعافها من الحسنات ، وإن كان ذلك آخر النهار في السجدة حتّى تختم شهرك ساجداً جائعاً تدخل إلى ليلة العيد ساجداً جائعاً ، أرجو أن تنال فوق أملك من كرامة الله جلّ جلاله .

* * *



السابق السابق الفهرس التالي التالي