موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 115

خرجنا به حتى صلينا عليه في المسجد وانّ الحسين (عليه السلام) أمر أن يفتح البيت، فحال دون ذلك مروان بن الحكم وآل أبي سفيان ومَن حضر هناك من ولد عثمان بن عفان، وقالوا: أيدفن أمير المؤمنين عثمان الشهيد القتيل ظلماً بالبقيع بشرّ مكان ويدفن الحسن مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ والله لا يكون ذلك أبداً حتى تكسر السيوف بيننا، وتنقصف الرماح وتنفد النبل.
فقال الحسين (عليه السلام): أم والله الّذي حرّم مكّة، للحسن بن عليّ بن فاطمة أحق برسول الله وبيته ممّن أدخل بيته بغير إذنه، وهو الله أحق به من حمّال الخطايا مسيّر أبي ذر (رحمه الله) الفاعل بعمار ما فعل، وبعبد الله ما صنع، الحامي الحمى، المؤوي لطريد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لكنكم صرتم بعده الأمراء، وبايعكم على ذلك الأعداء وأبناء الأعداء.
قال ـ ابن عباس ـ فحملناه فأتينا به قبر أمه فاطمة (عليها السلام) فدفناه، إلى جنبها رضي الله عنه وأرضاه.
(ووجدت عند بعض المتأخرين ان ابن عباس شارك في دفن الإمام الحسن (عليه السلام) حيث ذكر ان الحسين ومحمّد بن الحنفية وابن عباس أدخلوه القبر).
واستمراراً في الحديث السابق نقرأ موقف ابن عباس.
(مع عائشة)
قال ابن عباس: وكنت أوّل من انصرف فسمعت اللغط وخفت أن يعجل الحسين على من قد أقبل، ورأيت شخصاً علمت الشرّ فيه، فأقبلت مبادراً، فإذا أنا بعائشة في أربعين راكباً على بغل مرحّل تقدمهم وتأمرهم بالقتال، فلمّا رأتني قالت: إليّ إليّ يا بن عباس لقد اجترأتم عليّ في الدنيا، تؤذونني مرة بعد أخرى تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحبّ (؟!).

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 116

فقلت: واسوأتاه يوم على بغل ويوم على جمل تريدين أن تطفئ فيه نور الله، وتقاتلي أولياء الله، وتحولي بين رسول الله وبين حبيبه أن يدفن معه، إرجعي فقد كفى الله تعالى المؤنة، ودفن الحسن إلى جنب أمه، فلم يزدد من الله تعالى إلاّ قرباً، وما ازددتم منه والله إلاّ بُعداً، يا سوأتاه انصرفي فقد رأيتِ ما سرّكِ.
قال: فقطبّت في وجهي ونادت بأعلا صوتها: أما نسيتم الجمل يا بن عباس، إنكم لذوو أحقاد فقلت: أم والله ما نسيه أهل السماء فكيف ينساه أهل الأرض، فانصرفت وهي تقول:
فألقت عصاها فاستقرّ بها النوى كما قرّ عيناً بالإياب المسافر»

وروى المجلسي في البحار نقلاً عن عيون المعجزات المنسوب للمرتضى قال: «فقام ابن عباس (رضي الله عنه) وقال: يا حميراء ليس يومنا منك بواحد يوم على الجمل ويوم على البغلة، أما كفاك أن يقال: يوم الجمل حتى يقال يوم البغل يوم على هذا ويوم على هذا، بارزة عن حجاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تريدين إطفاء نور الله والله متمّ نوره ولو كره المشركون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقالت له: إليك عني وأفّ لك ولقومك»(1).
وروى أيضاً نقلاً عن الخرايج للراوندي: «ثمّ قال ابن عباس ـ لعائشة ـ: واسوأتاه يوماً على بغل ويوماً على جمل.
قال: وفي رواية: يوماً تجمّلت ويوماً تبغّلت وإن عشت تفيّلت. فأخذه ابن الحجّاج الشاعر البغدادي فقال:
تـجـمّـلـت تـبـغّـلـت وإن عـشـت تـفـيّـلـت

(1) بحار الأنوار 44/141 نقلاً عن عيوان المعجزات.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 117

يا بنت أبي بكر لا كان ولا كنت لكِ التسع من الثمن وبالكل تملّكت»(1)

وروى ابن شهر اشوب في المناقب كلام ابن عباس مع عائشة وفيه:
«تـجـمّـلـت تـبـغّـلـت وإن عـشـت تـفـيّـلـت

ثمّ قال: قال الصقر البصري:
ويـوم الحسـن الهادي على بغلك أسرعت
ومـايـسـتِ ومـانـعـتِ وخاصـمت وقاتلت
وفي بـيـت رسـول الله بـالـظـلـم تحـكّـمـت
هـل الـزوجـة أولـى بالمواريث من البنت
لـك الـتـسع من الثمن فـبـالـكـل تحـكّـمـت
تجـمّـلـتِ تـبـغـلـتِ ولـو عـشـتِ تـفيلتِ»(2)

وقد روى ابن سعد في ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) من طبقاته بسنده عن عباد ابن عبد الله بن الزبير قال: «سمعت عائشة تقول يومئذ: هذا الأمر لا يكون أبداً، يدفن ببقيع الفرقد ولا يكون لهم رابعاً، والله إنّه لبيتي أعطانيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته، وما دفن فيه عمر وهو خليفة إلاّ بأمري، وما أثر عليّ (رحمه الله) عندنا بحسن»(3).
وهذا أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في مختصره لابن منظور(4)، وأشار إليه الذهبي في سير أعلام النبلاء(5).

(1) نفس المصدر /154 نقلاً عن الخرايج للراوندي. راجع الخرائج 1/243 ط مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) قم.
(2) المناقب 3/204 ط الحيدرية.
(3) الطبقات الكبرى (ترحمة الإمام الحسن) 3/393 ط الخانجي بمصر.
(4) مختصر تاريخ دمشق 7/45.
(5) سير أعلام النبلاء (ترجمة الأمام الحسن) 3/276.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 118

(مع مروان)
وفي رواية الشيخ المفيد في الإرشاد قال: «فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له ارجع يا مروان من حيث جئت، فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لكنا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته ثمّ نردّه إلى جدته فاطمة فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان أوصى بدفنه مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلمت أنك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك، لكنه (عليه السلام) كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً(1) كما طرق ذلك غيره، ودخل بيته بغير إذنه.
ثمّ أقبل على عائشة وقال لها: واسوأتاه يوماً على بغل ويوماً على جمل، تريدين أن تطفئ نور الله، وتقاتلي أولياء الله، إرجعي فقد كُفيتِ الّذي تخافين، وبلغتِ ما تحبين، والله منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين»(2).

عودة إلى الإشكال:

فقال الإربلي في كشف الغمة: «إنّي نقلت أنّ عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) كان بدمشق وأخبره معاوية بموت الحسن (عليه السلام): وجرى بينهما كلام أغلظ فيه ابن عباس، وقال له: أصبحت سيّد قومك، قال: أما والحسين بن عليّ حي فلا.
وقد أوردنا ها هنا انّه حدّثَ مروان وعائشة وقال لهما ما ذكرناه فيجب أن نحقق، ولا يجوز أن يكون القائل غير عبد الله، فإن ابن عباس إذا ورد هكذا لم يرد به إلاّ عبد الله...اهـ»(3).

(1) قارن مناقب ابن شهر آشوب 3/204 ط الحيدرية.
(2) الإرشاد /193 ط الحيدرية.
(3) كشف الغمة 1/548 منشورات الشريف الرضي.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 119

أقول: وعلينا الآن أن نستذكر أوّلاً ما مرّ بنا من أخبار البلاذري الثلاثة، ولنعيد النظر فيها، ونرى فيها ما اتفقت عليه وما اختلفت فيه ثمّ نبيّن رأينا في دلالاتها، فنقول:
أ- إنّ الخبر الأوّل والثالث يتفقان في ذكر سبب موت الإمام (عليه السلام) وأنّه شرب عسلاً بماء رومة فمات منها (؟) وما أدري لماذا مات الإمام من شرب العسل الممزوج بماء رومة؟ ورومة أسم بئر بالمدينة زعم الأمويون أنّ عثمان اشتراها وتصدّق بها على المسلمين كما زعموا أنّه سقط فيها خاتم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّذي كان يلبسه عثمان (؟) وزعموا وزعموا، والآن زعم معاوية أنّ ماءها إذا مزج بالعسل تفاعل حتى يصير سماً (؟) فشرب منه الإمام الحسن (عليه السلام) ومات من شربته (؟).
ب- والخبر الأوّل والثاني يتفقان في مكان اللقاء بين ابن عباس ومعاوية وهو كان بمكة.
ج- بينما يتفق الثاني والثالث في صيغة تعزية معاوية: لا يسوءك الله... وفي جواب ابن عباس له: لا يسوؤني الله ما أبقاك يا أمير المؤمنين (؟) وهذا بيت القصيد في مدح أبي يزيد.
د- كما أنّهما يختلفان في مقدار المال الّذي أمر به معاوية، ففي الخبر الثاني مائة ألف درهم وفي الخبر الثالث ألف ألف درهم.
ومهما يكن فإنّ معاوية لم يدع مدح ابن عباس يذهب هدراً، بل أرسل إليه ما يشتري به ذمته (؟) أليس هذا هو المطلوب كما يبدو من عرض البلاذري لأخباره، وكأنّه يرتأي أنّ اللقاء كان بمكة، حيث ساق ذلك بإسناد، بينما ذكر الخبر الثالث مرسلاً عن سماع ولم يفصح ممّن سمعه (؟) فهو ساقط بالمرّة، ونعود إلى إسناد الخبرين الأولين.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 120

فالأوّل منهما عن عباس بن هشام عن أبيه عن جده عن أبي صالح...
وجهالة حال العباس قد تكفي في رد خبره، وإن كان أبوه هشام بن محمّد ابن السائب الكلبي ممّن له ترجمة في الرجال وكذلك، وجده أيضاً وإن أسيء القول فيه من بعضهم لأنّه روى فضيلة لآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(1).
وأبو صالح هو باذام قال فيه القطان: «أرَ أحداً من أصحابنا تركه، وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً»(2).
فالخبر على ما في سنده من هناة تمنع من قبوله ولا مؤيداً لما قدّمناه من حضور ابن عباس وصية الإمام الحسن (عليه السلام) وتجهيزه ومشاركته في تأنيب عائشة ومروان: فهو لا دلالة فيه على أنّ لقاء مكة كان أوّل لقاء بين ابن عباس ومعاوية بعد موت الإمام الحسن (عليه السلام)، وقول معاوية: «واعجباً للحسن...» لا يدل على أكثر من بداية أموية استفزازية في إثارة ابن عباس.
أمّا الخبر الثاني فسنده عن المدائني عن ابن جعدبة = يزيد بن عياض ـ عن صالح بن كيسان.
وشهرة المدائني تغني عن تعريفه، غير أنّ ابن جعدبة طعن فيه البخاري ويحيى ومالك، وقد رماه بالكذب، وقال فيه النسائي وغيره: «متروك» مع أنّه من رجال الترمذي وابن ماجة عند أصحاب الحديث.
أمّا صالح بن كيسان، فقالوا فيه: «أحد الثقات والعلماء رُمي بالقدر»، ونفى ابن حجر في لسان الميزان ذلك عنه فقال: «ولم يصح عنه ذلك»، وهذا لا يجعل المتن مقبولاً، ويكفي وجود ابن جعدبة، فهو ساقط متناً لسقوطه سنداً، نعم يبقى

(1) طبقات ابن سعد 8/479.
(2) الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 2/69.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 121

موافقته في تعيين مكان اللقاء لما ورد في الخبر الأوّل، لكنا بيّنا أنّ صيغة التعجب من معاوية لا تدل على بداية اللقاء بعد موت الإمام الحسن (عليه السلام).
على أنّ ابن سعد ذكر في كتابه الطبقات الكبير في ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) أربعة أخبار في لقاء ابن عباس مع معاوية بعد موت الإمام الحسن (عليه السلام) نذكرها بحذافيرها كما هي:
«327 - قال: أخبرنا محمّد بن عمر، قال حدثنا عبد العزيز بن محمّد، عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال: لمّا جاء نعي الحسن ابن عليّ، استأذن ابن عباس على معاوية ـ وكان ابن عباس قد ذهب بصره، فكان يقول لقائده: إذا دخلت بي على معاوية فلا تقدني فان معاوية يشمت بي ـ فلمّا جلس قال معاوية: لأخبرنّه بما هو أشدّ عليه من أن أشمت به، فلمّا دخل قال: يا أبا العباس هلك الحسن بن عليّ، فقال ابن عباس إنّا لله وإنّا إليه راجعون ـ وعرف ابن عباس أنّه شامت به ـ فقال: أما والله يا معاوية لا يُسدّ حفرتك، ولا تُخَلّد بعده، ولقد أصبنا بأعظم منه، فجبرنا الله بعده، ثمّ قام.
فقال معاوية: لا والله ما كلّمت أحداً قط أعدّ جواباً ولا أعقل من ابن عباس.
328 - قال: أخبرنا عفّان بن مسلم قال: حدّثنا سلاّم أبو المنذر قال قال معاوية لابن عباس مات الحسن بن عليّ يبكّته بذلك، قال: فقال: لئن كان مات فإنّه لا يسدّ بجسده حفرتك، ولا يزيد موته في عمرك، ولقد أصبنا بمن هو أشدّ علينا فقداً منه، فجبر الله مصيبته.
329 - قال: أخبرنا عليّ بن محمّد عن مسلمة بن محارب، عن حرب بن خالد قال: قال معاوية لابن عباس: يا عجباً من وفاة الحسن شرب عسلة بماء رومة

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 122

فقضى نحبه، لا يحزنك الله ولا يسوءك في الحسن فقال: لا يسوءني ما أبقاك الله، فأمر له بمائة ألف وكسوة.
قال: ويقال إنّ معاوية قال لابن عباس يوماً: أصبحت سيّد قومك، قال: ما بقي أبو عبد الله فلا.
330 - قال: أخبرنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو هلال عن قتادة قال قال معاوية: واعجباً للحسن شرب شربة من عسل يمانية بماء رومة فقضى نحبه، ثمّ قال لابن عباس: لا يسوؤك الله ولا يحزنك في الحسن، فقال: أمّا ما بقى الله لي أمير المؤمنين فلن يسؤني ولن يحزنني قال: فأعطاه ألف ألف من بين عرض وعين فقال: أقسم هذه في أهلك»(1).
فهذه الأخبار على ما في أسانيدها من ضعف كما ذكر المحقق في الهامش ـ فهي لا تذكر مكان اللقاء، ولا تحديد زمانه سوى أنّه كان بعد موت الحسن (عليه السلام) وذلك يمكن أن يكون اللقاء بعد حضور ابن عباس وصية الحسن لأخيه، ثمّ حضوره تجهيزه ودفنه وحتى بعد كلامه مع عائشة ومروان كما مرّ موثقاً بأسانيد متعددة، وحينئذ لا تعارض بين حضوره بالمدينة تلك المراسيم والمواقف وبين حضوره بمكة على تقدير صحة روايات البلاذري فهناك كان أوّل اللقاء بينه وبين معاوية.
إذن فمن أين أتى الإشكال في تعارض حضوره بالشام مع حضوره بالمدينة؟
والجواب: إنّما أتى من روايات مسندة ومرسلة أوردها بعض المؤرخين ذكرت انّ معاوية ابتدأ إخبار ابن عباس بموت الإمام الحسن (عليه السلام)، وكان ذلك بالشام فلابدّ لنا من عرض تلك الروايات والوقوف عندها.

(1) الطبقات الكبرى 1/361 ـ 363 تح ـ د محمّد بن صامل السُلمي ط الطائف سنة 1414هـ.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 123

مواقف متضاربة:

إنّ الباحث المحقق يستلفت نظره اختلاف روايات المؤرخين في حضور ابن عباس في الشام عندما أتى معاوية خبر موت الإمام الحسن (عليه السلام)، وإظهاره الشماتة بذلك، حتى أنّه كبّر وسجد وسجد معه كما سيأتي خبر ذلك. وعلى ذلك الاختلاف تضاربت مواقف المؤرخين في هذه القضية، فمنهم من صرّح بأنّه كان بالشام كالزبير بن بكار في الموفقيات كما حكاه عنه الإربلي في كشف الغمة، ويظهر من ابن قتيبة واليعقوبي مثل ذلك وربما من آخرين مثلهم.
ومنهم من صرّح بأنه كان بالشام ولكن ليس حين أتى النعي بموت الإمام (عليه السلام)، بل كان بعد ذلك بأيام كما عن ابن أعثم الكوفي وسيأتي خبره.
ومنهم من ارتأى أنّ الّذي كان بالشام هو قثم بن العباس وليس عبد الله كما في الدر النظيم ويأتي خبره.
فالآن إلى عرض النصوص:
أوّلاً: ما رواه الزبير بن بكّار (ت 256 هـ) في الأخبار الموفقيات كما حكاه الإربلي (ت 692 هـ) في كشف الغمة، ولولاه لضاع هذا مع ما ضاع من نصوص الأخبار الموفقيات، إذ لم يوجد في المطبوع منها بتحقيق الدكتور سليم النعيمي كما فاته أن يذكره مع الضائع من الموفقيات، وقد استدركته عليه فيما استدركت من الموارد وقد بلغت خمسة عشر نصاً. وإليك ذلك بتوسط كشف الغمة:
قال الإربلي: «وحدّث الزبير عن رجاله قال: قدم ابن عباس على معاوية، وكان يلبس أدنى ثيابه ويخفض من شأنه لمعرفته أنّ معاوية كان يكره إظهاره لشأنه، وجاء الخبر إلى معاوية بموت الحسن بن عليّ (عليه السلام)، فسجد شكراً لله تعالى،

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 124

وبان السرور في وجهه ـ في حديث طويل ذكره الزبير وذكرت منه موضع الحاجة إليه ـ وأذن للناس وأذن لابن عباس بعدهم، فدخل فاستدناه وكان قد عرف بسجدته.
فقال له: أتدري ما حدث بأهلك؟ قال: لا.
قال: فإنّ أبا محمّد توفي (رحمه الله) فعظّم الله لك الأجر.
فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، عند الله نحتسب المصيبة برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعند الله نحتسب مصيبتنا بالحسن بن عليّ (رحمه الله)، انّه قد بلغتني سجدتك، فلا أظن ذلك إلاّ لوفاته، والله لا يسدّ جسده حفرتك، ولا يزيد انقضاء أجله في عمرك، ولطال ما رزينا بأعظم من الحسن ثمّ جبر الله.
قال معاوية: كم كان أتى له من العمر؟ قال: شأنه أعظم من أن يجهل مولده.
قال: أحسبه ترك صبية صغاراً، قال: كلنا كان صغيراً فكبر.
قال: أصبحت سيّد أهلك. قال: أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين بن عليّ فلا، ثمّ قام وعينه تدمع فقال معاوية: لله درّه لا والله ما هيّجناه قط إلاّ وجدناه سيّداً.
ودخل على معاوية بعد انقضاء العزاء فقال: يا أبا العباس أما تدري ما حدث في أهلك؟ قال: لا.
قال: هلك أسامة بن زيد فعظّم الله لك الأجر. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحم الله أسامة وخرج.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 125

وأتاه بعد أيام وقد عزم على محاقته(1) فصلّى في الجامع يوم الجمعة، واجتمع الناس عليه يسألونه عن الحلال والحرام والفقه والتفسير واحوال الإسلام والجاهلية وهو يجيب، وافتقد معاوية الناس فقيل: إنّهم مشغولون بابن عباس، ولو شاء أن يضربوا معه بمائة ألف سيف قبل الليل لفعل.
فقال: نحن أظلم منه حبسناه عن أهله، ومنعناه حاجته، ونعينا إليه أحبّته، انطلقوا فادعوه، فأتاه الحاجب فدعاه. فقال: إنا بني عبد مناف إذا حضرت الصلاة لم نقم حتى نصلي، أصلي إن شاء الله وآتيه. فرجع، وصلّى العصر وأتاه فقال: ما حاجتك؟ فما سأله حاجة إلاّ قضاها وقال: أقسمت عليك لما دخلت بيت المال فأخذت حاجتك ـ وإنّما أراد أن يعرف أهل الشام ميل ابن عباس إلى الدنيا فعرف ما يريده ـ فقال: انّ ذلك ليس لي ولا لك، فإن أذنت أن أعطي كلّ ذي حقّ حقّه فعلت.
قال: أقسمت عليك إلاّ دخلت فأخذت حاجتك. فدخل فأخذ برنس(2) خزّ أحمر يقال انّه كان لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ثمّ خرج، فقال: يا أمير المؤمنين بقيت لي حاجة؟ فقال: ما هي؟ قال: عليّ بن أبي طالب قد عرفت فضله وسابقته وقرابته، وقد كفاكه الموت، أحبّ أن لا يشتم على منابركم. قال: هيهات يا بن عباس هذا أمر دَين أليس أليس؟ وفعل وفعل؟ فعدّد ما بينه وبين عليّ كرّم الله وجهه.
فقال ابن عباس: أولى لك يا معاوية والموعد القيامة، ولكل نبأ مستقرّ وسوف تعلمون. وتوجه إلى المدينة... اهـ»(3).

(1) المحاقّة: المخاصمة واثبات حقه وانه أولى به.
(2) البرنس ثوب يغطي الرأس والبدن كما هو لباس المغاربة في عصرنا.
(3) كشف الغمة /127 ط حجرية سنة 1294 و 1/403 منشورات الشريف الرضي.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 126

فهذا الخبر الّذي رواه الزبير بن بكار عن رجاله كان أفادنا كثيراً لو أنّ الإربلي نقله عنه برمّته، ولكنه اختصره فحذف ذكر السند ـ وهذا أمر بالغ الأهمية في تعمية السند. ثمّ لم يكتف بذلك حتى حذف من المتن كثيراً حيث قال: في حديث طويل ذكره الزبير وذكرت منه موضع الحاجة إليه. فرحم الله الإربلي فهو بقدر ما أحسن إلينا من حفظ هذا النص الّذي لولاه لضاع فيما ضاع من نصوص الموفقيات، فقد فوّت أيضاً كبير فائدة بتركه ذكر السند، وحذفه من المتن الطويل ما لو ذكره ربّما أفادنا كثيراً في جلاء بعض الغموض الّذي اكتنف حضور الشام، ومهما يكن فجزاه الله خيراً.
ثانياً: ما رواه إنسان معاصر للإربلي، فقد روى لنا النص بتفاوت وطوى ذكر الاسناد كما صنع الإربلي وذلك هو الفقيه حُميد الشهيد المتوفى سنة 652 ذكر في كتابه الحدائق الوردية في أحوال الأئمّة الزيدية. وإلى القارئ ما ذكره كما في نسخة مكتبة الإمام كاشف الغطاء مخطوطة(1):
جاء فيه (ذكر خبر دخول ابن عباس على معاوية وإخباره له بموت الحسن (عليه السلام» فقال: «ولمّا نُعي الحسن (عليه السلام) إلى معاوية وعبد الله بن العباس بباب معاوية فحُجب ابن عباس حتى أخذ الناس مجالسهم، ثمّ أذن له، فقال: أعظم أجرك يا بن عباس، قال: فيمن؟ قال في الحسن بن عليّ.
قال: إذن لا يزيد موته في عمرك، ولا يدخل عمله عليك في قبرك، فقد فقدنا من هو أعظم منه قدراً، وأجل منه أمراً، فاعقب الله عقبى صالحة، فخرج ابن عباس وهو يقول أربع أبيات في ذلك وهي:

(1) طبع الكتاب أخيراً بتحقيق د. المرتضى بن زيد المحظوري الحسني 1423 مطبوعات مكتبة مركز بدر العلمي الثقافي صنعاء والخبر فيه في1/184- 186 بتفاوت يسير.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 127

أصبح اليوم ابن هند آمنا (شامتا خ ل) ظاهر النخوة إذ مات الحسن
ولقد كان عليه عمره مثل رضوى وثبير وحضن
فارتع اليوم ابن هند قامصاً (آمناًخ ل) إنّما يقمص بالعير السَمَن(1)
فاتق الله وأظهر توبة إنّما كان كشيء لم يكن»

ثمّ قال المؤلف: «وروينا عن الزهري من طريق السيّد الامام المرشد بالله يحيى بن الإمام الموفق بالله أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل الحسين الجرجاني رواه بإسناده مع ما تقدم آنفاً قال: قدم ابن عباس على معاوية، فمكث أياماً لا يؤذن له، ثمّ أذن له ذات يوم، فدخل فإذا معاوية مستبشر ومن يطيف به. فقال: يا بن عباس أتدري ما حدث في أهل بيتك؟
قال: أما والله ما أدري ما حدث في أهل بيتي غير أني أراك مستبشراً ومَن يطيف بك.
قال: الحسن بن عليّ مات، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون يكرّرها مراراً. ثمّ قال: أما والله يا معاوية لا يزيد موته في عمرك، ولا تسد حفرته حفرتك، ولقد أصبنا بمن كان أعظم منه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكفانا الله، ثمّ خرج من عنده. قال: ثمّ مكث أياماً لا يصل إليه، ثمّ وصل إليه ذات يوم، فقال معاوية: يا بن عباس أتدري ما حدث في أهل بيتك؟ قال: وما حدث في أهل بيتي؟ قال: مات أسامة بن زيد.
قال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون رحم الله أسامة بن زيد، ثمّ خرج من عنده، وقد كان ابن عباس تقشّف وكره أن يتزيا بزيّه فيشّهره أهل الشام فيضرّ به

(1) ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار 4/197 ط الأوقاف البيت الأوّل الثالث ونسبهما لعبد الله بن عباس في موت الحسن بن عليّ.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 128

ذلك عند معاوية. فلمّا رجع إلى منزله قال: يا غلام هات ثيابي فوالله لئن جلست لهذا المنافق ينعى الي أهلي واحداً واحدا إنّي اذن أحمق، قال: فقال: عليّ بالمقطّعات فلبسها، قال: ثمّ قال: عليّ بعمامة له اسمها الحوبية فلبسها، وكان من أجمل الناس، أمدّهم جسماً، وأحسنهم شَعرا، وأحسنهم وجها.
قال: ثمّ أتى مسجد دمشق فدخل، فلمّا نظر إليه أهل الشام قالوا: من هذا؟ ما يشبه هذا إلاّ الملائكة، ما رأينا مثل هذا. قالوا: هذا ابن عباس، هذا ابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فجلس إلى سارية وتقوّض إليه الخلق، فما سئل عن شيء إلاّ أجابهم من تفسير كتاب الله، ولا حلال ولا حرام، ولا وقعة كانت في جاهلية ولا إسلام، ولا شعر كان في جاهلية ولا إسلام إلاّ أجابهم به. قال: ومعاوية لا يشعر بشيء من هذا فانتبه، فقال للآذن: أئذن لمن بالباب، قال: أو بالباب أحد؟ قال: فأين الناس؟ قال: ذهبوا إلى ابن عباس. قال: هاه قد فعلوها! نحن والله أظلم منه وأقطع للرحم، اذهب يا غلام فقل له أجب أمير المؤمنين، فأتاه الرسول، قال: فقال ابن عباس: انا بنو عبد مناف لا نقوم من عند جليسنا حتى يكون هو الّذي يقوم، ولكن قد تقاربت الصلاة، فإذا صلينا أتينا أمير المؤمنين.
قال: فأتاه الرسول فأخبره، فقال: صدق دعه حتى يصلي.
قال: فلمّا صلّى جاء ابن عباس حتى دخل عليه، فقال له معاوية: ما حاجتك يا بن عباس؟ قال: دينٌ عليّ قال: قد أداه الله عنك، قال: وما استعين به على الزمان، قال: وذلك لك، أو بقيت لك حاجة؟ قال: لا، قال: ادخل بيت المال فاحمل ما بدا لك، قال: انا بنو عبد المطلب لا نأخذ من مال المسلمين إلاّ ما احتجنا إليه، قال: عزمت عليك إلاّ ما فعلت. قال: فدخل ابن عباس بيت المال فتلفّت يميناً وشمالاً فرأى برنساً من خزّ أدكن، فتدرّعه ثمّ خرج به، قال: أخذت

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 129

حاجتك؟ قال: نعم، قال: الحقّ ببلادك، قال: يا أمير المؤمنين إنّك حيث نعيت إلى الحسن بن عليّ آليت أن لا أسكن المدينة بعد ما بدا ولا أجد مكاناً أجمل من جوار أمير المؤمنين. قال: هيهات ليس إلى ذلك سبيل، قال: فبقيت لي حاجة هي أهم الحوايج إليّ وهي لك دوني، قال: فأي حاجة هي لنا دونَك، إنا نخاف أن نسارع إليها؟ قال: عليّ بن أبي طالب قد كفاك الله مؤنته ومضى لسبيله، وقد عرفت منزلته وقرابته فكفّ عن شتمه على المنابر. قال: هيهات ليس إلى ذلك سبيل يا ابن عباس هذا موضع دين، إنّه غشّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسمّ أبا بكر وذم عمر وقتل عثمان، فليس إلى الكفّ عنه سبيل.
فقال له ابن عباس: الله حسبك فيما قلت، ثمّ خرج فلم يلتقيا»(1).
ثالثاً: ما رواه ابن قتيبة (ت270 هـ) في كتابه الإمام والسياسة، قال:
«فلمّا كانت سنة احدى وخمسين مرض الحسن بن عليّ مرضه الّذي مات فيه، فكتب عامل المدينة إلى معاوية يخبره بشكاية الحسن، فكتب إليه معاوية: إن استطعت أن لا يمضي يوم بي يمر إلاّ يأتيني فيه خبره فافعل. فلم يزل يكتب إليه بحاله حتى توفي. فكتب إليه بذلك، فلمّا أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً حتى سجد وسجد من كان معه فبلغ ذلك عبد الله بن عباس وكان بالشام يومئذ، فدخل على معاوية فلمّا جلس قال معاوية: يا بن عباس هلك الحسن بن عليّ، فقال ابن عباس: نعم هلك إنّا لله وإنّا إليه راجعون ترجيعاً مكرراً ـ وقد بلغني الّذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته، أما والله ما سدّ جسده حفرتك، ولا زاد نقصان أجله عمرك، ولقد مات وهو خير منك، ولئن أصبنا به لقد أصبنا بمن كان خيراً منه جده رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، فجبر الله مصيبته، وخلف علينا من

(1) الحدائق الوردية /109- 111 (مخطوط).
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 130

بعده أحسن الخلافة، ثمّ شهق ابن عباس وبكى وبكى من حضر في المجلس وبكى معاوية، فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم.
فقال معاوية: بلغني أنّه ترك بنين صغاراً؟ فقال ابن عباس: كلنا كان صغيراً فكبر.
قال معاوية: كم أتى له من العمر؟ فقال ابن عباس: أمر الحسن أعظم من أن يجهل أحد مولده.
قال: فسكت معاوية يسيراً ثمّ قال: يا بن العباس أصبحت سيّد قومك من بعده.
فقال ابن عباس: أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا.
قال معاوية: لله أبوك يا بن عباس، ما استنبأتك إلاّ وجدتك معدّاً»(1).
رابعاً: ما رواه أبو حنيفة الدينوري (ت282هـ) في الأخبار الطوال، قال:
«وانتهى خبر وفاة الحسن إلى معاوية ـ كتب به إليه عامله على المدينة مروان ـ فأرسل إلى ابن عباس وكان عنده بالشام ـ قدم عليه وافداً ـ فدخل عليه فعزّاه وأظهر الشماتة بموته فقال له ابن عباس: لا تشمتن بموته لا تلبث بعده إلاّ قليلاً»(2).
خامساً: ما رواه اليعقوبي (ت بعد 292هـ) في تاريخه، قال:
«وتوفي الحسن بن عليّ وابن عباس عند معاوية، فدخل عليه لمّا أتاه نعي الحسن فقال له يا بن عباس إن حسناً مات.
قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون على عظم الخطب وجليل المصاب، أما والله يا معاوية لئن كان الحسن مات فما ينسئ موتُه في أجلك، ولا يسد جسمه حفرتك، ولقد مضى إلى خير، وبقيت على شر.

(1) الإمامة والسياسة 1/144ـ 145 ط الأمة سنة 1328.
(2) الأخبار الطوال /222 ط تراثنا بمصر.

السابق السابق الفهرس التالي التالي