|
بالدعاء فإنّ ما عند الله خير وأبقى من كنوز العلم ، فاشفعوا به واكتموه من غير أهله السفهاء والمنافقين ، الدعاء : «اللهمّ إنّي أسألك من بهائك» اهـ .
أقول : «من» في قوله : «من كنوز العلم» بيانيّة وهم عليهم السلام معادن الله كما صرّح به في الزيارة الجامعة ، وهم أسماء الله الحسنى ، كما ورد في الروايات ، فلا يبعد أن يكونوا هم المراد من أبهى بهاء الله وأجلّ جلال الله ، وأجمل جمال الله إلى آخره ، لنا في استقراب هذا المعنى براهين عقليّة ، ودلالات نقليّة ، ليس هنا موضع ذكرها ، لا سيّما بعد أمره عليه السلام بالكتمان .
ومن الدعاء في هذا اليوم دعاء جليل منسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام ومتن الدعاء أمتن شاهد على صدق النسبة فإنّ فيه علوماً جمّة من الإشارة إلى معاني أسماء الله وآثارها التي لا يعرفها غيرهم أو من تعلّم من كلامهم .
ثم إنّ لهذا اليوم شرفاً آخر وكرامة أخرى من جهة صدقة صاحب الولاية عليه السلام فيه بخاتمه على المسكين في حال الركوع ودلالة الله جلّ جلاله في كتابه له بالولاية ، ذكر هذا العنوان ووصفه عليّاً عليه السلام بمحامد أوصاف جليلة بقوله : «يا أيّها الذين آمنوا مَن يَرتدَّ منكم عن دينِهِ فسَوفَ يأتي الله بِقومٍ يُحِبّهم ويُحبّونه أذِلّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومةَ لائم ذلك فضلُ الله يُؤتيه مَن يشاءُ والله واسعٌ عليم * إنّما وليّكم الله ورسولُه والذين آمنوا الذين يُقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة وهم راكعون» (المائدة : 54 ـ 55) .
وقد روى المخالف قوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ لمّا انهزم المسلمون في خيبر ـ : «لأُعطين الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح الله عليه» فأعطاها عليّاً عليه السلام .
وهكذا حديث الطائر وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك
يأكل معي هذا الطائر» فكان مولانا عليٌّ سلام الله عليه هو المشهود له بهذه المحبّة الباهرة .
أقول : هذه إشارات منّا إلى ما في آيات الكتاب ممّا نزلت في هذه الأيّام بالتصريح لفضائل علي عليه السلام التي تعدّ من محكمات القرآن ويفهمه العامّة ، وذكر المخالفون تصديقها في تفاسير هذه الآيات ، وأمّا ما في القرآن العزيز من الدلالات الخاصّة على ذلك الذي يختصّ بفهمها الخواصّ فهو أضعاف ذلك ، ويقرب من ثلث القرآن ، فمن أراد أن يعرفها بروايات الخاصّة الواردة عن أهل بيت الرسالة الذين هم شركاء القرآن ، وكتب فضلاء الشيعة ، ومن ذلك كتاب الفضل بن شاذان عليه الرحمة والرضوان .
وأمّا ما يختم به هذا اليوم فعرف ممّا ذكر في أمثاله من الأيّام ويزيد في هذا اليوم على التوسّل بخفراء القوم توسّلاً مخصوصاً لأصحاب المباهلة ، ويعترف لهم بكمال المنّة العظيمة ، والنعمة الفخيمة ، ويشكر نعمة وجودهم وهدايتهم وبرّهم وإحسانهم ، وعظيم فضلهم ، ويناجيهم بلطيف المقال والضراعة والابتهال أن يتمّوا منّتهم ويكملوا نعمتهم بالشفاعة إلى الله جلّ جلاله في أن يجعل عاقبة أمره إلى قبوله ورضاه وقربه وجواره واللحوق بأوليائهم في زمرة شيعتهم المقرّبين وأحبّائهم السابقين صلوات الله عليهم أجمعين .
ويقول في جملة مناجاتهم : «مواليَّ أنتم عرّفتمونا أنّ من شواهد نعماء الكرام استتمام نعمائه ، ومن شواهد آلاء الجواد استكمال آلائه ، وأنتم خلفاء الله في خليقته ومظاهر كرمه ورحمته ، فيجب عليكم بحكم المظهريّة أن تتمّوا علينا نعمكم ، وتكلّموا آلاءكم ، وإن حكم علينا عدلكم بعدم الاستحقاق ، وقد عرّفتمونا أيضاً الحجّة في ذلك بأنّ الكريم تعالى مبتدئ بالنعم قبل
استحقاقها ، من مظهر هذا الاسم غيركم ، ونحن متى ما أتيناكم وافدين ، ولإحسانكم راجين ، ولفضلكم آملين لا تحرمونا من فضلكم ، ولا تطردونا من بابكم ، ولا تؤيسونا من نائلكم ، وإن لم يصدّق أعمالنا وقلوبنا حقيقية أدب الوفود ، وآثار الرجاء وكنّا في صورة الوافدين والراجين صورة مزوّرة غير مطابقة للمعنى» .
«وقد حكي عن بعض كرام الدنيا أنّه زوّر لهم رقاعاً بالعطايا فعلموا أنّه مزوّر عليهم وأطلقوا مع ذلك ما زوّروا ولم يردّوها وهؤلاء الكرام إنّما أُعطوا الكرامة بكم ، كرمكم أصل وكرمهم من فروعه ، ولا يزيد الفرع على أصله فلا تردّوا صورنا ، وأطلقوا علينا بحكم صورنا ولو كانت صوراً مزوّرة بكرمكم ، وإن لم تجدوا أعمالنا وأفعالنا مصدّقة لدعوى حبّكم ، ولم تروا فينا سجايا محبّيكم فاسمحوا لنا بعدواة أعدائكم لنا ، فإنّهم طالما عادونا في سبيل ولايتكم ، وآذونا لأجل انتسابنا إليكم» .
«مواليّ يا سادتي ولو عرض عليَّ الخبيث من هذه الخواطر أضعاف ما ذكرت لأجل أن يؤنسني من فضلكم ، ويقطعني عن روح رجائكم ، فبحول الله وقوّته أحتجّ عليه ، وبهدايتكم أردّه ، ولا أقطع عنكم رجائي لأنكم جنب الله وبابه ، ووجه الله الذي إليه يتوجّه أولياؤه ، ولا أحد لي دونكم» .
«أنتم السبيل الأعظم ، والصراط الأقوم ، وشهداء دار الفناء ، وشفعاء دار البقاء والرحمة الموصولة ، والشفاعة المقبولة ، من أتاكم فقد نجا ، ومن لم يأتكم فقد هلك ، سعد والله من والاكم ، وهلك من عاداكم ، وفاز من تمسّك بكم ، وأمن من لجأ إليكم ، وهدي من اعتصم بكم» .
«فعلى زعم الخبيث أنا أُحبّكم محبّة أجد حلاوتها في قلبي ، ونورها في عقلي وروحي ونفسي ، وولايتكم قد اختلطت بلحمي وعظمي ومخّي
وشعري وبشري وعصبي وقصبتي وكلّ شيء منّي ، وأقول :
كر بشكافند سرا باي من |
|
جز تو نيابند در اعضاي من(1) |
«وأرجو من الله أن يزيد حبّكم في قلبي حتّى يلحقني بكم ، ويجعلني من شيعتكم المقرّبين ، وأوليائكم السابقين ، في أعلى علّيّين ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر» .
وبالجملة إذا عرف العبد مكانة ساداته من الله العليّ العظيم ، ونعمة وجودهم عليه ، ومقام لطفهم به ، فليقطع عند ذلك أنّ أعماله في هذا اليوم وفي كلّ يوم من بركات وجودهم ، وأنوار هدايتهم ، وآثار دعواتهم [مقبولة] وأنّ نقصها وضياعها من جهة نقصه وقصور نفسه عن تلقّي فيوضاتهم ، فليطو كلّ ما عمله في يومه وفيما قبله من العبادات ويسلّمها إليهم بتوجّه إلى الله تعالى بهم في الإذن بالشفاعة ، وإصلاح مفاسدها وتكميل نقصانها ، وتبديلها بالأعمال الحسنة المقبولة ، وعرضها على الله ، هذا .
واليوم الخامس والعشرون أيضاً من هذا الشهر العظيم موسم جليل لموالي أئمة الدين لما قد أكرم الله فيه إيّاهم بسورة «هل أتى» ، وشكر صدقتهم ، وقبل هديّتهم وأنزل في كتابه وصفهم ومدحهم والثناء عليهم .
وتفصيل ذلك ما روي في الأخبار المستفيضة بالاسناد المعتبر أنّ الحسنين عليهما السلام مرضا وعادهما جدهما صلى الله عليه وآله وسلم وعامّة العرب ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك ، وكلّ نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء ، فقال علي عليه السلام : إن برئ ولداي ممّا بهما صمت ثلاثة أيّام شكراً لله عزّ وجلّ ، وقالت فاطمة سلام الله عليها وجاريتهم فضّة مثل ذلك ، وألبس الغلامان
|
(1) ترجمة هذا البيت هو التالي :
لو كشفوا عن كل أعضائي |
|
لما وجدوا غيرك فيها |
|
العافية وليس عند آل محمد شيء قليل ولا كثير .
فانطلق عليٌّ عليه السلام إلى شمعون الخيبريّ ، فاقترض منه ثلاثة صوع من شعير وفي بعض الروايات : فانطلق عليّ عليه السلام إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له شمعون فقال له : هل لك أن تعطيني جرّة من صوف تغزلها فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أصوع من شعير ، فقال : نعم ، فأعطاه فجاء بالصوف وبالشعير إلى فاطمة سلام الله عليها فأخبرها فقبلت وأطاعت .
قالوا : فقامت فاطمة عليها السلام فطحنت واختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرص وصلّى عليٌ عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغرب ، وأتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب ، فقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة ، سمعه عليّ عليه السلام فأمر باعطائه فأعطوه ومكثوا يومهم وليلتهم ، لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القراح .
فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة عليها السلام إلى صاح فطحنته واختبزته وصلّى عليٌّ عليه السلام مع النبيّ وأتى المنزل فوضع الطعام بين يديه ، فأتاهم يتيم فوقف بالباب ، فقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فسمعه علي عليه السلام فأمر بإعطائه فأعطوه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القُراح ، فلمّا كان اليوم الثالث قامت فاطمة عليها السلام إلى الثالث فطحنته واختبزته وصلّى علي عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتى المنزل فوضع الطعام بين يديه ، فأتاهم أسيرٌ فوقف بالباب ، فقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأسرونا ولا تطعمونا ؟ سمع علي عليه السلام فأمر بإعطائه الطعام ، ومكثوا ثلاثة أيام بلياليها لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القُراح .
فلمّا كان اليوم الرابع ووفوا بنذرهم أخذ علي عليه السلام بيده اليمنى الحسن عليه السلام وبيده اليسرى الحسين عليه السلام وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع ، فلمّا بصر بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا أبا حسن ما أشدّ ما أراه بكم ؟ فانطلق بنا إلى منزل فاطمة فانطلقوا إليها وهي في محرابها قد لصق بطنها من شدّة الجوع ، وغارت عيناها .
فلمّا رآها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : واغوثاه بالله يموت أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم جوعاً فهبط جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد خذ ما هنّاك الله في أهل بيتك فقال : ما آخذ يا جبرئيل ؟ فأقرأه : «هل أتى على الإنسان حينٌ من الدّهرِ ـ إلى قوله ـ لا نُريد منكم جزاءً ولا شكوراً» إلى آخر السورة ، وروى الثعلبي أنه أُنزلت عليهم في هذا اليوم مائدة من السماء ، فأكلوا منها سبعة أيام .
أقول : روى نزول هل أتى في أمير المؤمنين وأهله عليهم السلام ونزول المائدة جماعة من أعيان المخالفين ؛ فيلزم الشيعة أن يشكروا الله تعالى بجهدهم في هذا ا ليوم لتكريمهم عليهم السلام بهذه الآيات الجليلة ، والفضال الجسيمة ، وتعريفهم لنا بذلك معرفة لا يبقى للارتياب فيه وجه ، وتكميله بمعرفتهم ديننا ، وإتمامه نعمه علينا ، له الحمد وله الشكر كما يحبّ ربّنا ويرضى .
ومن جملة وجوه الشكر في هذا اليوم وأمثاله الصوم وهكذا صلوات الشكر وسجداته وغير ذلك من القربات ، والأهمّ في الشكر معرفة قدر النعمة حقّ معرفته وهو يستدعي فكراً وعلماً ، فإذا عرف المراقب النعمة ، لا بدّ أن تورث هذه النعمة أن يعامل معها ما تقتضيه هذه المعرفة من تعظيمها ومن جملة وجوه التعظيم العمل بالأركان .
وروى في اليوم السادس والعشرين أيضاً قتل عدوّ لأهل بيت النبوة .
وفي الثامن والعشرين وقع قتل عدوّ آخر وهكذا في التاسع والعشرين فمن كمل إيمانه بولاية من ولاه الله عليه في الإسلام ، يكون سروره وشكره بهلاك أعدائهم بقدر محبّتهم عليهم السلام في قلبه ، هذا .
وليوم آخر ذي الحجّة عمل مرويٌّ مهمٌّ عند أهل المراقبة وهو أن يصلي ركعتين بفاتحة الكتاب مرّة ، والإخلاص عشر مرات ، وآية الكرسي عشر مرات ثمّ يدعو ويقول : «اللهمّ ما عملت في هذه السنة من عمل نهيتني عنه ولم ترضه ، ونسيته ولم تنسه ، ودعوتني إلى التوبة بعد اجترائي عليك ، اللهم فإنّي أستغفرك منه فاغفر لي ، وما عملت من عمل يقرّبني إليك فاقبله منّي ، ولا تقطع رجائي منك يا كريم» وروي هذا الدعاء [أيضاً] باختلاف يسير .
أقول : هذا العمل نفسه في هذا اليوم شاهد صدق عند أهل المراقبة على صحّة الرواية فلو لم يرد فيه هذه الرواية الخاصّة كفى في تعيّن مضمون هذا الدعاء بل الصورة في الأخبار الواردة لاستعلاج ما سبق في آواخر النهار من كلّ يوم وأواخر الشهور ، فآخر السنة بحكم الألباب أحوج وأنسب للاستعلاج من غيرها ، من مناسبة العمل والدعاء تعرف أنّ هذا العمل إنّما صدر من أئمّة الدين عليهم السلام .
وروي : من صلّى هذه الصلاة ، ودعا هذا الدعاء ، قال الشيطان : يا ويله ما تعبت فيه هذه السنة هدمه أجمع بهذه الكلمات ، وشهدت له السنة الماضية بخير .
أقول : فاشكر أيّها المؤمن بالله وبدين الله ، لربّك ولأوليائه لهذه المعارف شكراً لا تشكره لشيء من النعم الدنيويّة ، وتفكّر في أنّه لو ابتليت في
سنتك بأمور مهلكة موجبة لضياع مالك وسوء حالك ، ولأسرك ونهبك وقتلك ، فعلّمك شفيق عليك عملاً خفيفاً وكلمات معدودة إن عملت بها وقلت هذه الكلمات دفع عنك كلّ ما أوردت على نفسك من البلايا ، وأحييت بها كلّ ما ضيّعت من مالك وملكك وصرت إلى روح وريحان ، وملك وسلطان ، وراحة دائمة باقية ، بل وعيش هنيء وحياة باقية ، كيف يكون موقع هذا العمل في نظرك ؟ ومحلّ هذا الشفيق عندك ؟ هل تؤثر هذا العمل على الاكسير أم لا ؟ وهل يعظم عندك هذا الشفيق مثل من علّمك وأعطاك إكسيراً أم لا ؟
فقس يا عاقل في قسطاس عقلك ما علّمك إمامك من يسير عمل ، وأرشدك إليه من أثره ، فأيُّ إكسير فيه ذلك الأثر ، وقصارى ما في الأكسير أن يكثر مالك ، ويدفع به عنك ما يدفع بالأموال من الواردات ، فأين ما ينفع في دفعه مال ولا بنون من الأمراض والآفات والعاهات .
فاحتفظ واغتنم واشكر ربّك ونبيّك وإمامك بما منّوا به عليك من الهداية إلى طرق النجاة ، والوصول إلى أتمّ السعادات ، ورفيع الدرجات ، مقدار عظمة منّهم وعطائهم ، فإنّ كل إعطاء يستدعي شكراً مناسباً لائقاً به ، ولكن هيهات هيهات من يقدر شكر أصغر نعمه تعالى ، ولو أتى بشكر الثقلين ، فإذاً لا تضنّ بما تقدر عليه من الجهد والسعي ، وإن كان جدّك وسعيك أيضاً من نعمه عليك ، ولكن على حياء من قصورك وتقصيرك ، هذا .
والذي أراه على أنفسنا من هون هذه الألطاف العظيمة ، والمواهب الجسيمة عندنا ـ بعد فرض الإيمان بأصلها ـ من أمور شتّى عائقة عن هذه السعادات :
منها : عدم الوثوق بجهات إخلاص العمل من الآفات فيصير سبباً لردّه .
ومنها : عدم الوثوق ببقائه سالماً إلى وقت ظهور الآثار من جهات ما يعرض على الأعمال من الآفات المتعقّبة من العجب والذكر وبعض المعاصي الموجبة لضياعها ، التي يستفاد من قوله تعالى : «وقَدِمنا إلى ما عمِلوا مِن عملٍ فجعلناه هباءاً منثوراً» (الفرقان : 23) .
ومنها : عدم الوثوق من معصية يقال لمرتكبها : «افعل ما شئت لا أُغفر لك (بعدها) أبداً» .
ومنها : وجود أبدال لهذه الأعمال من جنسها وغير جنسها ينفع نفعها وأزيد منها فلا يبقى عند العامل بها موقع غرّة لها من كثرتها ، سبحان من صارت نعمه من كثرتها وعظمتها غير عزيزة على المنعم بها .
ومنها : عدم الوثوق من جهة احتمال سوء الخاتمة الموبقة للخيرات من أثر السابقة في عالم الذرّ .
وكيف كان فلا محالة للعاقل بعد هذه الخطرات من احتمال هذه الخطرات ، يكفي بحكم [العقل] أن يسعى كلّ سعيه في تحصيل هذا المحتمل لخطره ، فالعقلاء يعملون عند الآثار الخطيرة بالاحتمال ، ما لا يعلمون عند المنافع اليسيرة بالقطع .
ولذا تراهم يزهدون عن زهرة هذه الدنيا الحاضرة باحتمال نضرة عالم الآخرة النسيئة المحتملة ، ويؤثرون الآجل المحتمل على العاجل المقطوع وليس ذلك إلا من جهة أنّ متاع هذه [الدنيا] الدنيّة لا خطر له عندهم ، وهي أحقر في أعينهم ممّا يطأونه بأرجلهم ، والسعادات الأخرويّة لا سيّما ما يتعلّق
منها بجهة القرب واللقاء أنفس عندهم من جميع الأشياء الخطيرة ، عظم الخالق في أنفسهم وصغر ما دونه ، لولا الآجال التي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أبدانهم طرفة عين أبداً ، شوقاً إلى لقاء الله والثواب ، رزقنا الله معرفتهم ، ووفّقنا الله لاقتفاء آثارهم ، التشبّه بهم بحقّ أوليائه الطاهرين .
هذه الأعمال والمراقبات التي أُشير إليها إن أمكن العبد أن يؤدّيها ، ويراعي حقّها ، يخلّصها من آفاتها ، فطوبى له ثمّ طوبى له ، ولكنّها مظنّة الاشتباه حتى على الكاملين ، فعلى المراقب الحذر من غرورها .
وإن لم يقدر على إتيانها أو لم يقدر على رعايتها حقّ رعايتها ، فله حينئذ :
أولا : أن يستغفر ذنب حيث إن ذنبه صار سبباً لسلب التوفيق .
وثانياً : أن يستفهم خصوص الذنب الذي صار سبباً لهذا الخذلان ، فيمحوه بتوبة واستعلاج ، ويراقب اجتنابه عند كلّ عمل ، حتى يخلص من الخذلان فيما بعد أيضاً .
ويحزن لما فاته ويتداركه بقضاء إن كان ممّا يقضي ، أو بعمل غير القضاء ويرى نفسه خاسراً ، لأنّ الفائت المتدارك بالبدل وإن كان متداركاً ببدله إلا أنّ المبدل أيضاً كان ممكناً مع المتدارك ففات ، فلا بد إلا أن يؤثّر الفوائت في قلبه حزناً وحسرةً يحرق بها آثار الخذلان ، ويتدارك معها نور التوفيق ، بل قد يزيد نورهما على نور توفيق العمل ، فإنّه تعالى كريم العفو ، قد يعفو عن التقصير بعفوه ، ويبدّله بالاجتهاد بكرمه ، ويزيد في البدل أضعاف ما فات .
ثمّ إنّ هذا الذي ذكرنا أولاً إنّما هو بحكم الفرض ، وأمّا حكم الواقع غالباً أو دائماً [فهو] أنّ المجاهد لا يطمئن بإصابة الواقع في مجاهداته ، فله أن يبذل
كلّ مقدوره في العمل بكمال جدّه حتّى يعرف معرفة جزئيّة حقيقيّة ناشئة من العمل أنّ الإصابة لا يمكن إلا بعون الله وحوله وقوّته ، لأنّ المخلص كما عن الصادق عليه السلام : «أذل روحه ، وذائب مهجته ، في تقويم ما به العلم والعمل ، والعامل والمعمول بالعمل» ، وهذا أمر صعب لا سبيل للعبد إلى البلوغ إلا بتوفيق خاصّ من الله جل جلاله .
وإذ قد أتى العبد مجهوده ، وعرف عجزه عن نيل المراد فيضطرّ عند ذلك للاستعانة بحقيقة قلبه ، ويحترف على باب كرم الله جلّ جلاله ، فيدركه عند ذلك نفحات رحمته الرحيميّة ، لأنّه تعالى كريم يحبّ الكرامة لعباده المضطرّين المحترفين على بابه لطلب مرضاته ، فيقبله ويرضى عنه ، ويدخله في عباده المخلصين ، لأنّ الإخلاص معنى مفتاحه القبول ، وتوقيعه الرضا ، وقبل القبول والرضا لا يوجد الإخلاص .
فعلى العبد أن يكون تمام جدّه وغاية سعيه في معرفة آفات الأعمال ، حتّى يجتهد في تخليص عمله ببذل مجهوده ، حتّى يورثه ذلك معرفة العجز والإضطرار والتسليم إلى الله ، والطلب منه ، وإذا أتى بذلك ، ووكل أمره إليه فإنّه يكفيه في كلّ ما سلّم إليه ولا يضنّ ولا يبخل ، ولا يخون ولا يجفو .
ولكن الحذر الحذر أن يختدعه الخبيث ، فيوقعه في ترك المجاهدة ، ويسمّيه بمعرفة العجز والاضطرار والتسليم ، فيجمع له مع ترك المجاهدة دعوى هذه المقامات العالية بالكذب والفرية ، فيلزم من الاختداع والنجاة من الغرور أن يستكشف حقائق هذه الصفات ، ويختبر حاله بالعلوم الربّانية ، والكواشف القطعيّة البرهانيّة .
ولا يمكنه استكشاف حقيقة معرفة العجز عن دعواها ، ومعناها عن صورتها إلا بأن يضع نفسه في عمله موضع العاجز بالنسبة إلى جميع الأمور ، ولا يرى في الوجود قدرة إلا الله ، فإذا تحقّق العبد بهذه المعرفة لا يرى في
العالم ضارّاً ولا نافعاً إلا الله ، فإذاً لا يسعى ولا يتحرّك ولا يسكن إلا من جهة أمر الله ، وبقوّة الله .
ومن لوازم هذه الصفة أن لا يتملّق للسلطان ، ولا يخاف أحداً إلا بالله ، بل ولا يشكر أحداً ولا يذمّه بعطاء ومنع ، فيشكر الله عند عطائه ويذمّ نفسه بمنعه ، وإذا انضمّ إلى ذلك معرفة وجه الحاجة إلى نعمة الله ، وعدم الاستغناء من نعمه ، تحقّق الاضطرار ، وإذا انضمّ إلى ذلك معرفة عنايته وقدرته وجوده تحقّق أمر التسليم والتوكّل .
وإلا فمن يرى التأثير في الأسباب ويسعى لها بغير أمر الله ، بل في محلّ نهي الله ولا يطمئنّ بضمان الله في وعده بالرزق ، وإجابة الدعاء ، وكفاية المتوكّلين ، يخاف من الفقر عند البذل الواجب أو الحسن ، ويذمّ الناس بالمنع ويتملّق للأغنياء والسلاطين ، ولا يجتنب في تحصيل رزقه وكسب معاشه عن الشبهات ، بل ويتكسّب المحرّمات ، ويسعى في طلب المال طلب الحريص ، ولا يجمل في الطلب كما ورد به الشرع ، كلّ ذلك يخالف هذه الصفات ، فيتبيّن عند العارف أنّ تسليمه عبارة عن عدم المبالاة بأمر المجاهدة ، وهو في دعواه كاذب ، ومستحقٌّ لخذلان آخر ، غير ترك أمر المجاهدة .
فعلم من ذلك كلّه أنّه لا بدّ للعاقل من بذل غاية الجهد لا سيّما في الإخلاص آيساً من قدرته على ذلك ، ولكن رجاء بفضل الله وعنايته ، فعند ذلك يرحمه ويمنّ عليه بكرمه بالقبول والرضا والإخلاص ، وأمّا ترك المجاهدة فلا يجوز بحال سواء في ذلك حال التسليم وعدمه .
وبالجملة للصورة حكم في جميع العوالم وللمعنى أيضاً حكم يختلفان لا يؤثّر الصورة أثر حكم المعنى في شيء من العوالم ، وقد يكون للصورة المخالفة للمعنى حكم مضادٌ لحكم المعنى ، فيؤثّر ضدّ أثر المعنى كما أنّ الشهادة للإسلام والتوحيد إذا خالف بما في القلب يؤثّر أثر النفاق المضادّ لحكم معنى
الإسلام وحقيقته ، فيوجب الخلود في أسفل الدركات .
وهذا الحكم مطرد في جميع الأمور الدينيّة والدنيويّة ، فإنّك لا تقبل من أولادك وخدمك في طاعتهم لك وخدمتهم الصورة المحضة المخالفة لحقيقة الطاعة ، بل تعدّها استهزاءً وتجازيه جزاء المعصية ، مثلاً إذا أردت منه تعظيمك وقال بلسانه : أنت عظيم العظماء ، ورأيته يخالف بقلبه وعمله في هذا التعظيم فلا تقبل منه هذا القول للتعظيم ، بل تقول : إنّه أهانني واستهزأ بي ، وأيُّ فرق في أمر الله تعالى لعباده بتكبيره في الصلاة ، مثلاً مع توقّعك من عبيدك وخدمك تكبيرك وتعظيمك ، كيف لا تقبل منه للتكبير قوله : أنا أُكبّرك ، إذا خالف في ذلك قلبه وأعماله ، وحقٌ على الله تعالى أن [لا] يقبل منك لفظ التكبير ، المخالف بقلبك وعملك .
أما سمعت ما في مصباح الشريعة من قوله عليه السلام : «إنّ الله إذا اطّلع على قلب العبد إذا كبّر ورأى فيه عارضاً عن حقيقة تكبيره ، قال له : يا كاذب أتخدعني» .
وفي بعض الروايات أنّ العبد إذا كبّر في صلاته وأثنى على الله قال الله : اشهدوا يا ملائكتي كيف رفع يده ونزّهني وكبّرني فأُشهدكم أنّي سأُكبّره وأُنزّهه في منزّهات دار كرامتي .
فانظر يا أخي هذا المقام السني الذي يبهر العقول ويزيد على المأمول للتكبير الواقعيّ ، كيف يتبدّل حكمه بالطرد والعقاب ، على ا لتكبير الصوريّ المخالف لحقيقة التكبير ، وإنّما حكم بالآثار بهذا المنوال في غيره من الأذكار والأفعال ، فلا يقبل الصورة عن المعاني في شيء منها .
وفي الأخبار المستفيضة أنّه : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ادّعى عنده أحد الايمان أو شيئاً من مقامات الدين ، يقول له : «الا لكلّ شيء حقيقة فما حقيقة دعواك» أما يكفي في ذلك ما في كتاب الله تعالى حيث يقول : «وإذا جاءك المنافقون
| |