المراقبات 313

ثمّ ضرب بيده إلى عضده فرفعه على درجة دون مقامه متيامناً عن وجه رسول الله فرفعه بيده .
فقال : أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : الله ورسوله فقال : ألا من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، إنّما أكمل الله لكم دينكم بولايته وإمامته ، وما نزلت آية خاطب الله بها المؤمنين إلا بدأ به ، ولا شهد الله بالجنّة في «هل أتى» إلا له ، ولا أنزله في غيره ، ذرّية كلّ نبيّ من صلبه ، وذرّيّتي من صلب عليّ ، لا يبغض عليّاً إلا شقيٌّ ولا يوالي عليّاً إلا تقيٌّ وفي عليّ نزلت «والعصر» وتفسيرها وربّ العصر : القيامة «إنّ الإنسان لَفي خُسر» أعداء آل محمّد «إلا الذين آمنوا» بولايتهم «وعملوا الصالحات» بمواساة إخوانهم «وتواصَوا بالصَبر» (العصر : 1 ـ 3) في غيبة غائبهم .
معاشر الناس : «آمِنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا» (التغابن : 8) أنزل الله النور فيَّ ثمّ في عليّ ثمّ النّسل منه إلى المهديّ الذي يأخذ بحقّ الله .
معاشر الناس : إنّي رسول الله قد خلت من قبلي الرُسل ، ألا إنّ عليّاً الموصوف بالصبر والشكر ثمّ من بعده من ولده من صلبه .
معاشر الناس : قد ضلَّ من قبلكم أكثر الأولين ، أنا صراط الله المستقيم ، الذي أُمرتم أن تسلكوا الهدى إليه ثمّ عليٌّ من بعدي ثمّ ولدي من صلبه أئمّة يهدون بالحقّ إنّي قد بيّنت لكم ، وفهّمتكم ، هذا عليٌّ يفهّمكم بعدي ، ألا وإنّي بعد انقطاع خطبتي أدعوكم إلى مصافحتي على بيعته ، والاقرار له ألا إنّي بايعت لله وعليٌّ بايع لي ، أنا آخذكم بالبيعة له عن الله ، «فَمن نكث فإنّما يَنكُثُ على نفسِه ومَن أوفى بما عاهد عليه الله فسيُؤتيه أجراً عظيماً» (الفتح : 1) .

المراقبات 314

معاشر الناس : أنتم أكثر من أن تصافحوا بكفّ واحدة ، قد أمرني الله أن آخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقدّتم الإمرة لعليّ بن أبي طالب ، ومن جاء بعده من الأئمّة منّي ومنه ، وعلى ما أعلمتكم أنّ ذرّيّتي من صلبه ، فليبلّغ الحاضر الغائب ، قولوا : مطيعين راضين لما بلّغت عن ربّك ، نبايعك على ذلك بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا ، على ذلك نحيا ونموت ، ونبعث ، لا نغيّر ولا نبدّل ، ولا نشكُّ ولا نرتاب ، أعطينا بذلك الله وإيّاك وعليّاً والحسن والحسين والأئمّة الذين ذكرت بكلّ عهد وميثاق ، من قلوبنا وألسنتنا ، لا نبغي بذلك بدلاً ، ونحن نؤدّي ذلك إلى كلّ من رأينا .
فبادر الناس بنعم نعم سمعنا وأطعنا أمر الله وأمر رسول الله آمنا به بقلوبنا ، وتداكّوا على رسول الله وعليّ بأيديهم إلى أن صلّيت الظهر والعصر في وقت واحد ، وباقي ذلك اليوم إلى أن صلّيت العشاءين في وقت واحد ، ورسول الله يقول كلّما أتى فوجٌ : الحمد لله الذي فضّلنا على العالمين ، هذا .
وروى أبو سعيد السمان باسناده أنّ إبليس أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورة شيخ حسن السمت ، فقال : يا محمد ما أقلَّ من يبايعك على ما تقول في ابن عمّك عليّ فأنزل الله : «ولَقَد صَدَّقَ عليهم إبليسُ ظَنَّهُ فاتّبعوه إلا فريقاً من المؤمنين» (سبأ : 20) فاجتمع جماعة من المنافقين الذين نكثوا عهده فقالوا قد قال محمد بالأمس في مسجد الخيف ما قال ، وقال ههنا ما قال ؛ فإن رجع إلى المدينة يأخذ البيعة له ، والرأي أن نقتل محمّداً قبل أن يدخل المدينة .
فلمّا كان في تلك الليلة قعد له عليه السلام أربعة عشر رجلاً في العقبة ليقتلوه وهي عقبة بين الجحفة والأبواء ، فقعد سبعة عن يمين العقبة ، وسبعة عن يسارها ، لينفروا ناقته فلمّا أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلّى ، ارتحل وتقدّم أصحابه وكان عليه السلام على ناقته ناجية فلمّا صعد العقبة ناداه جبرئيل : يا محمّد

المراقبات 315

إنّ فلاناً وفلاناً وسمّاهم كلّهم وذكر صاحب الكتاب أسماء القوم المشار إليهم .
ثمّ قال : قال جبرئيل : يا محمّد هؤلاء قد قعدوا لك في العقبة ليقتلوك ، فنظر رسول الله إلى من خلفه فقال : من هذا خلفي ؟ فقال حذيفة بن اليمان : أنا حذيفة يا رسول الله ، قال : سمعت ما سمعناه ، قال : نعم قال : اكتم ، ثمّ دنا منهم فناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، فلمّا سمعوا نداء رسول الله فرّوا ودخلوا في غمار الناس وتركوا رواحلهم ، وقد كانوا عقلوها داخل العقبة ، ولحق الناس برسول الله ، انتهى رسول الله إلى رواحلهم فعرفها .
فلمّا نزل قال : ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن أمات الله محمّداً أو قتل لا نردّ هذا الأمر إلى بيته ؟ ثمّ همّوا بما همّوا به فجاؤوا إلى رسول الله [يحلفون أنّهم لم يهمّوا بشيء من ذلك فأنزل الله تبارك وتعالى] : «يحلفونَ بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمةَ الكفرِ وكفروا بعد إسلامهم وهَمّوا بما لم ينالوا» (التوبة : 74) .
أقول : روى قضيّة العقبة جماعة من المخالفين أيضاً في تفاسيرهم وغيرها .
وأمّا فضيلة هذا اليوم والعمل فيه فقد روي في ليلته صلاة اثنتي عشرة ركعة لا تسلّم إلا في آخرهنّ وتجلس بين كل ركعتين ، وتقرأ في كل ركعة الحمد و«قل هو الله أحد» عشر مرّات ، وآية الكرسي مرّة فإذا أتيت الثانية عشرة فاقرأ فيها الحمد سبع مرّات و«قل هو الله أحد» سبع مرّات ، واقنت وقل :
«لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له ، له الملكُ وله الحمدُ يُحيي ويُميتُ ويُميتُ ويحيي ، وهو حيٌّ لا يموتُ بيدهِ الخيرُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير» .

المراقبات 316

وتركع وتسجد وتقول في سجودك عشر مرّات :
سبحانَ من أحصى كلَّ شيءٍ علمُهُ ، سبحانَ من لا يَنبَغي التسبيحُ إلا له ، سبحانَ ذي المَنِّ والنّعم ، سبحان ذي الفضلِ والطَول ، سبحان ذي العزِّ والكَرَم ، أسألُك بمعاقد العِزِّ من عرشِكَ ، ومُنتهى الرحمةٍ من كتابِكَ وبالاسمِ الأعظمِ ، وكلماتِكَ التامّةِ أن تُصلّي على محمّدٍ رسولِكَ وأهل بيتِهِ الطاهرينَ ، وأن تفعل بي ـ كذا وكذا ـ إنّك سميعٌ مُجيب» .
وروي أيضاً دعاء شريف مضمونه شاهد صدق على الصدق أوّله اللهم إنّك دَعوتنا إلى سبيل طاعتك الخ .
وأمّا يومه فقد روى السيد (قده) فيه رواية جليلة باسناده إلى أبي الحسن الرضا صلوات الله عليه ، عن آبائه الطاهرين عن أمير المؤمنين عليه السلام خطبة طويلة فاخرة في يوم الغدير ، قال في آخرها : «عودوا رحمكم الله بعد انقضاء مجمعكم بالتوسعة على عيالكم والبرّ بإخوانكم ، والشكر لله عزّ وجلّ على ما منحكم ، اجمعوا يجمع الله شملكم ، وتبارّوا يقبل الله ألفَتكم ، وتهانؤوا نعمة الله كما هنّأكم بالثواب فيه على أضعاف الأعياد قبله وبعده ، إلا في مثله .
والبرُّ فيه يثمر المال ، ويزيد في العمر ، والتعاطف فيه يقتضي رحمة الله وعطفه وهبوا لإخوانكم وعيالكم عن فضله بالجهد من جودكم ، وبما تناله المقدرة من استطاعتكم ، وأظهروا البشر فيما بينكم ، والسرور في ملاقاتكم ، والحمد لله على ما منحكم ، وعودوا بالمزيد على أهل التأميل لكم ، وساووا بكم ضعفاءكم من ملككم وممّا تناله القدرة من استطاعتكم ، وعلى حسب إمكانكم فالدرهم فيه بمائتي ألف درهم والمزيد من الله عزّ وجلّ .
وصوم هذا اليوم ممّا ندب الله إليه وجعل الجزاء العظيم كفاءة عنه ،

المراقبات 317

حتّى لو تعبّد له عبد من العبيد ، في التشبيه من ابتداء الدنيا إلى انقضائها صائماً نهارها قائماً ليلها ، إذا أخلص المخلص في صومه لقصّرت أيّام الدنيا عن كفاءته ، ومن أسعف فيه أخاه مبتدئاً ، وبرّه راغباً ، فله كأجر من صام هذا اليوم وقام ليله ، ومن أفطر مؤمناً في ليلته ، فكأنّما أفطر فئاماً وفئاماً ـ يعدّها بيده عشرة» .
فنهض ناهضٌ فقال : يا أمير المؤمنين وما الفئام ؟ قال : «مائة ألف نبيّ وصدّيق وشهيد ـ فكيف بمن يكفل عدداً من المؤمنين والمؤمنات ، فأنا ضمينه على الله تعالى الأمان من الكفر والفقر ، وإن مات في ليلته أو يومه أو بعده إلى مثله من غير ارتكاب كبيرة فأجره على الله ، ومن استدان لإخوانه وأعانهم فأنا الضامن على الله إن أبقاه قضاءه ، وإن قبضه حمل عنه ، وإذا تلاقيتم فتصافحوا بالتسليم ، وتهانؤوا بالنعمة في هذا اليوم فليبلّغ الحاضر الغائب والشاهد البائن وليعد الغنيّ على الفقير ، والقويُّ على الضعيف ، أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك» .
ثمّ أخذ صلوات الله عليه في خطبة الجمعة وجعل صلاته جمعة صلاة عيد ، انصرف بولده وشيعته إلى منزل أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام بما أعدّ له من طعامه ، وانصرف غنيّهم وفقيرهم برفده إلى عياله .
وروي أيضاً عن الرضا صلوات الله عليه قال : إذا كان يوم القيامة زفّت أربعة أيّام إلى الله كما تزفّ العروس إلى خدرها قيل : ما هذه الأيّام ؟ قال : يوم الأضحى ويوم الفطر ، ويوم الجمعة ، ويوم الغدير ، وإنّ يوم الغدير بين الأضحى والفطر والجمعة كالقمر بين الكواكب ، وهو اليوم الذي نجا فيه إبراهيم الخليل عليه السلام من النار ، صامه شكراً لله ، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه

المراقبات 318

الدين في إقامة النبيّ عليّاً أمير المؤمنين علماً ، وأبان فضيلته ووصايته ، فصام ذلك [اليوم] .
وإنّه يوم الكمال ، ويوم مرغمة الشيطان ، ويوم تقبل أعمال الشيعة ، ومحبّي آل محمّد ، وهو اليوم الذي يعمد الله فيه إلى ما عمله المخالفون ، فيجعله هباءً منثوراً ، ذلك قوله «فجعلناه هباءً منثوراً» (الفرقان : 23) وهو اليوم الذي يأمر جبرئيل أن ينصب كرسيّ كرامة الله بإزاء البيت المعمور ويصعده جبرئيل ، ويجتمع إليه الملائكة من جميع السماوات ، ويثنون على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ويستغفرون لشيعة أمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام ، ومحبّيهم من ولد آدم عليه السلام .
وهو اليوم الذي يأمر الله فيه الكرام الكاتبين أن يرفعوا عن محبّي أهل البيت وشيعتهم ثلاثة أيّام من يوم الغدير ، ولا يكتبون شيئاً من خطاياهم كرامة لمحمّد وعليّ والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين .
وهو اليوم الذي جعله الله لمحمّد وآله وذوي رحمه ، وهو اليوم الذي يزيد الله في مال من عبد فيه ، ووسّع على عياله ونفسه وإخوانه ، ويعتقه الله من النار ـ إلى أن قال ـ وهو يوم التبسّم في وجوه الناس من أهل الإيمان ، فمن تبسّم في وجه أخيه يوم الغدير نظر الله إليه يوم القيامة بالرحمة ، وقضى له ألف حاجة ، وبنى له في الجنّة قصراً من درّ بيضاء ، ونضّر وجهه .
وهو يوم الزينة ، فمن تزيّن ليوم الغدير غفر الله له كلّ خطيئة عملها صغيرة أو كبيرة ، وبعث الله إليه ملائكة يكتبون له الحسنات ، ويرفعون له الدرجات ، إلى قابل مثل ذلك اليوم ، فإن مات مات شهيداً ، وإن عاش عاش سعيداً ، ومن أطعم مؤمناً كان كمن أطعم جميع الأنبياء والصدّيقين ، ومن زار

المراقبات 319

مؤمناً أدخل الله قبره سبعين نوراً ، ووسّع في قبره ، ويزور قبره كلّ يوم سبعون ألف ملك يبشّرونه بالجنّة .
وفي يوم الغدير عرض الله الولاية على أهل السماوات السبع فسبق إليها أهل السماء السابعة ، فزيّنها بالعرش ، ثمّ سبق إليها أهل السماء الرابعة فزيّنها بالبيت المعمور ، ثمّ سبق إليها أهل السماء الدنيا فزيّنها بالكواكب .
ثمّ عرضها على الأرضين فسبقها مكّة فزيّنها بالكعبة ، ثمّ سبقت إليها المدينة فزيّنها بالمصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ سبقت إليها الكوفة فزيّنها بأمير المؤمنين عليه السلام .
وعرضها على الجبال فأوّل جبل أقرّ بذلك ثلاثة جبال : العقيق ، وجبل الفيروزج ، جبل الياقوت ، فصارت هذه الجبال جبالهنّ وأفضل الجواهر ، ثمّ سبقت إليها جبال أُخر فصارت معادن الذهب والفضّة ، وما لم يقرّ بذلك ولم يقبل صارت لا تنبت شيئاً .
وعرضت في ذلك اليوم على المياه فما قبل منها صار عذباً وما أنكر صار ملحاً أُجاجاً ، وعرضها في ذلك اليوم على النبات فما قبله صار حلواً طيّباً وما لم يقرّ صار مرّاً .
ثمّ عرضها في ذلك اليوم على الطير فما قبلها صار فصيحاً مصوّتاً وما أنكرها صار أخرس مثل الألكن .
ومثل المؤمنين في قبولهم الإيمان وولاء أمير المؤمنين عليه السلام في يوم الغدير كمثل الملائكة في سجودهم لآدم ، ومثل من أبى ولاية أمير المؤمنين في يوم الغدير كمثل إبليس ، وفي هذا اليوم أُنزلت هذه الآية : «اليومَ أكملتُ لكم دينَكم» (المائدة : 68) الآية . وما بعث الله نبيّاً إلا وكان يوم بعثه مثل

المراقبات 320

الغدير عنده وعرف حرمته إذا نصب لأُمّته وصيّاً وخليفة من بعده في ذلك اليوم .
وروي أنّ العمل فيه يعدل ثمانين شهراً . وروي أنّه كفارة ستّين سنة .
ثمّ إنّ هذه الولاية التي عرضت لجميع أصناف المخلوقين من الجماد والنبات والحيوان والانسان والملائكة إنّما هي ولاية الوليّ المطلق التي كانت في رسول الله وأمير المؤمنين وخلفائهما الأحد عشر وهي كما قاله بعض المحقّقين ، باطن النبوّة المطلقة التي هي اطّلاع النبيّ المخصوص بها على استعداد جميع الموجودات بحسب ذواتها وماهيّاتها وإعطاء كلّ ذي حقّ حقه الذي يطلبه بلسان استعداده من حيث الإنباء الذاتيّ والتعليم الحقيقيّ الأزليّ ، وصاحب هذا المقام هو الموسوم بالخليفة الأعظم ، وقطب الأقطاب ، والانسان الكبير ، وآدم الحقيقيّ ، المعبّر عنه بالقلم الأعلى والعقل الأوّل ، والروح الأعظم .
وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : أوّل ما خلق الله نوري ، وكنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين ، وإليه استند كلّ العلوم والأعمال ، وإليه تنتهي جميع المراتب والمقامات نبيّاً أو وليّاً ، رسولاً كان أو وصياً ، ومرجعه إلى فناء العبد في الحقّ وبقائه به .
وإليه الاشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «أنا وعليٌّ من نور واحد» ، وقوله : «خلق الله روحي وروح عليّ بن أبي طالب قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ، وبعث عليّاً مع كلّ نبيّ سراً ومعي جهراً» ، وبقول أمير المؤمنين عليه السلام : «كنت وليّاً وآدم بين الماء والطين» ، وقوله : «أنا وجه الله ، وأنا جنب الله ، وأنا يد الله ، وأنا القلم الأعلى ، وأنا اللوح المحفوظ» ، إلى آخر ما قاله في خطبة البيان ، وغيرها .

المراقبات 321

وهذا هو المراد بقول الصادق عليه السلام : «الصورة الإنسانية هي أكبر حجج الله على خلقه ، وهو الكتاب الذي كتبه بيده ، وهو مجمع صور العالمين ، وهو النسخة المختصرة من اللوح المحفوظ ، وهو الجسر الممدود بين الجنّة والنار» . وقد كانت هذه الولاية في النبيّ والوصيّ وهما فاتحها وخاتمها فمن أجل عظمة هذا الأمر جعلت هذه المثوبات العظيمة لتعظيم هذه الولاية .
روي عن الرضا عليه السلام أنّ يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض ، إنّ لله عزّ وجلّ في الفردوس الأعلى قصراً لبنةً من ذهب ولبنة من فضّة ، فيه مائة ألف قبّة من ياقوت حمراء ، ومائة ألف خيمة من ياقوت أخضر ، ترابه المسك والعنبر . فيه أربعة أنهار : نهر من خمر ، ونهر من ماء ، ونهر من لبن ، ونهر من عسل ، حواليه أشجار جميع الفواكه ، عليه طيور أبدانها من لؤلؤ ، وأجنحتها من ياقوت ، تصوّت بألوان الأصوات .
فإذا كان يوم الغدير ورد إلى ذلك القصر أهل السماوات يسبّحون الله ويقدّسونه ويهلّلونه ، فتطاير تلك الطيور ، فيقع في ذلك الماء وتمرغ على ذلك المسك والعنبر ، فإذا اجتمعت الملائكة طارت تلك الطيور ، فيقع من ذلك وإنّهم في ذلك اليوم ليتهادون نثار فاطمة صلوات الله عليها فإذا كان آخر اليوم نودوا : انصرفوا إلى مراتبكم فقد أمنتم من الزلل والخطأ إلى قابل في مثل هذا اليوم مكرمة لمحمّد وعلي عليهما السلام .
ويستحبّ مؤكّداً زيارة الأمير صلوات الله عليه .
وأن يصلّي ركعتين أيّ وقت شاء وأفضله قرب الزوال وأن يسجد بعدهما شكراً لله ويقول : شكراً لله ، مائة مرّة ويدعو بدعاء مرويّ في «الإقبال» أوّله : اللهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد ، ويسجد بعد الدعاء ويحمد الله مائة

المراقبات 322

مرّة ويشكر كذلك ، وهو ساجد فإنّه من فعل ذلك كان كمن حضر ذلك اليوم وبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وكانت درجته مع درجة الصادقين الذين صدقوا الله ورسوله في موالاة مولاهم ذلك اليوم ، وكان كمن استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، ومع الحسن والحسين صلوات الله عليهما ، وكمن يكون تحت راية القائم ـ صلوات الله عليه وروحي فداه ـ في فسطاطه من النجباء والنقباء .
وروي أنّه من قرأ في هاتين الركعتين الحمد مرّة و«قل هو الله أحد» عشراً و«إنّا أنزلناه» عشراً ، وآية الكرسي عشراً وصلاهما قبل أن تزول الشمس بنصف ساعة عدلت عند الله عزّ وجلّ مائة ألف حجة ، ومائة ألف عمرة ، وما سال الله عزّ وجلّ حاجة من حوائج الدنيا والآخرة كائنة ما كانت إلا أتى الله عزّ وجلّ على قضائها في يسر وعافية ، و[من] دعا في دبر الركعتين بدعاء أوله : «ربّنا إنّنا سمعنا . وسأل بعده حوائجه للآخرة والدنيا ، قال : فإنّها والله والله والله مقضيّة .
ويستحبّ أيضاً مؤكّداً أن يغتسل في أوّل اليوم ، ويلبس أنظف ثيابه ويتطيّب ويقول عند مصافحة المؤمنين : الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام .
وورد أيضاً صلاة بعد الدعاء مرويّة في الاقبال أولها : اللهمّ صلّ على وليك وأخي نبيك هذا .
يا أخي إن كنت موقناً بما تلونا عليك في هذه الأخبار الكثيرة من فضل يوم الغدير ، وفضل العمل فيه فالبدار البدار ، فاشكر لله الذي فضّله ، ومنحه بهذا الفضل العظيم ، الذي يعسر الإيمان به من عظمته ، عليك بولاية إمامك ، وجدّ بعناية جهدك في معرفته ، فإنّه أصل كلّ خير ، لأنّ الإنسان إذا عرف

المراقبات 323

الفضل والخير يحبّه وإذا أحبّه سعى في تحصيله ، والمعرفة قبل الولاية .
وإذا تولّيته لا بدّ لك من السعي في موجبات الولاية ، وإذا أتيت بموجبات المحبّة والولاية ، اتّبعته في أفعاله وأخلاقه وهداه ، وسعيت في تحصيل رضاه ، فإذا أحبّك وقرّبك وأدناك وارتقيت من العلى والفضل مرتقى عظيماً ، وجاورت بذلك سيّد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه وعد عليّاً عليه السلام أنّ شيعته على منابر من نور مبيضة وجوههم حوله في الجنّة ، وهم جيرانه ، لمثل هذا فليتنافس المتنافسون .
فانظر في سيرته : في كرمه وشجاعته ، وزهده وخشيته ، ورجائه وتوكله ، ورضاه وتسليمه ، ومعرفته وتوحيده ، وتفكّر في علمه وعبادته ، وبكائه وتصلّبه في ذات الله وسخائه وإيثاره وتحمّله مشاقّ الأعمال ، وصبره على النوائب وجمعه لمكارم الأخلاق ، ومحامد الأوصاف التي يعسر اجتماع كمال بعضها مع البعض ، إنّ الرقّة لا تنسجم في الأغلب مع جهاد الكفّار ، وقتل النفوس ، والقوّة تنافي مع كثرة الصوم والجوع ، والتواضع لا يجتمع غالباً مع الهيبة والعظمة ، والطرف لا يناسب الحشمة ، وكان صلوات الله عليه جامعاً لها وحائزاً لكمالها .
وبالجملة ينبغي بل يجب في حكم العقل كلّ مؤمن بهذا الأمر أن يعمد في هذا اليوم لكلّ ما ورد فيه فضل من الخيرات ، ويأخذ منها حظّاً كاملاً بحسب طمعه في فضل الله وكرم أوليائه ، وهي الغسل ، ولبس ثياب الزينة ، والتطيّب ، وزيارة المؤمنين ، والتبسّم في وجوههم ، وبرّهم وصلتهم ، وإفطارهم في الليلة الآتية ، التوسّع على النفس والعيال ، والتصدّق والإطعام ، والصيام ، وإظهار السرور ، الحمد لله ، والشكر له ، لا سيّما عند مصافحة الإخوان ، لا سيّما بما ورد ، وتهنئة الإخوان ومصافحتهم ، وقضاء حوائجهم

المراقبات 324

من غير سؤالهم ، وإعانتهم ، وزيارته صلوات الله عليه والصلاة والدعاء كما ذكرنا ، ويكثر اهتمامه في التصدّق وإطعام المؤمنين ، لا سيّما بإفطارهم ، ويزيد في تهجّد ليلته وقيامه على سائر الليالي .
وقد سمعت عن تاجر من أهل بلدتنا أنّه قام ليلة من أوّل الليل يناجي ويخاطب أمير المؤمنين عليه السلام ويقول :
كـر بشكـافند سراپاي من(1) جز تو نيابند در اعضاي من

قائماً على رجليه يردّد هذا الشعر حتّى سمع أذان الصبح كان شديد المحبّة لأمير المؤمنين عليه السلام واتّفق في سني مجاورتي لمشهده صلوات الله عليه لتحصيل العلوم أنّه زار قبره الشريف وبقيّ أيّاماً وسأله صلوات الله عليه أن لا يخرجه من جواره فاتّفق رجوعه وودّعه عليه السلام وركب المحمل مع سيّد من الخدّام وأخذوا في طريق مسجد السهلة وحكى لي السيد الخادم قال : وبينا نحن في وسط الطريق سمعته يقول : أنزلوني من المحمل فأنزلوه فمات من ساعته فأرجعوه إلى المشهد الشريف وغسّلوه فيه وطافوا بجسده الشريف حول الضريح المقدّس ، ودفنوه في جوار أمير المؤمنين عليه السلام هنيئاً له وطوبى .
وبالجملة إذا كان آخر اليوم يختم يومه بمراجعة خفيره من المعصومين عليهم السلام بكلّ جهده في الابتهال والتضرّع والاسترحام ، ويقسمه بحقّ هذه الولاية العظمى أن يكملوا نواقص أعماله ويشفعوا إلى الله في قبولها وتربيتها ، وأن يجعل جزاءه منها الزيادة في معرفة أمير المؤمنين عليه السلام ومحبّته ومتابعته وجواره ، وأن يلحقه بشيعته المقرّبين ، وأوليائه السابقين ،

(1) مرّت ترجمة هذا البيت الشعري ، ونعيده هنا :
لو كشفوا عن كل أعضائي لمـا وجدوا غيـرك فيها

السابق السابق الفهرس التالي التالي