المراقبات 210

في مراقبة ليلة الفطر

اعلم أنّ العيد عبارة عن وقتٍ اختاره الله جلّ جلاله من بين الأيّام ، لإطلاق الجوائز والإنعام على العباد ، ليجتمعوا على أخذ الخلع والعطايا ، وأذّن بالإذن للحضور بين يديه ، والاستكانة لديه ، بالاعتراف للعبودية ، والاستغفار عن ذنوبهم وعرض حوائجهم ، وبسط آمالهم ، ووعدهم في ذلك كلّه الإجابة لهم ، وإعطائهم فوق آمالهم ، بل فوق ما خطر على قلوبهم ، وأحبّ لهم في هذا اليوم أن يحسنوا ظنّهم إلى ربّهم ، وأن يرجّحوا رجاءهم لقبوله ، ومغفرته وعطاءه ، على الخوف من ردّه وعذابه .
والخائب الخاسر في مثل هذا اليوم من غفل عن معنى العيد ، واشتغل فيه بالتزيّن للناس ، وتصفيق اليد ، وترجيل الشعر عن مهامّ أمر الاستعطاف ، والاسترحام من حضرة القدس ، ورضي للاستئناس بأمثاله من العوامِّ كالأنعام ، عن الأنس بمجالس الأطهار ، من خواص ربّ العالمين ، من الأنبياء والمرسلين ، والشهداء والصدّيقين بل استبدل دركات السجّين ، عن درجات العلّيّين ، بل اشترى الخلود على الأرض ومهوى عالم الطبيعة ، عن جوار الله ـ جلّ جلاله ـ جبّار السماوات والأرضين ، فيا له من خسران ما أعظمه وأقبحه وأفضحه .
وكيف كان جعل الله شهر رمضان مضماراً للسباق بعبادته ، وندب عباده

المراقبات 211

يوم العيد ليجتمعوا على أخذ الجوائز والعطايا . فالخارجون إلى العيد طوائف : طائفة لم يعرفوا الصوم إلا تكليفاً ، وتكلّفوا بمجرّد الإمساك عن الطعام والشراب والنساء ، ورأوا ذلك خدمة ، تخيّلوه طاعة ومنّة ، ولم يراقبوا جوارحهم عن المعصية ، ونقضوا صومهم بالكذب والغيبة ، وهدموه بالبهتان والفرية ، وفحش الخادم والأذيّة ، وركبوا مع ذلك مراكب دالّة المطيعين ، ورأوا في صومهم كأنّ لهم المنّة على ربّ العالمين ، فافتضحوا بمعصيتهم وجهلهم عند أولي الألباب ، ولم يقع صومهم موقع القبول عند ربّ الأرباب ، فإن كان حضورهم للعيد بحسن الظنّ إلى عناية الله جلّ جلاله ، واستغفروا في مصلاهم ربّهم من ذنوبهم ، لعلّ الله يعمّهم عند إطلاق الجوائز بالمغفرة ، ويثيبهم بفضله ببعض المثوبات .
وطائفة عرفوا أنّ المنّة لله تعالى عليهم في التكاليف ، وأنّ الصوم لا يكمل إلا بكفّ الجوارح ، ولكن صاموا بالتكلّف وراعوا جوارحهم أيضاً ولكن ربّما خالفوا في ذلك ، وارتكبوا معصية مع خوف ورجاء ، وعملوا بالمندوبات أيضاً بقدر نشاطهم وتركوها بقدر كسلهم ، وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وحضروا عيدهم بخوف وخجل ، وحياء ورجاء ، أولئك الذين وعدهم ربّهم بالمغفرة والثواب ، وتبديل سيّئاتهم بالحسنات ، ويوفّيهم جزاء عباداتهم فوق آمالهم من العطيّات .
وطائفة صاموا مع الغفلة على العادة ، وكانوا في شهر رمضان أيضاً كغيره من الأشهر على غفلتهم ومعصيتهم ، وحضروا العيد أيضاً على العادة ، وهم مرجون لأمر الله إمّا أن تشملهم عناية الله فيغفر لهم بمجرّد حضورهم العيد ، أو من جهة كرامة بعض أعمال العاملين من أهل الله ، أو يخرجهم سوء أعمالهم عن رحمة الله ، فيلحقوا بالخاسرين .

المراقبات 212

وطائفة منهم أجابوا في شهر رمضان نداء الله جلّ جلاله بالصيام والقيام ، واجتهدوا في مراقبة الملك العلام بكلّ جهدهم ، ولم يرضوا في تحصيل مراد الله جلّ جلاله بخير دون خير ، وجدّوا أن يحرزوا كلّ الخيرات ، وأتوا بما أتوا وقلوبهم وجلة من استشعار التقصير في شكر نعمة تشريف هذا النداء ، وعارفة بقدر منّة الله جلّ جلاله عليهم في إذنه لهم بالتقرّب إليه ، والخدمة والعبادة له ، فقبل الله جلّ جلاله منهم خدمتهم ، وشكر سعيهم ، وأثابهم بكراماته ، وفنون عناياته ، وأكرمهم بزيادة هداياته ، وكساهم من أنوار قربه ، وألحقهم بخواصّ أوليائه من أصفيائه .
وطائفة ذهب لذّة نداء الله جلّ جلاله لهم بعناء الجوع والسهر ، واستقبلوه بالشوق والشكر ، بل الوجد والسكر ، وجدّوا بالسير والاستباق ، ولبّوا خطاب ربّ الأرباب ، بالأسرار والألباب ، وهمّوا ببذل النفوس والأرواح في كشف الحجاب ، ونالوا من قربه بالمراد ، واتّصلوا بربّ العباد ، فقبلهم ربّهم بقبول حسن وقرّبهم وأدناهم وأقعدهم مقعد الصدق في جواره ، مع أوليائه وأهل اصطفائه ، وسقاهم بكأسه الأوفى ، وجذبهم إلى مقام أو أدنى ، ونالوا من البهاء والنور ، والبهجة والسرور ، بما لم يخطر على قلب بشر ، ولم تُر منه عين ولم يحك منه أثر .
واعلم أنّ وقت ظهور آثار أعمال شهر رمضان ، وإعطاء جزاء عباداتها يوم العيد فمن أحسن مراقبة الله جلّ جلاله في ليلة عيده ، وعالج تقصيره فيما يجب عليه في شهر رمضان في ليلة الفطر ، واستأهل نفسه للتعبّد ، وخلط نفسه في عباد الله الصالحين يرجى له أن يقبل الله تعالى يوم عيده كما يقبلهم ، ولا يقنطه من خاصّة ألطافه ، ولا يداقّه بتقصيره في عباداته ، بعد اعترافه

المراقبات 213

بالتقصير ، واستعلاجه من كرم عفوه ، ويخلطه بأهل نواله من عباده المكرمين ، والشهداء والصدّيقين .
ثمّ إنّ أمر عبادة هذه اللّيلة عظيم جداً لما روي عن الإمام السجاد عليه السلام أنه كان يوصي أولاده في حق هذه اللّيلة ، ويقول : «ليس بدون اللّيلة» يريد ليلة القدر هذا نصّ منه عليه السلام بأن ليلة الفطر ليست دون ليلة القدر ، فيلزم على العامل أن يزيد جدّه في هذه اللّيلة على ليلة القدر ، لأنها جمعت مع شرفها أنّها وقت الجزاء وآخر العمل ، فيحتاج إلى الجد الشديد أيضاً .
وأهم الأمور في هذه الليلة بعد الاستهلال ، قراءة دعاء الهلال من الصحيفة السجادية ، والغسل ، وأن يبسط في السلام والتضرّع إلى خفير ليلته من المعصومين ، ويتوسّل إليهم بالجدّ في إصلاحهم أعمال شهره ، ويسلّم إليهم أعمال شهر رمضان ، ونفسه وقلبه ، وروحه وسرّه ، وظاهره وباطنه ، وكلّه وجزءه ، ويستشفع بهم إلى الله في توفيق سنته إلى شهر رمضان القابل ، ويلحق بذلك توفيق عمره كلّه .
وبالجملة يهتمّ أن يصلح في هذا التوسّل جميع مفاسد شهره وسنته وعمره ، ويكمّل جميع نواقصه ، ويكثر جدّه في التملّق وتلطيف معاني التضرّع والتوسّل والتسليم ، ويظهر كمال رجائه بقبولهم ، ويشكر الله جلّ جلاله من جهتهم ، ثمّ يحيي هذه الليلة بما ذكرناه في ليلة القدر من كلّيّات الأعمال القلبيّة والبدنيّة ، إلا في بعض الأعمال المخصوصة لكلّ منها .
ومن الأعمال المخصوصة بليلة عيد الفطر :
الغسل عند الغروب :
وأن يقول بعد نوافل المغرب رافعاً يديه :

