دفاع عن التشيع 441

الجهني ، وأخذ غيلان من معبد (1) ، وعاد بعد أن بث هذه الفكرة إلى نصرانيته ، وكذلك ابن كلاب الذي يقول عنه أبو العباس البغوي :
دخلنا على فثيون النصراني وكان في دار الروم من الجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب ، فقال : رحم الله عبد الله (اسم ابن كلاب) كان يجيئني فيجلس إلى تلك الزاوية وأشار إلى ناحية من البيعة ، وعني أخذ هذا القول ، ولو عاش لنصرنا المسلمين (2) .
فهذا النصراني كان يعد العدة للدخول إلى الأمة الإسلامية من خلال بعض الحاقدين على الإسلام ، وبث الأفكار فيها .
وأما اليهود الذين بثوا دعاتهم أمثال المغيرة بن سعيد الذي بين الإمام الصادق عليه السلام مصدر أفكاره عندما قال : «لعن الله المغيرة بن سعيد ، ولعن الله يهودية كان يختلف إليها» (3) .
فآمن هذا اللعين بأفكار يهودية لم ينزل الله بها سلطان ، حتى وصل به الأمر أن يدعي النبوة (4) . فهل يعد من يعتقد بذلك من فرق المسلمين .
وتصدى له ولغيره أئمة أهل البيت عليهم السلام ولعنوهم وطردوهم من حظيرة الإسلام لأفكارهم الهدامة التي استوردوها من النصارى واليهود والمجوس ، فهؤلاء وأمثالهم ليسوا من الإسلام كما ذكرت نصوص أئمة أهل البيت ، فكيف يعدون من فرقهم .
فكيف يعد أبو الخطاب على رأس فرقة من المسلمين ، وهو يدعي أنه إله (5) ، وقد لعنه الإمام الصادق عليه السلام بقوله : «اللهم العن أبا الخطاب . . . . اللهم أذقه حر الحديد» .
وأمر أصحابه أن يتجنبوا أتباع أبي الخطاب ، فلا يقاعدون ولا يواكلوهم ولا

(1) المقالات والفرق : ص 132 .
(2) الفهرست لابن النديم : ص 230 .
(3) رجال الكشي : ص 255 ، رقم 403 .
(4) المقالات والفرق : ص 55 .
(5) معجم رجال الحديث : ترجمة محمد بن أبي زينب أبو الخطاب الأسدي .
دفاع عن التشيع 442

يشاوروهم ، فقال : «لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ولا تشاوروهم ولا تصافحوهم ولا توارثوهم» (1) .
ودعاهم الصادق عليه السلام إلى التوبة عندما قال : «ويلكم توبوا إلى الله فإنكم كافرون مشركون» (2) .
ومن اولئك الغلاة الذين ادعوا النبوة ولعنهم الإمام الصادق عليه السلام : بزيع بن موسى (3) ، وبيان النهدي ، والمغيرة بن سعيد الذي كان يدس أعوانه في حلقة درس الباقر ، وكما حدثنا الصادق عليه السلام بقوله :
«كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ، ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ، ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثوها في الشيعة ، فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو ، فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم» (4) .
إذن ، الغلو كان من اليهود الذين كان يختلف إليهم المغيرة هذا (5) ، وكذلك أبو منصور العجلي الذي لعنه الباقر عليه السلام وتبرأ منه ، وصائد النهدي الذي جعله الإمام الصادق عليه السلام من مصاديق قوله تعالى : «هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم» (6) .
ومحمد بن نصير النميري ، الذي كان يحلل محارم الله ، وادعى أنه نبي أرسله

(1) المصدر السابق .
(2) رجال الكشي : ترجمة بشار الأشعري .
(3) المقالات والفرق : ص 189 .
(4) رجال الكشي :ترجمة المغيرة بن سعيد .
(5) المصدر نفسه .
(6) معجم رجال الحديث : ج 9 ، ص 47 ، رقم 5767 .
دفاع عن التشيع 443

الهادي عليه السلام فلعنه الإمام وتبرأ منه وطرده (1) .
والعبرتائي الذي لم يكن يتدين بشيء ، كان يظهر الغلو مرة والنصب اخرى كما يقول السيد الخوئي (2) .
وتبرأ العسكري من هذه الفرق حتى لا تحسب على الشيعة فقال :
«إني أبرأ إلى الله من أبي نصير الفهري وابن بابه القمي ، فابرأ منهم ، وإني محذرك ـ مخاطباً أحد أصحابه ـ ومخبرك أني ألعنهما عليهما لعنة الله ، يعزم ابن بابه أني بعثته نبياً . . . ويله لعنه الله . . . ولعن من يقبل منه» (3) .
وسمح العسكري عليه السلام لأصحابه إن قدروا عليه أن يقتلوه ويشدخوا رأسه ـ حسب تعبير الرواية ـ وللأسف الشديد ، فكل هذا التبري وهذا اللعن ، لم يكن كافياً ليقوم المؤلفون والباحثون في الموضوع بفصل التشيع عن هذه الفرق المنحرفة ، حتى وصل الدور إلى أحمد الكاتب ليرفع هذا الانحراف ويحمله على حساب أئمة أهل البيت ، وعلى حساب الشيعة من غير بحث وتحقيق ، حاله في ذلك حال حاطب ليل .

ما هي حكاية الفرق بعد وفاة العسكري عليه السلام

تحدث بعض كتاب الفرق بعد وفاة العسكري عليه السلام بحديث أشبه بالأسطورة والقصة الخيالية عندما قالوا : إن الشيعة انقسمت إلى ثلاث عشرة فرقة ، ومنهم من أكد هذه الأسطورة فقال بعشرين فرقة ، وبالرغم من المدة الزمنية الطويلة الفاصلة بين وفاة العسكري ومؤلفي الفرق ، لم نجدهم تحدثوا على لسان أصحاب تلك الفرق ، ولم يذكروا عددهم ، ولا حتى رؤسائهم في بعض الأحيان مما يضع علامة استفهام أمام هذا العدد الخيالي لتلك الفرق .
نعم ، إن الجمهور من الشيعة قالوا بإمامة القائم المنتظر ، وأثبتوا ولادته ، كما قال ذلك

(1) معجم رجال الحديث : ج 17 ، ص 300 .
(2) معجم رجال الحديث : ج 2 ، ص 358 .
(3) معجم رجال الحديث : ج 5 ، ص 112 ، رقم 3090 .
دفاع عن التشيع 444

المفيد (1) .
ولكن القارئ والمطالع حتى لو آمن بأن الجمهور قالوا بإمامة الإمام الحجة من بعد أبيه ، فإنه يتساءل عن هذا الحجم الهائل من الفرق وما هي أخبارهم ؟
يقول الشيخ المفيد : انقطعت أخبارهم تماماً واندثرت عام 372 هـ ، فلم يبق لهم أثر ، وعلى حد تعبير الشيخ : أصبحوا حكاية عمن سلف ، وأراجيف بوجود قوم منهم لا تثبت (2) .
مائة سنة فقط اندثرت فيها 13 فرقة ، وعلى قول البعض 20 فرقه ، حقاً إنها أسطورة ، لأن بين وفاة العسكري وكلام الشيخ المفيد ما يقارب من مائة سنة ، أدت إلى اندثار الفرق واصحابها واقوالها ، علما ان مائة سنة في حساب اندثار الفرق لا قيمة لها تذكر ، فلابد من دراسة جديدة تضع أمامها عقول الناس في تسطير الحروف وتعداد الفرق ، تبين من خلالها مدى صحة هذا الكلام ، ومدى تحققه في التاريخ ، وخصوصاً إن البعض يعد الشخص الواحد فرقة كاملة بمجرد أنه قال كلاماً ما ، فمائة سنة اندثرت بها كل الفرق إلا اولئك القائلين بوجود ولد العسكري عليه السلام ، تجعل من العاقل يشكك فيما نقل إليه من أحداث في تاريخه الإسلامي الذي استهدف من قبل العديد من التيارات المغرضة والتدوين غير الموضوعي وغير المبتني على أساس صحيح .

(1) الفصول المختارة : ص 318 .
(2) الفصول المختارة : ص 321.
دفاع عن التشيع 445


الفصل الحادي عشر

كشف الحقائق


دفاع عن التشيع 446




دفاع عن التشيع 447

الشيعة أول من كتب في الأحكام السلطانية


لقد توهم الكاتب مرة اخرى عندما نسب إلى الفكر الشيعي الانعزال السياسي عن الساحة من دون تنظير ، ونسب إليهم ذلك من دون بحث وتحقيق ، بينما لو تتبع جيداً في التاريخ لوجد أن الشيعة سبقت السنة في التنظير والكتابة في الأحكام السلطانية .
بعد غياب الإمام الثاني عشر ، وغياب القيادة الإلهية ، لم تغب الشيعة عن مسرح الأحداث ، بل راح فقهاؤهم ينظرون إلى هذه الغيبة وإلى تلك الفترة ، ويحددون الموقف السياسي من الحكام والسلاطين مستلهمين تعاليم ذلك التنظير من أئمتهم ، وسبقوا كل المذاهب بذلك ، فقد وضعوا لشيعتهم دساتير للتعامل مع السلطان ومع الحياة السياسية آنذاك . فهذا شيخ القميين أبو الحسن محمد ابن الحسن بن أحمد بن داود القمي المتوفى سنة 368 هـ قد وضع رسالة في عمل السلطان ، وهو استاذ الشيخ المفيد (1) .
وكذلك الشيخ أبو عبد الله البوشنجي الحسين بن أحمد بن المغيرة ، حيث كتب رسائل حول طريقة التعامل مع السلطان ، ثم كتب المفيد والمرتضى والطوسي في هذا الموضوع قبل أن يبدأ الماوردي المتوفى سنة 450 هـ وغيره من السنة بكتابة الأحكام السلطانية .
فكيف انعزل الفكر الشيعي عن الساحة وهو من مطلع الغيبة إلى يومنا هذا ينظر

(1) الذريعة في تصانيف الشيعة : ج 15 ، ص 345 ، الطبعة الثانية .
دفاع عن التشيع 448

للشيعي كيفية التعامل مع زمانه وفي مختلف الظروف ، وسواء كان السلطان عادلاً أو جائراً .

الشيعة والصراع السياسي

اتهم أحمد الكاتب الشيعة بالإنعزال السياسي ، ولم يكن هذا الإتهام مبيناً على أساس واضح ، إلا لأنهم آمنوا بغيبة الإمام المهدي المنتظر (عج) ، وهذا الاتهام نفسه يوجه إلى أحمد الكاتب ، لأنه يؤمن بوجود رجل يخلص البشرية ، ويصلي عيسى خلفه ، كما جاءت النصوص الصريحة بذلك ، وإن اختلاف إيمان الكاتب مع إيمان الشيعة بشخص محمد بن الحسن العسكري لا يضر في أصل الانتظار ، فلكل منتظره وإن اختلفت الجزئيات ، وانتظار الكاتب هذا كانتظار الشيعة ، فيكون على مبنى الكاتب نفسه أنه منعزل سياسياً لأنه اتهم التشيع بسبب الانتظار بالانعزال السياسي ، فبحثه يكون فضولاً في الكلام .
أضف إلى ذلك أن الولاة والحكام على مر العصور واختلاف شرائط الزمان يضعون الشيعة في صدر قائمة المعارضين لسياساتهم ، وهذا ما حدث منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والى يومنا هذا ، وهذا التصرف ينم عن علم تلك الحكومات بأن التشيع له روح خاصة ونظرة عميقة إسلامية صحيحة لا تفسح المجال لأي كان بالتسلق وقيادة المسلمين .
يقول الدكتور علي الوردي في كتابه وعاظ السلاطين : (إن التشيع في وضعه الراهن أشبه بالبركان الخامد وكان ثائراً ثم خمد على مرور الأيام ، وأصبح لا يختلف عن غيره من الجبال الراسية إلا بفوهته والدخان المتصاعد منه ، والبركان الخامد رغم هدوءه الظاهر يمتاز عن الجبل الأصم بكونه يحتوي في باطنه على نار متأججة لا يدري أحد متى تنفجر مرة اخرى) .
وأضاف يقول : (إن عقيدة الإمامية التي آمن بها الشيعة جعلتهم لا يفترون عن انتقاد الحكام ومعارضتهم والشغب عليهم في كل مرحلة من مراحل تاريخيهم

دفاع عن التشيع 449

الطويل) .
ويقول أحمد أمين : (والسياسي إذا نظر إلى العلويين رآهم إما ثواراً إن ظهروا أو متآمرين على قلب الدولة إن اختلفوا) (1) .
وللأسف حكم الكاتب على التشيع وعلى علمائه من دون اطلاع على الواقع العملي للشيعة ، حيث دوت ثوراتهم في كل زمان ومكان ، وليس هنا مكان البحث عن تلك الثورات .

الغيبة وفقهاء الشيعة

حاول الكاتب إيجاد حالة من الإرباك عند فقهاء الشيعة نجمت من غيبة الإمام المنتظر عليه السلام ، وبمرور سريع للحالة الإسلامية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى يومنا هذا ، نجد أن التشيع كان في غنى عن تلك الحالة ، أما غيره فقد وقع فيها ، وذلك بعد غيبة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن المجتمع والتحاقه بالرفيق الأعلى انقسم المسلمون إلى قسمين :
قسم قال : إن الشريعة قد بلغت إلى المجتمع بالكامل ولا تحتاج رسالة محمد صلى الله عليه واله وسلم إلى قيم عليها اختصه رسول الله بأحكامها .
والقسم الآخر قال : لقد خص رسول الله صلى الله عليه واله وسلم علياً وأبناءه بمسائل الدين وهم المكملين لشريعته من بعده .
وساروا جميعاً في الحياة ، فأما القسم الأول فارتطم بواقع لا تشريع له ، فاضطروا ولبعض الوقت الاستنجاد بإمام القسم الثاني لتوضيح تشريع الرسول صلى الله عليه واله وسلم حول هذه الوقائع ، ولكن هذا اللجوء لم يكن لجعل ذلك الإمام مصدراً للتشريع ، بل جعلوه يتمتع بموقع تشريعي ولفترة من الوقت .
وما إن سارت عجلة الحياة حتى وجدوا أنفسهم أمام جمع غفير من الوقائع لا تشريع لها عندهم ـ وليس لا تشريع لها في الإسلام الذي هو رسالة للدين والدنيا معاً ـ فلم يجدوا بداً للجوء إلى وسائل تسعفهم في ذلك ، فلجأوا إلى الاستحسان الذي

(1) ضحى الإسلام : ص 278 .
دفاع عن التشيع 450

يقول عنه الشافعي : (من استحسن فقد شرع) (1) .
ولم يسد الاستحسان كل التغييرات ، فلجأوا إلى القياس الذي شرقوا وغربوا في القول به .
ويكفي أن يطلع الإنسان على أي موسوعة اصولية ليعرف مدى التشعب والتباين في الآراء (2) .
ثم لجأوا إلى عدالة الصحابي ، ففتحوا باباً جديداً في التشريع سمي باب عدالة الصحابي نزهوه فيها من كل عيب ودنس وخطأ ، واختلفوا في ذلك أيضاً ، فذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقاً ، وآخر إلى أنه حجة إن خالف القياس ، وثالث إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة . . . ورابع إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا . وقال الغزالي : (إن جميع هذه الأقوال باطلة) (3) .
ولم تقف سلسلة المستجدات الخالية من التشريع ، فلجأوا إلى المصالح المرسلة التي رفضها الشافعي بقوله : (إنه لا استنباط بالاستصلاح ، ومن استصلح فقد شرع كمن استحسن ، والاستصلاح كالاستحسان متابعة للهوى) (4) .
وهذه الحيرة التي وقع فيها الفكر السني نتجت من إيمانه السابق بإكمال التشريع ، وعدم وجود من خصه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، بحيث أدت به إلى اتباع مختلف الوسائل لسد النقص الحاصل عندهم ، مثل فتح الذرائع وسدها وما إلى ذلك .
أما القسم الثاني ، وهم الشيعة ، فقد استغنوا عن كل تلك الوسائل ، لأن النص قام على تنصيب إمام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، يعطي ـ الإمام ـ للأمة ما تحتاجه من تشريع اختص به لكل المستجدات الحادثة ، واستقرت الإمامة بالنصوص المتواترة والأدلة القطيعة ، واحداً يكمل الآخر ، والكل ينقلون عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وكما يقول

(1) فلسفة التشريع الإسلامي : ص 174 .
(2) الأصول العامة للفقه المقارن : ص 320 .
(3) الأصول العامة للفقه المقارن : ص 439 .
(4) مصادر التشريع : ص 74 .
دفاع عن التشيع 451

الإمام الصادق عليه السلام : «حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم» (1) .
فأسسوا منهاجاً متكاملاً للفقيه الشيعي على مدى قرنين من الزمان ، واستعدوا لمسألة الغيبة التي طالما تحدثوا عنها ، فوضعوا القواعد العامة للفقيه كالاستصحاب ، والبراءة الشرعية ، وقاعدة اليد ، والترجيح بين الروايات ، والعمل بخبر الواحد ، وغير ذلك من القواعد المبثوثة في مروياتهم ، والتي قدمت من قبلهم للفقيه الشيعي ليدور رحى الاجتهاد عليها .
وبعد أن تمت الغيبة ، وتورم الفقه الشيعي بتراث ثر من الأحاديث والروايات والقواعد العامة والخاصة ، وعلى مدى قرنين من الزمن ، وبعد انتقال دستور القيادة من الأئمة إلى العلماء والفقهاء الذين اتفقوا جميعاُ على انتقال مراسم القيادة إليهم ، وإن اختلفوا في مساحة هذا الانتقال سعةً وضيقاً ، بعد كل ذلك ، جاء الفقيه الشيعي ليمارس دوره كنائب للإمام ، فوجد تراثاً ضخماً لا حاجة له معه بالرجوع إلى وسائل جديدة تؤدي إلى الإرباك والحيرة ، فهو يحتاج فقط إلى الرجوع إلى ذلك التراث واستخراج الحكم الشرعي أو الوظيفة للمكلف في مختلف الوقائع ، ولقد تحدث الشيخ الطوسي عن غزارة ذلك التراث فقال :
(أما بعد ، فإني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية ويستنزرونه وينسبونهم إلى قلة الفروع وقلة المسائل ، ويقولون : إنهم أهل حشو وأهل مناقضة ، وإن من ينفي القياس والاجتهاد (بالمعنى الخاص) لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الأصول ، لأن جل ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين ، وهذا جهل منهم بمذاهبنا ، وقلة تأمل لأصولنا ، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أن جل ما ذكروه من المسائل موجودة في أخبارنا) .

(1) وسائل الشيعة : ج 27 ، ص 83 ، باب 8 ؛ الكافي : ج 1 ، ص 53 .
دفاع عن التشيع 452


ثم أضاف : (وأما ما كثروا به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلا وله مدخل في اصولنا ومخرج على مذاهبنا ، لا على وجه القياس ، بل على طريقة توجب علماً يجل العمل به ويسوغ الوصول إليها من البناء على الأصل وبراءة الذمة وغير ذلك) (1) .
إذن ، فالشيعة لم يقعوا في حيرة وارباك نتيجة الغيبة كما حدث لغيرهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم .

صلاحيات الفقيه الشيعي

لقد توهم الكثير من الكتاب والمؤلفين عندما شاهدوا ومن بداية الغيبة إلى يومنا هذا انخراط فقهاء الشيعة في التوجه السياسي ، توهموا بتعليل ذلك بالتخلي عن النظرة الإمامية (الإمامة ، النص ، الوصية) أو على الأقل التنازل عن بعض تلك الشروط ، ولكن هذا الكلام خال من الدقة تماماً ، ونابع من عدم فهم الوظيفة الأساسية لفقهاء الإمامية وصلاحياتهم ، والعمل مع الدولة لا يعني شرعية تلك الدولة ، ولهذا نجد علماء الطراز الإمامي الأول أرسوا أصالة الفكر السياسي الشيعي بقواعد وجوب حفظ النظام ، مع أنهم لم يعطوا الشرعية للحكومات .
فلقد حمل الفكر الشيعي الإمامي للفقهاء دساتير للعمل مع الحكومتين العادلة والظالمة ، فرسالة الإمام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر تعتبر برنامج عمل مع الحكومة العادلة ، وفي مقابل ذلك رسالة الإمام الصادق عليه السلام لعبد الله النجاشي التي هي برنامج عمل مع الحكومة الظالمة ، وهذا الذي أعطى للفكر الشيعي أسبقية في التحدث والكتابة في الأحكام السلطانية ، وكيفية التعامل مع السلطان ، فنجد الحسن بن أحمد ابن المغيرة البوشنجي أبا عبد الله ، وهو شيخ بعض مشايخ النجاشي ، وشيخ القميين محمد بن الحسن بن أحمد بن داود القمي (المتوفى سنة 368 هـ) أستاذ الشيخ المفيد ،

(1) المبسوط : ج 1 ، ص 1 .
دفاع عن التشيع 453

نجدهم قد صنفوا وكتبوا كتباً خاصة في التعامل مع السلطان (1) .
بالإضافة إلى الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين فله كتاب باسم «السلطان» (2) .
وهكذا المفيد والمرتضى والطوسي ، فهؤلاء كتبوا للعمل مع السلطان كتباً خاصة .
يقول أحمد عنايت : كان متكلمو الشيعة وفقهاؤهم قد بذلوا ذكاءً ملحوظاً في أفضل جزء من تاريخ التشيع في إيجاد طرق عملية للتوافق مع حكام العصر ، وذلك حتى يضمنوا بقاء أتباعهم وأمنهم (3) .
ولهذا تقول دروينا كرافولكس المستشرقة الألمانية : إن الإمامية الاثنى عشرية من بين الشيعة اتخذوا موقفاً معتدلاً تجاه الأكثرية السنية الموجودة في السلطة من خلال الخلافة ، فقد وافقوا على التعايش والخضوع للخلافة السنية القائمة (4) .
فانخراط فقهاء الشيعة كان الهدف منه ليس الغاء (الإمامة ، النص ، العصمة) كما تصور الكاتب ، بقدر ضرورة الانخراط لأغراض مختلفة ، ولهذا يقول فؤاد إبراهيم :
وتظهر لنا التطورات اللاحقة أن انخراط قسم من علماء الشيعة في الدولة الصفوية لم يتم بمعزل عن وعي الإمامة الإلهية . . . ولذلك لا تغدو مشاركة العلماء في الدولة الصفوية في عهودها الأولى كونها استجابة لظروف خارجية موضوعية تقتضي تحصين سيرورة وصيرورة الجماعة الشيعية هنا ، والذي من شأنه تبرير التوسل بالدولة والتماهي فيها (5) .
ولقد أخطأ أحمد الكاتب عندما جعل تدخل الفقيه الشيعي في بعض مناحي الحياة

(1) الذريعة إلى تصانيف الشيعة : ج 15 ، ص 345 .
(2) الفهرست للطوسي : ص 237 ، رقم 710 .
(3) الفكر الإسلامي المعاصر : ص 59 .
(4) مجلة الاجتهاد : عدد 3 ، ربيع 1989 ، ص 115 ، وهي مجلة تعنى بقضايا الدين والمجتمع ، تصدر عن دار الاجتهاد بيروت .
(5) الفقيه والدولة : ص 146 .
دفاع عن التشيع 454

تراجعاً منه عن نظرية الإمامة الإلهية التي وبتصوره تحصر كل الصلاحيات بالإمام دون غيره .
وهذه النظرة خاطئة غير مبنية على تحقيق علمي لصلاحيات الفقيه الشيعية ماضياً وحاضراً ، فلقد وردت روايات من أئمة أهل البيت تجيز للفقهاء التدخل والقيام ببعض الوظائف ، واتفق كل العلماء على هذا التدخل ، وإن اختلفوا فيه سعة وضيقاً .
ومن تلك الروايات ، حديث الإمام الصادق عليه السلام حيث قال : «انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإني قد جعلته عليكم حاكماً» (1) .
ومشهورة أبي خديجة التي قال الإمام الصادق عليه السلام فيها : «اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإني قد جعلته عليكم قاضياً» (2) .
وكذلك قول الإمام عليه السلام : «إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو ترادى بينكم في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بينكم رجلاً منكم ممن قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإني قد جعلته قاضياً ، وإياكم أن يتحاكم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر» (3) .
وغير ذلك من الأحاديث الشريفة لأهل البيت ، والتي عدها الأستاذ هادي معرفة إلى خمسة عشر حديثاً (4) .
وهذه الأحاديث وغيرها هي التي حددت صلاحيات الفقيه الشيعي زمن الغيبة ، وتلقاها كل من المفيد ، والمرتضى ، والطوسي ، وأبو الصلاح الحلبي ، والقاضي ابن براج ، ومحمد بن إدريس الحلي ، والعلامة الحلي ، وجمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري ، والشهيد الأول ، والمحقق الكركي ، والشهيد الثاني ، والأردبيلي ، وبهاء الدين العاملي ،

(1) وسائل الشيعة : ج 18 ، ص 99 ، باب 11 ، ح 1 .
(2) وسائل الشيعة : ج 18 ، ص 99 ، باب 11 ، ح 6 .
(3) وسائل الشيعة : ج 18 ، ص 100 ، باب 11 .
(4) ولاية الفقيه أبعادها وحدودها : ص 47 ـ 100 .
دفاع عن التشيع 455

وجعفر كاشف الغطاء ، ومحمد حسن النجفي ، وغيرهم من الفقهاء ، تلقوها بالقبول ، وعلى أساس ذلك حددوا صلاحيات الفقيه الشيعي في عصر إقصاء المعصوم عن منصبه وعصر الغيبة .
قال الشيخ المفيد : (فأما إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى ، وهم أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه واله وسلم أو من نصبوه لذلك من الأمراء والحكام ، وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان) .
وأضاف : (إن للفقهاء من شيعة آل محمد صلى الله عليه واله وسلم أن يجمعوا بإخوانهم . . . . ولهم أن يقضوا بينهم بالحق ويصلحوا بين المختلفين . . . ) (1) .
وقال الشيخ الطوسي في النهاية : (فأما الحدود ، فليس يجوز لأحد إقامتها إلا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله تعالى ، أو من نصبه الإمام لإقامتها . . . . وأما الحكم بين الناس والقضاء في ذلك فقد فوضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكنون فيه من تولية بأنفسهم) .
وقال في المبسوط : (وأما الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين فلا يجوز أيضاً إلا لمن أذن له سلطان الحق في ذلك ، وقد فوضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكنون فيه من توليته بنفوسهم ، فمن تمكن في إنفاذ حكم أو إصلاح بين الناس أو فصل بين المختلفن فليفعل ذلك ، وله بذلك الأجر والثواب ما لم يخف على نفسه ، ولا على أحد من أهل الإيمان ويأمن الضرر فيه ، فإن خاف شيئاً من ذلك لم يجز له التعرض لذلك على حال) .
وقال السيد المرتضى : (جاءت الرواية الصحيحة لمن هذه حاله أن يقيم الحدود ويقطع السراق ويفعل كل ما اقتضت الشريعة فعله من هذه الأمور) (2) .
ويقول أبو الصلاح الحلبي (المتوفى سنة 447 هـ) متحدثاً عن الفقيه : (فهو نائب عن ولي الأمر في الحكم ، ومأهول له لثبوت الإذن منه ومن آبائه لمن كان بصفته في

(1) المقنعة : كتاب الأمر بالمعروف ، ص 810 .
(2) الرسائل : ج 2 ، ص 89 .
دفاع عن التشيع 456

ذلك ، ولا يحل له القعود عنه) (1) .
وقال سلار : (ومن تولى من قبل ظالم وكان قصده إقامة الحق ، أو اضطر إلى التولي ، فليتعمد تنفيذ الحق ما استطاع ، وليقضي حق الإخوان) (2) .
وقال القاضي ابن البراج (المتوفى سنة 481 هـ) : (أن يقيم الحدود إذا استخلفه السلطان الجائر وجعل إليه إقامة الحدود بشرط أن يعتقد أنه من قبل الإمام العادل المهدي (عج) في ذلك ، وأن يفعل ذلك بإذنه لا بإذن السلطان الجائر) (3) .
فسلار وابن البراج وغيرهم ، وإن شرعوا للاستثناء أي في حالة تولية السلطان الجائر للفقيه ذلك ، ولكن هذا التشريع مبني على أن الفقيه له إذن من ولي الأمر في القيام بتلك الأعمال ، ويستطيع في حالة المكنة أن ينفذ تلك التشريعات بواسطة ذلك الإذن العام من الإمام .
واستمر محمد بن إدريس الحلي ، والمحقق الحلي ، والعلامة الحلي على هذا المنوال ، وأن هناك صلاحيات ممنوحة للفقيه الشيعي للتدخل في الحياة العامة (4) .
وأما جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري (المتوفى سنة 826 هـ) فقد قال : (لا بد من إقامة الحدود مطلقاً اعتماداً على روايات ، مثل : العلماء ورثة الأنبياء ، وغيرها) (5) .
واتفق الأردبيلي مع سلار وابن البراج في مسألة تولي الفقيه من قبل الظالم بالاستناد حقيقة تدخل الفقيه الشيعي محمد باقر السبزواري ، فقال : (إن الأكثر على أن للمولى أن يقيم الحد على عبده في زمان الغيبة ، وربما يلوح من كلام بعضهم

(!) الكافي في ا لفقه : ص 423 .
(2) المراسم : ص 264 .
(3) المهذب : ج 1 ، ص 342 .
(4) السرائر : ج 2 ، ص 24 ؛ شرائع الإسلام : ج 1 ، ص 391 ؛ تذكرة الفقهاء : ص 459 .
(5) كنز العرفان : ص 597 .
(6) مجمع الفائدة والبرهان : ج 7 ، ص 550 .
دفاع عن التشيع 457

اشتراط الفقاهة) (1) .
وقال : (وأما إقامة الحدود فللإمام أو من يأذن له ، وهل لفقهاء الشيعة في حال الغيبة ذلك ؟ محكي في المنتهى عن الشيخين أنهما جزما بجواز ذلك) (2) .
أما كاشف الغطاء فقد سمح للمجتهد تولي إقامة الحدود في زمان الغيبة ، وأعطى الضوء الأخضر لكل واحد في إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع عدم الضرر ، وفي حالة إجبار الفقيه الشيعي من قبل سلطان الجور على تولي بعض الأمور ، يقوم بذلك نيابة عن الإمام لا عن الحاكم ، كما هو عليه سلار وابن البراج والأردبيلي وغيرهم (3) .
وقال صاحب الجواهر (فقد قيل والقائل الإسكافي والشيخان والديلمي والفاضل والشهيدان والمقداد وابن فهد والكركي والسبزواري والكاشاني وغيرهم على ما حكي عن بعضهم : يجوز للفقهاء العارفين بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية العدول ، إقامة الحدود في حال غيبة الإمام عليه السلم ، كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت ، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك ، كما يجب مساعدة الإمام عليه السلام عليه ، بل هو المشهور ، بل لا أجد فيه خلافاً إلا ما يحكي عن ظاهر ابني زهرة وإدريس) (4) .
إذن ، الفكر الشيعي الفقهي يسمح بتدخل الفقيه في الحياة ، وإن اختلفوا في حدود هذا التدخل سعةً وضيقاَ ، وهذا التدخل مستوحى من كلام الأئمة عليهم السلام للفقيه ودوره في الحياة ، وأعطى للفكر الشيعي مرونة التعامل في كل الظروف .
فلقد حمل تشريعات تصدي الفقهاء لمناصب الحكم والتدخل في الشؤون الحياتية العامة وحمل أيضاً تشريعات استثنائية في حالة تسلط الظلام وإجبار الفقهاء على

(1) كفاية الأحكام : ص 83 .
(2) كفاية الأحكام : ص 83 .
(3) كشف الغطاء : ص 421 .
(4) جواهر الكلام : ج 21 ، ص 393 ـ 394 .
دفاع عن التشيع 458

التصدي لبعض الأمور ، وقد قيل بحق هذه المرونة :
كان متكلمو الشيعة وفقهاؤهم قد بذلوا ذكاءً ملحوظاً في أفضل جزء من تاريخ التشيع في إيجاد طرق عملية للتوافق مع حكام العصر ، وذلك حتى يضمنوا بقاء أتباعهم وأمنهم (1) .
ولكن هذا التدخل لم يكن بمعزل عن وعي الإمامة الإلهية وشروط الإمام ، وما غير ذلك كما يتصور أحمد الكاتب ، ولهذا يقول نبيل إبراهيم :
فالإمامة وشروطها ومواصفاتها كانت نصب أعين الفقهاء في زمن الغيبة عندما استوحوا مسألة تدخل الفقيه الشيعي في مناحي الحياة من قبل أئمتهم عليهم السلام .
ثم جاء الشيخ النراقي ليحول ذلك التراث الضخم من الحدود والصلاحيات إلى نظرية ولاية الفقيه ، وقال :
(كل ما كان للنبي صلى الله عليه واله وسلم والإمام عليه السلام فيه الولاية فللفقيه أيضاً ذلك ، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما) (2) .
ثم أضاف : (إن كل فعل متعلق بامور العباد في دينهم أو دنياهم ولا بد من الإتيان به ، ولا مفر منه ، إما عقلاً ، أو عادةً من جهة توقف امور العباد والمعاش لواحد أو جماعة عليه ، وإناطة انتظام امور الدين أو الدنيا ، أو شرعاً من جهة ورود أمر به اجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو إفساد على مسلم أو دليل آخر . . . أو ورود الإذن فيه من الشارع ، ولم يجعل وظيفة لمعين واحد أو جماعة ، ولا لغير معين ، أي واحد لا بعينه ، بل علم لابدية الإتيان به أو الإذن فيه ، ولم يعلم المأمور ولا المأذون فيه ، فهو وظيفة الفقيه ، وله التصرف فيه والإتيان به) (3) .
واستدل كما استدل علماء الطائفة من قبل بالروايات والأحاديث التي ذكرنا جملة منها فيما تقدم .

(1) الفكر الإسلامي المعاصر : ص 59 .
(2) عوائد الأيام : ص 187 .
(3) عوائد الأيام : ص 188 .
دفاع عن التشيع 459


وقال أيضاً أخيراً بضرس قاطع : (الفقهاء هم الحكام في زمان الغيبة والنواب من الأئمة) .
وأخيراً استلم السيد الخميني هذا التراث من أسلافه الذين سبقوه والذين لم تسنح لهم الفرصة من إقامة الدولة لقلة العدد وضعف الناصر وجور حكام الزمان وسلاطين الوقت .
استلم ذلك التراث بعد استكمال الدراسة النظرية عليه فقال :
(فولاية الفقيه ـ بعد تصور أطراف القضية ـ ليست أمراً نظرياً يحتاج إلى برهان ، ومع ذلك دلت عليها بهذا المعنى الواسع روايات) (1) .
وأحكم السيد الخميني هذه المسألة حتى في حالة مزاحمة الفقهاء ، فجعل المزاحمة أمراً تنكره العقول ومخالفاً لطريقة العقلاء ، ولازم هذا الوجه قيام الدليل الاجتهادي على عدم جواز المزاحمة وبطلان تصرف المزاحم وحرمته ، وإن أحرزنا من الأدلة أن الولاية بلا قيد ثابتة للفقيه ، لكن احتملنا سبق أحد من الفقهاء موجب لسقوط ولاية غيره حال تصديه تستصحب ولايته الثابتة قبل تصدي الآخر . . . فليس لأحد من الفقهاء الدخول فيما دخل فيه فقيه آخر (2) .
وأقام دولة على ذلك التراث الذي وصفه الكاتب بالانعزال السياسي ، وما إن قامت تلك الدولة حتى تجند لها طلاب الدنيا وعبدة الشيطان لتحديد صلاحياتها ومسؤولياتها وبمختلف الوسائل ، وآخر هذه الوسائل أقلام من غرر بهم .
المهم إن كل ما ذكرنا لم يتم بمعزل عن وعي الإمامة الإلهية وشروطها التي نسبها الكاتب إلى فقهاء الشيعة وعلمائها بدون بحث ولا تحقيق .

الشيعة والنظرية الإعلامية

خالف أحمد الكاتب أبسط مقومات الإمامية التي اعترف بها هو في كل موارد كتابه ، وهي السرية التامة في طرح نشاطاتهم وأنظمتهم وأفكارهم ، ولكنه عندما

(1) البيع : ج 2 ، ص 467 .
(2) البيع : ج 2 ، ص 518 .
دفاع عن التشيع 460

شاهد أن مؤلفي الفرق دائماً يؤكدون بذهاب الجمهور إلى الإمام الجديد ، وخصوصاً بعد وفاة العسكري ، فقد قال المفيد : إن الجمهور ذهبوا إلى القول بإمامة ابنة المنتظر (1) ، عندما شاهد ذلك ، علله بدور الإعلام الشيعي في تكريس ذلك (2) ، ولكنه نسي أنه في كل مورد من موارد كتابه كان يتحدث عن السرية التامة التي لفت نظرية التشيع من وفاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى وفاة العسكري وبعد ذلك وإلى يومنا هذا ، حتى إنه وضع عنواناً بارزاً أسماه (سرية نظرية الإمامة) (3) ، ولكنه نسي ذلك في (ص 263) وأشاد بدور الإعلام في تثبيت نظرية الإمامة ، وبالخصوص إمامة الإمام المهدي المنتظر .
ولو تتبعنا الدور الإعلامي الشيعي على مر التاريخ نجده معطلاً تماماً ، ليس وحده فقط ، بل عطل تدوين الحديث في الإسلام قاطبة حتى لا يأخذ الإعلام الشيعي دوره بالظهور ، وهذا ما حدث في العصور الأولى من صدر الإسلام ، ثم جاء عثمان لينفي أبا ذر إلى الربذة ، ويخمد صوتاً إعلامياً ينادي باسم الاسلام ، واستلم معاوية من بعده الخلافة ، وفتح ملفاً خاصاً لدفن الأحياء وحرقهم بمجرد إذاعة كرامة أو نشر فضيلة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وجاء من بعده يزيد الذي أصبح اسمه كافياً لوصم التاريخ بالخزي والعار ، وتتابع حكام الجور في قتل وتشريد أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ، بحيث وصل الأمر إلى أن يتجنب الناس حتى السلام على العلويين ، وذلك عندما دخل إبراهيم بن هرمة المعاصر للمنصور إلى المدينة ، وأتاه رجل من العلويين فسلم عليه ، فقال له إبراهيم : تنح عني ولا تشط بدمي (4) ، فالسلام وحده على من ينتسب للبيت العلوي كان جريمة لمعاقبة الناس ، ووصل الأمر إلى أن منصور بن الزبرقان النمري قال أبياتاً من الشعر أدت به إلى أن ينبش قبره وتحرق عظامه (5) . ونفي أحمد

(1) الفصول المختارة : ص 318 .
(2) احمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 263 .
(3) أحمد الكاتب ، تطور الفكر السياسي : ص 75 .
(4) تاريخ بغداد : ج 6 ، ص 127 .
(5) زهرة الأدب : ج 3 ، ص 705 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي