دفاع عن التشيع 421


ويقول جابر بن عبد الله الأنصاري : (لا جناح علي في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها) (1) .
وبالتقية درأ ابن عمر الخطر عنه من الحجاج مستعيناً بحديث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : « لاينبغي للمؤمن ان يذل نفسه » فيقول ـ ابن عمر ـ سألت الرسول صلى الله عليه واله وسلم وكيف يذل نفسه ؟ قال : «يتعرض من البلاء لما لا يطيق» (2) .
وكذلك فعل مسروق بن الاجدح عندما بعث معاوية بن أبي سفيان بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند ، فمر بها على مسروق فقال : (والله لو أني أعلم أنه يقتلني لفرقتها ، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني) (3) .
وقد حدثنا التاريخ أن الوليد بن عبد الملك الأموي (86 ـ 96 هـ ، 705 ـ 715 م) كان يبث جواسيسه بين الخلق ليأتوه بالأخبار ، وذات يوم جلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حياة ، فسمع بعضهم يقول في الوليد ، فرفع ذلك إليه ، فقال : يا رجاء أذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير ، فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين ، فقال له الوليد : قل : الله الذي لا إله إلا هو ، قال : الله الذي لا إله إلا هو ، فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً ، فكان الجاسوس يلقى رجاء فيقول : يا رجاء بك يسقى المطر وسبعون سوطاً في ظهري ، فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن تقتل رجلاً مسلماً .
فنكر رجاء أمراً كان واقعاً ، مخافة هدر دم رجل مسلم من قبل حاكم ظالم ، فالفكر الإسلامي مليء بهذه الحوادث ، وتلك المواقف والأقوال للصحابة والتابعين حول مسألة التقية .
أما أئمة المذاهب ، أمثال مالك وأبي حنفية ، فقد بايعا المنصور وقالا : ليس على مكره يمين بعدما خرجوا عليه .

(1) المبسوط للسرخسي : 24 / 47 .
(2) كشف الأستار عن زوائد البزارعلى الكتبة الستة : ج 4 ، ص 112 ، ح 3323 .
(3) السرخسي ، المبسوط : 24 / 46 .
دفاع عن التشيع 422


وأخيراً يقول اجنتس جولد تسيهر : (ولم تتضح هذه النظرية للشيعة في مبدأ الأمر ، غير أن من عداهم من المسلمين أخذوا بها استناداً على الآية القرآنية :«إلا أن تتقوا منهم تقاة» (1) .

الشيعة والتقية

لقد عانى أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم على مر التاريخ مختلف ألوان التعذيب والقتل والتشريد الوحشي ، ووصل الأمر إلى عدم قبول شهادة الشيعي ومحاصرته اقتصادياً ، كما أمر معاوية عماله فقال : (أن برئت الذمة ممن يروي شيئاً في فضائل علي وأهل بيته ، وأن لا يجيزوا للشيعة شهادة ، وأن يمحوا كل شيعي من ديوان العطاء ، وينكلوا به ويهدموا داره) (2) .
هذه الوثيقة التي ظلت وصمة عار على جبين الأمويين على مر التاريخ وإلى يوم القيامة ، حيث سنت محاربة الشيعة وقتلهم وتشريدهم ومحاصرتهم اقتصادياً واجتماعياً ، كما حدث مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأصحابه عندما حوصروا في شعب أبي طالب ، وبدأ مسلسل القتل والإعدامات ، فقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم في حياة معاوية ، ثم جاء ابنه يزيد ليعلن بصراحة كفره وعدم إيمانه ، فراح في ثلاث سنوات من حكمه ، الأولى قتل فيها الحسين وأصحابه ، والثانية أغار على المدينة ، والثالثة على مكة ، فكانت أسوأ سنين في الإسلام ، وطارد الشيعة في كل مكان ، وارتكب تلك الجريمة البشعة بقتل سيد الشهداء وريحانة الرسول وسبطه أبي عبد الله عليه السلام مع ثلة من المسلمين الذين نصحوا للإسلام وللحسين عليه السلام .
وفي عهد زين العابدين عليه السلام لم يتحسن من الوضع شيء ، بل ازدادت المحنة والفتن ، حتى قال الحسين بن عبد الوهاب : (وصارت الإمامة في عصر الإمام زين العابدين مكتومة مستورة إلا من اتبعه من المؤمنين) (3) .

(1) العقيدة والشريعة في الإسلام : ص 202 .
(2) شرح نهج البلاغة : ج 11 ، ص 44 ـ 45 .
(3) عيون المعجزات : ص 67 .
دفاع عن التشيع 423


واستمر الأمويون في عدائهم لأئمة أهل البيت وشيعتهم ، وما إن ضعفت دولتهم ليتنفس الشيعي وإمامه الصعداء ، حتى جاء العباسيون الذين نادوا بشعارات أهل بيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، في بداية الأمر لكسب الشرعية والسيطرة على الناس ، وبعد أن استتب لهم الأمر لجأوا إلى سياسات القتل والتعذيب بحق الشيعة ، يقول أحمد محمود صبحي : (لكن ذلك المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين قد أصبح وهماً من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم ، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين يذكرنا بالحجاج وهشام ويوسف بن عمرو الثقفي ، وعم الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح أبو عبد الله المعروف بالسفاح وكذلك المنصور بالإسراف في سفك الدماء على نحو لم يعرف من قبل) (1) .
وبالطبع إن هذا الإسراف في القتل نصيب الشيعة منه حصة الأسد ، فقد قتل أبو مسلم (600,00) ستمائة ألف ، من المسلمين ، وهذا الاعتراف قد كشف النقاب عنه عندما أراد المنصور أن يقتل أبا مسلم ، فقال المنصور له : أخبرني عن ستة مئة ألف من المسلمين قتلتهم صبراً ، فأجابه أبو مسلم بقوله : لتستقيم دولتكم (2) .
حتى وصل الأمر بالأئمة أن يحذروا أصحابهم من التصريح بأسمائهم ، وهذا ما قاله الإمام موسى بن جعفر لأحدهم : «سل تخبر ، ولا تذع ، فإن أذعت فهو الذبح» (3) .
وظل هشام بن سالم يلوم نفسه عندما كلم رجلاً بالإمامة خائفاً لإظهار الأمر ، كما يقول السيد الخوئي (4) .
وراح المنصور يبث جواسيسه في المدينة ينظرون إلى من تتفق شيعة جعفر عليه وأمرهم بضرب عنقه ، كما يقول الكليني (5) . هذا من ناحية المطاردة والقتل والتشريد .

(1) نظرية الإمامة : ص 381 .
(2) طبيعة الدعوة العباسية : ص 245 ، عن العيني في دولة بني العباس والطولونيين والأخشيدين ص 30 .
(3) الكافي : ج 1 ، ص 413 ، ح 7 .
(4) معجم رجال الحديث : ج 19 ، ص 298 .
(5) الكافي : ج 1 ، ص 412 ، ح 7 .
دفاع عن التشيع 424


أما من ناحية الحصار الاقتصادي ، فقد نصت وثيقة معاوية على حذف اسم الشيعي من ديوان العطاء وهدم داره (1) . ويكفيك قول الإصفهاني في مقاتل الطالبيين ، حيث قال : (العلويات كن يتداولن الثوب الواحد من أجل الصلاة) (2) .
فلأجل تلك المطاردة والقتل وهذا الحصار والتجويع ، التجأ أهل البيت عليهم السلام إلى بنود القرآن وما قامت عليه السنة ؛ ليفعلوا بنداً من بنودها وضع للاضطرار ، ولكن هذا الاضطرار أصبح دستوراً للشيعة في حياتهم لما لاقوه من التشريد والقتل ، ولهذا قال محمد أبو زهرة شارحاً حديث الإمام الصادق عليه السلام «التقية ديني ودين آبائي» ، قال : (مبدؤنا ومبدأ آبائنا ، وقد اتخذناه على أنه دين لكي نمتنع من الجهد بما نراه في حكام الزمان حتى لا تكون فتنة وفساد كبير ، إذ النفوس ليست مهيأة للنصرة) (3) .
واعترف أبو زهرة بهذا الضغط عندما قال : (فليس هناك من ريب في أنه كان للتقية في عصر الإمام الصادق عليه السلام وما جاء بعده ، وهي كانت مصلحة للشيعة وفيها مصلحة الإسلام ، لأنها كانت مانعة من الفتن المستمرة) (4) .
وهذا الخوف والحالة الطارئة هي حياة الشيعة على مر التاريخ ، ففعلوا هذا البند وجعلوه يعيش معهم من دون كل المسلمين ، فشن أعداؤهم والذين لا ينظرون في بحوثهم إلا إلى ما يريدون إثباته ، لا ينظرون إلى الواقع المرير الذي عاشته الشيعة على مر التاريخ ، فرموا الشيعة بتهمة الغش والنفاق ، فقال من لا دين له ، ولا موضوعية في بحوثه : (التقية على ما الشيعة غش في الدين) (5) .
ولكن صاحب هذا الكلام يؤمن بهذا الغش في مواقع الاضطرار والإكراه ، فالتقية التي تقول بها الشيعة قال بها الأحناف ، وصححوا التقية في موارد الإكراه في الصلاة ،

(1) شرح نهج البلاغة : ج 11 ، ص 44 ـ 45 .
(2) مقاتل الطالبيين : ص 479 .
(3) الإمام الصادق : ص 243 ـ 244 .
(4) المصدر نفسه .
(5) الشيعة وتحريف القرآن : ص 35 .
دفاع عن التشيع 425


وحتى في الزنا وأكل الميتة وشرب الخمر (1) ، وكتب الفقه الحنفي مليئة بموارد تجويز التقية في حالات الإكراه (2) .
وقالت بها الشافعية ، قال النووي : (فإن يمين الكره غير لازمة عند مالك والشافعي وأبو ثور ، وأكثر العلماء) (3) .
وقال الشافعي : (إذا استكره الرجل المرأة اقيم عليه الحد ، ولم يقم عليها لأنها مستكرهة) (4) . فلماذا لا يقام عليها الحد ؟ ما ذاك إلا للإكراه والخوف .
وقال بالتقية الفقه المالكي ، يقول مالك بن أنس : (ما من كلام يدرأ عني سوطين من سلطان إلا كنت متكلماً به) (5) .
وقال بالتقية الفقه الحنبلي ، يقول ابن قدامة : (وإنما ابيح له فعل المكره عليه دفعاً لما يتوعده به من العقوبة فيما بعد) (6) .
فإذا كان الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي يقولون بالتقية ، فيظهر من الأخ الذي قال : (إن التقية غش في الدين) أنه ليس من المسلمين ، أضف إلى ذلك أن كلاً من الفقه الظاهري والفقه الطبري والفقه الزيدي ورأي المعتزلة والخوارج ، كلهم قالوا بالتقية (7) .
وكان أهل المدينة قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع محمد ذي النفس الزكية ، وقالوا : (إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر ، فقال : إنما بايعتم مكرهين ، وليس على

(1) المبسوط للسرخسي : 24 / 48 ـ 51 ، كتاب الإكراه .
(2) الهداية : ج 3 ، ص 275 ؛ شرح فتح القدير : ج 8 ، ص 165 ؛ اللباب : ج 4 ، ص 107 ؛ النتف في الفتاوي : ج 2 ، ص 696 ، وغيرها .
(3) المجموع شرح المهذب : 18 / 3 .
(4) الام : ج 6 ، ص 155 .
(5) المدونة الكبرى : ج 3 ، ص 29 ، ح 6 ، كتاب الإيمان بالطلاق وطلاق المريض .
(6) المغني : ج 8 ، ص 262 .
(7) دفاع عن الكافي : ج 2 ، ص 628 ـ 634 .
دفاع عن التشيع 426

مكره يمين ، وأسرع الناس إلى محمد ولزم مالك يمينه) (1) .
ويقول ابن حزم : (وقد أباح الله عزوجل كلمة الكفر عند التقية) (2) .
وفي حديث لأبي الدرداء : (إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا تلعنهم) (3) .
فالشيعة لم يكونوا وحدهم القائلين بالتقية ، بل الفكر الإسلامي من محدثين وفقهاء وعلماء آمنوا بهذا البند في حالات مخصوصة ، وبما أن تلك الحالات المخصوصة كانت هي الحياة الطبيعية للشيعة على مر التاريخ ، فاضطروا إلى أن يتعايشوا جنباً إلى جنب مع التقية لحفظ دماءهم وأموالهم وأعراضهم . كل ذلك تجاهله الكاتب وشنع على التشيع في مورد التقية وجعلها من مدعيات الشيعة لتفسير ظاهرة التناقض بين أقوال الأئمة من أهل البيت وسيرتهم العلنية على حد زعمه (4) .

الأئمة وعلم الغيب

شنع الكاتب ـ كما فعل الذين من قبله ـ على الشيعة في قولهم إن الأئمة يعلمون الغيب ، ولم يميز الكاتب أي أنواع العلم بالغيب يعلمه الأئمة عليهم السلام ، بل أطلق الكلمة من دون تحديد ، ومن المعلوم أن علم الغيب له قسمان :
القسم الأول : اختص الله تعالى به .
القسم الثاني : أطلع الله رسوله وأولياءه عليه .
ومن شواهد القسم الأول ، قوله تعالى :«قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله» (5) و«فقل إنما الغيب لله» (6) و«عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» (7) .

(1) الكامل في التاريخ : ج 5 ، ص 532 .
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل : ج 3 ، ص 111 .
(3) تفسير المنار : ج 3 ، ص 281 .
(4) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي :ص 78 .
(5) النمل : الآية 65 .
(6) يونس : الآية 20 .
(7) الأنعام : الآية 59 .
دفاع عن التشيع 427


ومن شواهد القسم الثاني قوله تعالى : «ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك» (1) و«عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول» (2) .
وغير ذلك من الشواهد التي تؤكد علم الغيب ، الذي أطلع الله رسوله ومن ارتضى من الأولياء عليه ، واتفق المسلمون قاطبة ، شيعة وسنة ، على أن القسم الأول اختص الله تعالى به ، ولم يطلع عليه أحد ، بينما اتفقوا على اطلاع الأنبياء والأولياء على القسم الثاني .
يقول الرازي : (فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب) (3) .
ويقول ابن حجر الهيثمي في هذا الباب : (لا منافاة بين قوله تعالى : «قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله» وقوله : «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً» وبين علم الأنبياء والأولياء بجزئيات من الغيب ، فإن علمهم إنما هو بإعلام من الله تعالى وهذا غير علمه الذي تفرد به تعالى شأنه من صفاته القديمة الأزلية الدائمة الأبدية المنزهة عن التغيير) (4) .
وقال النيسابوري صاحب التفسير : (إن امتناع الكرامة من الأولياء إما لأن الله ليس (معاذ الله) أهلاً لأن يعطي المؤمن ما يريده ، وإما لأن المؤمن ليس أهلاً لذلك ، وكل منهما بعيد ، فإن توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده) (5) .
وقال ابن أبي الحديد : (إنا لا ننكر أن يكون في نوع من البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب ، وكله مستند إلى الباري جل شأنه بإقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه) (6) .
فالفكر الإسلامي لا ينكر مسألة إطلاع أولياء الله ورسله على بعض الغيوب التي علمها الله لهم ، وما أثبته الأئمة لأنفسهم من العلم هو القسم الثاني الذي أذعن

(1) آل عمران : الآية 44 .
(2) الجن : الآية 25 ـ 26 .
(3) تفسير الرازي : ج 30 ، ص 149 .
(4) مقتل الحسين للمقرم : ص 53 .
(5) مجلة تراثنا ، العدد : 37 ، ص 26 .
(6) شرح نهج البلاغة : ج 5 ، باب 58 ، ص 12 .
دفاع عن التشيع 428