المراقبات 214

«يا ذا المنّ والطولِ ، يا مصطفي محمّدٍ وناصِرَه ، صلّ على محمد وآل محمد ، واغفر لي كلّ ذنبٍ أحصيتَهُ ، وهو عندك في كتابٍ مبين» .
ثمّ يخرّ ساجداً ويقول في سجوده مائة مرّة : «أتوب إلى الله» ثمّ يسأل حاجته فتقضى إن شاء الله .
وأن يكبّر بعد صلاة المغرب والعشاء وصلاة الفجر وصلاة العيد ، وصورته أن يقول : «الله أكبرُ الله أكبرُ ، لا إله إلا الله والله أكبرُ ، ولله الحمدُ (الله أكبرُ ، والحمد لله) على ما هدانا» والاحوط أن لا يترك هذه التكبيرات عقيب الصلوات المذكورات .
ويستحبّ أن يصلّي بعد المغرب ونافلتها ركعتين ، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة الإخلاص مائة مرة ، وفي الثانية فاتحة الكتاب والإخلاص مرّة واحدة ، ثمّ يقنت ويركع ويسجد ، ويسلّم ، ثمّ يخرّ ساجداً لله ويقول في سجوده : «أتوبُ إلى الله» مائة مرّة .
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : والذي نفسي بيده لا يفعلها أحد فيسأل الله شيئاً إلا أعطاه الله ولو أتاه بالذنوب مثل رمل عالج .
وإن كان له نشاط على الصلاة وصلّى ركعتين بألف مرة «قل هو الله أحد» في الأولى ، ومرّة واحدة في الثانية ، ثمّ يخرّ بعد التسليم ، ويقول في سجوده مائة مرّة : «أتوبُ إلى الله» ثمّ يقول :
«يا ذا المنِّ والجودِ ، يا ذا المنّ والطول ، يا مصطفي محمّدٍ صلّ على محمد وآل محمد وافعل بي كذا وكذا» ويذكر حاجته .
ويدعو بعدها بالدعاء المرويّ في إقبال سيّدنا قدّس الله سرّه فإنّه تقضى حاجته .

المراقبات 215

وإن لم ينشط على ذلك صلّى عشر ركعات بالحمد مرّة والإخلاص عشر مرّات ، ويقول مكان ذكر الركوع والسجود عشر مرّات :
«سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» ويستغفر الله بعد الفراغ ألف مرّة ، ويقول في سجدة الشكر :
«يا حيّ يا قيّومُ ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، يا أرحم الراحمين ، يا إله الأوّلين والآخرين ، اغفر لي ذنوبي وتَقَبّل صَومي وصلاتي» .
وروي أنّ من فعل ذلك لم يرفع رأسه من السجود حتّى يغفر له ، ويتقبّل منه صومه ، ويتجاوز عن ذنوبه .
وإن ثقل عليه ذلك فليصلّ أربع عشرة ركعة في كلّ ركعة [يقرأ] فاتحة الكتاب مرّة ، وآية الكرسي وثلاث مرّات «قل هو الله أحد» روي أنّه من صلّى ذلك أعطاه الله بكلّ ركعة عبادة أربعين سنة ، وعبادة كلّ من صلّى وصام في هذا الشهر .
وإن كسل عن ذلك كلّه صلّى ستّ ركعات بخمس مرّات : «قل هو الله أحد» في كلّ ركعة ، روي أنّه من صلّى ذلك أعطاه الله بكلّ ركعة عبادة أربعين سنة ، وعبادة كلّ من صلّى وصام في هذا الشهر .
وإن كسل عن ذلك كلّه صلّى ستّ ركعات بخمس مرّات : «قل هو الله أحد» في كلّ ركعة ، روي أنّه من صلّى ذلك شفّع في أهل بيته وإن كانوا قد وجبت لهم النار .
ومن أعمال الليلة : إخراج الفطرة ، وورد فيها أنّ الصوم مردود إن لم تخرج الفطرة .
وروي أنّ الفطرة تمام لما نقص من زكاة المال .
وأنّها من تمام الصوم وأنّها بمنزلة الصلوات على النبيّ في الصلاة ،

المراقبات 216

فكما أنّه لا صلاة لمن لم يصلّ على النبي في صلاته فكذلك لا صوم لمن تركها متعمداً .
ويستحبّ للمعسر ، وإن لم يجد إلا ما يؤدّي عن نفسه يعطيها بعض عياله ، ويعطيها بعضهم إلى الآخر ، ويردّدونها بينهم فيكون فطرة عن الجميع ، كذا ورد في الرواية ويحتمل أن يكون المراد أن يعطي آخرهم إلى الغير .
ويجب على كلّ حرّ بالغ عاقل تجب عليه زكاة المال أو (من) ملك نصاباً أو قيمته أو يجد صاعاً زيادة على قوت يومه فيه أقوال ، والأقرب كما في الصحيح أنّه لا يجب على من يجوز له أخذ الزكاة والأحوط أن لا يتركها من يجدها ، ويجب على الغنيّ أن يخرجها عن نفسه وعن كلّ من يعوله ، ولا فرق في ذلك بين الصغير والكبير ، والحر والعبد ، والمسلم والكافر ، والضيف من العيال ، نعم اختلف في تفسيره والأحوط تعميمه على كل من يصدق عليه الضيف عند هلال شوّال ، والأقوى الاقتصار على صدق العيلولة عرفاً إلا في الزوجة والمملوك ، إذا لم يكونا في عيال الغير ، فالأحوط حينئذ أن يخرجها الزوج والمالك ، وتخرجها الزوجة بل الأحوط ذلك فيما إذا كانت عيالاً للغير أيضاً .
وأمّا جنسها فيكفي الغلات الأربع الزكويّة أو قيمتها ، والأولى أن يخرج من قوته منها ، والتمر أفضل ، والأقوى لمن يخرج القيمة كفاية كلّ ما يتقوّم بالقيمة ولو كان ثوباً إلا الجنس العالي من الأدون ممّا يكفيه عينه كأن يخرج قيمة الشعير حنطة أقلّ من صاع وكان ذلك من بدع عثمان .
وأمّا قدرها فصاع ، وما ورد من كفاية نصف الصاع فمحمول على التقيّة ، وفي كفاية أربعة أرطال من اللبن خلاف ، والأحوط العدم .

المراقبات 217

وأمّا وقتها فإنها تجب بغروب الشمس من ليلة العيد وقيل بطلوع فجرها ، ولا دلالة في مستنده عليه ، ويمتدّ إلى ما قبل الخروج إلى العيد ، وقيل إلى ما قبل الصلاة ، وقيل إلى الزوال ، وقيل إلى آخر النهار ، وقيل ما دام العمر ، وقيل بوجوب قضائها بعد وقتها ، والأحوط أن يقصد بعد الخروج القربة إلا إذا عزلها قبل الخروج ، وقيل أوّل وقتها دخول الشهر وقيل غروب الشمس ليلة العيد ، والأحوط الثاني إلا أن يعطي قرضاً ويحاسب بها بعد دخول العيد قبل الخروج .
وأمّا مصرفها فالأحوط إن لم يكن أقوى أن يعطيها الفقير غير الهاشميّ إذا كان المعطي غير هاشميّ وكذا الأحوط أن لا يعطي لكلّ نفس أقلّ من زكاة رأس وكذا الأحوط إن لم يكن أقوى أن لا يخرجها من بلدها ، هذا .
والعمدة في مقصدنا في هذا المختصر أن يتفكّر العاقل في جعل هذا الحكم بأن جُعل لهذا البذل اليسير هذه الفوائد الجميلة الجمّة ، فيشكر الله تعالى ، ويرى أنّ البخل بذلك المال اليسير هل يمكن أن يجتمع مع التصديق بالدين ، وما أخبر عنه سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وسلامة العقل ؟
وكيف يمكن (مع) الايمان بأن يكون في بذل صاع من شعير فلاحاً لباذله ، وأماناً من خطر الموت ، وتماميّة للصوم والزكاة ، وفي منعه خطر الموت ، وردّ الصوم كيف يمكن أن يبخل عنه صاحب العقل السليم ؟! بل ولا يمكن أن يترك فيه عن مالك دينه ودنياه في بخل هذا المقدار اليسير بعد هذا التأكيد والأخبار بفلاح الباذل في القرآن ، وتقديمها على الصلاة في قوله تعالى : «قَد أفلحَ مَن تَزَكّى * وذَكَرَ اسمَ ربِّهِ فَصَلّى» كيف وهذا الذي كلّفك ببذله ذرّة من عطاياه الكثيرة الجليلة الحاضرة عندك ، ومع ذلك هو ضامن لرزقك ورزق عيالك ، وقادر على منعك من عطاياه ، إذا خالفت كتابه

المراقبات 218

وحكمه ، وهو مع ذلك يعدك الفلاح ، وإتمام نقص الصوم والزكاة ، ودفع خطر الموت الحاضر إلى تمام الأجل ، ولعمري إنّ هذا لا يكاد أن يكون إلا من ضعف الايمان والاسلام مع لآمةٍ ووقاحة ، أو خذلان خاصّ من الله عقوبة لذنب عظيم والعياذ بالله من جميع ذلك .
ومن أهمّ أعمال الليلة زيارة الحسين عليه السلام وختمها بما يختم به الليالي الشريفة من تسليم الأعمال على خفير الليلة على ما ذكرناه في غيرها .

* * *

المراقبات 219

الفصل العاشر


في مراقبات شهر شوّال المكرم

روي في الفقيه أنّه نظر الحسن عليه السلام إلى الناس يوم العيد يضحكون ويلعبون فقال لأصحابه والتفت إليهم : «إنّ الله عزّ وجل خلق شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته ورضوانه ، فسبق فيه قوم ففازوا ، وتخلّف آخرون فخابوا ، العجب كلّ العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ، ويخسر فيه المقصّرون ، وايم الله لو كشف الغطاء لشغل محسن باحسانه ومسيء بإساءته» .
و(زاد) في رواية أخرى : ـ «عن ترجيل شعر وتصقيل ثوب» .
أقول : من الأهمّ التوسّل والاستشفاع من حامي اليوم وخفيره أوّل الطليعة والمبالغة في ذلك بقدر خطر أمر اليوم فإنّ خطره بقدر جميع أوقاته وحالاته من شهر رمضان ، لأنّه وقت ظهور الثمرة ، وإعطاء الجوائز ، وكشف الحجاب عن وجه القبول والردّ ، والرضا والسخط ، والقرب والبعد ، والسعادة والشقاوة ، يمكن للعبد السعيد أن يحسن أدبه في حضور هذا المقام ، ويعالج كلّ ما احتطب على نفسه في أيّام شهره ولياليه من الذنوب ،

المراقبات 220

وأن يصلح كلّ ما ضيّعه من المكارم الإلهيّة والألطاف الربّانية ، والمراحم الرحيميّة والرحمانيّة .
وبالجملة يمكن أن يتدارك بلطف أدب الساعة كلّ ما قصّر فيه من مهامّ شهر رمضان ويبدّل سيّئاته بأضعافها من الحسنات ، ويصل إلى رفيع الدرجات .
ويتأكّد الغسل وينبغي أن يكون في نهر ، وإن لم يمكن ففي الظِلال وتحت الحائط استظهاراً للتستّر وأن يقول عنده : «اللهمّ إيماناً بكَ ، وتصديقاً بكتابكَ ، واتّباع سُنّةِ نبيّكَ صلى الله عليه وآله وسلم» وأن يسمّي ويغتسل ويقول بعد الفراغ : «اللهمّ اجعلهُ كفّارة لذنوبي ، وطهِّر ديني ، وأذهِب عنّي الدَّرن» .
ثمّ صلاة الفجر كما ينبغي ثمّ الشكر بعدها والدعاء بما روي عن الشيخ الجليل محمد العمري قدّس سرّه العزيز .
ثمّ للمؤمن القائل بإمامة صاحب الزمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ حجّة الله ، إمام العصر ، وناموس الدهر ، سلطان الأُمم ، عدل الله التامّ ، شمس الظلام ، والبدر التمام فرج الله القريب ، آية الله الكبرى ، وخليفة الله الأعظم ، الإمام ابن الإمام ، ابن الأئمّة ، ابن النبيّ ، ابن الأنبياء ، أرواح العالمين فداه ، والمصدّق بما وعد الله به من نصرة الحقّ ، ونشر العدل ، ومحو الجور ، وبسط الفضل ، وظهور سلطانه على السلاطين كلّها ، ودينه على الأديان كلّها ، والناظر اليوم إلى غيبته ، وغصب أعدائه سلطنته ، وشدّة حال شيعته ورعيّته في سلطان هؤلاء الكفرة والفجرة ، وما يصل إليهم من قتل النفوس ، وهتك الأعراض ، وغصب الأموال ، وسوء الحال ، ومقام الذلّ والابتذال ، أن يتبدّل فرحه بالحزن الشديد ، وضحكه بالبكاء ، وعيده مأتماً ، يقرأ دعاء الندبة ، ويبكي بكاء الثكلى ويدعو لفرجه .

المراقبات 221

وبالجملة إذا أراد التهيؤ للخروج ، يفطر بتمرة أو تميرات قبل الخروج ناوياً امتثال أمر الله في الإفطار ، ويدعو بما ورد فيه من الدعاء فإنّ فيه أيضاً ذكر إمامه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأبنائه ، وليتأمّل في مضمون الدعاء فإنّه صريح في أنّ الخروج إلى الصلاة وفادة إلى الله جلّ جلاله فليكن عليه سمة وفده تعالى ، فإن قدر أن يتأدّب حقّ أدب هذا المقام بقدر عظمة الله ، ومعرفة منّة الله جلّ جلاله عليه في الاذن بالوفادة ، بل الدعوة إلى هذه الكرامة ، فليفعل ، ولكن هيهات هيهات للمخلوق الضعيف أن يستطيع أداء حقّ هذا المجلس من التواضع والهيبة والشكر إلا أن يأتي بما يقدر مع الاعتراف بمقدار القصور .
وإن ضعف عن إتيان مقدار قدرته في عمله فلا محالة من أن لا يكون حضور هذا المجلس أهون عليه من حضور مجلس سلطان زمانه ، بأن لا يغفل عن السلطان لا سيّما عند مخاطبته ، فلو علم سلطان من رعيّته أنّ قلبه مشغول عنه إلى غيره فلا محالة من أن يطرده من مجلسه ، ويمنعه عن حضوره ، ويحرمه من عطاياه ، ولا سيّما إذا كان هذا الغير الذي هو مشغول به عدوّ السلطان ، وعند ذلك يأخذه بأشدّ غضبه ، وأنت إذا تأمّلت فيما يشغلك عن ربّك لرأيته زهرة هذه الدنيا التي هي عدوّة لله ولأوليائه أو شيئاً من متعلّقاتها .
فاحذر من أن تهوّن هذا المجلس فإنّه مقام كريم ، ومجلس عظيم ، حضّارة الملائكة المقرّبون ، والأنبياء والمرسلون ، والشهداء والصدّيقون ، وعباد الله الصالحون واخجل من أن يكون حضّار المجلس على أحسن الهيئات مطهَّرين مقدَّسين مزيَّنين على رؤوسهم تاج الكرامة من مراقبة الله جلّ جلاله ، على أبدانهم خلع القبول من إقبال الله ، وقد ألبسوا قلوبهم شعار الاشتغال بالله ، أبدانهم لباس العصمة عن معصية الله ، وزيّنوا أيديهم بخاتم

المراقبات 222

الامساك عن بسطها في معصية الله ، وانتعلوا بالمنع عن المشي فيما حرّمه الله . ورأسك مكشوف عن عمائم المراقبة ، وقلبك متدنّس بمحبّة عدوّ الله ، وبدنك عريان عن لباس الاعتصام عن مخالفة الله ، ويدك متختّمة بخاتم الظالم على عباد الله ، ورجلك حاف عن المشي إلى طاعة الله .
وكيف بك لو كُشف عن بصيرتك الحجاب ، ورأيت بدنك متلطّخاً بقاذورات المعاصي ، وحقيقتك مبتلاة بأنواع الأدواء المشوّهة المنفّرة ، والصور القبيحة المنكرة ، والهيئة الفاضحة الخاسرة ، من البرص والجذام ، والزمانة والزرق وسائر الأسقام ، وهل تحضر وأنت بهذه الصفات والهيئة موائد الأطهار الأشراف المقدّسين والأعيان والأبرار المطهّرين من كلّ شين ، وببالي أنّك لو رأيت صورهم الباطنيّة ، وجمالهم الروحاني ، وجلالهم الربّاني ، لامتنعت عن ملاقاتهم ، وتخفّيت عن مجالسهم ، فضلاً عن حضور موائدهم ، بل ولو ضربوك ألف خشبة لم ترض أن تريهم نفسك ، وأنت بهذه الكثافة والرجاسة .
فانظر يا أخي على سوء حالك ، ووزرك ووبالك ، وتحقّق اضطرارك إلى ستره سوءتك ، وتغييره مساويك إلى المحاسن ، فراجع باب كرم الحضرة الإلهيّة ، وناده بيا أكرم الأكرمين ، ويا مجيب دعوة المضطرّين ، ارحم ذلّي وذلّتي ومهانتي ممّا فعلت بنفسي وأنت أرحم بي من نفسي لا سيّما في مثل هذا اليوم الذي دعوتني فيه إلى الوفود عليك وأنا ضيفك فلا ترضَ بافتضاحي بين أضيافك ، أصلح شأني وقدّم لي من خلعك على أهل ضيافتك ، ما أتستّر به عن قبائحي وفضائحي وأتجمّل به مع المتجمّلين من نواقصي في ملابسي .
وإن راجع ربّه عن حقيقة الاضطرار فمحال أن لا يجيبه ، وقد أنزل في ذلك قرآناً وقال عزّ من قائل : «أمَّن يُجيبُ المُضطرَّ إذا دعاهُ ويَكشِفُ السوء»

المراقبات 223

(النمل : 62) ولكن الكلام في تحقّق الموضوع ، لأنّ العامّة غالباً غافلون عمّا أوردوا على أنفسهم من الصفات الخبيثة ، والهيئات المنكرة ، وعمّا فيه أهل الفضائل والفواضل ، من الصفات الحسنة ، والهيئات الجليلة البهيّة ، والأحوال السنيّة ، حتّى يخجلوا ويضطرّوا عن وجه الحياء على ستر قبائحهم ، والتستّر عن فضائحهم ، وإن عملوا في ذلك شيئاً فعن اعتقاد ضعيف عن مسموعات اتّفاقية وهي لا تؤثّر في الخجل والحياء مطلقاً فضلاً عن حياء مقتضٍ للاضطرار .
وبالجملة لو تحقّق الحياء الموجب للاضطرار ، تحقّقت الإجابة ، وكشف السوء ، علامته أن يكون في حضور عيده منكسر القلب ، خائفاً من الردّ ، وراجياً للعفو والفضل ، يبسط رجاءه وآماله إلى كرم الربّ ، ويخلط نفسه في عباد الله الصالحين في توقّع رحمته وعنايته ، ويدفع خوفه بأنّ اليوم يوم إطلاق الجوائز وشمول الفضائل ، ولكن مع ذلك ينظر من طرفٍ خفيٍّ إلى عظمة جلال الله وعظيم جنايته ، وتكون عليه سمة المقصّرين اللائذين بأذيال عفو كريم العفو ، ويكون كلّ جدّه وهمّه في الاستغفار والاسترحام ، واستكشاف آثار القبول .
ويلتجئ إلى خفرائه وحماته من المعصومين عليهم السلام في الشفاعة ، ويقسم على الله بحقّهم وجاههم عند الله أن يكرمه بعفوه ، ولا يحرمه من خاصّ فضله ، ولا يعرض عنه بوجهه الكريم ، وأن يقبله بهم ويعامله معاملة حزبهم ومواليهم ، وإذا تحقّقت هذه الأحوال يكشف عن شمول الفيض الأقدس ؛ فليحمد الله على النجاة والخلاص من خطر الهلاك ، وليحذِّر نفسه من الغفلة والتعرّض للهلاك الدائم فيما بعد بحول الله وقوّته .
ثمّ إنّ الذي ذكرت من الاضطرار إلى الستر ، لا يتحقّق إلا فيمن يرى

المراقبات 224

بعين البصيرة قذارة الذنوب على جوارحه ، ورجاسة عيوب القلوب على وجه روحه ونفسه ، حقيقةً لا مجازاً ، ورأى هذه القذارات والأرجاس أقذر وأنجس وأخبث من قذارات عالم الحسّ ، وأنتن من هذه الجيف الدنيويّة .
وليقدّر نفسه في حضرة سيّد المرسلين ، والأئمّة الطاهرين ، والملائكة المقرّبين وسائر الأنبياء والمرسلين ، فكيف يكون حاله ؟ وببالي أنّ الانسان إذا ابتلى بعشر هذا الافتضاح يودّ أن تخسف به الأرض ، ويخلص بذلك من هذه الفضيحة ، أما سمعت قول مريم الصدّيقة عند فرض الافتضاح بين هؤلاء العامّة قالت مع طهارتها عند الله عزّ وجلّ وأهل الملأ الأعلى : «يـا لَيتَني مِـتُّ قَبـلَ هـذا وكُنتُ نَسيـاً مَنسيّـاً» (مريـم : 23) .
وكيف كان كلّنا مضطرّون إلى ستر الله الجميل ولو هتك سترنا عنّا افتضحنا . ومن جملة ستره الجميل هذه الصورة الإنسانية ، فلو كشفها ورأى الناس صورتنا الواقعيّة لخزينا ، فإنّ صور الأرواح إنّما تناسب الأخلاق والصفات ، فمن كان الغالب عليه صفة الغضب مثلاً فصورة روحه صورة الكلب ، وهذه الصورة الإنسانيّة من جملة الأستار الإلهيّة على وجه روحه وحقيقته ، ستره عن أعين الناس لئلا يفتضح ، حتّى يعالج خلقه بدواء الحلم حتّى يصير الغضب شجاعة فيتغيّر صورة الكلب إلى صورة إنسان شجاع ، وهكذا ، ولذا كان السلف يتصفّحون كلّ يوم صورتهم بالمرآة وغيرها حتّى يطمئنّوا عن المسخ والتغيّر وبقاء ستر الله ، وهذه الصورة الحقيقية قد تتراءى لبعض الأولياء ويرون الناس على هذه الصور .
وقد روي أنّ علي بن الحسين عليه السلام كشف لبعض الرواة عن صورة الحُجّاج فما رأى فيهم على صورة الإنسان إلا نفسين .
ثمّ إنّك إذا أردت أن تخرج إلى الصلاة مع إمام أو كنت أنت إماماً

السابق السابق الفهرس التالي التالي