دفاع عن التشيع 401

باقيةً في عقبه» ، والإمامة في عقب الحسين بن علي بن أبي طالب إلى يوم القيامة» (1) .
وكذلك قال أبوجعفر عليه السلام : «يكون تسعة أئمة بعد الحسين بن علي ، تاسعهم قائمهم» (2) . وروى الكافي هذا الحديث بسند صحيح جداً .
إذن ، الإمامة لعلي بنص القرآن ، ولولده بنص رسول الله صلى الله عليه واله وسلم .
ولم ينقل الكاتب هذه النصوص للقارئ ليطلع على حقيقة الأمر ، واكتفى بالإشارات إلى ذلك من دون تعليق (3) .

الإمامة في مواجهة الظروف الموضوعية

حملت الإمامة امتيازات خاصة حصلت عليها من إشارات القرآن ، وتأكيدات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومن هذه الامتيازات قول خزيمة بن ثابت : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول : «أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل ، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم» (4) ، وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول : «الأمر لعلي بعدي ، ثم للحسن والحسين ، ثم في أهل بيتي من ولد الحسين» (5) . ونتيجة لذلك هنأ عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب بقوله : ( بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة) عندما قلد الرسول صلى الله عليه واله وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام وسام الولاية .
وبقيت هذه الفكرة في أذهان الصحابة والمؤمنين ، ولكن وبعد أن اقصي من يمثلها بالقوة نتيجة : (كره العرب أن تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد) على حد تعبير عمر بن الخطاب (6) ، ظلت هذه الفكرة عرضة لقراصنة السياسة من الأمويين

(1) كمال الدين : ص 303 ، ح 8 .
(2) الكافي : ج 1 ، ص 599 ، باب 126 ، ح 15 .
(3) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 58 .
(4) الاحتجاج : ج 1 ، ص 197 .
(5) الخصال : ج 2 ، ص 544 ، باب الاثني عشر ، ح 5 .
(6) الكامل لابن الأثير : ج 3 ، ص 63 ، سيرة عمر سنة 23 ؛ تاريخ الطبري : ج 3 ، ص 289 .
دفاع عن التشيع 402

والعباسيين وغيرهم ، ليحصلوا على امتيازاتها ، واستمر أئمة أهل البيت عليهم السلام رغم الإقصاء المتعمد يدافعون عن هذا المنصب مستغلين ظروف الدولة .
فالإمامة كانت ولا زالت واضحة في الفكر الإسلامي ، ولكن مصداقها تارة يدافع ويعلن نفسه ، واخرى يكتم ذلك ؛ للظروف التي تحيط به ، فعلي عليه السلام أعلن نفسه للامة ، واستنكر على اولئك المتربصين بهذا المنصب عملهم ، وقال : «أومنهم من ينكر حقنا» ، وراح يعاتب الامة على ما فعلوه بقوله : «فياعجبي ! ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرقة على اختلاف حجمها في دينها ، لا يقتصون أثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصي» (1) .
وصرح أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة بقوله : «ولا تصلح الإمامة والخلافة إلا فينا» (2) ، وراح يناشد البدريين بحقه ، كما حدث بذلك أحمد بن حنبل والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن كثير (3) ، واستمر أمير المؤمنين عليه السلام بالمطالبة العلنية ، ولكن أحكمت الدولة قبضتها على الامة ، ولم تنفع الاحتجاجات آنذاك .
فجاء من بعده ولده الحسن ، وطالب بمنصب أبيه أيضاً ، وخاطب الناس بكون علي خاتم الأوصياء ، ثم راح عليه السلام يطالبهم بمميزات هذا المنصب وهي الطاعة له ، فقال لهم : «ألا تعلمون أنني إمامكم مفترض الطاعة عليكم» (4) ، وناشد عدي بن حاتم الامة بهذا النمط من الخطاب بقوله : (ألا تحبيبون إمامكم وابن بنت نبيكم) (5) .
وجاء الحسين بن علي ليطالب الامة علناً بحفظ الحقوق ، فناشدها بحديث الغدير الذي أثبت الخلافة لعلي وأولاده من بعده (6) ، وانتفض على الوضع القائم بثورة دوت

(1) نهج البلاغة : ص 143 ، الخطبة 88 .
(2) الإحتجاج : ج 1 ، ص 353 .
(3) مسند أحمد : ج 1 ، ح 642 و 672 و 953 ؛ سنن النسائي : رقم 8542 ؛ سنن الترمذي : ج 5 ، ح 3713 ؛ سنن ابن ماجه : ج 1 ، ح 116 و 121 .
(4) كمال الدين : ص 296 ـ 297 ، باب 29 ، ح 2 .
(5)شرح نهج البلاغة : ج 16 ، باب 31 ، ص 38 .
(6) كتاب سليم : ج 2 ، ص 791 ، ح 26 .
دفاع عن التشيع 403

في ربوع المناطق الإسلامية ، دوت بشعاراتها التي حملتها زينب ووصيه علي بن الحسين عليهما السلام ، ولكن وبعد أن استقر الأمر ليزيد مدة من الزمن ، ادعى كما ادعى أبيه من قبل ، بأنه خليفة الله ، وراح يحارب مصاديق الإمامة الإلهية التي طرحها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، ولكن شيئاً فشيئاً صار المصداق مكتوماً ، وصارت الإمامة كما يقول الحسين ابن عبد الوهاب : (صارت الإمامة في عصر الإمام مكتومة مستورة إلا من اتبعه من المؤمنين) (1) .
وهكذا راح الأئمة عليهم السلام من ولد علي عليه السلام ينظرون إلى الموقف ، وإلى الظروف التي تحيط بهم .
وبدأ الطغاة يبثون العيون ، وخصوصاً أبا جعفر المنصور ، كما يقول الكليني ، فلقد بث جواسيسه في المدينة ينظرون إلى من تتفق شيعة جعفر عليه فيضربون عنقه (2) ، ولام هشام بن سالم نفسه عندما كلم رجلاً من بني مخزوم بالإمامة وظل خائفاً للأجواء المحيطة بالإمام الصادق (3) .
وتسابق كل من الأمويين والعباسيين بهذه السياسات الإرهابية للحصول على هذا المنصب ، فراح العباسيون يعدون سلسلة الوصاية بحيث جعلوا جذرها يرتوي من علي بن أبي طالب عليهما السلام ، ولكن عندما عملوا أن أولاد علي الحسن والحسين وأولادهم أحق منهم بالمطالبة ، عدلوا هذا البند ، وجعلوا الجذر يرتوي من العباس مباشرة ، والظروف هي التي كانت تحدد موقف الإمام ، فتارة يعلن إمامته ويدافع عنها واخرى يكتم أمره ويأمر أصحابه بعدم إذاعة السر ؛ لضعف الناصر ، وقلة العدد .
هذه هي الظروف التي عاشتها الإمامة ، ولابد أن تؤخذ في الحساب عندما تبحث هذه المسألة ، وكل من حاول أن يحدد موقف الإمام بدون هذا الواقع وبدون تلك المقدمات تصبح دراسته ناقصة غير موصلة إلى نتيجة سليمة ، وبهذا وقع أحمد

(1) عيون المعجزات : ص 67 .
(2) الكافي : ج 1 ، ص 412 ، باب 7 .
(3) معجم رجال الحديث : ج 19 ، ص 298 .
دفاع عن التشيع 404

الكاتب عندما رأى أن بعض الأئمة أمروا أصحابهم بعدم إذاعة السر ، وبعضهم عمل على خلاف ذلك ، راح يشكك بنظرية الإمامة الإلهية ، ناسياً أن فكرة الإمامة لم تختف من الفكر الإسلامي قط ، والذي حصل أن هذا الإمام أو ذاك أخفى نفسه خوفاً على الموقع الذي يشغله في الإسلام ، وعندما علم الكاتب أن القارئ ليس غافلاً عن هذه الظروف راح يبحث عن زاوية اخرى ، وهي البيت العلوي وشخصياته الذين نقل التاريخ عن مواقفهم ببعض الروايات التي اسيء فهمها ، وجعلها ضربة جديدة لنظرية الإمامة ، والشخصية المقصودة هي شخصية زيد بن علي بن الحسين عليه السلام ، وما دار من حوار بني زيد وبين مؤمن الطاق ، فقال الكاتب : (إن زيداً قد فوجئ بالإمامة ، واستغرب أن يكون الإمام السجاد والد زيد قد أخبر مؤمن الطاق ولم يخبره) (1) ، ولكن الكاتب تناسى قول زيد في الإمامة : وما نقله حول إمامة الاثني عشر لولده يحيى ، وعندما سأله ولده هل أنت منهم ، قال : (لا ، ولكني من العترة) ، ولهذا ترحم عليه الصادق عليه السلام ، وأخبر أصحابه أن زيداً «كان مؤمناً وكان عارفاً ، وكان عالماً ، وكان صدوقاً أما إنه لو ظفر لوفى» (2) ، فهذه الصفات والألقاب التي حازها زيد من الإمام الصادق عليه السلام تنم عن وفاء زيد ودرايته بالأمر ، والسر الذي أدى بالكاتب وغيره من المؤلفين إلى القول الخاطئ بحق زيد هو ذلك الحوار الذي دار بين زيد عليه السلام وبين مؤمن الطاق ، فلقد كان حواراً تلفه السرية التامة في مسألة الإمامة ، ولم يتوصل مؤمن الطاق إلى القصد الحقيقي لزيد ، ولأجل أن يقف القارئ على حقيقة الأمر ننقل ذلك الحوار بالكامل ، وللثمرات الجمة التي تحتويها هذه المقابلة .
تقول الرواية : (إن زيداً بعث إلى مؤمن الطاق ـ وهو الذي يتكلم ـ فقال لي : يا أبا جعفر ، ما تقول إن طرقك طارق منا ، أتخرج معه ؟ قال : فقلت له : إن كان أباك أو أخاك خرجت معه . قال : فقال لي : فأنا اريد أن أخرج اجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي . قال : قلت : لا ، ما أفعل جعلت فداك . قال : فقال لي : أترغب بنفسك عني ؟ قال :

(1) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 75 .
(2) معجم رجال الحديث : ج 7 ، ص 347 .
دفاع عن التشيع 405

قلت له : إنما هي نفس واحدة ، فإن كان لله في الأرض حجة فالمتخلف عنك ناج والخارح معك هالك وإن لا تكن لله في الأرض حجة فالمتخلف عنك والخارج معك سواء . قال : فقال لي : يا أبا جعفر ، كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقةً علي ، ولم يشفق علي من حر النار ، اذ اخبرك بالدين ولم يخبرني به ؟ فقلت له : جعلت فداك من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك ، خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار ، وأخبرني أنا ، فإن قبلت نجوت ، وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار . . . . . فقال زيد : أما والله ، لئن قلت ذلك لقد حدثني صاحبك ـ الإمام الصادق عليه السلام ـ بالمدينة أني اقتل واصلب بالكناسة ، وأن عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي) (1) .
وحملت هذه الرواية ثمرات عديدة :
الثمرة الأولى : اعتراف صريح وواضح بأن الفكر الإمامي قائم على مسألة الإمامة الإلهية ، وهذا الاعتراف في زمن الإمام الصادق عليه السلام ، وعلم الصادق عليه السلام بذلك وعدم ردعه يفند قول الكاتب بأن الإمامة فكرة حادثة .
الثمرة الثانية : قول زيد بن علي : (لقد حدثني صاحبك بالمدينة أني اقتل واصلب بالكناسة ، وأن عنده صحيفة فيها قتلي وصلبي) ، وهو اعتراف من زيد عليه السلام بإخبار الصادق له عن المغيبات ، وبنفس هذا الإخبار نكتشف أن لزيد مكانة عند الصادق عليه السلام ، وإلا لما أخبره بهذا الخبر خوفاً من أن ينتشر ويقتل زيد غير هذه القتلة التي أخبر بها الصادق ، فيكذبوا الصادق عليه السلام عندها ويسقطوه من أعين الناس .
الثمرة الثالثة : عدم إحاطة مؤمن الطاق بمقولة زيد (كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة . . . ) ، فهذا استنكار واضح من قبل زيد بن علي على مؤمن الطاق ، بأنه كيف أن السجاد لا يخبرني بالإمامة ويخبره ، كلا بل أخبرني أي بالإمامة وأنا خارج اجاهد هؤلاء بأمر إمامي أخبرني حتى بقتلي وصلبي ، ولم يخبرني بالإمامة ؟ أي أخبرني حتى في الجزئيات ، فكيف لا يخبرني بالكليات ، وهذا ما

(1) معجم رجال الحديث : ج 7 ، ص 347 .
دفاع عن التشيع 406

ذهب إليه السيد الخوئي (1) .
مع أن زيداً نفسه قال : (الأئمة اثنا عشر . . . ) ، وإن (جعفر إمامنا في الحلال والحرام) (2) .
وعندما اغلقت كل النوافذ أمامه راح يتشبث بعلم الغيب لكي يخرجه من مأزقه ، وعندما بحث ولم يجد رواية واحدة صريحة ينفي فيها أحد الأئمة علم الغيب عن نفسه ، لجأ إلى تزوير الأحاديث ، فقال : (وكانت النظرية الإمامية في البداية تقوم على موضوع علم الأئمة بالغيب كطريق لإثبات ارتباط الإمام بالله ، ولكن الإمام الصادق كان دائماً ينفي عمله بالغيب ويقول بصراحة : «يا عجباً لأقوام يزعمون أن نعلم الغيب») (3) .
وحاول الكاتي النفوذ إلى نظرية الإمامة من هذا الطريق ، مستدلاً بحديث يدل بظاهره على نفي الإمام العلم بالغيب ، وهذا الحديث جاء عن الصادق عليه السلام قائلاً : «ويا عجباً لأقوام يزعمون أن نعلم الغيب» (4) .
ولم يترك الإمام الصادق عليه السلام الفرصة لأحمد الكاتب وغيره كي يستغل هذا الحديث ، فذكر الصادق عليه السلام في ذيل هذا الحديث مباشرة ، وبعد ما قام من مجلسه ، ذكر لأصحابه بعدما سألوه : لماذا هذا القول ؟ قال لهم : إن لديه علم الكتاب كله ، وأن الذي جاء بعرش بلقيس إلى سليمان علمه علم من الكتاب ، وإن نسبة علم هذا إلى علم الإمام كقدر قطرة من المطر في البحر الأخضر (5) .
ولكن ـوللأسف ـ قطع أحمد الكاتب هذا القسم من الحديث ، ونقل صدرالحديث الذي نطق به الإمام في مجلس عام ، فالكاتب لم يدرس أجواء الرواية والحديث ، بل أخذ المقطع الذي ينفعه من دون روية ودراسة ، بالإضافة إلى أنه غير أمين في

(1) معجم رجال الحديث : ج 7 ، ص 355 .
(2) معجم رجال الحديث : ج 7 ، ص 347 .
(3) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 77 .
(4) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 77 .
(5) بصائر الدرجات : ص 230 ـ 231 ، ح5 .
دفاع عن التشيع 407

نقله للأحاديث .
ثم يقول الكاتب : (إن الإمام الصادق كان دائماً ينفي علمه بالغيب) (1) .
فلو تفضل علينا الكاتب ونقل لنا رواية واحدة خالصة تدل على أن الإمام نفى عنه علم الغيب الذي أعطاه الله لنبيه ، وعلمه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى أوصيائه ، وبما أنه لم يجد ذلك استشهد بالرواية أعلاه التي يلف صدرها جو التقية ، وأما ذيلها بعدما انفض المجلس ـ كما تقول الرواية ـ ففيه تصريح الإمام لأصحابه بمقدار علمه .
ثم راح أحمد الكاتب يستدل برواية تقول : إن الإمام أخبر أصحابه بأن عليهم عيناً ، ولم ير اولئك الأصحاب ذلك العين ، فقال الكاتب معقباً على الرواية بأنها تحمل التناقض في نفسها ، لأنه الإمام يخبرهم عن العين وأصحابه لم يشاهدوه ، وراح يشنع على الشيعة بذلك ، ونسي الكاتب أن الرواية ضعيفة بإبراهيم بن إسحاق الأحمر الذي يقول النجاشي بحقه : (ضعيفاً في حديثه مموهاً) (2) ، وكذلك قال الطوسي : (ضعيفاً في حديثه ، متهماً في دينه) (3) .
ونحن هنا نريد أن ننبه الكاتب على أن الباحث عليه أن يطمئن للروايات التي يستدل بها ، وليس من قصدنا تضعيف الرواية ، لأنه على فرض صحة الرواية ، فإنه لا يوجد فيها أي تناقض ، لأن إخبار الإمام بان عليهم عيناً لا يستلزم معرفتهم به ، أضف إلى ذلك أنها معارضة بجم غفير من الروايات التي حفلت بها كتب الشيعة ، والتي تصرح بأن الأئمة لهم علم خاص ورثوه من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، كما صرح بذلك الإمام الصادق عليه السلام (4) .
ثم شن الكاتب هجومه الجديد على الشيعة حول مسألة التقية ، وجعلها ظاهرة

(1) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 77 .
(2) رجال النجاشي : ص 19 ، رقم 21 .
(3) معجم رجال الحديث : ج 1 ، ص 204 ـ 206 / 102 .
(4) بصائر الدرجات : ص 129 .
دفاع عن التشيع 408

حديثة في الإسلام أطلقها الإمامية (1) . وسنلاحظ ذلك في بحث مستقل إن شاء الله تعالى .

الوكالة منهج الأئمة للاتصال بشيعتهم

اعتمد أئمة أهل البيت منهجاً في الاتصال بالشيعة في مختلف بقاع الأرض ، وهو منهج الوكالة ، أو مال يسمى اليوم بالسفارة ، وهذا المنهج ليس هو بالجديد المبتكر ، فهو وسيلة الاتصال القديمة والحاضرة لكل دولة برعاياها البعيدين عنها ، يقول أحمد بن إسحاق : قلت للإمام الهادي : يا سيدي أنا أغيب وأشهد ، ولا يتهيأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كل وقت ، فقول من نقبل وأمر من نمتثل ؟
فأجابه الإمام : «هذا أبو عمرو الثقة الأمين ، ما قاله لكم فعني يقول ، وما أداه إليكم فعني يؤدي» (2) .
وأبو عمرو هذا عثمان بن سعيد العمري ، وهو وكيل الإمام الهادي والعسكري عليهما السلام والمهدي (عج) ، والذي يقول السيد الخوئي بحقه : (والروايات في مدحه وجلالته متظافرة) (3) . وأما الكاتب فيقول بحق تلك الروايات : (ضعيفة سنداً ومتناً) (4) .
فهو والسيد الخوئي في وثاقة العمري على طرفي نقيض ، واتهم العمري باستصحاب الوكالة ، بينما نجد الشيعة عندما يتوفى الامام السابق يسألون اللاحق عن وضع الوكلاء ، فبالرغم من التوثيق الذي أصدره الهادي بحق أبي عمرو عثمان بن سعيد العمري ، جاء السائل إلى العسكري مباشرة يسأله بهذا السؤال ، وهو عمن نأخذ وممن نقبل ؟ فأجابه العسكري عليه السلام بنفس جواب الهادي عليه السلام :
هذا أبو عمرو الثقة الأمين ، ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات ، فما قاله لكم فعني

(1) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 78 .
(2) الغيبة للطوسي : ص 215 .
(3) معجم رجال الحديث : ج 11 ، ص 112 ، رقم 7591 .
(4) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 226 ـ 227 .
دفاع عن التشيع 409

يقول ، وما أداه إليكم فعني يؤدي» (1) .
ولهذا كان عبد الله بن جعفر والشيعة يسألون العمري بحق التوثيقين الصادرين من الهادي والعسكري أن يخبرهم بخبر الإمام الحجة (2) .
فتجاهل الكاتب كل تلك الاستفسارات والتأكيدات من قبل الشيعة على الوكيل ، وصير هذا المنصب للمستصحبين ، كل من يستصحب الوكالة السابقة فهي له ، متناسياً متابعات الشيعة الدقيقة حتى للخط الصادر من الإمام ، ومقارنته بالخطوط القديمة ، خوفاً من التزوير والتلاعب ، ولهذا يقول أحدهم :
(كانت تخرج من عثمان وابنه محمد توقيعات بالخط الذي كان يخرج في حياة الحسن العسكري) (3) .
كل ذلك تجاهله الكاتب ، ورمى الشيعة بأنهم يتعلقون بالوكلاء لأنهم يخبرونهم عن الغيب ، بينما نجد الكثير من التوقيعات تتعلق بمسائل شرعية وعقائدية وما إلى ذلك .
ولم يكتف بذلك ، بل نفى ومن دون مناقشة أي نص حول وكالة محمد بن عثمان بن سعيد العمري (4) .
بينما نجد العسكري عليه السلام يقول : «إن عثمان بن سعيد العمري وكيلي ، وإن ابنه محمد وكيل ابني مهديكم» (5) .
بالإضافة إلى قول الإمام المهدي (عج) : «محمد بن عثمان العمري فإنه ثقتي وكتابه كتابي» (6) .

(1) الغيبة للطوسي : ص 215 .
(2) الغيبة للطوسي : ص 215 .
(3) الغيبة للطوسي : ص 216 .
(4) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 277 .
(5) الغيبة للطوسي : ص 216 .
(6) كمال الدين : ص 440 ، باب التوقيعات .
دفاع عن التشيع 410


ولم يناقش الكاتب ذلك لا سنداً ولا متناً ، بل اكتفى بعبارة إعلامية تنفي نص الوكالة لمحمد بن عثمان العمري ، والعجيب أنه قال : (لم يذكر المؤرخون الشيعة أي نص مباشر عليه من المهدي) (1) .
بينما نجد المهدي (عج) يقول ـ وكما نقل ذلك الصدوق وهو مؤرخ شيعي ـ : «محمد بن عثمان العمري فأنه ثقتي وكتابه كتابي » (2).
وبعد ذلك اتهم العمري بأنه يزور كلمات الإمام المهدي بخط يده ، مع اتفاق كل الرجاليين على وثاقته وجلالته وعظمته .
ولم يقف الاتهام عند العمري ، بل اتهم كل الوكلاء من دون بحث وتحقيق بالكذب والتزوير مع عظمتهم وجلالتهم ، يقول اسيد الخوئي بحق أحدهم وهو الحسين بن روح : (وشهرة جلالته وعظمته أغنتنا عن الإطالة في شأنه) (3) .
وقد اعترف الكاتب بنفسه بأن الشيعة قد التفوا حول هؤلاء الثقات ، وأخذوا معالم دينهم منهم ، واعتبروهم الواسطة بينهم وبين الإمام بقوله : (وعامة الشيعة يميزون اولئك النواب الأربعة عن بقية المدعين المذمومين) 4) .
ولم يعطنا الكاتب تفسيراً موضوعياً عن هذا الالتفاف حول هؤلاء الثقات ، فلقد ناقض نفسه بنفسه ، فهل يلتف عامة الشيعة حول مزورين بزعمه يبحثون عن مكاسبهم الخاصة ؟ خصوصاً إذا علمنا إن عامة الشيعة وكما اتضح سابقاً يسألون الإمام عن حال الوكيل باستمرار ، والأئمة يبينون لشيعتهم الموقف ، فلقد بين الأئمة موقفهم من : علي بن أبي حمزة البطائني ، وزياد بن مروان القندي ، وعثمان بن عيسى الرواسبي (5) ، ولعنوهم ، وأمروا شيعتهم بالابتعاد عنهم وطردهم من مجالسهم ، وكذلك

(1) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 227 .
(2) كمال الدين : ص 440 ، باب التوقيعات .
(3) معجم رجال الحديث : ج 5 ، ص 236 ، رقم 3397 .
(4) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 329 ـ 330 .
(5) الغيبة للطوسي : ص 213 .
دفاع عن التشيع 411

على الطرف الآخر وثقوا عثمان وابنه والحسين بن روح والسمري علي بن محمد ، وأمروا شيعتهم بالإلتفاف حولهم وهم ثقات مأمونون على الدين والدنيا .

حديث : من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة

لقد اشتبه على الكاتب الأمر ، وخصم نفسه بنفسه ، عندما نقل هذا الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام ، عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، قال : «من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة ، فاقتلوه ، فإن الله قد أذن ذلك» (1) .
وبالرغم من وضوح الأمر في هذا الحديث الذي يختص فيما لم ينزل فيه قرآن ، فالإمامة ليست مورداً لهذا الحديث مطلقاً .
ونحن لا نريد أن نؤول الحديث ، ولكن نريد من الكاتب أن يعطينا جواباً على هذا السؤال ، وهو : إن هذا الحديث نسب إلى النبي بهذا الإسناد :
محمد بن عمر بن محمد بن سلم بن البراء الجعابي ، حدثني أبو محمد الحسن بن عبد الله بن محمد بن العباس الرازي التميمي ، قال : حدثني سيدي علي بن موسى الرضا عليه السلام ، قال : حدثني أبي موسى بن جعفر ، قال : حدثني أبي محمد بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن الحسين ، قال : حدثني أبي الحسين بن علي ، قال : حدثني أبي علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم» .
هذا سند الحديث الذي نقله الكاتب ، وبنفس هذا السند نقلت هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم :
الأول : قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «من مات وليس له إمام من ولدي مات ميتة جاهلية» (2) .
الثاني : قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «الأئمة من ولد الحسين عليه السلام ، من أطاعهم فقد أطاع الله ،

(1) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 102 .
(2) عيون أخبار الرضا : ج 1 ، ص 63 ، ح 214 .
دفاع عن التشيع 412

ومن عصاهم فقد عصى الله عزوجل ، هم العروة الوثقى ، وهم الوسيلة إلى الله عزوجل» (1) .
الثالث : قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في قوله الله عزوجل :«وقفوهم إنهم مسؤولون» ، قال : «عن ولاية علي عليه السلام» (2) .
وهذه الأحاديث الثلاثة وردت بنفس إسناد حديث «من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة» ، وهي واضحة لا تقبل التأويل بأن الإمامة في ولد الرسول صلى الله عليه واله وسلم من الحسين عليه السلام ، ومن جهلهم فقد مات ميتة جاهلية ، فإما أن ينكر الكاتب هذه الأحاديث ويرميها بالجعل والاختلاق والوضع ، فعليه أن ينكر ما استدل به ، لأن السند واحد ، وإما أن يقر بهذه الأحاديث التي لا تقبل التأويل والمماطلة ، ويؤول الحديث الذي نكره حول الشورى ، فلا طريق ثالث لديه .
إذن ، إن المراد من حديث «من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة» ناظر إلى كل مورد لم ينزل فيه قرآن ، ولم يوجد فيه نص ، فهو ناظر إلى امور الناس الأخرى غير الإمامة والولاية التي نصها الله ورسوله والأئمة من بعده ، واحداً بعد آخر ، وقد تقدم أن ابن عباس حاجج عمر عندما قال عمر له : (إن العرب كرهت لكم أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة) ، فأجابه ما مضمونه : إن أمر الولاية والخلافة مما أنزله الله ، ومن كره ما أنزل الله فمصيره معروف ، ومحدد في كتابه العزيز . كما تقدم .

(1) المصدر السابق .
(2) عيون أخبار الرضا : ج 1 ، ص 64 ، ح 222 .
دفاع عن التشيع 413


الفصل التاسع

جهل الكاتب بموارد التقية

وعلم الأئمة بالغيب


دفاع عن التشيع 414




دفاع عن التشيع 415

موقف القرآن من التقية

قال تعالى : «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاةً ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير» (1) .
قال الطبري في تفسير هذه الآية : «إلا أن تتقوا منهم تقاةً» ، قال : (إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم ، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة .
وقد حدث عن عكرمة ومجاهد في قوله :«إلا أن تتقوا منهم تقاةً» ، أي ما لم يهرق دم مسلم ولم يستحل ماله .
وعن الضحاك وابن عباس : التقية باللسان ، ومن حمل على أمر يتكلم به وهو لله معصية ، فتكلم مخافة على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه ، إنما التقية باللسان) (2) .
قال الرازي بعد أن ذكر ستة أحكام للتقية في تفسير هذه الآية : ظاهر الآية يدل على أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبيين ، إلا إن مذهب الشافعي أن الحال بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة عن النفس .
وقال أيضاً : التقية جائزة لصون النفس ، ثم تساءل الرازي بقوله : (وهل هي جائزة لصون المال) ؟ فحكم بالجواز احتمالاً اعتماداً على قوله صلى الله عليه واله وسلم : «حرمة مال المسلم كحرمة

(1) آل عمران : آية 28 .
(2) جامع البيان : ج 3 ، ص 229 .
دفاع عن التشيع 416

دمه» ، وقوله صلى الله عليه واله وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد» ، ثم جعل الرازي التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وقال : ( لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان) (1) .
ثم جاء القرطبي ، فنقل قول الحسن البصري (التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة) (2) .
وقال تعالى : «من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم» (3) .
واتفق الشافعي في أحكامه (4) وابن الجوزي في زاده (5) والقرطبي في جامعه على دلالة الآية على مورد التقية ، ونحن نكتفي بذكر كلام القرطبي ، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى ما شرنا إليه من المصادر .
قال القرطبي مفسراً للآية : (هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر في قول أهل التفسير ، لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه) ، ونقل قول ابن عباس : وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «كيف تجد قلبك» ؟ قال : مطمئناً بالإيمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : «فإن عادوا فعد» (6) .
وقال تعالى :«وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب» (7) .
قال الرازي مفسراً للآية : (إنه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنه كان يكتم إيمانه ،

(1) التفسير الكبير : ج 8 ، ص 12 .
(2) الجامع لأحكام القرآن : ج 4 ، ص 57 .
(3) النحل : آية 106 .
(4) الشافعي ، أحكام القرآن : ج 2 ، ص 114 ـ 115 .
(5) زاد المسير : ج 4 ، ص 496 .
(6) الجامع لأحكام القرآن : ج 10 ، ص 181 .
(7) غافر : الآية 28 .
دفاع عن التشيع 417

والذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون ؟ ولهذا السبب حصل هنا قولان :
الأول : أن فرعون لما قال : ذروني أقتل موسى ، لم يصرح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى ، بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، إلا أنه زعم المصلحة تقتضي ترك قتل موسى ، لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله ، والإثبات بالمعجزات القاهرة ، وهذا لا يوجب القتل ، والإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات .
الثاني : أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولاً ، فلما قال فرعون «ذروني أقتل موسى» أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق) (1) .
المهم من القولين أن الرجل كتم إيمانه ، وهذا يكفي لإثبات التقية التي اتبعها الرجل خوفاً على نفسه .
وقال تعالى : «وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» (2) .
وكل مورد يتخلص العبد فيه من إلقاء نفسه في التهلكة أي يظهر خلاف ما يكتم هو مصداق الآية ، وهذه هي التقية ، وهذا المعنى يصدق على الآيات : «لايكلف الله نفساً إلا ما آتاها» (3) ، «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‌» (4) ، «ادفع بالتي هي أحسن» (5) .
وقال تعالى أيضاً : «ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه» (6) .

(1) التفسير الكبير : ج 27 ، ص 53 .
(2) البقرة : آية 195 .
(3) الطلاق : آية 7 .
(4) البقرة : آية 185 .
(5) فصلت : الآية 34 .
(6) الأنعام : آية 119 .
دفاع عن التشيع 418


والاضطرار يحصل من كل المواقع والجهات ، فقد يقع العبد مضطراً أمام الظالم ، فيكون مستثنى ، وعليه إظهار خلاف ما يكتم .
فهذا هو جواب القرآن الكريم حول موقفه من التقية .

مصاديق التقية في التأريخ

أما الموارد التي حدثت فيها التقية في زمن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأجازهم عليها ،فهي كثيرة جداً ، منها أن النبي أرسل مجموعة من المسلمين لقتل كعب بن الأشرف ، فقالوا : يا رسول الله ، أتأذن لنا أن ننال منك ؟ فأذن لهم (1) .
ويقول الطبري : (إن الحجاج بن غلاط السليمي وبعد فتح المسلمين لخيبر استأذن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم للذهاب إلى مكة لجمع أمواله ، وأذن له النبي ، فلما قرب من مكة رأى رجالاً من المشركين يتصيدون الأخبار ، ولم يعلموا بإسلامه ، فسألوه عن ذلك ، فقال لهم : وعندي من الخبر ما يسركم ، قال : فالتاطوا بجنبي ناقتي يقولون : إيه يا حجاج ، قال : قلت : هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وأخبرهم بأن المسلمين قد هزموا في خيبر ، واسر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، مع علمه بأن المسلمين فتحوا خيبر) (2) .
ويقول البخاري نقلاً عن عائشة : (إن رسول الله استأذن عليه رجل للدخول عليه ، فقال : «ائذنوا له ، فبئس ابن العشيرة ـ أو ـ بئس أخو العشيرة» ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله ـ والكلام لعائشة ـ قلت ما قلت ، ثم ألنت له في القول ؟ فقال صلى الله عليه واله وسلم : «أي عائشة ، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه») (3) . ونقل البخاري رواية اخرى تدل على التقية من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (4) .

(1) ابن العربي ، أحكام القرآن : ج 2 ، ص 1257 .
(2) تاريخ الطبري : ج 2 ، ص 305 ، حوادث سنة 7 هـ ؛ الكامل لابن الأثير : ج 2 ، ص 223 .
(3) صحيح البخاري : ج 8 ، ص 38 ، كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس ؛ سنن أبي داود : ج 4 ، ص 251 ، ح 4791 .
(4) صحيح البخاري : كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس ، 5780 .
دفاع عن التشيع 419


أضف إلى ذلك ما نطق به رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من أحاديث تكشف عن براءة من يكتم أمراً ويظهر خلافه خوفاً من خطر محتمل ، مثل : «رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) ، وحديث «لا ضرر» (2) .
فالتقية محاطة بهذا الحجم الغفير من الآيات والروايات ، التي لا يستطيع أحد إنكارها ، لنقلها في امهات الكتب السنية والشيعية ، وتسالم عليها فحول الفقهاء والمحدثين من الطرفين .

التقية عند أئمة أهل البيت عليهم السلام

يقول الإمام علي عليه السلام : «وآمرك أن تستعمل التقية في دينك . . . . . وتصون بذلك من عرف من أوليائنا ، فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك . . . . وإياك وإياك أن تترك التقية التي أمرتك بها . . . » ، إلخ (3) .
لقد تحدث الباقر عليه السلام عن التقية معاتباً الكميت على قوله :
فالآن صرت إلى اميـ ـة والامور إلى المصائر

وبعد اعتذار الكميت عن قوله هذا بقوله : نعم ، قد قلت ذلك ، ما أردت به إلى الدنيا ، لقد عرفت فضلكم .
فأجابه الإمام عليه السلام : «أما إن قلت ذلك تقية ، إن التقية لتحل» (4) .
وتحدث الإمام الصادق عليه السلام عن التقية بقوله مخاطباً أبا عمر الأعجمي : «يا أبا عمر ، إن تسعة أعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له» (5) .
ويقول الكليني ، بسنده عن معمر بن خلاد ، قلا : سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام

(1) كنز العمال : ج 4 ، ص 233 ، ح 10307 .
(2) من لا يحضره الفقيه : ج 4 ، ص 243 ، ح 777 .
(3) الإمام الصادق ، محمد أبو زهرة : ص 241 ـ 242 .
(4) الأغاني : ج 17 ، ص 25 .
(5) الكافي : ج 2 ، ص 225 ، باب التقية ، ح 2 .
دفاع عن التشيع 420

للولاة ، فقال : قال أبو جعفر عليه السلام : «التقية من ديني ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقية له» (1) .
وغير ذلك من الأحاديث التي نقلها الشيعة في كتب الحديث المعروفة عندهم تحت باب التقية .
ونسب للإمام السجاد قوله :
إني لأكتم من علمي جواهـره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقـد تقدم في هذا أبو حسـن إلى الحسين وأوصاه قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح بـه لقيل لي أنت ممن يعـبد الوثـنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبـح ما يأتونـه حسـنا

التقية في الفكر الإسلامي

ونقصد بالفكر الإسلامي هو ما دار في أذهان الصحابة والتابعين من أقوال وآراء حول هذه المسألة ، فهذا ابن عباس يصرح بأن التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله ، فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإن ذلك لا يضره ، إنما التقية باللسان .
ثم قال ابن عباس : (التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإيمان) (2) .
ويقول عبد الله بن مسعود : (ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلا كنت متكلماً به) ، وأيد ابن حزم كلام عبد الله بن مسعود هذا بقوله : (لا يعرف له من الصحابة مخالف) (3) .
ويقول حذيفة بن اليمان راداً على من قال له : إنك منافق ! : فقال : (لا ، ولكني أشتري ديني بعضه ببعض ؛ مخافة أن يذهب كله) (4) .

(1) الكافي : ج 2 ، ص 228 ، باب التقية ، ح 12 .
(2) الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ، ص 57 ، في تفسير الآية 28 من سورة آل عمران .
(3) المحلى : ج 8 ، ص 336 ، مسألة 1409 .
(4) المبسوط للسرخسي : 24 / 46 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي