دفاع عن التشيع 304

فضلاً عن هوة ساحقة بين النظرية والتطبيق ، أو بين ما هو شرعي وبين ما يجري في الواقع) (1) .
إذن ، سند الشورى الوثائقي هو الخوف من وصول علي عليه السلام إلى سدة الحكم ـ وهو الذي أراده الكاتب ـ أن يكون تشريعاً للامة لقبول نظرية الشورى ورفض الإمامة الإلهية .

إفلاس الشورى من الوثائق


بعد أن أفلست الشورى ـ كنظرية سياسية للحكم ـ من أي مسند وثائقي ، لا من منشئها وهو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، حيث قال : (لو كان سالم حياً ما جعلتها شورى) (2) ، ولا من الفكر السائد عند الصحابة آنذاك ، حيث يقول عثمان بن عفان لعبد الله بن عباس : (ولقد علمت إن الأمر لكم ، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوكم دونه) (3) .
بحيث وصل الأمر بالصحابة أن يراجعوا عمر بن الخطاب ويسألوه أن ينص على من يخلفه (4) ؛ نتيجة للعقيدة الراسخة لديهم حول مسألة الخلافة بالنص لا بالشورى .
فبعد كل هذا الوضوح الذي لم يستطيع أحمد الكاتب إخفاءه ، راح يبحث عن عبد الله بن سبأ ليعلق هذه النظرية التي آمن بها الصحابة عليه ، ويخرج بنتيجة تقول : (إن نظرية النص نظرية دخلية على المجتمع الإسلامي) ، ولكن عندما سمع بأن السيد العسكري (5) قد شمر سواعده في البحث عن هذا الرجل ، وأثبت للعالم بأن هذا

(1) الزيدية : ص 31 ـ 32 .
(2) خلافة الرسول بين الشورى والنص : ص 36 ، نقلاً عن طبقات ابن سعد : ج 3 ، ص 248 .
(3) شرح نهد البلاغة : ج 9 ، ص 9 .
(4) الكامل في التاريخ : ج 3 ، ص 65 .
(5) عبد الله بن سبأ وأساطير اخرى : ج 1 و ج 2 .
دفاع عن التشيع 305

شخص مختلق ، تردد أحمد الكاتب نتيجة لذلك من تعليق الأمر على عبد الله بن سبأ ، فقال : (وسواء كان عبد الله بن سبأ شخصية حقيقية أم أسطورية) . فهل تعقل كلمة (سواء كان) هنا بعد أن رتب على وجوده بقوله : (أول تطور ظهر في صفوف الشيعة على يد المدعو عبد الله بن سبأ) (1) .
ولنترك ذلك إلى القارئ ، ونعود مع الكاتب لأنه رجع بعد اقتناعه بعدم وجود عبد الله بن سبأ ، إلى القول بالوصية السياسية ثانياً ، وقال : (إن هذا القول ـ أي القائلين بالوصية السياسية ـ كان ضعيفاً ومحصوراً في جماعة قليلة من الشيعة في عهد الإمام علي عليه السلام ، وإن الإمام نفسه قد رفضه بشدة ، وزجر القائلين به) (2) .
وما هذه الكلمات إلا اجترار لما تقدم ، وإلا فإن الفكر المرتكز لدى الصحابة هو الوصية السياسية ، وإلا لما كانوا يراجعون عمر بن الخطاب ويسألونه على أن ينص على من يخلفه في الحكم (3) بعد أن نص أبو بكر نفسه على عمر .
وبعد أن نظر الكاتب إلى يديه الخالية من الوثائق التي تدعم فكره ، توجه إلى قضية نشوء التشيع ليتخلص من الشواهد العليلة المتقدمة ، وتابع في كلامه هنا المستشرقين وأتباعهم أمثال جولد تسيهر وطه حسين وأحمد أمين وغيرهم ، وقال : (إن التشيع نشأ بعدما تولى يزيد الحكم من قبل أبيه) ، وقال : (إن ذلك التيار وجد في تولية معاوية لابنه يزيد من بعده أرضاً خصبة للنمو والانتشار) (4) .
وهذه الفكرة الجديدة ، بل حتى الألفاظ استعارها أحمد الكاتب من أسياده المستشرقين وأذنابهم ، ولكن لم تقف تلك الفكرة أمام الحقيقة الساطعة ، ألا وهي أن الأرض الخصبة التي نما ونشأ التشيع فيها ، كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وأما ما بعد ذلك ، فقد واجه التشيع حرباً شعواء من قبل طلاب الدنيا وحكامها ، وهذه

(1) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 33 .
(2) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 33 .
(3) الكامل في التاريخ : ج 3 ، ص 65 .
(4) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 33 .
دفاع عن التشيع 306

الحقيقة ترجمتها لنا كتب الحديث والتاريخ والتفسير ، حيث يقول السيوطي في الدر المنثور : إن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال لعلي : «أنت وشيعتك يا علي ، وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا جاءت الامم للحساب تدعون غراً محجلين» (1) .
فهذه النفحات الرسالية من فم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم هي التي بذرت بذرة التشيع ، بحيث نما ونشأ وترعرع في ذلك العهد ، وتصدى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بنفسه تقليد اولئك أوسمة الشرف لأنهم شايعوا وبايعوا علي بن أبي طالب عليه السلام وجعلهم الله تعالى خير البرية ، يقول الطبري في تفسيره : عن محمد بن علي ، قال : لما نزلت الآية«إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية » ، فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «أنت وشيعتك يا علي» (2) .
أضف إلى ذلك ، أن هذه الحقيقة نقلها وتسالم عليها ابن عساكر ، وابن حجر ، والخوارزمي ، والحاكم الحسكاني ، والشبلنجي ، والقندوزي الحنفي وغيرهم (3) .
إلى هنا لم يحصل أحمد الكاتب على أي دعم لأكاذيبه فلجأ إلى مواقف الأئمة عليهم السلام ، ولكن بطريقة إنشائية خالية من أي دليل ، لأنه لم يجد موقفاً واحداً للأئمة عليهم السلام خلاف نظرية النص والوصية ، كيف ذلك وهم في طليعة المدافعين عن هذه النظرية ، وهي حقهم المغصوب ؟ ! فقال الكاتب في هذا المجال : (والمشكلة الرئيسية التي واجهت تيار الإمامة السياسية هي عدم تبني الإمامين الحسن والحسين له ، واعتزال الإمام علي بن أبي الحسين عن السياسة) (4) .
بالإضافة إلى اعتراف الكاتب بأن تيار الإمامة السياسية كان على عهد الإمامين

(1) الدر المنثور : ج 8 ، ص 589 .
(2) جامع البيان : ج 15 ، ص 265 .
(3) تاريخ دمشق : ترجمة الإمام علي ، ج 42 ، ص 334 ـ 335 ؛ الصواعق المحرقة : ج 2 ، ص 467 ـ 468 ؛ المناقب للخوارزمي : ص 112 / 121 ، 122 ؛ شواهد التنزيل : ج 2 ، ص 459 ـ 474 ، أورد هنا 23 حديثاً مع تخريجاتها ؛ نور الأبصار : ص 70 ؛ ينابيع المودة : ج 2 ، ص 357 ، ح 21 .
(4) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 33 .
دفاع عن التشيع 307

الحسن والحسين عليهما السلام وليس كما قال : إنه نشأ في ظروف متأخرة ـ بالإضافة إلى ذلك ـ لم يستطع أن يدعم مقولته هذه بأي مصدر ، بل اكتفى بالتعبير الإنشائي الخالي من أي وثيقة ، والسبب الرئيسي في ذلك هو عدم وجود أي نص يصرح بهذا الادعاء ، بل قامت النصوص من الأئمة عليهم السلام على خلاف ذلك ، فكيف لم يتبن الحسن عليه السلام تيار الإمامة السياسية وهو القائل مخاطباً المسلمين : «ففرض عليكم الحج والعمرة وإقامة الصلاة . . . . والولاية لنا أهل البيت ، وجعلها لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرائض» (1) .
فهل من المعقول أنه لا يتبنى تيار الولاية السياسية وهو يجعلها فريضة من الفرائض ، بل باباً لكل الفرائض ؟ !
أما الإمام الحسين عليه السلام فقد تصدى وتبنى تيار الولاية الذي أدى به إلى الشهادة هو وأنصاره وأهل بيته .
وأما زين العابدين عليه السلام ، فقد جعل اولي الأمر أئمة الناس ، وأوجب على الناس طاعتهم بقوله : «إن اولي الأمر الذين جعلهم الله عزوجل أئمة للناس ، وأوجب عليهم طاعتهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ثم الحسن ، ثم الحسين ابنا علي بن أبي طالب ، ثم انتهى الأمر إلينا» (2) .
فكيف يعتزل الواقع السياسي وهو ينصب نفسه ولي أمر المسلمين ، وخليفة علي والحسن والحسين ؟ !
وهذا غيض من فيض من كلمات الأئمة عليهم السلام حول موضوع الإمامة والولاية ، وتجاهل الكاتب ذلك لا ينفي الحقيقة بقدر ما يثير غبار في أذهان القراء سرعان ما ينجلي بمجرد اليقظة إلى أهداف هؤلاء وما يكنونه للإسلام .
ثم لما جعل الانعزال عنواناً لزين العابدين عليه السلام ، راح يبحث عن قائد جديد للشيعة ، ليقول إن الإمامة ليست من الله ، فقال : (إن القائلين بالوصية السياسية التفوا حول

(1) ينابيع المودة : ج 3 ، ص 364 ـ 365 ؛ الأمالي للطوسي : ص 654 ـ 655 / 1355 .
(2) كمال الدين : ص 299 ـ 300 .
دفاع عن التشيع 308

محمد بن الحنفية باعتباره وصي أمير المؤمنين أيضاً) (1) .
ولكنه نسي أو تناسى أن لجوء بعض الشيعة إلى محمد بن الحنفية للطلب بثأر الحسين عليه السلام كان اضطراراً لأنهم خاطبوا ـ كما يقول المسعودي ـ زين العابدين على أن يكون إماماً لهم وقائداً في ثورتهم التي ينوون القيام بها ، فرفض زين العابدين عليه السلام ، وإليك نص المسعودي في ذلك : (وكتب المختار كتاباً إلى علي بن الحسين السجاد يريد على أن يبايع له ويقول بإمامته ويظهر دعوته . . . فأبى أن يقبل الإمام) (2) .
وسر عدم قبول الإمام عليه السلام دعوة القيادة هذه أنه بالأمس القريب كان مع أبيه الحسين عليه السلام ويسمعه حينما يستنهضهم من دون جدوى ، فاضطر اولئك بعد رفض الإمام إلى أن يستمدوا شرعية ثورتهم من بيت علي بن أبي طالب ، لعلم المسلمين بأن الوصية السياسية فيهم ، فلجأوا إلى محمد بن الحنفية .

أحاديث صريحة بالإمامة والخلافة ليست من طرق الشيعة


وأراد الكاتب أن يتجاهل كل الحقائق التي تدور في فلك الحديث والتاريخ ، والتي نصت على كون أمير المؤمنين إماماً بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وخليفة ووصياً ، ولكن تجاهله هذه المرة ليس بإطلاق شعار الضعف والتوهين بالروايات ، بل تحت شعار : (جاءت من طرق الشيعة) ، فقال حول موضوع الإمامة : (إن الإمامية استشهدوا بأحاديث صريحة بالخلافة والإمامة ولكن من طرق الشيعة) (3) .
وإليك مجموعة من الأحخاديث الصريحة بالإمامة والخلافة ، ولكن لا من طريق الشيعة ومصادرهم ، بل من طرق السنة ومصادرهم :
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا» (4) .

(1) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 33 .
(2) مروج الذهب : ج 3 ، ص 87 .
(3) أحمد الكاتب ، تطور الفكرالسياسي : ص 67 .
(4) تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 63 ؛ والكامل في التاريخ : ج 2 ، ص 62 ـ 64 ؛ والسيرة الحلبية : ج 1 ، =
دفاع عن التشيع 309


وقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «إن علياً مني وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي» (1) .
أضف إلى ذلك حديث الغدير ، الذي تناقلته السنة ، والذي قال أبو الطفيل لزيد : سمعته من رسول الله ، ووافقه زيد ، وأضاف : وإنه ما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه باذنه (2) ، وعبر عنه الذهبي بأنه حديث صحيح (3) ، وغير ذلك من الأحاديث ، أمثال حديث المنزلة المتواتر (4) .
فهل هذه طرق شيعية يا استاذ ؟ !
ثم عندما وجد الكاتب أن أحاديث الإمامة والخلافة ليست منحصرة بطرق الشيعة فقط ، راح يلوح بشعار التضعيف والاختلاق أو التأويل القسري المخالف لظاهر إرادة المعنى السياسي (5) .
ولا أعلم أن لكلمات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» التي نقلها الطبري وتسالم عليها السنة في التاريخ والحديث ـ كما تقدم ـ لا أعلم لها تأويلاً قسرياً ، فتأويلها يحط من معناها السياسي المراد ، وأما تهمة التضعيف والاختلاق فلا معنى لها ، لأن هذه الكلمات وغيرها جاءت في تراث من لا يرى المعنى السياسي لعلي خلفاً لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فكيف يضع أو يختلق حديثاً خلاف مبانيه وتوجهاته .
وأما حديث الغدير الذي حاول الكاتب أن يلتف عليه بتحريف معنى كلام السيد

= ص 461 ؛ وشرح نهج البلاغة : ج 13 ، ص 210 و 244 ؛ وتفسير الخازن : ج 3 ، ص 333 ؛ ومعالم التنزيل : ج 3 ، ص 400 ؛ ومختصر تاريخ دمشق لابن عساكر : ج 17 ، ص 310 ـ 311 .
(1) مسند أحمد : ج 4 ، ح 19426 ؛ وسنن الترمذي : ج 5 ، ح 3712 ؛ ومصنف ابن أبي شيبة : فضائل علي ، ج 7 ، ص 504 ، ح 58 ؛ والإحسان بترتيب صحيح ابن حبان : ج 6 ، ص 269 ، ح 6938 .
(2) سنن النسائي : ج 5 ، ح 8464 .
(3) البداية والنهاية : ج 5 ، ص 228 ؛ وقال : قال شيخنا الذهبي هذا حديث صحيح .
(4) مسند أحمد : ج 1 ، ح 1493 و 1512 ؛ صحيح البخاري : فضائل علي ، رقم 3503 ؛ صحيح مسلم : فضائل علي ، ح 2404 ؛ مصنف ابن أبي شيبة : فضائل علي : ج 7 ، ص 496 ، ح 11 ـ 15 .
(5) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 67 .
دفاع عن التشيع 310

المرتضى ، فهذا الحديث سد باب البحث فيه العلامة الأميني في كتابه (الغدير في الكتاب والسنة والأدب) ، ولم يترك شاردة ولا واردة تعلقت في هذا البحث إلا أحصاها ، فحيا الله الأقلام الحقة التي خدمت الإسلام والعلم بالتحقيق والتنقيب المجرد عن الدوافع ، سوى البحث العلمي المحض الخادم لطلاب الحقيقة والموضوعية .
ثم هل من الإنصاف أن ينسف تراث امة بالكامل ، قائم على أساس النص والوصية بكلمتين (الجعل والاختلاق) كما يقول أحمد الكاتب ، من دون أن يبين مواضع الجعل والاختلاق ، أو التحريف أو التأويل القسري .
أضف إلى حديث الغدير تهنئة عمر لعلي بقوله : (هنيئاً لك يابن أبي طالب ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة) (1) ، وبادر أبوبكر وعمر والصحابة إلى تهنئة أميرالمؤمنين بالولاية والإمرة من دون أن يبحثوا في دلالة كلمة مولى (2) .
وكذلك ، كلمات علماء المسلمين أمثال الحسن بن إبراهيم بن زولاق (ت 387) حيث قال : (إن رسول الله استخلف أمير المؤمنين) (3) .
وجعل أبو الحسن الواحدي (ت 468) نفسه مسؤولاً عن هذه الولاية (4) ، ويقول أبو حامد الغزالي (ت 505) : (لكن أسفرت الحجة وجهها وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع . . . . فقال عمر : (بخ بخ لك يا أبا الحسن ، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة) ، فهذا تسليم ورضاً وتحكيم ، ثم بعد هذا غلب الهوى لحب الرئاسة ، وحمل عمود الخلافة وعقود البنود ، وخفقان الهوى في قعقعة الرايات ، واشتباك ازدحام الخيول ، وفتح الأمصار ، ساقهم كأس الهوى ، فعادوا إلى الخلاف الأول فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمناً قليلاً ، فبئس

(1) مسند أحمد : ج 4 ، ح 18011 ؛ تفسير الرازي : ج 12 ، ص 42 ؛ تذكرة الخواص : ص 36 .
(2) تاريخ بغداد : ج 8 ، ص 284 ، ر 4392 ؛ ذخائر العقبى : ص 125 .
(3) المقريزي في الخطط : ج 2 ، ص 222 ؟ 389 .
(4) الغدير : ج 1 ، ص 680 .
دفاع عن التشيع 311

ما يشترون) (1) . كل ذلك يعد تحدياً لنظرية الشورى المستحدثة ، كما سنرى ذلك في البحوث اللاحقة .

النص أم الشورى في فكر الصحابة ؟


إن المتتبع للفكر السائد آنذاك يجد مسألة الص من المسائل المفروغ عنها ، ولهذا تعجب أمير المؤمنين عليه السلام عندما سمع بذلك التدبير ، وقال : «أومنهم من ينكر حقنا ؟ !» .
فلو لم يكن الفكر السائد هو النص والوصية لما اعترف عمر بكثرة اللغط ، وارتفاع الأصوات في السقيفة (2) ، ولما أطلق كلمته المشهورة لابن عباس عندما قال له : (يابن عباس ، أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد صلى الله عليه واله وسلم ؟ . . . . كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة) (3) .
ومتى كانت كراهية العرب ورضاها هو المصدر لوضع الحكم الإلهي ؟ ! فهل قبلت العرب الإسلام برحابة صدر ، ولم تضع على رأس رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الرفث ، ولم تحاصره في شعب أبي طالب مع أنصاره ، ولم تحاربه في بدر والأحزاب وغيرها ؟ ! فهذا فكر الخليفة الثاني في مسألة النص ، وسأل ابن عباس مرة ، قال له : (مازال ابن عمك يزعم ان رسول الله قد نص عليه) .
إذن ، كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام ، وكلمات عمر وغيره من الصحابة ـ كما سنلاحظ ـ تبين أن النص هو الفكر الإسلامي الأصيل في الخلافة السياسية لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، أما باقي الصحابة فإليك كلماتهم :
عثمان بن عفان : قال يوماً لابن عباس : (ولقد علمت أن الأمر لكم ، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم) (4) .

(1) سر العالمين : ص 20 .
(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري : ج 14 ، ص 111 ، طبعة دار الفكر .
(3) تاريخ الطبري : ج 3 ، ص 288 .
(4) شرح نهج البلاغة : ج 9 ، ص 9 .
دفاع عن التشيع 312


ابن عباس : جاء في معرض كلام ابن عباس لعمر عندما قاله له : (إن القوم كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة) ، قال له ابن عباس : (وأما قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة ، فإن الله عزوجل وصف قوماً بالكراهية ، فقال : «ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم» (1) ) . فجعل ابن عباس الأمر منزلاً من الله تعالى ، وليس أولوية كما يقول الكاتب .
سلمان الفارسي : يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول : «إن وصيي وموضع سري وخير من أترك من بعدي ، ينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب» (2) .
ابو ايوب الانصاري : سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول لفاطمة : «اما علمت ان الله عز وجل اطلع على الارض فاختار منهم اباك فبعثه نبيا ، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك ، فاوحى الي فانكحته واتخذته وصيا » (3).
بريدة : سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول « لكل نبي وصي ووارث ، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب» (4) .
ام الخير بنت الحريش البارقية : وقفت تحرض أهل الكوفة على قتال معاوية فقالت : (هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل والوصي الوفي والصديق الأكبر) (5) .
عمرو بن حمق الخزاعي : قال لأمير المؤمنين عليه السلام : (والله يا أمير المؤمنين ، إني ما أحببتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا ارادة مال تؤتينه ، ولا سلطان ترفع ذكري له ، ولكنني أجبتك لخصال خمس : إنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ووصيه . . . ) (6) .
محمد بن أبي بكر : بعث رسالة إلى معاوية يصف فيها أميرالمؤمنين بقوله : (هو

(1) تاريخ الطبري : ج 3 ، ص 288 .
(2) مجمع الزوائد : ج 9 ، ص 113 ؛ كنز العمال : ج 11 ، ص 610 ح 32952 .
(3) مجمع الزوائد : ج 8 ، ص 253 ؛ الفصول المهمة : ص 296 .
(4) مناقب ابن المغازلي : ص 141 ، ح 238 ؛ ميزان الإعتدال : ج 2 ، ص 273 .
(5) بالغات النساء : ص 37 ـ 38 .
(6) شرح نهج البلاغة : ج 3 ، ص 181 ـ 182 .
دفاع عن التشيع 313

وارث رسول الله ووصيه . . . ) (1) .
ومن لقب علياً عليه السلام بالوصي أبو ذر ، وحذيفة بن اليمان ، وحجر بن عدي ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وغيرهم (2) ، ولهذا يقول اليعقوبي : (كان المهاجرون والأنصار لا يشكون في علي) (3) .
وأكثر من ذلك ، ونتيجة للعقيدة الراسخة في مسألة النص في فكر الصحابة ، اضطر البعض منهم أن يراجع عمر بن الخطاب ويسأله أن ينص على من يخلفه (4) .

أهل البيت عليهم السلام ونظرية النص


يقف أهل البيت في طليعة المدافعين والعاملين لتركيز نظرية النص في الفكر الإسلامي ، ابتداءً من أول مظلوم في الإسلام ، وانتهاءً بالحسن العسكري عليه السلام وولده القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ، يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال مخاطباً الامة التي خلفت عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ورءاها : «الله الله لا تنسوا عهد نبيكم إليكم في أمري» (5) .
وسار ولده الإمام الحسن عليه السلام وثاني أئمة أهل البيت عليهم السلام على هذا المنوال ، فقال معرفاً بنفسه : «أنا ابن النبي ، وأنا ابن الوصي» (6) .
وركز ذلك المفهوم عندما قال بعد وفاة أبيه : «علي خاتم الأوصياء» (7) .
وطالب الامة الإسلامية بالانصياع لأهل البيت عليهم السلام لأنهم الامراء والقادة لهذا

(1) مروج الذهب : ج 3 ، ص 21 ؛ وقعة صفين : ص 118 .
(2) تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 165 ـ 183 ؛ وقعة صفين : ص 94 ـ 119 .
(3) تاريخ اليعقوبي : ج 2 ، ص 124 .
(4) الكامل في التاريخ : ج 3 ، ص 65 .
(5) الطبرسي ، الإحتجاج : ج 1 ، ص 183 .
(6) ذخائر العقبى : ص 239 .
(7) مجمع الزوائد : ج 9 ، ص 146 .
دفاع عن التشيع 314

الدين بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فقال مخاطباً إياهم : «اتقوا الله فينا ، فإنا امراؤكم» (1) .
واحتج ثالث أئمة أهل البيت الحسين بن علي عليهما السلام بحديث الغدير ، الذي يثبت الخلافة بالنص لا بالشورى على امة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، مطالباً إياهم بحفظ حقوق أهل هذا البيت التي غضبت (2) .
وكذلك منهج زين العابدين عليه السلام في الدفاع عن هذا الحق المغصوب لم يختلف عن منهج آبائه الذين سبقوه ، بل بنفس الاسلوب راح الإمام عليه السلام ينبه الامة من سباتها بقوله : «وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا ، واحتجوا بمتشابه القرآن ، فتأولوا بآرائهم . . . . فإلى من يفزع خلف هذه الامة ، وقد درست أعلام هذه الملة ، ودانت الامة بالفرقة والاختلاف ، يكفر بعضهم بعضاً ، والله تعالى يقول :«ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات» ، فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة وتأويل الحكم إلا أعدال الكتاب وأبناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، الذين احتج بهم على عباده ، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة ؟ هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا من فرع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ؟ » (3) .
واستمر أئمة الهدى ومصابيح الدجى على هذا المسلك في الدفاع عن حقهم وبأساليب مختلفة ، تبرعاً تارة ، واحتجاجاً اخرى ، والمتصفح للتراث الحديثي والتأريخي يجد هذا بوضوح عند أهل البيت عليهم السلام ، يقول الصادق عليه السلام : «أترون أن الوصي منا يوصي إلى من يريد ؟ لا ، ولكنه عهد من رسول اللله لرجل فرجل ، حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه» (4) .
ويجيب الإمام الصادق عليه السلام على سؤال المفضل عن تفسير قوله تعالى :«وجعلها كلمة باقيةً في عقبه» ، قال : «يعني بذلك الإمامة ، جعلها الله في عقب الحسين إلى يوم

(1) الصواعق المحرقة : ص 137 ، طبعة مصر ، 1312 هـ .
(2) كتاب سليم : ج 2 ، ص 791 ؛ الغدير : ج 1 ، ص 397 ـ 398 .
(3) الصواعق المحرقة : ج 2 ، ص 443 ـ 444 ، في تفسير الآية : «واعتصموا بحبل الله جميعاً» .
(4) الكافي : ج 1 ، ص 337 ـ 334 ، ح 2 ، باب 60 .
دفاع عن التشيع 315

القيامة» .
ولم يكتف المفضل بهذا الجواب ، بل راح يسأل عن السر وراء جعل الإمامة في ولد الحسين عليه السلام دون ولد الإمام الحسن عليه السلام ، وهما سبطا رسول الله صلى الله عليه وآ له وسلم ، وسيدا شباب أهل الجنة ، فأجابه الصادق عليه السلام : «إن موسى وهارون كانا نبيين مرسلين أخوين ، فجعلها الله في صلب هارون دون صلب موسى ، ولم يكن لأحد أن يقول : لم فعل الله ذلك ؟ فإن الإمامة خلافة الله عزوجل ، ليس لأحد أن يقول لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن ؟ لأن الله هو الحكم في أفعاله ، لا يسأل عن فعله وهم يسألون» (1) .
وهل هناك أوضح من هذا الدفاع عن المنهج الرسالي في الخلافة والإمامة ؟ !
وهكذا سار الإمام موسى الكاظم عليه السلام في دفاعه عن منصبه الذي نصبه الله فيه ، فقال للرشيد : «أنا إمام القلوب ، وأنت امام الجسوم» (2) .
وأما علي بن موسى الرضا فقد ذكر لأهل نيشابور حديث السلسلة الذهبية : لا إله إلاالله حصني ، فمن دخل حصني آمن من عذابي» . وذكر لهذا الحديث تلك السلسلة الذهبية ـ آباءه الطاهرين ـ التي يقول عنها أحمد بن حنبل : (لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنته) (3) .
فعندما ذكر الرضا عليه السلام ذلك لأهل نيشابور ، أخرج رأسه من راحلته وقال لهم : «بشروطها ، وأنا من شروطها» (4) .
بل أكثر من ذلك جعل الإمام الرضا عليه السلام طاعته مفروضة على الناس ، فقال له أحدهم يوماً : طاعتك مفروضة ؟ فقال : «نعم»، وأراد ذلك الرجل أن يعرف أن هذه الطاعة هي نفس تلك الطاعة التي امتلكها علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقال له : مثل طاعة

(1) بحار الأنوار : ج 12 ، ص 66 ، باب 3 ، ح 12 .
(2) الصواعق المحرقة : ج 2 ، ص 592 .
(3) مناقب آل أبي طالب : ج 4 ، ص 341 ـ 342 .
(4) نقله في مجلة للسنة الأولى ص 415 عن صاحب تاريخ نيسابور ؛ عيون أخبار الرضا : ج 1 ، ص 145 .
دفاع عن التشيع 316

علي بن أبي طالب ؟ فقال : «نعم» (1) .
ويتعجب الإمام من بعض أصحابه الذين يريدون ان يحددوا تكليف الإمام في إظهار أمره ، فقال له الحسين بن مهران : قد أتانا ما نطلب إن أظهرت هذا القول ، قال : «تريد ماذا ؟ أتريد أن أذهب إلى هارون فأقول له : إني إمام وأنت لست شيء» (2) .
إذن ، النص والوصية هو المنهج الذي سار عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام في توعية الامة وتعريفها بأئمتها وامرائها ، ولا يسع المجال هنا لذكر أقوال وتقريرات أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذا الخصوص ، والتي ملأت كتب الشيعة والسنة المترجمة لحياتهم .

الفكر السياسي الأموي

المتتبع للأحداث السياسية المتداعية بعد عهد الخلفاء الأربعة يجد أن الفكر السياسي العام قائم على أساس الوصاية والنص بالخلافة (الأرض لله وأنا خليفة الله) (3) .
وهذه الدعوة لم تكن اعتباطية وشعاراً طرح من دون جدوى ، بل كان لهذا المصطلح (خليفة الله) الأثر الكبير في نفوس الناس ، وفي ارتكازات الفكر السياسي الموروث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، ولهذا ادعى الأمويوين أن الله هو الذي نصبهم في أماكنهم التي اغتصبوها من أهل البيت عليهم السلام ، وكما قال الحجاج بن يوسف : (إن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان استخلفه الله في بلاده وارتضاه إماماً على عباده . . . ) (4) .
وتشبث الأمويون بهذه المصطلحات لما لها من امتيازات خاصة في الفكر الإسلامي ترفد من يحملها بالدعم الشرعي والشعبي ، وعلى مختلف الأصعدة والميادين ، ولهذا يقول الوليد بن يزيد في بيعته : (استخلف الله خلفاءه على منهاج نبوته حين قبض نبيه) (5) .

(1) الكافي : ج 1 ، ص 243 ؛ مسند الإمام الرضا : ج 1 ، ص 103 ، ح 39 .
(2) كشف الأستار : ج 1 ، ص 432 .
(3) أنساب الأشراف : ج 4 ، ص 117 .
(4) الإمامة والسياسة لابن قتبية: ج 2 ، ص 25 .
(5) تاريخ الطبري : ج 5 ، ص 529 .
دفاع عن التشيع 317


ويوضح هذا الادعاء ، وهذا الاستخلاف ، أن المسألة لم تكن شورى ، بل هي نص إلهي على خلافة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم .
وبث الأمويون دعاتهم في الأمصار ليبلغوا بهذا الدستور الإسلامي الصحيح الذي صرفوا مصاديقه وأبقوا المفهوم على حاله ، يقول روح بن زنباع الجذامي لأهل المدينة حين أبطأوا عن بيعة يزيد : (إنا لا ندعوكم إلى لخم وجذام وكلب ، ولكنا ندعوكم إلى قريش ومن جعل الله له هذا الأمر واختصه به ، وهو يزيد بن معاوية) (1) .
فحرف ابن زنباع مصاديق مفهوم النص والوصية ؛ ليحول الشرعية من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى يزيد الذي كفره القريب والبعيد .
واعترف أحمد الكاتب بهذا الفكر السياسي الأموي ، وقال : (إن الأمويين كانوا يقولون للمسلمين : إن الله اختارهم للخلافة وآتاهم الملك) (2) .
وراح الأمويون يلصقون مفهوم العصمة بهم ، وأطلق الحجاج لقب المعصوم على عبد الملك بن مروان ، وقال في رسالة وجهها إليه : (لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين ، المؤيد بالولاية ، المعصوم من خطل القول وزلل الفعل بكفالة الله الواجبة لذوي أمره) (3) .
فالفكر السياسي الأموي قائم على مفاهيم الوصية والنص والعصمة من الله تعالى ، لما لتلك المفاهيم من شرعية اكتسبتها من أحاديث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم .
إذن ، ليس للشورى نصيب في الفكر السياسي الإسلامي في عصوره الأولى .
أما الفكر العباسي فكان يقوم على مفهوم النص والوصية من علي عليه السلام إلى ابنه محمد بن الحنفية ، وإلى أبي هاشم .
فكل تلك الأفكار كانت مبنية على مفاهيم الولاية والنص والعصمة ، فاين مبدأ الشورى الذي يقره أحمد الكاتب دستوراً للمسلمين ؟ ولا يتوقع أحد أن الأمويين

(1) البيان والتبيين : ج 1 ، ص 392 .
(2) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 47 .
(3) العقد الفريد : ج 5 ، ص 25 .
دفاع عن التشيع 318

والعباسيين طرحوا مفهوم النص والوصية اعتباطاً ، بل كان أمراً مدروساً ليكسبوا الشرعية بحرف المصداق فقط ، وإبقاء هذه المفاهيم على حالها .
ولما لم يجد الكاتب في كل الأفكار السياسية التي طرحت ابتداءً من الخلفاء الأربعة وإلى الفكر الأموي ، ثم العباسي ـ عندما لم يجد منفذاً ـ راح يعلق أخطاءه المنهجية على العصمة ، ويجعل ذلك المفهوم رد فعل من قبل الشيعة إلى ما طرحه الأمويون ، فقال : (وربما كان ادعاء العصمة للإمام ـ من أهل البيت ـ رد فعل من بعض الشيعة على قيام الأمويين بتعيين من بعدهم) (1) .
وهذا القول يمكن تصديقه إذا كانت العصمة مدعاة من قبل الشيعة لأهل البيت عليهم السلام ، أما إذا كانت العصمة ثابتة لهم بنص القرآن ، وباعتراف المفسرين السنة والشيعة ، فيكون قول أحمد الكاتب زخرفاً .
يقول الرازي في تفسيره لآية التطهير :«إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً» ، يقول : (إن الرجس قد يزول عيناً ولا يطهر المحل ، فقوله تعالى«ليذهب عنكم الرجس» أي يزيل عنكم الذنوب «ويطهركم» أي يلبسكم خلع الكرامة) (2) .
و(ال) في كلمة «الرجس» لا يمكن أن تكون عهدية لخلو ما سبق من الآيات من أي كلام حول الرجس ، فهي إما جنسية أو استغراقية ، وهذا المعنى شامل لنفي جميع أنواع الرجس صغيراً أو كبيراً . فالعصمة ثابتة لأهل البيت نص القرآن .
أما أهل البيت التي عنتهم الآية فهم : فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام ، وصرح بذلك الترمذي ومسلم والحاكم الحسكاني والحاكم في مستدركه والهيثمي (3) .
ومن بعدهم من ولدهم بدليل قول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «يخرج رجل من أهل بيتي . . . »

(1) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 47 .
(2) تفسير الفخر الرازي : ج 25 ، ص 181 .

(3) سنن الترمذي : ج 5 ، ص 657 ، ح 3871 ؛ مسند أحمد : ج 6 ، ح 25969 ؛ صحيح مسلم : ح 2424 ؛ شواهد التنزيل : ج 2 ، ص 62 ؛ المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 172 ، ح 4748 ؛ مجمع الزوائد : ج 9 ، ص 167 .
دفاع عن التشيع 319

ويقصد به المهدي المنتظر (عج) ثاني عشر الأئمة عليهم السلام .
فالعصمة بنص القرآن ثابتة ومصاديقها بنص رسوله مشخصة وليست هي ادعاء للشيعة أمام الأمويين ، كما قال الكاتب .
أضف إلى ذلك قول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون» (1) .

نظرية الإمامة العباسية

من الامور المهمة التي اعتمد عليها الكاتب في نظرية الشورى هي المعارضة العباسية ؛ لأن الأمر لو كان نصاً لما حدثت هذه المعارضة وبهذا الحجم ، وسنتطرق إلى هذه المسألة بالتفصيل ، فنقول :
قبل التعرف على أوصياء بني العباس لابد من تنقيح مسألة مهمة ترتكز عليها مسألة الوصية في بني العباس ، ألا وهي تحديد شعارات الفكر العباسي الأول الذي انطلق لاستلام السلطة ، فما هو الشعار المعبر عن ذلك الفكر الذي طرحه العباسيون ، والتفت فصائل المقاومة حوله بمجرد سماعه .
وبمطالعة الرواية التأريخية نجد أن أول شعار طرح لاستنهاض الناس ضد الأمويين هي الدعوة للرضا من آل محمد ، وهذا الشعار كان واضح المعاني في الفكر الإسلامي ، ولا يشك أحد أن آل محمد هم ابنا علي : الحسن والحسين ، وكان هذا الشعار يؤلف الفصائل ويجمعها لتحقيق الهدف ، لأن كلمة اهل البيت هي السحر الذي يؤلف قلوب مختلف طبقات الشعب ، ويجمعهم حول الراية السوداء (2) .
ولهذا يعتذر أبو مسلم الخراساني الممهد الأول للدولة العباسية بعد القتل والتشريد لآل الرسول يعتذر بقوله : (وزويت الأمر عن أهله ووضعه في غير محله) (3) .

(1) ينابيع المودة : ج 3 ، ص 384 ، باب 94 .
(2) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : جلد 1 ، ج 1 ، ص 532 .
(3) تاريخ بغداد : ج 10 ، ص 206 ـ 207 .
دفاع عن التشيع 320

وواضح معنى (زويت الأمر عن أهله ووضعته في غير محله) ، بأنه استنهض الناس للرضا من آل محمد ، ثم بعد ذلك وعندما استتبت الامور تغيرت المصاديق لذلك الشعار ، وادعى العباسيون الوصاية من طريق أبي هاشم بن محمد بن الحنفية ، وقد لاقت هذه القصة بعض القبول في بعض المناطق الإسلامية كما يقول أحمد أمين .
ولكن لو استجوبنا التاريخ ، كيف ادعى العباسيون الوصاية من أبي هاشم . أجاب ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي حيث قال : (لما مات علي أمير المؤمنين عليه السلام طلب محمد بن الحنفية من أخويه الحسن والحسين ميراثه من العلم ، فدفعا إليه صحيفة لو أطلعاه على غيرها لهلك ، وكان في هذه الصحيفة ذكر لدولة بني العباس ، فصرح ابن الحنفية لعبد الله بن العباس بالأمر وفصله له) (1) .
إذن ، توجد صحيفة من ميراث علي عليه السلام عند محمد بن الحنفية ، اطلع عليها عبد الله ابن العباس ، ويبقى سؤال يقول : كيف وصلت هذه الصحيفة لبني العباس ليجعلوها وثيقة مهمة من وثائق الدولة العباسية الرسمية ؟
والجواب على ذلك : أن هذه الصحيفة وصلت إليهم من طريق أبي هاشم عبد الله ابن محمد بن الحنفية ، الذي نهض بالثورة ضد الأمويين ، فلقد قيل : إن عبد الله هذا اجتمع مع محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ومعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وهؤلاء الثلاثة هم الذين حضروا وفاة أبي هاشم هذا ، وأطلعهم على أهداف ثورته (2) .
وبعد أن توفي أبو هاشم هذا ، ادعى كل من محمد بن علي ومعاوية بن عبد الله بن جعفر الوصاية منه ، وهذا الادعاء يكشف عن امور :
1 ـ أن أبا هاشم لم يوص لأحد منهما ، وإلا لما اختلفا في ذلك ، وخصوصاً أن عبد الله بن الحارث بن نوفل كان حاضراً ذلك الاجتماع ولم يؤيد أحداً .

(1) شرح نهج البلاغة : ج 7 ، ص 149 ـ 150 .
(2) الحياة السياسية للإمام الرضا : ص 29 .
دفاع عن التشيع 321


2 ـ إن هؤلاء اطلعوا على تلك الصحيفة من هذا الطريق ، ولهذا ادعى كل واحد منهم الوصاية ، ليكون له السبق في تأسيس تلك الدولة الموعودة .
إلى هنا تبين أن ميراث علي عليه السلام كان فيه صحيفة ، ذكرت دولة بني العباس ، وصرحوا بذلك عندما قال داود بن علي وهو والي مكة آنذاك من قبل أخيه السفاح ، قال : (إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خليفة إلا علي عليه السلام وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي) (1) ، يعني السفاح .
إلى هنا نجد أن العباسيين ورثوا الخلافة من صحيفة لميراث علي ، اطلع عليها محمد ابن الحنفية ، ثم ولده أبو هاشم ، ثم سرت في ولد ابن الحنفية ، ومن ثم إلى العباسيين الذين ادعوا الوصاية من أبي هاشم ، وهذه الصحيفة وإن كانت هي إنباء عن غيب ، لكن حاول العباسيون غش المسلمون بأنها وصية جاءت من علي بن أبي طالب عليه السلام .
ولكن بقي سؤال : إذا كانت من علي بن أبي طالب عليه السلام وهي كما تزعمون وصية ، فلماذا سرت في بني العباس ولم تسر في ولد الحسن والحسين عليهما السلام ؟ فلابد للعباسيين أن يجيبوا عن هذا التساؤل .
ولم يجد العباسيون طريقاً لذلك إلا من خلال تغيير سلسلة الوصاية ، وحذف اسم علي بن أبي طالب عليه السلام ، وتعديل البنود ، فهدد هارون الرشيد أبا معاوية الضرير وهو أحد محدثي المرجئة ، وقال له : (هممت أنه من يثبت خلافة علي فعلت به وفعلت) ، ولم يقف العباسيون عند هذا الحد ، بل أسسوا فرقة الراوندية ، أسسها المهدي ، وجعلت هذه الفرقة العباس هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ثم لعبد الله بن العباس ثم . . . حتى يصل الأمر إليه (2) .
إذن ، عدل البند ، وجعل مصدر السلسلة العباس بن عبد المطلب ؛ حتى لا يطالب أبناء الحسن والحسين بالخلافة والوصية ، ونحن هنا لا نريد من البحث أكثر من ذلك ، وإلا فقد بقي من الكلام مزيد .

(1) مروج الذهب : ج 3 ، ص 282 ؛ تاريخ الطبري : ج 6 ، ص 84 ؛ تاريخ اليعقوبي : ج 3 ، ص 97 .
(2) فرق الشيعة : ص 62 ـ 63 ؛ تاريخ ابن خلدون : ج 3 ، ص 218 ؛ مروج الذهب: ج 4 ، ص 236 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي