المراقبات 225

للناس فلك أن لا تغفل عمّا ورد عليك من المصيبة بغيبة إمامك حيث إنّ صلاة العيد من حقّه الخاص به وهي من مقاماته المعروفة .
إذا أسفرت في يوم عيد تزاحمت على حسنهـا أبصار كـلّ قبيلة
فأرواحهم تصبو لمعنى جمالهـا وأحداقهم مـن حسنها في حديقة
وعندي عيدي كلُّ يـوم أرى به جمـال محيّاهـا بعين قريـرة

فانظر إلى ما صار الحال حتّى تبدّل الصلاة مع الإمام عليه السلام بالصلاة معك وأمثالك وتفكّر في زمن حضوره ، واجتماع المؤمنين لصلاته ، وصلاتهم معه ، وقدّر في نفسك كيف كان حال المؤمن إذا كان الخطيب إمامه ، يزور جماله ، ويسمع كلامه ويتلقّى من علومه ؟
ثمّ انظر إلى ما ورد في الأخبار من بركات زمن حضوره وأنواره ، ونشر العدل ، وطيّ الجور والبغي ، وعزّة الإسلام ، وحرمة القرآن ، ورواج الإيمان ، وتكميل العقول ، وتزكية القلوب ، وتحسين الأخلاق ورفع الشقاق ، ودفع النفاق ، فناده بعالي صوتك ، وأعرض بلسان شوقك إلى مقدّس حضرته : «هل إليك يا بن أحمد سبيل فتلقى ، متى يتّصل يومنا منك بغده فنحظى ، متى نرد مناهلك الرويّة فنروى ، متى ننتفع من عذب مائك فقد طال الصدى ، مولاي يا سيّدي متى ترانا ونراك ، وقد نشرت لواء النصر ، ترى ، مولاي ، متى ترانا ونراك فتقرّ عيوننا بزيارتك ، ونهتدي بهداك فتخبرنا عمّا أشكل علينا من حقائق الأمور ، وتنحلّ بك العويصات ، ويرتفع بك الجهالات ، ويتمّ بك الكمالات .
سيّدي ومولاي ، يا أملي ورجائي ، ليت شعري إلامَ تصير عاقبة أمري ؟ أتقرُّ عيني بنور جمالك ، وأُروي من عذب وصالك ، أم أذهب بهذه الغصص إلى قبري وأموت بغصّة بعد غصّة ، وبحسرة بعد حسرة ؟ سيّدي يميتني طول

المراقبات 226

فراقكم ، ويحييني رجاء وصالكم ، وما أخبرتم به من علائم ظهوركم ، كيف ؟ لولا هذه المواعيد في الأخبار ، وما نترقّب به ظهوركم من الآشار ، صلوات الله وسلامه على من أحيانا بها وأخبرنا عنها لأنّها اليوم سبب حياة عبيدكم التائقين إليكم ، المشتاقين إلى وصالكم ، ويقول لسان حال كلّ منّا :
أوعدوني أوعدوني وامطلـوا حكم دين الحبّ دين الحبّ لي
روحّ القلب بذكـر المنحنـي وأعده عنـد سمعي يـا أخي

سيّدي لولا ما وصل إلينا أنّ الفرج بعد الشدّة لكانت هذه الشدائد أشدّ على قلوبنا ونفوسنا من أن نتحمّلها ، ولكن من أجل أنّها من علائم الفرج يهون علينا ، بل ربما نشتاق إليها لنصل بها إليكم .
سيّدي قد طالت المدد ، ومدّ الأمد ، ننتظر أمركم ، ونحيى بذكركم ، ونتصفّح آثار ظهوركم ، سيّدي ! اشتدّ الأمر ، وكثر الظلم والجور «ظهر الفساد في البرّ والبحر» ولم ير مثل اليوم فساد في الأرض برّها وبحرها ، وانضمّ إليها الهوى ، التهبت نيران الأهوية ، وأحرقت العالم ، خربت منها البلاد ، وفنى منها العمران ، وهلك الإنسان ، والحيوان والحيتان .
سيّدي ! عظم البلاء ، وبرح الخفاء ، وإليك المشتكى ، سيّدي ! فراقك وهجرك أعظم من جميع ذلك ، والا والبلاء معك نعمة ، والأذى دونك راحة ، سيّدي ! .
وتلافي إن كان فيـه ائتلافي بك عجّل به جعلـت فداكـا
وبما شئت في هواك اختبرني فاختياري ما كان فيه رضاكا
فعلى كـلّ حالة أنـت منّـي بـي أولى إذ لم أكـن لولاكا

مولاي !

المراقبات 227

لك في الحيّ هالك بـك حيٌّ في سبيل الهوى استلذّ الهلاكا
عبد رقّ مـا رقَّ يوماً لعتق لو تخلّيـت عنه مـا خلاّكا
بجمـال حجبتـه بجـلال هام و استعذب العذاب هناكا

مولاي ! يا أملي :
ذاب قلبـي فائـذن لـه يتمنّـ ـاك فيه بـقـية لـرجـاكا
اؤمر الغمـض أن يمـرّ بجفني فكأنّي بـه مطيعـاً عصاكـا
فعسى في المنام يعرض لي الـ ـوهم فيوحي سراً إليَّ سراكا

يا حبيبي :
و إذا لـم تنعّش بروح التمنّـي رمقي و اقتضى فنائي بقاكـا
وحمت سنّة الهوى سنة الغمض جفـونـي وحرّمـت لقياكـا
أبـق لـي مقلة لعلّـي يومـاً قبل موتي أرى بهـا من رآكا

آه :
أين منّي ما رمت هيهات بل اين لعيني بالجفن لثـم ثراكا

مولاي :
فبشيري لـو جاء منك بعطف ووجودي في قبضتي قلت هاكا

سيّدي ومولاي ! يا إمامي :
بانكساري بذلّتي بخضـوعي بافتقـاري بفاقتـي بغناكـا
لا تكلني إلى قوي جلد خـا ن فإني أصبحت من ضعفاكا

سيّدي إذا تفكّرت في وصالك ، ولذّة لقائك ، وتأمّلت في أحوال من قرّبتهم من جوارك ، ومنحت عليهم من إفضالك ، وشرّفتهم بزيارة جمالك ، وأكرمتهم بتعليمك ، ومننت عليهم بسقي كاسات التوحيد ، وشرّفتهم بمقام

المراقبات 228

الجمع من أهل التوحيد ، كاد أن ينصدع قلبي من الحسرة ، وينشقّ فؤادي من الغيرة .
آه آه ، «أيا ويح قلبي من به مثل ما بيا» .
ويا جلدي بعد النقا لست مسعدي ويـا كبدي غيـر اللقـاء فلتفتّت

سيّدي ! ليس حال طالبي حضرتك كأحوال سائر المشتاقين ، لأنّ جمالك لا يقاس بجمال سائر المعشوقين ، وجلالك ليس كسائر الجلالات ، إذ ليس غيرك مطلوب ومحبوب هو علّة إيجاد محبه وطالبه ، محتاج إليه في كلّ حاله في جميع شؤونه ، بل ليس في عالم الحس جمال إلا وهو مظهر شيء من جمالك ، ولا جلال إلا وهو أثر من آثار جلالك :
ولو أنّ كلّ الحسن يكمل صورة ورآك كـان مهلّـلاً ومكبّـراً

لأنّ جمالك مظهر جمال الله الجميل ، وجمال غيرك من مظاهر جمالك ، وهكذا جلالك مظهر جلال (الله) الجليل ، وجلال غيرك مقتبس من جلالك ، وأنت أصل كل ّجمال وجلال ، وأنت المراد بأبهى البهاء ، وأجمل الجمال ، وأجلّ الجلال في دعاء السحر ، وأنت نور الله الأنور ، وضياؤه الأزهر .
وأيضاً ، ليس هجرك وقلاك مثل هجر غيرك من المطلوبين ، لأنّ مهجور غيرك ينسب الهجر إلى المطلوب ولا ملام عليه في هجر محبوبه إيّاه ، ومهجورك ملام في نفسه ، وملام عند الناس ، ولا سلوة له ، لأنّه لا يمكن أن ينسب إليك أنّك غير وفيّ ، أو أنّك غير محبّ لمحبّك ، وجميع محبّيك يعتقدون أنّ حبّك ، ووفاءك أكثر من حبّهم ووفائهم ، فإذا هجرتهم يكشف ذلك عن تقصيرهم ، وقصور حبّهم يكشف عن عدم تمييزهم ومعرفتهم ، فمهجورك أخسر الخاسرين إلا أن يسلّي نفسه بالتسويف ، وصلاح زيادة

المراقبات 229

الثواب ولكن أيُّ ثواب عند المحبّ أعظم من لقائك .
مولاي ! فداك جميع من سواك ، بنفسي أنت من أثيل مجد لا يحاذى ، بنفسي أنت من نصيف شرف لا يساوى ، إلى متى أحار فيك يا مولاي ؟ وإلى متى ؟ أيّ خطاب أصف فيك وأي نجوى ، عزيز عليَّ أن أرى غيرك متصرّفاً في مملكتك ، حاكماً في رعيتك ، بل في أهلك ، بمرأى منك ومسمع ، وهم يلوذون ويستغيثون بك فلا يجابون .
سيّدي ! هذه ممالكنا دخلت بها الكفّار من غير إذننا، يحكمون فينا وفي أنفسنا وأموالنا بما يريدون ، وهذا سلطاننا فهو كالأسير الممتهن ، فيا لله من هذه المصائب الفجيعة ، والشدائد المهلكة ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، من مصيبة فقدك وطول غيبتك ، وقد صار حال شيعتك كقطائع غنم غاب عنها راعيها ، وشدّت عليها الذئاب من كلّ جانب ، تأخذ منها ما تريد أكله ، وتقتل الباقي لما بعدها .
سيّدي ! هذه مصائبنا والذي يصل إليك منها أوجع لنفوسنا ، آولم لقلوبنا ممّا يصل إلينا ، لأنّا نعلم رافتكم لشيعتكم ، وغيرتكم ورقّة قلوبكم ، أليس جدّك أمير المؤمنين يشكو ممّا أخذه عسكر معاوية بن أبي سفيان من خلخال الذميّة ويقول : «لو مات المسلم من هذا الأمر لم يكن عندي ملاماً» . فكيف بكم إذا علمتم ما يفعل بالمسلمات من السبي ، وقطع الشعر والثدي ، ساعد الله قلبك يا مولاي ، إلى الله المشتكى وإلى سيّد الورى محمد المصطفى وإلى عليّ المرتضى ، وإلى سيّدة النساء وإلى آبائك الطاهرين أئمّة الهدى ، وليوث الوغى ، وإلى حمزة سيد الشهداء ، وإلى الطيّار في الملاء الأعلى ، من هذا الخطب العظيم والشأن الفظيع .
فأغث يا غياث المستغيثين ، عبيدك المبتلين ، وأرهم سيّدهم يا أرحم

المراقبات 230

الراحمين وأزل عنهم به ظلم الظالمين ، وسلطان الكافرين ، وكيد المخالفين ، وعجّل فرجهم بفرج وليّك سلطان السلاطين ، سيد الخلائق أجميعن ، واملأ الأرض قسطاً وعدلاً وقد ملئت ظلماً وجوراً .
وأقرّ عيون المؤمنين بجمال وليّ الدين ، وأوفر نصيبهم بظهور جلاله في العالمين ، وأظهر عدلك الأعظم ، وسلطانك الأجل الأفخم ، فأقم به الحقّ وأدحض (به) الباطل ، وأدل به أوليائك ، وأذلل به أعدائك ، وانتقم به من ظالمي أوليائك ، ومعاندي أصفيائك ، وعجّل بإظهار ما وعدته من نصر المؤمنين ، وعاقبة المتّقين ، يا أصدق الصادقين ، ويا أقدر القادرين .
وبالجملة إذا غاص السالك في هذا البحر ، واهتمّ بهذا الأمر ، وتضجّر من هذه الضواجر ، لا بدّ أن يتغيّر حاله ، ويتبدّل فرحه بالحزن ، وعيده بالمأتم ، ويحضر المصلّى مع حسرة وانكسار ، والله تعالى عند القلوب المنكسرة ، وإذا انضمّ إليها حسرة الجهات السابقة ، من جهة استشعار النواقص الباطنيّة ، والأكدار الروحانيّة وخرج من بيته إلى المصلّى مشتغلاً بالدعاء المأثور في الطريق ، ثمّ له عند ذلك أسباب الالتجاء ، إلى باب الفضل والكرم والجود ، من مالك النفوس والأرواح والوجود .
ويجعل صلاته تحت السماء ناوياً بذلك استظلاله في ظلّ عناية الله ، ويقعد على التراب ناوياً بذلك التذلّل لربّ الأرباب ، والانتقال من المعصية إلى الطاعة ، ومن التكبّر إلى التواضع ، ومن رؤية النفس إلى مقام الفناء ، ليكمل عند ذلك روح التوجّه في الصلاة لأنّ التوجّه والاستقبال عبارة عن الانقطاع الكلّي عن الكلّ والتوجّه بالكلّ إلى وليّ الكل ، ومالك الكلّ ، وخالق الكلّ ، ويستقيم معنى القيام على القدمين أيضاً من الخوف والرجاء ، والرغبة والرهبة .

المراقبات 231

فليجتهد في تحصيل روح التكبير فإنّ صلاة العيد فيها زيادة اهتمام لأمر التكبير ، لا تنس ما قاله الصادق عليه السلام في مصباح الشريعة من قوله : «فإن الله إذا اطلع على قلب العبد وهو يكبّر ، وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره ، فقال : يا كذّاب أتخدعني ! وعزتي وجلالي لأحرمنّك حلاوة ذكري ، ولأحجبنّك عن قربي والمسرّة بمناجاتي» .
ثمّ إنّه من مهمّات هذه الصلاة وهذا الخروج أن يكون الخارج عارفاً بما أُريد منه من هذا الخروج ، ومن هذه الصلاة ، وما يناسب أن يكون عليه من الأحوال والمراقبات مع الله جل جلاله ، وذلك أنّ التكليف بالصلاة كلّها وإن كان من باب العناية واللطف وإحضار العبيد لمقام الحضور إلا أنّ بعضها تختصّ بزيادة جهة الرهبة ، وبعضها لمحض إنجاز الرغبة ، مثلاً صلاة الآيات أيضاً شرّعت بالعناية واللطف ولكن في مقام خوف الغضب ونزول البلاء ، لتحصيل الأمن من شمول البلاء ، ودفعها بالصلاة ، وصلاة العيد ليس إلا لأخذ الجوائز ، وتكميل النواقص ، وإعطاء المواهب .
وبالجملة أصل بناء هذا المقام وتشريع العيد والخروج إلى الصلاة من أجل إظهار الرأفة والرحمة ، وبسط الجود والكرم والافضال للرعيّة ، والاذن العامّ في هذا المقام يقتضي طيَّ بساط القهر والغضب ، ونشر ألوية ألطاف الربّ ، ولا يناسبه الخوف والرهبة ، وإن كان على العبد ذنوب العالمين ، ويحسن في هذا الموقف إحسان الظنّ بالله ، والرجاء لعظيم منح الله ، وكريم عطاياه ، فبقدر حسن الظنّ بالله ، واللطف في الاستعطاف ، التأدّب بأدب الثقة بمواعيد الله تعالى ، تزاد فيه الجوائز ، وتستمطر سحائب الجود ، ويظهر اسم السعود .
وليس في أمثال المقام للعبد مظنّة خوف وغصب إلا لمن أساء ظنّه

المراقبات 232

بمواعيد الله ولم يقو رجاءه بفضل الله ، واحتمال أن ينقص شمول ألطاف الله لمثله ، فهذه الأمور في هذه المواقف مظنّة الحرمان ، والاعراض عنه بالعطف والاحسان .
فيجب بحكم العقل والأدب والإيمان ، أن يكون رجاء العبد إلى الصفح والعفو والافضال ، وبلوغ الأمانيّ والآمال ، أقوى من خوف الأخذ والخزي والنكال ، يخلط نفسه في عباد الله الصالحين ، وإن لم يكن منهم ، ويتوجّه إلى حضرة القدس بوجوه أوليائه المتشرّفة عنده وإن كان وجهه خلقاً مظلماً من ظلم المعاصي ، فإنّه تعالى لا يناقش في هذا اليوم في ذلك ، لأنّ تعميم الاحسان في أمثال المقام لا يخالف الحكمة ، فلا مانع من شمول النوال ، وبسط الجود والإفضال .
وبالجملة يحضر المصلّي بعد هذه التأثّرات ، مع الاستحياء ، وعظيم الرجاء وينظر من طرف خفيّ من الحياء ، وعين ممدودة بالرجاء ، ويصلّي بآدابها وشروطها إن شاء جماعة وإن شاء فرادى ، بما يقتضيه حاله برعاته الاخلاص ، وإن قدر على الجماعة فهي أولى وإن صلّى فرادى يختار أن يصلّي ركعتين ، أو أربع ركعات يقرأ في الأوّلتين «سبّح اسم» والشمس وفي الآخرتين و«الضحى» و«قل هو الله أحد» ، يكبّر في الأولى سبع تكبيرات : تكبيرة الاحرام ، وخمس بعد القراءة يقرأ بعد كلّ منها الدعاء المعروف : «اللهمّ أهل الكبرياء» الخ فيكبّر للركوع ، وإن شاء غيره من الدعاء وإذا فرغ من الصلاة كبّر بالتكبير المذكور ، وسبّح تسبيح الزهراء صلوات الله عليها ، ودعا بالدعاء الذي رواه عقيب الصلاة وهو دعاء جامع جدّاً .
ثمّ يراقب اليوم بذكر ودعاء ، ويكثر منه ، لارسال الشياطين الذين كانوا في شهر رمضان محبوسين مغلولين عن إغراره وإغوائه ، ولعلّه يتخلّص منهم

المراقبات 233

بالدعاء والتضرّع إلى الله جلّ جلاله في حفظه عن شرّهم .
ثمّ يقرأ دعاء الندبة عن حضور القلب فإنّ فيه من علم معاملته جلّ جلاله مع أنبيائه وأوليائه ، وأدب معاملة الرعيّة مع الإمام ، حظّاً كاملاً لأهل اليقظة .
ثمّ يختم يومه بما ختم به الأيّام الشريفة من التوسّل والاستشفاع ، والتفويض بخفير يومه من المعصومين ، صلوات الله عليهم أجمعين ، ولا يتسامح في ذلك فإنّه من مهامّ الأمور .

* * *

في ذكر شهر شوال

عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : سمّي شوّالاً لأنّ فيه شالت ذنوب المؤمنين ، أي ارتفعت .
في «الإقبال» : «إنّ الدخول في شهر شوّال فهو كما قدّمناه من الدخول في [شهر] رجب ، فإن ظفرت به ففيه بلاغ في المقال ، فإن لم تظفر بما أشرنا إليه فليكن دخولك في شهر شوّال دخول المصدّقين ، فإنّه شهر حرام ، له حقُّ التعظيم بالمقال والفعال ، كمن دخل في دروب مكّة إلى مسجدها الأعظم ، فلا بدّ أن يكون لدخوله كيفيّة على قدر تصديقه صاحب المسجد المعظّم ، فاجتهد أن يكون قلبك وعقلك مصاحباً له بالتعظيم ، وجوارحك محافظة على سلوك السبيل المستقيم ، فمن عادة المملوك المؤدّب الكامل أن يكون موافقاً لمالكه في سائر مسالكه» انتهى .
نقلناه بطوله لما فيه من الفوائد ، ولكن ما فيه من كون شوّال شهراً حراماً خلاف المشهور بل الذي يفهم من كلمات بعض الأعلام عدم وجود القائل

المراقبات 234

به ، حيث ذكر في قبال القول المشهور القول بأنّ أشهر الحرم من عشر ذي الحجّة إلى عشر من ربيع الآخر .
نعم روي في الوسائل ما فيه عدّ الشوّال من (أشهر) الحرم وإخراج محرّم منها ، يحتمل بعيداً أن يكون عبارة السيد «فإنّه شهر إحرام» وكيف كان يكفي في لزوم تعظيمه كونه شهر إحرام لزيارة بيت الله لأنّه لا بدّ أن تكون له خاصّة اقتضت كونه من أشهر الحج ووقتاً لتشريع نسك الحجّ والزيارة فيه ، وهذا الأمر من مهامّ الأمور عند العبد المراقب في معاملة مولاه .
ثمّ إنّه ورد في الأخبار صوم ستّة أيّام بعد العيد ، ولكن في أخبار أُخر أنّه لا صيام ثلاثة أيّام بعد العيدين فيحمل هذه الستُّ إلى ما بعد ثلاثة أيّام .
وروي أيضاً أنّ صوم شهر رمضان وشوّال وكلّ أربعاء وخميسين ، بدل صوم الدهر ، ومن صامها دخل الجنّة .

* * *

المراقبات 235

الفصل الحادي عشر


في مراقبات شهر ذي القعدة الحرام

أقول : هذا أوّل شهر الحرم التي حرّم فيها القتال مع الكفّار ، والعاقل يتنبّه من ذلك (إلى) حكم المحاربة والمخالفة مع الله جلّ جلاله ، فاجتهدي يا نفس في حفظ قلبك وبدنك في هذه الأشهر زيادة على ما يجب في سائر الشهور ، من مخالفة الله جلّ جلاله ، في شيء من أحكامه ، بل في الرضا على قضائه ، فيما يقتضيه لك من البلايا والمصائب ، فإنّه شهر حرام تزيد حرمته على سائر الشهور بما منع الله تعالى فيه المحاربة مع الكفّار ، فليكن حفظك بحرمته من قبيل ترك المخالفة وبسط الرضا معه جلّ جلاله فإنّه ربٌّ شكورٌ بشكر لرضاك برضاه عنك ، إن عملت شرف رضاه ، رضيت في تحصيله أن تقتل وتقطّع أعظاؤك إرباً إرباً ولا يفوتك هذا الشرف .
وأحدث في ذلك توبة صادقة عمّا كنت عليه قبل دخول هذا الشهر فإن عملت بما روي من عمل التوبة في يوم الأحد من الشهر المذكور تنل ما فيه من الفضل المذخور ، وذلك ما روي عن رسول الله أنّه خرج يوم الأحد في شهر ذي القعدة ، فقال : يا أيّها الناس من كان منكم يريد التوبة ، قال الراوي : قلنا كلّنا نريد التوبة يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : اغتسلوا وتوضّأوا وصلّوا أربع

المراقبات 236

ركعات واقرأوا في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة ، و«قل هو الله أحد» ثلاث مرّات والمعوّذتين مرّة ثمّ استغفروا سبعين مرّة ، ثمّ اختتموا بلا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم ، ثمّ قولوا : يا عزيز يا غفّار اغفر لي ذنوبي وذنوب جميع المؤمنين والمؤمنات فإنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت» .
ثم قال عليه السلام : ما من عبد من أمّتي فعل ذلك إلا نودي من السماء : يا عبد الله استأنف العمل فإنّك مقبول التوبة ، مغفور الذنب ، وينادي ملك من تحت العرش : أيها العبد بورك عليك ، وعلى أهلك وذرّيّتك ، وينادي منادٍ آخر : أيّها العبد ترضي خصماؤك يوم القيامة . وينادي ملك آخر : أيّها العبد تموت على الإيمان ولا يسلب منك الدين ، ويفسح في قبرك وينوّر فيه ، وينادي مناد آخر : أيّها العبد يرضى أبواك وإن كانا ساخطين ، ويغفر لأبويك ولك ولذرّيّتك ، وأنت في سعة من الرزق في الدنيا والآخرة ، وينادي جبرئيل عليه السلام : أنا الذي آتيك مع ملك الموت وآمره أن يرفق بك ، لا يخدشك أثر الموت إنّما يخرج الروح من جسدك سلا .
قلنا : يا رسول الله لو أنّ عبداً يقول هذا في غيرها ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما وصفت ، إنّما علّمني جبرئيل هذه الكلمات أيّام أسرى بي .
أقول : قال الباقر عليه السلام : إنّ الله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليله ظلماء فوجدها ، هذا .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال لقائل (قال) بحضرته : أستغفر الله : ثكلتك أمّك ، تدري ما الاستغفار ؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيّين ، وهو اسم واقع على ستّة معان أولها : الندم على ما مضى ، والثاني : العزم على ترك العود عليه أبداً ، الثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة ، الرابع : أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها تؤدّي

المراقبات 237

حقّها ، والخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السُحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد ، السادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول : أستغفر الله .
أقول : شرح حقيقة التوبة وتفصيل ماهية التوبة وكيفيّتها يطلب من محلّها ويكفي هنا ما أشرنا إليه .
ثمّ من خصائص أشهر الحرم ما روي عن المفيد عليه الرحمة أنّه قال : [قال] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صام من شهر حرام ثلاثة أيّام الخميس والجمعة والسبت ، كتب الله له عبادة سنة . وروي تسعمائة سنة صيام نهارها وقيام ليلها .
أقول : هذه الرواية لا تنافي رواية ثلاثة أيّام الشهور : الخميسان والأربعاء نعم ولو صام خميسين وأربعاء وجمعة لا يبعد أن يكفي في العمل بهما ، هذا .
ومن مهامّ هذا الشهر عمل ليلة النصف منه روى سيّدنا قدّس الله سرّه العزيز في «الإقبال» عن أحمد بن جعفر بن شاذان قال : روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّ في ذي القعدة ليلة مباركة وهي ليلة خمس عشرة ، ينظر الله إلى عباده المؤمنين فيها بالرحمة ، أجرُ العامل فيها بطاعة الله أجرُ مائة سائح له لم يعص الله طرفة عين ، فإذا كان نصف الليل فخذ في العمل بطاعة الله والصلاة وطلب الحوائج ، فقد روي أنّه لا يبقى أحد سأل الله فيها حاجة إلا أعطاه .
أقول : لو أخبر إنسان عن إنسان بمثل هذه المواعيد لأحد ، لا أظنّ أن يهمله ، لا سيّما إذا ظنّ للواعد أمثال هذه الكرامات ، بل يكفيه الاحتمال لخطر الأمر كيف ولو قدّر العبد أجر مائة سائح لم يعص الله طرفة عين ،

المراقبات 238

لوجده أمراً عظيماً لا يقاس بشيء من ملك هذه الدنيا ، وسعاداتها وبهجاتها ، بل ولا يخطر على قلب أهل هذا العالم ، ما فيها من الكرامة ، والسرور والحبور ، وإذا عظم الخطر يحكم العقل بالبعث ولو بالاحتمال الضعيف ؛ كيف وأخبار التسامح تكفي في اعتبار العمل بهذه الرواية .
فانظر إلى شوقك ورغبتك في تحصيل عروض هذه الدنيا الدنيّة التي لا بقاء لها ، مشوبة بالأكدار ، ومانعة عن الأنوار ، كيف جدّك في الوصول إليها واقتنائها تترك باحتمال ما وطنك وراحتك ، وتسافر عن الأوطان ، وتهاجر الأولاد والنسوان وتقطع الفيافي ، وتركب البحار ، وتسير في الأشجار ، وغاية أملك أن تنتفع مثلاً من هذه الأسفار ألف دينار وأنت مبتلى في نيل هذا الأمل باحتمالات كثيرة حاكمة بعدم الوصول إلى المأمول ، بل الوقوع في المحذور ، من هلاك المال ، وسوء الحال بل وتلف النفس وضياع العرض وأنت مع ذلك كلّه لا تجوّز القعود عن تحصيل المطلوب ، والجدّ في السعي بهذه المعاذير .
وكيف لا ترغب في تحصل النِعم الأُخرويّة الباقية الخالصة عن الأكدار ، الخالية عن الاحتمالات المذكورة ، لا سيّما بعد ورود أخبار التسامح ؟ فلا يبقى عذر من جهة عدم اعتبار الأخبار الواردة في ثواب الأعمال وليس غير ذلك احتمال آخر لتخلّف النعم الأُخرويّة إلا من جهة العامل ، وعدم جدّه في تصحيح عمله ، وهو أمر بيده ، فلا تخلّف حقيقة في العمل للآخرة عن مثوباتها ، وهل بقي لترك العمل علّة إلا ضعف الإيمان ، أو مرض القلب من حبّ الدنيا .
وبالجملة العمل في هذه الليلة من جهة قلّة العامل به لعدم اشتهاره ، له خصوصيّة ليست في غيره من أعمال الليالي المشهورة ، وهذه من المهمّات

السابق السابق الفهرس التالي التالي