المسلمون بإمكانه لأولياء الله ، وهذا ما قالت به الشيعة .
يقول الإمام علي عليه السلام : «سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين ، أما والله لو ثني لي الوساد لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل القرآن بقرآنهم» (1) .
ويقول أبو عبد الله : «إني لأعلم ما في السموات وما في الأرض ، وأعلم ما في الجنة وما في النار ، وأعلم ما كان وما يكون ، قال الراوي : ثم سكت هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال : علمت ذلك من كتاب الله عزوجل ، يقول «فيه تبياناً لكل شيء»» (2) .
وغير ذلك من الروايات التي حفلت بها كتب الشيعة ، والتي لا تحتاج إلى إثبات السند فيها ، لأنها من الموضوعات الخارجية وليست من الأحكام ، يقول اسيد الجلالي : (إن اعتبار السند وحاجته إلى النقد الرجالي بتوثيق الرواة أو جرحهم إنما هو لازم في مقام إثبات الحكم الشرعي للتعبد به ، لأن طريق اعتبار الحديث توصلاً إلى التعبد به متوقف على اعتباره سندياً بينما القضايا الاعتقادية ، والموضوعات الخارجية لا يمكن التعبد بها لأنها ليست من الأحكام الشرعية) (3) .
وهذه الروايات التي أثبتت علم الأئمة بالغيب ولم نجد أحداً في التاريخ استنكر عليهم ذلك ، لهي خير شهد على علمهم بالغيب الذي أطلع الله أولياءه عليه وأنكره الكاتب ، وقد قام السيد الجلالي ببحث مستقل حول علم الأئمة بالغيب نشر في مجلة تراثنا ، ومن أراد الاطلاع أكثر فليراجع (4) .

(1) الإرشاد : ج 1 ، ص 35 .
(2) الكافي : ج 1 ، ص 319 ـ 320 ، باب 48 .
(3) مجلة تراثنا : عدد 37 ، ص 37 .
(4) المصدر السابق .
دفاع عن التشيع 429


الفصل العاشر

الحركات والفرق ومدى

اعتماد المؤلف عليها


دفاع عن التشيع 430




دفاع عن التشيع 431

سر نشوء الحركة الكيسانية

نشأت الكيسانية بشعار أموي ودعم زبيري وترسيخ عباسي .
أما الشعار الأموي فهو الحرب الشعواء التي حاولوا فيها إسقاط شخصية المختار ابن أبي عبيدة الثقفي في المجتمع الإسلامي ، لما لا قوه من هذا الرجل من بأس شديد أذاقهم المر وسهر عيونهم ، فنسبوه إلى العقائد الباطلة والأقوال الفاسدة ، فاستفاد الكاتب من الأمويين ، ولم يبحث الموضوع بحثاً كاملاً ، وأطلق العبارة التي نسب فيها المختار إلى قيادة الكيسانية (1) ، مع أن الكيسانية نشأت بعد وفاة محمد بن الحنفية ، والمختار قتل ومحمد بن الحنفية حي كما يقول السيد الخوئي (2) ، فكيف تنسب الحركة لزعيم قتل قبل نشوئها ؟ نعم الشعار الذي روج له الأمويون لإسقاط المختار هو الذي مهد الطرق لهذه الفرقة .
وأما الدعم الزبيري لتحجيم شخصية المختار وتأطيرها بإطار ضيق فلا يخرج عن المصالح الشخصية لهذا الرجل ، حتى لا تنكشف الحقائق التي نادى بها ، وإلا لو كشفت الحقائق وأن المختار طلب من زين العابدين عليه السلام القيادة والإمامة (3) ـ لو انكشفت تلك الحقائق ـ لما كان للزبيريين شعار يرفعونه وهم في بداية دعوتهم ، فحاولوا طمس الواقع بالتهديد والوعيد ، كما فعلوا ذلك مع محمد بن الحنفية ، وهددوه إما أن يبايع أو

(1) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 33 ـ 34 .
(2) معجم رجال الحديث : ج 18 ، ص 101 .
(3) مروج الذهب : ج 3 ، ص 87 .
دفاع عن التشيع 432

يودع الحبس ، وقالوا له : (قد قتل الله الكذاب ـ المختار ـ الذي كنت تدعي نصرته) (1) .
وجاء العباسيون ليرسخوا فكرة الكيسانية ، ويعدلوا منهجها ويضيفوا ويحذفوا ، فجعلوا من تلك الحركة قاعدة شعبية لمحمد ابن الحنفية ـ الذي هو بريء من تلك الحركة لأنها ولدت بعد وفاته (2) ـ وقالوا : عندما حضرته الوفاة أوصى إلى إبنه عبد الله (أبي هاشم) ، وكما يقول ابن خلدون :
(وآخرون يزعمون أن أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، وأوصى محمد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالإمام ، وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله ابن الحارثية الملقب بالسفاح ، وأوصى هو إلى أخيه عبد الله ، أي جعفر الملقب بالمنصور ، وانتقلت في ولده بالنص واحداً بعد الآخر إلى آخرهم ، وهذا هو مذهب الهاشميين القائمين بدولة بني العباس) (3) .
وسر ترسيخ العباسيين لهذه الفكرة هو الشرعية التي تمدهم بها هذه السلسلة الطويلة من الوصايا التي تؤهلهم لاستلام الحكم وقيادة المسلمين .
إذن ، كان دور العباسيين مهماً جداً في ترسيخ هذه الفكرة ؛ لأن الكيسانية كانت تقول : إن الإمامة في ابن الحنفية وذريته (4) .
وهذا بند وثائقي ينفع العباسيين في المطالبة بالحكم ، والشرعية للقيادة . وهذا البند من البنود المزعومة للكيسانية .
إذن ، سر ذيوع هذه الحركة هو الشعار الأموي ، والدعم الزبيري ، والتأصيل العباسي لهذه الحركة في المجتمع الإسلامي ، فقد اتحد الأضداد في فكرة واحدة هدفها متشعب يخدم الجميع .

(1) الطبقات الكبرى : ج 5 ، ص 79 / 680 .
(2) معجم رجال الحديث : ج 18 ، ص 101 .
(3) مقدمة ابن خلدون : ص 199 ـ 200 .
(4) الفصول المختارة : ص 296 .
دفاع عن التشيع 433

الوقف والواقفية

لقد وقف مجموعة من الشيعة على إمامة الإمام موسى الكاظم مدة من الزمن ، وتراجع البعض عن هذا الوقف ، وعاد إلى الحق والقول بإمامة الرضا عليه السلام ، مثل عبد الرحمن بن الحجاج (1) ورفاعة بن موسى (2) ، وغيرهم .
والمهم هنا في هذه السطور أن نتعرف على السبب الذي أدى بهؤلاء إلى الوقف ، وتحدث العلماء عن خلفيات هذا الأمر ، واجتمعوا على سببين لذلك :
الأول : عدم معرفة البعض بالنص على إمامة الرضا عليه السلام من قبل أبيه ، وجهلهم به ، وهذا فرض على الإمام الكاظم عليه السلام من قبل الرشيد ، الذي أنهى حياة الإمام مسموماً بسجنه ، بحيث وصل الأمر بالناس أن يقولوا له ـ أي للرشيد ـ : نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت (3) .
فتمسك الواقفون بالقول : إن الإمام الكاظم عليه السلام دخل دار الرشيد ولم يخرج منها ، وقد علمنا إمامته وشككنا في موته ، فلا نحكم في موته إلا بتعين (4) .
الثاني : الطمع وحب الدنيا وحطامها .
يقول الكشي : كان بدء الواقفية أنه اجتمع (30,000) ثلاثون ألف دينار عند الأشاعثة لزكاة أموالهم ، وما كان يجب عليهم فيها ، فحملوه إلى وكيلين لموسى بن جعفر عليه السلام بالكوفة ، أحدهما حيان السراج ، وآخر كان معه ، وكان موسى عليه السلام في الحبس ، فاتخذ بذلك دوراً وعقاراً ، واشتريا الغلات ، فلما مات موسى عليه السلام وانتهى الخبر إليهما أنكرا موته ، وأذاعا في الشيعة أنه لا يموت لأنه القائم ، فاعتمدت عليهما طائفة من الشيعة ، وانتشر قولهما في الناس ، حتى كان عند موتهما أوصياء بدفع المال إلى

(1) معجم رجال الحديث : ج 9 ، ص 316 .
(2) معجم رجال الحديث : ج 7 ، ص 197 .
(3) الغيبة : ص 23 .
(4) الفرق بين الفرق : ص 46 .
دفاع عن التشيع 434

ورثة موسى عليه السلام واستبان للشيعة أنهما إنما قالا ذلك حرصاً على المال (1) .
وهذا ما يؤيده أن بعض الواقفية قد وقف على الكاظم ، مع أنه قد روى قبل الوقف حديث «الأئمة اثنا عشر» ، مثل علي بن أبي حمزة البطائني (2) فغرته الدنيا ، فنسى ذلك الحديث ، ولم يكمل الاثني عشر الذين نقل النص عليهم ، ووقف على الإمام الكاظم عليه السلام ؟
وتجاهل الكاتب تلك الأسباب ، واعتمد على اناس خصموا أنفسهم قبل أن يقفوا على إمامة الكاظم عليه السلام ، أمثال علي بن أبي حمزة البطائني ، الذي روى عن يحيى بن القاسم بن جعفر الصادق عليه السلام . . . عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال : «الأئمة بعدي اثنا عشر ، أولهم علي بن أبي طالب ، وآخرهم القائم ، هم خلفائي وأوصيائي وحجج الله على امتي‌» (3) .
وكذلك روى عن الإمام الباقر عليه السلام سمعه من مولى لأبي جعفر عليه السلام يقول : «منا اثنا عشر محدثاً ، السابع من ولدي القائم» (4) . فكيف يروي ويقف عند الكاظم عليه السلام .
ثم راح الكاتب ينسب اناساً إلى الوقف امثال محمد بن اسحاق بن عمار الصيرفي التغلبي ، ونسبة هذا الرجل الى الوقف فيها كلام، لأن الرواية التي نسبته إلى الوقف ضعيفة كما يقول السيد الخوئي ، لا يمكن الاستدلال بها على شيء ، لأن في سندها جرير بن حازم ، وهو مجهول (5) .
ثم كذب على القارئ حينما ذكر رجالاً ونسبهم إلى الوقف ، أمثال عبد الرحمن بن الحجاج ورفاعة بن موسى وغيرهم ، ولم يذكر تراجعهم عن هذا القول ، والرجوع إلى

(1) رجال الكشي : ص 459 ، رقم 871 .
(2) معجم رجال الحديث : ج 11 ، ص 225 .
(3) المصدر السابق .
(4) الغيبة للنعماني : باب ما ورد في أن الأئمة اثنا عشر إماماً ، ص 57 .
(5) معجم رجال الحديث : ج 15 ، ص 72 .
دفاع عن التشيع 435

إمامة الرضا عليه السلام ، كما سجل ذلك التاريخ (1) .
وأيضاً ذكر في اولئك الواقفين من كان قد شهد وصية الإمام موسى بن جعفر إلى ولده الرضا عليه السلام ، مثل يحيى بن الحسين بن زيد (2) .
ودون الكاتب في سجل الواقفية اناساً لم يتحقق من وقفهم ، ولم يثبت ذلك ، بل أرسله إرسال المسلمات . وبعد كل هذا الدجل والكذب ، جعل سبب الوقف ـ كما يدعي ـ وجود روايات وصفها بالكثيرة تدل على مهدوية الكاظم عليه السلام (3) .
ولكن تلك الأخبار التي أحصاها الشيخ الطوسي ـ ولم تكن كثيرة كما يقول ـ كلها أخبار آحاد ، وقال الشيخ الطوسي بحقها : (أخبار آحاد لا يعضدها حجة ، ولا يمكن ادعاء العلم بصحتها ، ومع هذا فالرواة لها مطعون عليهم لا يوثق بقولهم ورواياتهم) (4) .
فهذا كلام شيخ الطائفة والرجالي المعروف لم يطلع عليه الكاتب ، وهذا ما يثبت تسرعه في الأحكام ، أضف إلى ذلك ، أن سبب الوقف هذا كذبه كل من الكشي والبغدادي (5) .

استغلال الفرق المنحرفة كأداة لضرب التشيع

استغل أحمد الكاتب الفرق المنحرفة عن الإسلام والخارجة في بعض تعاليمها عنه ، كأداة لضرب التشيع ، وحاول ان يستفيد من المعالجات غير الصحيحة ، ومن التطرف والتعصب لبعض مؤلفي الفرق ، وراح يكيد للتشيع ورجاله وأئمته .
والحقيقة أن بحث الفرق ونشوءها من البحوث اليتيمة من التحليل والاستنتاج ،

(1) معجم رجال الحديث : ج 9 ، ص 316 و ج 7 ، ص 197 .
(2) عيون أخبار الرضا : ج 2 ، ص 42 ، ح 1 ؛ معجم رجال الحديث : ج 1 ، ص 290 ، ح 281 .
(3) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 93 .
(4) الغيبة : ص 29 .
(5) رجال الكشي : ص 459 ، رقم 871 ؛ الفرق بين الفرق : ص 46 .
دفاع عن التشيع 436

أضف إلى ذلك ، أن مؤلفي الفرق كالوا بمكيالين عندما تحدثوا عن الفريقين (السنة والشيعة) ، فلقد عدت الكاملية من فرق الشيعة وهم يكفرون علي بن أبي طالب (1) ، وعددت البيانية (أصحاب بيان الهندي) من فرق الشيعة ، وهم يكتبون إلى الباقر عليه السلام : (أسلم تسلم وترتقي في سلم ، وتبح تغنم ، فإنك لا تدري أنى يجعل الله النبوة والرسالة ، وقد اعذر من أنذر) (2) .
فالكاملية التي تكفر أمير المؤمنين ، والبيانية التي ادعت النبوة لشخص ، لا يمكن عدها من فرق الشيعة أبداً وإن فعل بعض المتطرفين وغير المنصفين ذلك .
ولكن عندما نجدهم يتحدثون عن الفرق الأخرى ، نجدهم يتحدثون بلهجة تشير إلى أن هذه الفرق مندسة في السنة ولا علاقة لهم بها .
وقبل عد هذه الفرقة من السنة أو من المندسين فيهم ، وعد تلك الفرقة من الشيعة ، لابد من القيام قبل هذه المرحلة ببحث مستقل نبين فيه أسباب نشوء هذه الفرق وتاريخها وعدد القائلين بها وهوياتهم الشخصية حتى يتضح الانتماء الحقيقي لهذه الفرق .

أسباب نشوء الفرق

عندما انطلق الإسلام بشعار «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» جوبه من قبل تيارات عديدة كالجاهلية العربية ، والنصارى ، واليهود ، والمجوس ، وغيرهم من الحركات والتيارات التي لا يروق لها شعار المساواة ، ومحو الطبقية ، والذي يعصف بالفوارق ويطيح بالقوى التي سيطرت على المجتمعات بعوامل القوة تارة والوراثة اخرى ، فخاضوا حروباً دموية ، راح ضحيتها خيرة الصحابة والمسلمين الذين آمنوا بتلك الشعارات ودافعوا عنها .
فانتصر الإسلام في هذه الحروب وأصبحت بنوده الناطقة بالمساواة والعدالة

(1) المقالات والفرق : ص 14 .
(2) فرق الشيعة : ص 51 .
دفاع عن التشيع 437

دستوراً للناس ، وتساوى الغني والفقير في الحقوق والواجبات والمعاملة ، وأصبحت المواجهة العسكرية غير قادرة على قمع التيار الجارف للإسلام ، بعد كل ذلك تغيرت أساليب تلك التيارات في المواجهة ، فبدلاً من المواجهة العسكرية ، عدلوا إلى الحقد الدفين ، ذلك البركان الذي تتصاعد الأبخرة منه بين الحين والآخر ، ينتظر الانفجار ليقتضي على الإسلام وأهله وحملته ، فدخل اولئك في الإسلام ، دخلوا يحملون الدين ظاهراً ، وذلك البركان من الحقد باطناً ، واستنشقوا النفس الأول عندما التحق رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بالرفيق الأعلى ، وعندما اقرت القاعدة المبتدعة للخلافة التي تقول على لسان عمر : (إن العرب كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد) (1) .
هذه القاعدة التي أقصت الخليفة الشرعي ، وجاءت بخليفة عينته المهاترات الكلامية واللفظ وارتفاع الأصوات كما اعترف الخليفة الثاني بذلك .
وخوفاً من أن يظهر زيف هذه القاعدة وأمثالها ، وتظهر الحقيقة ، صدرت الأوامر بإلغاء تدوين الحديث ومنعه ، وسمع لبعض تلك التيارات أن تتحدث للناس وتبين لهم ما دفنوه قبل ذلك ، وهكذا حتى وصل الأمر إلى عثمان بن عفان الذي طرد القريب أبو ذر ، وقرب الطريد ، كل هذا رفع معنويات تلك التيارات التي لم تقف مكتوفة الأيدي ، بل أظهرت بين الحين والآخر أبخرة بركان حقدها الدفين ، فمثل حكم الجاهلية بأرقى صورها معاوية بن أبي سفيان بعد أن مهد له من تقدم عليه ، فعمل على تفتيت أمة الإسلام عندما استلم دفة الحكم ، فأرسل مراسليه إلى طلحة والزبير وأضرابهم ليقفوا بوجه علي عليه السلام ، وفشل في ذلك بعد أن أخمد أمير المؤمنين عليه السلام وأنصاره تلك الوسائل ، فلم يجد بداً إلا أن يجهز الجيوش الشامية التي فتحت عينها على إسلام معاوية وأمثاله ، وقرر أن يواجهه بنفسه من خلال الحرب ، ودارت تلك المعارك الطاحنة ، ولما انجلت الغبرة وأصبح النصر لعلي كقاب قوسين أو أدنى ، استغل معاوية العقول الخاوية في معسكر الإمام ، ورفع المصحف ، وتراجع المغفلون معلنين الصلح من دون موافقة إمامهم علي بن أبي طالب عليه السلام على ذلك ، وحددوا لأنفسهم

(1) تاريخ الطبري : ج 3 ، ص 288 .
دفاع عن التشيع 438

حكماً لم يكن مقبولاً من قبل القيادة الإلهية ، وفرض عليها ذلك لقلة الناصر ، وصال الإمام عليه السلام بيد جذاء من غير فائدة تذكر ، وأخيراً استقرت نتائج الصلح بخدعة عمر وبن العاص ، فرفض هؤلاء الذين أجبروا الإمام على الصلح وأجبروه على من يمثلهم في ذلك ، رفضوا الأحكام وقالوا : لا حكم إلا الله ، وانشقوا عن المسلمين ، وكفروا علياً عليه السلام ، واستعدوا لمواجهة الخليفة الشرعي وقتاله قبل مواجهتهم لمعاوية ، فعملوا على زعزعة الاستقرار في معسكر الإمام ، عندها توصل معاوية إلى سلاح جديد فتاك يفوق سلاح الحرب ، ألا وهو سلاح الفرق الذي سماه البعض بالأسلحة الجرثومية القاتلة ، كما سيتضح فيما بعد .
ففكرت الجاهلية العربية بهذا السلاح الجديد بقيادة معاوية ، فجمع فقهاء قصر الحمراء وعلماءه ، وأمرهم بإنشاء مصانع جديدة لا لصنع السيوف لقتال أعداء الإسلام ، بل لصنع الأحاديث للقضاء على الإسلام ، وبدأت الحرب الجديدة التي «اتخذت من القرآن سلاحاً ، ومن السنة متراساً ، ومن الإيمان أداةً ، ومن الفكر قاعدة لها ، ومن الإسلام راية تخفق في سمائها ، ومن العقول والقلوب ساحة ، وأما أدوات هذه الحرب فجيش من المفسرين والقراء والمتكلمين والقضاء والفقهاء ورجال الدين ، وما بقي من الصحابة وأولادهم قادة لهذا الجيش (1) .
واصبحت المعركة الجديدة معركة عقائد الحق مع عقائد الباطل فبزغ قرن الشيطان ـ الجبر ـ الذي يجعل الانسان مسيرا في كل الحوادث الواقعة له خيرها وشرها واول من قال به معاوية ، ودعا اليه ودافع عنه (2).
وبزغ قرن الشيطان الثاني ـ الإرجاء ـ الذي هو تبرير واضح لاغتصاب حق الإمامة بوسائل التدليس والاغتيال ، وأساليب الترغيب والترهيب ، كما يقول الدكتور محمود إسماعيل الذي أضاف :
إن شيوخ هذا المذهب خصوا برعاية الأمويين الأوائل وأقاموا إلى جانبهم في

(1) الانتفاضات الشيعية : ص 97 ـ 98 .
(2) الحركات السرية : ص 31 ـ 48 .
دفاع عن التشيع 439

عاصمتهم دمشق (1) .
ويقول هاشم معروف الحسني : فكان الجبر والإرجاء سلاحين فتاكين ، وإن صح تعبيري فهما حرب جرثومية على الأمة وطمس الإسلام الصحيح ، وتحجيم دور الأئمة داخل الشعب المسلم الذي لم يطلع على إسلامه الحقيقي أبداً .
أضف إلى ذلك سلاح التصوف الذي لجأ فيه المتدينون ظاهراً إلى الغارات والكهوف ، وتركوا الحكام يعيثون بالأرض فساداً ، وبدأ هنا الإسلام باستيراد الأفكار من الهند والصين وفارس (2) .
فتحطم المجتمع أمام هذه الأسلحة التي أصبحت فرقاً فيما بعد ، وذلك من خلال البعض الذي وجد فيها ضالته المنشودة ، لأنهم سئموا الحروب وآثروا السلامة والعافية من جرء ما لاقوه من أهوال . . . . وانصرفوا لأمورهم الداخلية دون نظر إلى نوعية السلطة (3) .
ولم يقف البيت الأموي وأنصاره عند حد الجبر والإرجاء والتصوف ، بل لجأوا إلى سلاح فتاك آخر يضرب صميم الإسلام ، وهو سلاح الغلو والمغالاة ، وبرزوا له الصحابي الذي لا يحق لأحد الرد عليه ، والراد عليه كالراد على رسول الله ، والراد على رسول الله كالراد على الله، وهكذا حتى وصل الأمر إلى كفر من يرد على الصحابي وإخراجه من دائرة الإسلام باسم عدالة الصحابي الذي منحه معاوية وأنصاره ومريدوه حصانة دبلوماسية يتحرك فيها داخل المجتمع الإسلامي ، ويكفي في تسمية الشخص صحابي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ـ وإن استحى البعض في هذا الزمان ، فعدل في النظرية بعض التعديلات ـ فهدم معاوية وأنصاره المتمثلين بالجاهلية العربية أركان الإسلام ، وضعضع الصف الإسلامي ، وصال آل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بيد جذاء لحفظ مصالح الإسلام والمسلمين من هذه الأفكار ، فحصنوا أصحابهم حملة الإسلام

(1) الحركات السرية : ص 31 ـ 48 .
(2) الإنتفاضات الشيعية عبر التاريخ : ص 98 ـ 99 .
(3) الحركات السرية : ص 35 ـ 36 .
دفاع عن التشيع 440

المحمدي الأصيل من ذلك ، لأنهم وكما يقول محمود إسماعيل :
أقدر المسلمين على فهم الإسلام ، وأكثرهم إخلاصاً لمبادئه ، وأشدهم حرصاً على تطبيق تعاليمه ، وقد ورثوا مأثرة التفقه في الدين والإحاطة بأصناف العلوم من إمامهم الأول علي بن أبي طالب (1) .
فتحصين بعض المسلمين بأفكار الإسلام الصحيحة لا يروق لمعاوية وأنصاره رواد الجاهلية العربية ، ولا إلى النصارى والمجوس واليهود وأتباعهم ، فأعدوا العدة لحرب جديدة لا تختلف عن سابقتها إلا من ناحية الموقع والمكان ، حرباً ضد الإسلام وموقعه الجديد ، أصحاب أئمة أهل البيت عليهم السلام ، فاختلق عبد الله بن سبأ المزعوم ، ولم يكفي هذا في المواجهة لأن التشيع نبض في قلوب الصحابة والخلص من أنصار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قبل إسلام هذا الرجل على فرض وجوده ، واستمرت المواجهة بين أئمة أهل البيت وأصحابهم وأنصارهم من جهة ، وبين الجاهلية العربية المتمثلة بمعاوية وأنصاره واليهودية المتمثلة بكعب ، والنصرانية المتمثلة بسوسن ، الذي يعتبر أول من نطق بالقدر ، والمجوسية متمثلة بمجموعة من أولئك الذين دخلوا الكوفة وعرفوا بحمرا الديلم (2) .
واتحد الجميع لهدف واحد ، وهو القضاء على الإسلام وبمختلف الطرق ، فحددوا دماغ الأمة الإسلامية أئمة أهل البيت وأصحابهم ، واستعدوا لضرب هذا الدماغ ، وشل أعضاء هذا الدين الإلهي ، ولم يقتصروا على تحديد الشخصيات فقط ، بل خططوا حتى لمواقع الانطلاق حتى يوسم ذلك الموقع بأي فكرة يطلقونها ، فاختاروا الأئمة من الشخصيات وأصحابهم ، واختاروا الكوفة وبعض المناطق التي وسمت بالتشيع لأهل البيت ، فتغلغل أنصار اولئك في أصحاب الأٍئمة وفي داخل الكوفة التي قطنها النصراني في الحيرة ورعايا الفرس ، والتي أصبحت مصدر إشعاع للعالم الإسلامي .
فجاء سوسن النصراني الذي نطق بالقدر وقد أظهر الإسلام وعنه أخذ معبد

(1) الحركات السرية : ص 67 .
(2) فتوح البلدان : ص 279 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي