موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 147

الناس وإن قرب، ثمّ أرسل إلى الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس، فسبق ابن عباس، فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليّاً.
ثمّ قال: يا بن عباس لقد وفّر الله حظكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول (عليه السلام).
فقال ابن عباس: نعم أصلح الله أمير المؤمنين وحظنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ، أوفر.
فجعل معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجادلة، ويعدل إلى ذكر الأعمال على اختلاف الغرائز والطباع. حتى أقبل الحسين بن عليّ، فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت على يمينه، فدخل الحسين وسلّم فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم فأخبره ثمّ سكت. قال: ثمّ ابتدأ معاوية فقال: فالحمد لله وليّ النعم ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلاّ الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علواً كبيراً، وأن محمداً عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فأدى عن الله وصدع بأمره، وصبر على الأذى في جنبه، حتى أوضح دين الله وأعزّ أولياءه، وقمع المشركين وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بُذل له، واختار منها الترك لما سخّر له، زهادة واختياراً لله وأنفة واقتداراً على الصبر، بغياً لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك، وبين ذلك خوض طال ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعاً، وما أعلم منه فوق ما تعلمان. وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم ما أحاول به من أمر الرعية من سد الخلل ولمّ الصدع بولاية يزيد بما

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 148

أيقظ العين وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد، وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المرؤة، وقد أصبت من ذلك في يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن، والحلم الّذي يرجح بالصم الصلاب، وقد علمتما أنّ الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم، ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنة مذكورة، فقادهم الرجل بأمره، وجمع بهم صلاتهم وحفظ عليهم فيأهم، وقال ولم يقل معه، وفي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أسوة حسنة، فمهلاً بني عبد المطلب فإنّا وأنتم شعباً نفع وجد، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلاّ بفضل قولكما، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما، وأستغفر الله لي ولكما.
قال: فتيسّر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة، فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد ونصيبي في التهمة أوفر، فأمسك ابن عباس، فقام الحسين فحمد الله وصلّى على الرسول ثمّ قال: أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدي القائل وان أطنب في صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من جميع جزءاً، وقد فهمت ما لبّست به الخلف بعد رسول الله من ايجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ البيعة، وهيهات هيهات يا معاوية فضح الصبح فحمة الدجى، وبهرت الشمس أنوار السُرج، ولقد فضّلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجرت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من أتم حقّه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمّد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 149

تخبر عمّا كان احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السّبق لأترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدم باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص، ورأيتك عرّضت بنا هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثنا، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول (عليه السلام) ولادة، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك، وردّه الإيمان إلى النَصَف، فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار. وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتأميره له، وقد كان ذلك، ولعمرو بن العاص فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له، وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم أمرته، وكرهوا تقديمه، وعدّوا عليه أفعاله، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً، وحولك من يؤمن في صحبته، ويعتمد في دينه وقرابته، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنيا، وتشقى بها في آخرتك، وإنّ هذا لهو الخسران المبين وأستغفر الله لي ولكم.
قال: نظر معاوية إلى ابن عباس فقال: ما هذا يا بن عباس ولما عندك أدهى وأمرّ.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 150

فقال ابن عباس: لعمر الله إنها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر، فاله عمّا تريد فإن لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.
فقال معاوية: أعود الحلم التحلم، وخيره التحلم عن الأهل انصرفا في حفظ الله»(1).

وعيد وتهديد لمن لم يبايع يزيد:

روى ابن أعثم الكوفي (ت 314هـ) في الفتوح قال:
«وخرج معاوية من منزله إلى المسجد الأعظم فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ ذكر ابنه يزيد في خطبته وقال: من أحق بالخلافة من ابني يزيد في فضله وهديه ومذهبه وموضعه من قريش؟ والله اني لأرى قوماً يعيبونه، وما أظنهم بمقلعين ولا منتهين حتى يصيبهم مني بوائق تجتث أصولهم، فليربع أولئك على ضلعهم من قبل أن تصيبهم مني فاقرة لا يقومون لها، فقد أنذرت إن نفع الإنذار، وبينت إن نفع البيان، ثمّ جعل يتمثل بهذه الأبيات ويقول:
قد كنتُ حذّرتك آل المصطلق وقلت يا عامر ذرني وانطلق
إنّك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرّك مني من خُلق
دونك ما استسقيته فاحس وذق

قال: ثمّ ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسين بن عليّ وقال: والله لئن لم يبايعوا ليزيد لأفعلن ولأفعلن... ثمّ ذكر اجتماعه مع عائشة وما جرى بينهما ممّا لا يعنينا ذكره...

(1) الإمامة والسياسة 1/152.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 151

قال: وأرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير فأخبر أنّهم قد مضوا إلى مكة ـ وذكر غيره انّ الحسين أيضاً ممّن خرج إلى مكة ـ قال ابن اعثم: فسكت ساعة يفكر في أمرهم، ثمّ أرسل إلى عبد الله بن عباس فدعاه، فلمّا دخل عليه قرّب مجلسه ثمّ قال: يا بن عباس أنتم بنو هاشم وأنتم أحق الناس بنا، وأولاهم بمودتنا، لأننا بنو عبد مناف، وإنّما باعد بيننا وبينكم هذا الملك، وقد كان هذا الأمر في تيم وعدي فلم تعترضوا عليهم، ولم تظهروا لهم من المباعدة ثمّ قتل عثمان بين أظهركم فلم تغيّروا، ثمّ وليت هذا الأمر فوالله لقد قرّبتكم وأعطيتكم ورفعت مقداركم (أقداركم) فما تزدادون مني إلاّ بُعداً، وهذا الحسين بن عليّ قد بلغني عنه هنات غيرها خير له منها، فاذكروا عليّ بن أبي طالب ومحاربته إياي ومعه المهاجرون والأنصار، فأبى الله تبارك وتعالى إلاّ ما قد علمتم، أفترجون بعد عليّ مثله؟ أم بعد الحسن مثله؟
قال: فقطع عليه ابن عباس الكلام ثمّ قال: صدقت يا معاوية نحن بنو عبد مناف، وأنتم أحق الناس بمودتنا وأولاهم بنا، وقد مضى أوّل الأمر بما فيه فأصلح آخره فإنّك صائر إلى ما تريد، وأمّا ما ذكرت من عطيّتك علينا فلعمري ما عليك في جود من عيب.
وأمّا قولك: ذهب عليّ أفترجون مثله؟ فمهلاً يا معاوية رويداً لا تعجل، فهذا الحسين بن عليّ وهو حيّ وهو ابن أبيه، واحذر أن تؤذيه يا معاوية، فيؤذيك أهل الأرض، فليس على ظهرها اليوم ابن بنت نبيّ سواه.
فقال معاوية: إنّي قد قبلت منك يا بن عباس.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 152

قال: ثمّ رحل معاوية إلى مكة ورحل معه كافة أصحابه وعامة أهل المدينة وفيهم عبد الله بن عباس»(1).
وأظن نحو إيهام في العبارة: (ورحل معه كافة... وفيهم عبد الله بن عباس) إذ لا يعني أنّ عبد الله بن عباس ممّن خرج مع معاوية في ركابه كما قد يتوهم ذلك. بل كان خرج منفصلاً عن معاوية، فقد كان له موكب كما كان لمعاوية موكب. فقد أخرج ابن عبد البر في الاستيعاب وابن حجر في الصواعق عن يزيد ابن الأصم قال: «خرج معاوية حاجاً معه ابن عباس، فكان لمعاوية موكب ولابن عباس موكب ممّن يطلب العلم. فالمعيّة معه إنّما هي معيّة الطريق بدلالة تعدّد الموكبين، كما أنّهما اجتمعا في الطواف، فكان معاوية يستلم الأركان كلّها فأنكر عليه ابن عباس ذلك»(2).
وحديثه كما رواه أحمد في مسنده بسنده عن مجاهد عن ابن عباس: «أنّه طاف مع معاوية بالبيت فجعل معاوية يستلم الأركان كلّها، فقال له ابن عباس: لم تستلم هذين الركنين، ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يستلمهما؟
فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً، فقال ابن عباس: « لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ » (3) فقال معاوية: صدقت.
قال شاكر: اسناده صحيح وروى الترمذي معناه مختصراً باسناد آخر عن ابن عباس»(4).

(1) الفتوح لابن أعثم الكوفي 4/235 ـ 239.
(2) الاستيعاب 2/352، والصواعق المحرقة /107.
(3) الأحزاب /21.
(4) مسند أحمد 3/266 برقم 1877 تح ـ أحمد محمّد شاكر، وأنظر صحيح الترمذي 2/92.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 153

وقد تلاعبت الأهواء بهذا الخبر فقلبت المسألة وجعلت ابن عباس الفاعل ومعاوية هو المنكر، وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في الحلقة الثالثة إن شاء الله تعالى .


تضليل وأحابيل:

قال المؤرخون: «ولمّا قرب من مكة خرج الناس يستقبلونه وفيهم النفر الّذين توعّدهم وهدّد بقتلهم. فلمّا رأى الحسين قال: مرحباً بابن رسول الله وسيّد شباب المسلمين، قربّوا لأبي عبد الله دابة، وقال لعبد الله بن الزبير مرحباً بابن حواري رسول الله وابن عمته هاتوا له دابة، وقال لابن عمر: مرحباً بصاحب رسول الله وابن الفاروق، هاتوا له دابة، وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر: مرحباً بشيخ قريش وسيدها وابن الصدّيق هاتوا له دابة.
وجعلت ألطافه تدخل عليهم ظاهرة يراها الناس، ويحسن إذنهم وشفاعتهم، وحملهم على الدواب، وخرج حتى أتى مكة فقضى حجه، ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله فقدّمت، وأمر بالمنبر فقرّب من الكعبة، ثمّ أرسل إلى النفر الخمسة وهم الحسين ابن عليّ وابن عباس وابن الزبير وابن عمر وابن أبي بكر فأحضرهم وقال لهم: قد علمتم نظري لكم وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وإنّما أردت أن أقدّمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون. فسكتوا، فقال: أجيبوا. فابتدر ابن الزبير فقال: نخيّرك بعدُ إحدى ثلاث أيها أخذت فهي لك رغبة وفيها خيار: إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبضه الله ولم يستخلف أحداً، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 154

وإن شئت فما صنع أبو بكر عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلاً.
وإن شئت فما صنع عمر جعلها شورى في ستة نفر من قريش يختارون رجلاً منهم، وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وليها لكان لها أهلاً.
فقال معاوية: هل غير هذا. قال: لا. ثمّ قال للآخرين ما عندكم؟ قالوا نحن على ما قال ابن الزبير.
فقال معاوية: إنّي أتقدم اليكم وقد أعذر من أنذر، إنّي قائم فقائل مقالة فأقسم بالله لئن رد عليَّ رجل منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه، فلا ينظر امرؤ منكم إلاّ إلى نفسه، ولا يبقي إلاّ عليها.
وأمر أن يقوم على رأس كلّ واحد منهم رجلان بسيفيهما، فإن تكلم بكلمة يرد بهما عليه قوله قتلاه»(1).
قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: «وأمر معاوية من حرسه وشرطته قوماً أن يحضروا هؤلاء النفر الّذين أبوا البيعة وهم الحسين بن عليّ وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر وأوصاهم معاوية قال: إنّي خارج العشيّة إلى أهل الشام فأخبرهم أنّ هؤلاء النفر قد بايعوا وسلّموا، فإن تكلم أحد منهم بكلام يصدقني أو يكذبني فيه فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه، فحذر القوم ذلك.
فلمّا كان العشي خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدّثهم، وقد ألبسهم الحلل، فألبس ابن عمر حلة حمراء، وألبس الحسين حلة

(1) الإمامة والسياسة 1/157.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 155

صفراء، وألبس عبد الله بن عباس حلة خضراء وألبس ابن الزبير حلة يمانية ـ ولم يذكر عن حلة ابن أبي بكر شيئاً ـ ثمّ خرج بينهم، وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم وأنّهم بايعوا فقال: يا أهل الشام إن هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين وقد بايعوا وسلّموا. قال ذلك والقوم سكوت لم يتكلموا شيئاً حذر القتل، فوثب أناس من أهل الشام فقالوا يا أمير المؤمنين إن كان رابك منهم ريب فخلّ بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم، فقال معاوية سبحان الله ما أحلّ دماء قريش عندكم، يا أهل الشام لا أسمع لهم ذكراً بسوء، فإنهم قد بايعوا وسلّموا وارتضوني فرضيت عنهم (رضي الله عنهم).
ثمّ ارتحل معاوية راجعاً وقد أعطى الناس أعطياتهم وأجزل العطاء، وأخرج إلى كلّ قبيلة جوائزها وأعطياتها، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء، وذلك فيما تخيّله سيحمل بني هاشم على الضغط على الحسين (عليه السلام) ليبايع، ولكنه فشل في تصوره فقد خرج عبد الله بن عباس في أثره حتى لحقه بالروحاء ـ.
فجلس ببابه فجعل معاوية يقول مَن بالباب؟ فيقال عبد الله بن عباس، فلم يأذن لأحد، فلمّا استيقظ قال: من بالباب؟ فقيل عبد الله بن عباس، فدعا بدابته فأدخلت إليه ثمّ خرج راكباً فوثب إليه عبد الله بن عباس فأخذ بلجام البغلة ثمّ قال: أين تذهب؟ قال إلى الشام قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأومأ إليه معاوية فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 156

قال ابن عباس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبى عبد الله ابن عمر فأخرجت جائزة بني عدي. فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا؟ فقال معاوية: لستم كغيركم لا والله لا أعطيكم درهماً حتى يبايع صاحبكم. فقال ابن عباس: أما والله لئن لم تفعل لألحقن بساحل من سواحل الشام ثمّ لأقولنّ ما تعلم، والله لأتركنّهم عليك خوارج فقال معاوية: لا بل أعطيكم جوائزكم فبعث بها من الروحاء ومضى راجعاً إلى الشام»(1) وقد فشل في سياسته من الضغط على الحسين (عليه السلام) عن طريق منع الهاشميين جوائزهم، ولم يزدهم إلاّ تضامناً مع الإمام الحسين (عليه السلام) في رفضهم بيعة يزيد وقد أخذها لهم ابن عباس لسانهم المعبّر عنهم وكبير شأنهم، فأرغم معاوية على الإنصياع خاسئاً وهو حسير.
قال ابن أعثم في الفتوح ـ وقد ذكر نحو ما تقدم ـ ثمّ قال: «فتبسم معاوية وقال: بل تعطون وتكرمون وتزادون أبا محمّد. قال: ثمّ أمر معاوية لبني هاشم بجوائز سنية، فكلٌ قبل جائزته إلاّ الحسين بن عليّ فإنّه لم يقبل من ذلك شيئاً»(2).
والّذي يلفت النظر تكنية معاوية لابن عباس بأبي محمّد، ولم يذكر ذلك أحد في كناه فقد كان يكنى أبا العباس باسم ابنه العباس وهو أكبر ولده(3)، على انّه كان له ولد اسمه محمّد ذكره ابن الكلبي في جمهرة النسب وقال: «لا بقية له»(4). فلعلّه كانت ولادته في تلك الأيام فكنّاه معاوية باسمه استلطافاً واستدراجاً والله العالم بحقائق الأمور.

(1) الإمامة والسياسة 1/157.
(2) الفتوح 4/244 ـ 245.
(3) مرّّ بالجزء الأوّل ما يتعلق بهذا فراجع.
(4) أنظر جمهرة النسب /140.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 157

سنّة كسرى وقيصر: (1)

إنّ للجاحظ رسالة في بني أمية مطبوعة وهي الرسالة الحادية عشرة: قال فيها- بعد استعراضه ما حدث للأمة منذ عهد الرسالة -: «إلى أن كان من اعتزال الحسن (رضي الله عنه) الحرب، وتخليته الأمور عند انتشار أصحابه، وما رأى من الخلل في عسكره... فعندها استبد معاوية على الملك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الّذي سموه (عام الجماعة) وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة قهر وجبرية وغلبة، والعام الّذي تحوّلت فيه الامامة ملكاً كسروياً، والخلافة منصباً قيصرياً، ولم يعُد ذلك أجمع الضِلال والفسق، ثمّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا وعلى منازل ما رتبنا، حتى ردّ قضية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رداً مكشوفاً، وجحد حكمه جحداً ظاهراً في ولد الفراش وما يجب للعاهر مع اجماع الأمة على أنّ سميّة لم تكن لأبي سفيان فراشاً، وانه إنما كان بها عاهراً، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفار، وليس قتل حجر بن عدي واطعام عمرو بن العاص خراج مصر وبيعة يزيد الخليع والاستئثار بالفيء واختيار الولاة على الهوى وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة، من جنس جحد الاحكام المنصوصة والشرائع المشهورة، والسنن المنصوبة، وسواء في باب ما يستحق من الكفّار جحد الكتاب وردّ السنّة إذا كانت السنّة في شهرة الكتاب وظهوره إلاّ انّ أحدهما أعظم، وعقاب الآخرة عليها أشدّ، فهذه أوّل كفرة كانت من الأمة ثمّ لم تكن إلاّ فيمن يدّعي إمامتها والخلافة عليها، على أنّ كثيراً من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره، وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة

(1) ممّا ألحق جديداً بالكتاب.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 158

دهرنا فقال: «لا تسبّوه فإن له صحبة، وسبّ معاوية بدعة، ومن يبغضه فقد خالف السنّة» فزعمت أنّ من السنّة ترك البراءة ممّن جحد السنة... اهـ»(1).
فهذا الجاحظ وهو المعروف بعثمانيته المتشدّدة جعل عام تولي معاوية الحكم ـ العام الّذي تحولت فيه الإمامة ملكاً كسروياً والخلافة منصباً قيصرياً ـ ولم يكن بدعاً في مقالته فقد سبقه عمر فكان إذا رأى معاوية قال: «هذا كسرى العرب»(2)، ولحقه آخرون قالوا بذلك ونحوه. وقد مرت الإشارة إلى بعض ذلك، إلاّ أنّ الّذي دعاني إلى إعادة التذكير به هو ما قرأت حديثاً في كتاب (أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ) تأليف الدكتور إبراهيم عليّ شعوط الاستاذ بجامعة الأزهر.
وهذا الكتاب شأن سائر الكتب فيه الغث والسمين، إلاّ أنّ الغث غلب طبعه حتى نخر العثُّجذعه، ولست بصدد بيانه في المقام، غير أنّي رأيت المؤلف في ازدواجية معاييره بالنسبة إلى المصادر التاريخية يتبّع الهوى ويقلّد محبّ الدين الخطيب في تعليقاته على كتاب العواصم من القواصم لابن العربي المالكي، وحال الجميع يعرف من دفاعهم المستميت عن معاوية وبني أمية. وقد بلغت القحة بشعوط في الفصل الخامس انكاره لعن معاوية للإمام عليّ على منابر بني أمية فقال: «لم يصح أبداً عن معاوية (رضي الله عنه) انّه سبّ عليّاً كرّم الله وجهه أو لعنه مرة واحدة، فضلاً عن التشهير به على المنابر»(3)، وهذا من الغرابة بمكان!! فإنّ مسألة اللعن جازت الشهرة والتظافر إلى حد التواتر، وما أكثر الشواهد المثبتة لذلك الحدث المهين المشين، وقريباً مرّ بنا حديث ابن عباس مع معاوية في رفع الشتم

(1) راجع الرسالة الحادية عشرة في رسائل الجاحظ جمع السندوبي طبع مصر بمطبعة الرحمانية سنة 1352 هـ.
(2) تاريخ ابن كثير 8/125.
(3) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ /214 ط السادسة 1408 هـ نشر المكتب الإسلامي.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 159

من على منابر المسلمين فقال معاوية: هيهات يا بن عباس، وقد مرّ نقله عن الموفقيات للزبير بن بكار والحدائق الوردية فراجع (مع النصوص)، ثمّ حديث معاوية مع سعد بن أبي وقاص وقد طلب منه أن يسب أبا تراب فأبى، حديث رواه مسلم(1)، والترمذي(2)، والحاكم(3)، والطبري والمسعودي وغيرهم وغيرهم.
روى البلاذري في أنسابه: «خطب معاوية بالمدينة وذكر عليّاً فنال منه... والحسن بن عليّ تحت المنبر فقال:... يا أهل الشام إنّ معاوية يخدعكم بهذا الخاتم الّذي من كان في يده جازت كتبه في الآفاق...»(4).
وروى ابن حجر في الإصابة وابن الأثير في أسد الغابة عن شهر بن حوشب قال: «أقام فلان ـ يعني معاوية ـ خطباء يشتمون عليّاً...»(5).
وفي العقد الفريد وغيره: «انّ الأحنف قال لمعاوية وقد سمع خطيب أهل الشام يلعن عليّاً: إنّ هذا القائل لو يعلم أنّ رضاك في لعن المرسلين للعنهم...»(6).
وفي أنساب الأشراف: «وكتب معاوية إلى المغيرة: أظهر شتم عليّ وتنقصه»(7).
وفيه أيضاً: «إنّ معاوية كان قد أوصاه حين أراد توليته قال: لا تكفكفن عن شتم عليّ وذمّه»(8).

(1) صحيح مسلم 7/120 ط صبيح.
(2) سنن الترمذي 13/171.
(3) مستدرك الحاكم 3/109.
(4) أنساب الأشراف 1ق 4/113.
(5) الإصابة 1/77، وأسد الغابة 1/134.
(6) العقد الفريد 2/144.
(7) أنساب الأشراف (بنو عبد شمس) 1ق 4/23.
(8) نفس المصدر /243، وأنظر كلٌّ من تاريخ الطبري 2/111 ـ 113، وتاريخ ابن الأثير 3/392 ـ 396.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 160

وحديث المغيرة مع صعصعة بن صوحان كما في مسند أحمد ومستدرك الحاكم والأذكياء لابن الجوزي(1)، وحديث رفع عمر بن عبد العزيز لسنّة السبّ، كلّ ذلك ممّا ذاع وشاع، ويجده من له أدنى اطلاع في المصادر التاريخية وغيرها(2). وحديث شتم بسر للإمام عند معاوية وزيد بن عمر بن الخطاب جالس فعلاه بعصاً فشجّه لأنّه جده من قبل أمه أم كلثوم رواه الطبري وابن الأثير(3)، وقد شتم بسر بن أبي أرطأة على منبر البصرة ثمّ قال: «نشدت الله رجلاً علم أني صادق إلاّ صدقني أو كاذب إلاّ كذبني، فقال أبو بكرة: الله انّا لا نعلمك إلاّ كاذباً، قال فأمر به فخنق»(4)، وبنى زياد مساجد لشيعة بني أمية ومن يبغض عليّاً يسبّونه فيها ـ فمنها مسجد بني عدي ومسجد بني مجاشع ومسجد الأساورة ومسجد الحُدان(5)، وشتم كثير بن شهاب على منبر الري وكان يكثر ذلك(6).
وشتم مروان بن الحكم على منبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبحضور الحسن بن عليّ(7). روى الذهبي في تاريخه: «كان مروان أميراً بالمدينة ست سنين فكان يسب عليّاً»(8).
وشتم عمرو بن سعيد الأشدق وبالغ في الشتم فاصابته اللقوة(9).

(1) مسند أحمد 1/188، ومستدرك الحاكم 1/385، والأذكياء لابن الجوزي.
(2) راجع تاريخ اليعقوبي 3/48، والمسعودي 2/167، وابن الأثير 7/17، وتاريخ السيوطي /161.
(3) رواه الطبري 5/335، وابن الأثير 3/5 ط بولاق.
(4) تاريخ الطبري 6/96.
(5) أنساب الأشراف 1ق 4/232.
(6) الكامل لابن الأثير 3/179.
(7) تاريخ الخلفاء للسيوطي /127.
(8) تاريخ الإسلام للذهبي 2/288 ط القدسي.
(9) إرشاد الساري 4/368، وتحفة الباري الأنصاري بذيل الإرشاد.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 161

وقد ودّع معاوية الحياة بسماعه شتم الإمام(1).
ثمّ إنّهم سبّوا عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) وقالوا فيه القبيح... وقال مروان لعليّ بن الحسين: «ما كان في القوم ادفع عن صاحبنا من صاحبكم ـ يعني عليّاً ـ عن عثمان، قال عليّ: فما بالكم تسبّونه على المنابر؟ قال: لا يستقيم الأمر إلاّ بذلك»(2).
ومع هذا كلّه وغيره، أنكر الاستاذ الأزهري شعوّط بجرة من القلم وبوقاحة فقال: «لم يصح أبداً عن معاوية (رضي الله عنه) انّه سبّ عليّاً كرّم الله وجهه أو لعنه مرة واحدة فضلاً عن التشهير به على المنابر». ولم يقف عند هذا الحد، بل جاوز الحزام الطبيين فانتهى إلى جعل عنوان بارز (الصحيفة البيضاء لمعاوية بن أبي سفيان) فقال: «بمعايير العدل ومقاييس الإنصاف يعرض علينا جملة من الرواة ومجموعة من رواد الحقّ مكانة معاوية وصورته الحقيقية الّتي ينبغي أن يعرفه الناس بها، وينزعوا من عواطفهم كلّ رواسب البغض والضغينة الّتي خلّفتها ـ في أعماق نفوسهم ـ الروايات المغرضة ووشايات السوء الحاقدة»(3).
ثمّ ساق ثمانية شواهد لاثبات زعمه كان سادسها شهادة ابن عباس لمعاوية يرويها الطبري وابن كثير هكذا: «ما رأيت أحداً أخلق للملك من معاوية، إن كان يرد الناس منه على أرجاء واد رحب»(4).
وحيث أورد ذكر ابن عباس شاهداً فعلينا أن نحقق ما رواه لتعريف القارئ بأمانته في النقل فنقول:

(1) راجع ابن أعثم 4/254 في خبر موته وأخذ البيعة لابنه يزيد ودخول سبعين رجلاً من صناديد قريش وأهل الشام.
(2) رواه الذهبي في تاريخ الإسلام 2/129 ط القدسي وقال رواه ابن أبي خيثمة باسناد قوي.
(3) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ /214.
(4) تاريخ الطبري 5/337، والبداية والنهاية 8/135.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 162

نحن راجعنا المصدرين المذكورين فرأينا كلمة ابن عباس في الطبري هكذا: «حدّثني عبد الله بن أحمد قال حدّثني أبي قال حدّثني سليمان قال: حدّثني عبد الله عن معمر عن همّام بن منبّه قال سمعت ابن عباس يقول: ما رأيت أحداً أخلق للمُلك من معاوية، إن كان ليرد الناس منه على أرجاء وادٍ رَحِب، ولم يكن كالضيّق الخصخص، الحصير ـ يعني ابن الزبير». وفي البداية والنهاية أيضاً كذلك مع اختصار في السند وفي المتن، وأحسبه أخذه عن الطبري. والخبر رواه البلاذري بسنده عن المدائني عن أبي عبد الله عن رجل قال: «قال عبد الله ابن العباس: ما رأيت أحداً كان أحق بالملك من معاوية، لله درّه إن كان حليماً وإن كان الناس لينزلون منه بأرجاء واد خصب، لم يكن بالضيّق الليّق المتصعّب الحصوص. يعني الّذي يُحاصّ في كلّ شيء»(1).وذكر المحقق في الهامش تخريجاته(2).
أقول: وفي ابن الأثير: «ولم يكن كالضيّق الحصحص الحصر يعني ابن الزبير، وكان مغضباً»(3).
ومهما يكن فإنّ خبر الطبري الّذي اعتمده مع الإغماض عمّا في سنده ويكفي وجود معمّر الّذي قال فيه الذهبي ومع كون معمر ثقةً ثبتاً فله أوهام لا سيما لمّا قدم البصرة...(4). وقد اعترف معمّر نفسه بعد أن احتجم فقال: «فقمت

(1) أنساب الأشراف 1ق 4/48 برقم 172.
(2) عن مصنف عبد الرزاق ج 11/453، والطبري 2/215، وابن الأثير 4/9 وقال: وأنظر تاريخ الإسلام 2/321، وسير الذهبي 3/101، وتاريخ البخاري 4/327، وابن كثير 8/135، واللسان 5/269 و 8/321، ونهاية ابن الأثير 1/233 و 3/102و 116 وحكى عن الذهبي وعبد الرزاق: العصعص وقال: وهو الأصوب.
(3) تاريخ ابن الاثير 3/5 ط بولاق.
(4) سير أعلام النبلاء 7/13.

السابق السابق الفهرس التالي التالي