موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 163

وما أقدر من القرآن على حرف حتى كنت لأصلي فأمر من يلقّنني»(1). وخبر البلاذري فيه جهالة الرجل الراوي عن ابن عباس، ومع الاغماض عمّا في أسانيده فإن آخر الخبر ظاهر في الموازنة بين معاوية وبين ابن الزبير، وتفضيل معاوية على ابن الزبير، وهذا لا يعني شهادة من ابن عباس في حقّ معاوية تزكّيه عمّا اقترف، وحسبنا غروره مع ما أساء واعترف، فمن غروره ما قاله إسماعيل بن قيس: «دخلنا على معاوية في مرضه الّذي مات فيه فقال: هل الدنيا إلاّ ما جرّ بنا، لوددت أنّي لا أقيم فيكم إلاّ ثلاثاً حتى ألقى الله، فقلنا إلى رحمة الله، فقال إلى ما شاء الله، إنّي لم آل فيكم إذ وليتكم فإن الله لو كره أمراً غيّره»(2).
قال ابن عيينة: «هذا والله الاغترار، ألم تكن مقاتلته عليّاً وقتله حجراً وبيعته يزيد ممّا يكره الله تعالى»(3) وحسبنا تعقيباً في المقام قول عائشة وقد رواه ابن عساكر وعنه ابن كثير(4) بالاسناد عن الأسود بن يزيد قال: «قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء وينازع أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الخلافة؟
فقالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة وكذلك غيره من الكفّار»(5)

مرويات مفتريات على ابن عباس في فضل معاوية:

والآن إلى قراءة مرويات مفتريات على ابن عباس في فضل معاوية، انتقيناها من البداية والنهاية لابن كثير، لأنّ شعوط اعتمدها كما مرّ، ولا غرابة

(1) المصنف لعبد الرزاق ـ وهو أحد الرواة عن معمر ـ 11/30.
(2) محاضرات الراغب 2/222.
(3) نفس المصدر.
(4) البداية والنهاية 8/131.
(5) تجد التحريف في تاريخ ابن عساكر وكذا في مسند الطيالسي في هذا الحديث مع ان ابن كثير نقله عنهما.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 164

فابن كثير شاميّ البلد والهوى، وهو يروي ذلك عن ابن عساكر وهو مثله وكلّهم في حب معاوية سوا.
1- قال المسيّب بن واضح عن أبي إسحاق الفزاري عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: «أتى جبرئيل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا محمّد أقرئ معاوية السلام واستوصى به خيراً، فإنّه أمين الله على كتابه ووحيه ونعم الأمين».
قال ابن كثير: ثمّ أورده ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الملك بن أبي سليمان ثمّ أورده أيضاً من رواية عليّ وجابر بن عبد الله... ولكن في الأسانيد اليهما غرائب(1).
أقول: وهذا يعني بنظره سلامة الإسناد إلى ابن عباس فلننظر حال رجاله، وحسبنا سقوط السند لوجود المسيب بن واضح الّذي قال فيه ابن عدي: «قلت لعبدان أيهما أحبّ إليك عبد الوهاب بن الضحاك أو المسيب بن واضح؟ فقال: كلاهما سواء»(2). وإذا عرفنا أنّ عبد الوهاب من الكذّابين الوضّاعين المعروفين متروك ضعيف جداً كثير الخطأ والوهم فيكفي ذلك في رد روايته(3)، وقد ضعّفه الدارقطني في أماكن من سننه(4)، ودع عنك جهالة أبي إسحاق الفزاري، وقول شعبة في عبد الملك بن أبي سليمان لتفرّده عن عطاء بخبر الشفعة للجار وقال: «لو روى عبد الملك حديثاً آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه»(5).

(1) البداية والنهاية 8/120.
(2) الكامل لابن عدي 5/295.
(3) مجمع الزوائد 9/357، وفيه قال البخاري: عنده عجائب كما في الكامل لابن عدي 5/295.
(4) ميزان الاعتدال 4/117.
(5) الكامل لابن عدي 5/302.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 165

أقول: وحسبنا بالمثلية روايته عن عطاء هذا الحديث، فإذا تم هذا فقد سقط إذن الحديث المذكور عن عطاء عن ابن عباس في معاوية.
وقد ذكر الهيثمي هذا الحديث بسند آخر رواه الطبراني في الأوسط، فقال الهيثمي: «وفيه محمّد بن فطر ولم أعرفه وعليّ بن سعيد الرازي فيه لين»(1).
وذكره السيوطي نقلاً عن الطبراني في الأوسط وذكر في سنده رجلان مجهولان كما ذكر قبله حديثاً آخر نحو ما مرّ عن ابن عباس أيضاً وعقّب على إسناده فقال: «فيه مجاهيل ومولى غفرة لا يحتج به، وهذا هو قول ابن الجوزي في الموضوعات فراجع»(2).
2- قال: «ومن رواية ابن عباس: (الأمناء سبعة: القلم واللوح واسرافيل وميكائيل وجبرائيل وأنا ومعاوية). قال ابن كثير: وهذا أنكر من الأحاديث الّتي قبله وأضعف إسناداً»(3). وحسبنا شهادة ابن كثير في رد هذه الرواية.
3- روى ابن عدي وغيره من حديث عثمان بن عبد الرحمن الجمحي عن عطاء عن ابن عباس قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (اللّهمّ علّم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب) »(4).
أقول: لقد ترجم الذهبي في ميزانه عثمان بن عبد الرحمن الجمحي هذا وحكى قول أبي حاتم فيه: لا يحتج به، وقول ابن عدي: منكر الحديث. قال: ثمّ ساق ـ ابن عدي ـ في ترجمته عدة أحاديث منكرة، منها... ثمّ ذكر الحديث المذكور آنفاً وقال: فوهم ابن عدي، وإنّما هذا الوقاصي لا الجمحي(5).

(1) مجمع الزوائد 9/357.
(2) اللئالى المصنوعة 2/218 ط مصر الأولى.
(3) البداية والنهاية 8/120.
(4) الكامل لابن عدي 5/161.
(5) ميزان الاعتدال 3/47.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 166

أقول: ورجعنا إلى ترجمة عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي فوجدنا البخاري قال: تركوه، وابن معين قال: ليس بشيء، وقال ـ مرة ـ: يكذب، وضعّفه عليّ جداً، وقال النسائي والدار قطني: متروك.
وسواء كان راوي الحديث هو الجمحي كما عن ابن عدي وابن كثير، أو هو الوقاصي كما يراه الذهبي، فهما معاً ساقطان لا يحتج بهما.
قال الدكتور جواد عليّ في كتابه المفصّل: «وقد وضعت أحاديث في مدح معاوية وبني أمية، وأرى أنّ الحديث المذكور،يعني (اللّهمّ علّمه الكتاب والحساب قاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمعاوية) وُضع في مقابل حديث (اللّهمّ علّمه الحكمة) الّذي روي أنّ الرسول قاله في(ابن عباس) وحديث (اللّهمّ فقهه في الدين وعلّمه التأويل) أو (اللّهمّ علّمه الحكمة وتأويل الكتاب) و(اللّهمّ بارك فيه وانشر منه) وأحاديث أخرى ذكر انّها قيلت فيه»(1).
أقول: ولا يبعد صحة ما رآه.
4- قال ابن كثير بعد ايراد ما مرّ وغيره نقلاً عن ابن عساكر: «ثمّ ساق ابن عساكر أحاديث كثيرة موضوعة بلا شك في فضل معاوية أضربـنا عنها صفحـاً، واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصحاح والحسان والمستجادات عمّا سواها من الموضوعات والمنكرات. ثمّ قال ابن عساكر: وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي جمرة ـ والصواب أبي حمزة ـ عن ابن عباس: «انّه كان كاتب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ أسلم» أخرجه مسلم في صحيحه...»(2). وقد سبق لابن كثير أن أخرجه(3) ولم يعلّق عليه بشيء.

(1) المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام 8/303 ط الأولى.
(2) البداية والنهاية 8/122.
(3) نفس المصدر 6/169.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 167

أقول: وقبل أن نعرّج على صحيح مسلم، نود لفت نظر القارئ إلى وصف ابن كثير لما انتقاه بالصحاح والحسان والمستجادات... ومن البديهي أنّ ما سبق منا ذكره نقلاً عنه ممّا يتعلق بابن عباس كان ممّا انتقاه، وقد بيّنا زيفه سنداً، فهو إذن ليس من الصحاح ولا الحسان ولا المستجادات، بل هو من الموضوعات والمنكرات فلماذا ذكرها؟
أمّا ما ذكره عن صحيح مسلم منسوباً إلى ابن عباس فليس ثمة ما هو كذلك وأحسبه أراد ما أخرجه عن أبي حمزة القصّاب عن ابن عباس قال: «كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فتواريت خلف باب، قال: فجاء فحطأني حطأة وقال: اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال ثمّ قال لي اذهب فادع لي معاوية قال: فجئت فقلت هو يأكل فقال: لا أشبع الله بطنه».
قال ابن المثنى قلت لأمية: ما حطأني قال: قفدني قفدة(1). (أي ضربني بكفّه بين كتفيّ).
وقد أعاد مسلم ذكر الحديث بسند آخر مختصراً للمتن(2) ومن هذا الحديث ـ فيما أظنه ـ نحت ابن عساكر الحديث عن أبي جمرة ـ والصحيح أبي

(1) صحيح مسلم 8/127 طبع محمّد عليّ صبيح.
(2) لقد مرّ ذكر هذا الحديث في الجزء الأوّل في حياة ابن عباس في عهد الرسول في شواهد ومشاهد كما مرّ في هذا الجزء في جهاد ابن عباس بسلاح الرواية وعقبنا عليه بما يقتضي المقام وذكرنا سند أحمد في مسنده أخرجه مكرراً مختصراً ومطولاً أربع مرات وليس في شيء منها جملة (لا أشبع الله بطنه) فهل ابتلعها من لم يشبع الله بطنه؟ راجع 2150 و 2651 و 3104 و 3131 تح ـ أحمد محمّد شاكر.
وأخرج أبو داود الطيالسي في مسنده برقم 2746 كما وأشار إليه ابن حجر في تهذيب التهذيب 8/136.
والذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة معاوية وابن عبد البر في الاستيعاب (ترجمة معاوية) وابن الأثير في أسد الغابة (ترجمة معاوية).
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 168

حمزة ـ فجعل معاوية (كان كاتب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ أسلم)، ومهما يكن فإنّ ذلك لا يدل على فضيلة لمعاوية بل هو يدل على مثلبة، وإن حاول مسلم وجَرى من بعده على أن ينحتوا منه منقبة لمعاوية، وقدّم لذلك مسلم بأحاديث (فأيّما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقرّبه بها إليك يوم القيامة)، أو (إنّما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهوراً وزكاة وقربة تقرّبه بها منه يوم القيامة)، وبهذا اللون من الإسفاف ـ ولو على حساب كرامة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ جعلوا من دعاء الرسول على معاوية (لا أشبع الله بطنه) كرامة له وفضيلة.
ومن السخرية بعقول الناس ما قاله ابن كثير تعقيباً على الحديث المذكور بعد أن حكاه عن أحمد ومسلم والحاكم وذكر في آخره: فما شبع بعدها. فقال: «وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه، أمّا في دنياه فإنّه لمّا صار إلى الشام أميراً كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً، ويقول والله ما أشبع وإنّما أعيا وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كلّ الملوك(؟!). وأمّا في الآخرة فقد اتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الّذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (اللّهمّ إنّما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس بذلك أهلاً فاجعل ذلك كفّارة وقربة تقرّبه بها عندك يوم القيامة) فركّب مسلم من الحديث الأوّل وهذا الحديث فضيلة لمعاوية ولم يورد له غير ذلك». انتهى ما عند ابن كثير من التعقيب.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 169

ونحن لا نناقشه في انتفاع معاوية بالدعوة في الدنيا فدلائل نهمه كثيرة(1)، ولكن من أين له إثبات ذلك في الآخرة؟! وهي غيبٌ محجوب، لا يعلمه إلاّ علاّم الغيوب، وما ذكره من تركيب مسلم فضيلة لمعاوية، فهو كسائر تمحلاته الآتية وما أدراك ما هي؟ على أنّ الحديث ليس فيه (أنّه كان كاتب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ أسلم).
قال النووي: «وأمّا دعاؤه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن لا يشبع حين تأخر ففيه الجوابان السابقان: أحدهما أنّه جرى على اللسان بلا قصد (ونحن نقول: غفرانك اللّهمّ ان هذا إلاّ بهتان عظيم)، والثاني أنّه عقوبة له لتأخره، وقد فهم مسلم (رحمه الله) من هذا الحديث أنّ معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية لأنّه في الحقيقة يصير دعاءً له»(2) (؟!).
وقال الذهبي: «فسرّه بعض المحبّين قال: لا أشبع الله بطنه حتى لا يكون ممّن يجوع يوم القيامة لأن الخبر عنه أنّه قال: أطول الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة.

(1) راجع على سبيل المثال أنساب الأشراف تح ـ احسان عباس (بنو عبد شمس) 14 برقم 44 - وهذا بعضه في المستطرف 1/165 - و42 برقم 155 وذكر في الهامش هذا في الطبري 2/ 208 والبخلاء /139 وعيون الأخبار 3/228 والبصائر 4/242 وربيع الأبرار /219 أ والعقد 6/299 وابن الأثير 4 - 7- 8 وقوت القلوب 4/79 وابن كثير 8/141 وتاريخ ابن عساكر /10/ 157.
وراجع أيضاً أنساب الأشراف / 125 برقم 357 وفي الهامش هذا في أخبار الظراف / 24.
وأيضاً في أنساب الأشراف 125 برقم 358 وفي الهامش هذا في نهاية الإرب 3/343 والمروج 5/74 والمستظرف 1/165 وابن كثير 8/119 وربيع الأبرار 211/ أسبع أكلات.
وقال البلاذري في فتوح البلدان/479 ط مصر سنة 1319: ودعاه يوماً وهو يأكل فأبطأ فقال: لا أشبع الله بطنه، فكان يقول: لحقتني دعوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان يأكل في اليوم سبع أكلات وأكثر وأقل.
وقد أضحى معاوية في نهمه مورد النكتة حتى قيل في ذلك:
وصاحب لي بطنه زاويه كأنّما في بطنه معاوية
(2) شرح صحيح مسلم 2/325 ط الهند و16/156 ط مصر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 170

قلت ـ والقائل هو الذهبي ـ هذا ما صحّ والتأويل ركيك، وأشبه منه قوله (عليه السلام): (اللّهمّ من سببته أو شتمته من الأمة فاجعلها له رحمة)، أو كما قال: وقد كان معاوية معدوداً من الأكلة»(1). انتهى ما عند الذهبي في المقام بنصّه وفصّه.
لكن الألباني تلاعب بالنص على ما فيه من هنات فقد أورد الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشرّق وغرّب إلى أن حكى عن النووي ما ذكرناه آنفاً، ثمّ قال بعده بلا فصل: «وقد أشار الذهبي إلى هذا المعنى الثاني، فقال في سير أعلام النبلاء (9/171/2): قلت: لعل أن يقال: هذه منقبة لمعاوية لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اللّهمّ من لعنته أو سببته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة»(2).
فقارن الآن بينه وبين ما نقلناه حرفياً عن الذهبي لتعرف مدى الخيانة ممّن يزعم لنفسه الأمانة.
ومع ذلك فقد تحامل ـ الألباني بغير حقّ ـ على من أنكر حديث: (اللّهمّ من سببته) لمسّه بكرامة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين يكون سبّه بغير حقّ وجلده بغير حقّ وقتله بغير حقّ(3)، اللّهمّ غفرانك إن هذا إلاّ بهتان عظيم.
ولم يكن الألباني بدعاً في قومه، فكم له من نظير استحوذ عليهم حبّ معاوية، ففتشوا له عن منقبة فلم يجدوا، فصاروا يقلبون المفاهيم فجعلوا من المثالب مناقب، والدعاء عليه دعاءً له « فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ » (4) فهم « يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ » (5) « فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ » (6).

(1) سير أعلام النبلاء 4/287 ـ 288 ط دار الفكر بيروت.
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم /82.
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم /84.
(4) الحج /46.
(5) المائدة /13.
(6) البقرة /79.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 171

وأعود إلى ابن عساكر الّذي اعتبر هذا الحديث من أصح ما ورد في حقّ معاوية، وتابعه ابن كثير على ذلك!! فهلاّ بحثاً عن رجال سنده أوّلاً، ولا أقل عن أبي حمزة القصاب راوي الحديث عن ابن عباس.
فقد ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فقال: لا يتابَع على حديثه ولا يعرف إلاّ به، وحكى عن سفيان قوله: قدم علينا أبو حمزة صاحب ابن عباس فلم آته(1).
وذكره ابن حجر وحكى عن أبي زرعة انّه ليّن، وعن أبي حاتم والنسائي قولهما: ليس بالقوي، وعن الآجري عن أبي داود قوله: ليس بذاك وهو ضعيف(2).
وقال النووي: «ليس له عن ابن عباس عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غير هذا الحديث، وله عن ابن عباس من قوله: إنّه يكره مشاركة المسلم اليهودي، وكلّ ما في الصحيحين أبو جمرة عن ابن عباس فهو بالجيم والراء وهو نصر بن عمران الضبعي، إلاّ هذا القصاب ـ بياع القصب ـ فله في مسلم هذا الحديث وحده، لا ذكر له في البخاري»(3).
أقول: فهذا حال الراوي عن ابن عباس ويكفي أنّه لا يتابَع على حديثه كما قال العقيلي، وليكن ابن عساكر يراه من أصح ما ورد في فضل معاوية، وليتابعه ابن كثير على ذلك « أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ » (4).
5- قال ابن كثير: «وقد قال البخاري في كتاب المناقب (ذكر معاوية بن أبي سفيان): حدّثنا الحسن بن بشر ثنا المعافى عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة قال:

(1) الضعفاء الكبير 3/299.
(2) تهذيب التهذيب 8/135.
(3) شرح صحيح مسلم 11/155 ط دار الكتاب العربي سنة 1407.
(4) محمّد /16.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 172

أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس فأتى ابن عباس فقال: أوتر معاوية بركعة بعد العشاء؟ فقال: دعه فإنّه قد صحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) »(1).
6- «حدّثنا ابن أبي مريم ثنا نافع بن عمر ثنا ابن أبي مليكة قال: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ ما أوتر إلاّ بواحدة. قال: أصاب، إنّه فقيه»(2).
أقول: ذكر البخاري هذين الخبرين في صحيحه، وكأنه لم يشأ أن يتخطى معاوية فلا يخط له ذكراً مع أصحاب السوابق والمناقب من الصحابة، ولمّا لم يجد له منقبة تؤهله لذلك فنازعته نفسه وغلبه هواه فعمد إلى حشر معاوية فقال: (باب في ذكر معاوية)، وفي اختياره هذا العنوان قال ابن حجر: «تنبيه: عبّر البخاري في هذه الترجمة بقوله ذكر ولم يقل فضيلة ولا منقبة، لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب، لأنّ ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير، وقد صنف ابن أبي عاصم جزءاً في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب وأبو بكر النقاش، وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث الّتي ذكروها ثمّ ساق عن إسحاق بن راهويه انّه قال: لم يصح في فضائل معاوية شيء، فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتماداً على قول شيخه، لكن بدقيق نظره استنبط ما يدفع (يدمغ ظ) به رؤوس الروافض، وقصة النسائي في ذلك مشهورة(3)، وكأنه اعتمد أيضاً على قول شيخه، وكذلك في

(1) البداية والنهاية 8/122.
(2) البداية والنهاية 8/122.
(3) رواها الذهبي في تذكرة الحفاظ /699 ط دمج بيروت وابن خلكان في وفيات الاعيان 1/77 والمقريزي في المقفى الكبير 1/402 وغيرهم وخلاصتها خرج من مصر إلى دمشق والمنحرف بها عن عليّ كثير فصنف كتاب الخصائص رجاء أن يهديهم الله (عزّ وجلّ). فسئل عن فضائل معاوية فقال أي شيء أخرّج ما اعرف له من فضيلة إلاّ حديث: (اللّهمّ لا تشبع بطنه) فضربوه في الجامع وداسوا في خصييه (حضنيه) حتى اخرج من الجامع، ثمّ حمل إلى مكة فمات بها سنة 303 هـ وروى المقريزي في المقفى الكبير 1/403: ان الأمير أبو منصور تكين قال قرأ عليّ أبو عبد الرحمان النسائي كتاب الخصائص، فقلت: حدثني بفضائل معاوية، فجاءني بعد جمعة بورقة فيها حديثان فقلت بهذه بس؟ فقال: وليست بصحاح! هذه غرم معاوية عليها الدراهم...
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 173

قصة الحاكم(1)، وأخرج ابن الجوزي أيضاً من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل. سألت أبي ما تقول في عليّ ومعاوية؟ فأطرق ثمّ قال: اعلم إنّ عليّاً كان كثير الاعداء ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كياداً منهم لعليّ. فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل ممّا لا أصل له، وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما والله أعلم»(2).
أقول: ومع هذه الاستماتة من ابن حجر في تبرير ذكر البخاري لمعاوية وأنّه استنبط بدقيق نظره ما يدفع (يدمغ ظ) به رؤوس الروافض، فنقول له:
أوّلاً: ما شأن الروافض في المقام، وهل أنّ من ذكر أسماءهم من لا يرى فضيلة لمعاوية هم من الروافض؟
فهل إنّ إسحاق بن راهويه رافضي؟ وهل النسائي رافضي؟ وهل أحمد بن حنبل رافضي؟ وهل ابن الجوزي رافضي؟ وهؤلاء الّذين ذكرهم ابن حجر وصرّحوا بأنّه لم تصح فضيلة لمعاوية.

(1) راجع طبقات الشافعية للسبكي 3/67 ط مصر الأولى و 4/161 ط محققة بمصر. تجد العنوان التالي ذكر البحث عمّا رُمي به الحاكم من التشيع...) وحكى السبكي قول ابن طاهر المقدسي... وكان منحرفاً غالياً عن معاوية وأهل بيته فيتظاهر به ولا يعتذر منه... وحكى عن أبي عبد الرحمن السلمي قوله: دخلت على أبي عبد الله الحاكم وهو في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد من أصحاب أبي عبد الله بن كرّام وذلك أنّهم كسروا منبره، ومنعوه من الخروج فقلت له: لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل حديثاً لاسترحت من هذه الفتنة فقال: لا يجيء من قلبي ـ يعني معاوية.
(2) فتح الباري 8/105 ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 174

ونزيده في المقام.
ثانياً: ذكر جماعة تتم بهم العشرة:
1- عبد الله بن المبارك قال: «ها هنا قوم يسألونا عن فضائل معاوية، وبحسب معاوية أن يُترك كفافاً»(1).
2- ابن تيمية - وهو عدو الروافض رقم واحد - فقد قال: «طائفة وضعوا لمعاوية فضائل ورووا أحاديث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك كلّها كذب»(2).
3- الفيروزآبادي صاحب القاموس وغيره قال في خاتمة كتابه سفر السعادة: « (باب فضائل معاوية) ليس فيه حديث صحيح»(3).
4- العيني صاحب عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري قال في شرح الحديث المذكور: «فإن قلت: قد ورد في فضله ـ يعني معاوية ـ أحاديث كثيرة، قلت: نعم ولكن ليس فيها حديث صحيح يصح من طرق الإسناد...»(4).
5- الشوكاني صاحب نيل الأوطار قال في كتابه الفوائد المجموعة: «اتفق الحفاظ على أنّه لم يصح في فضل معاوية حديث»(5).
6- العجلوني قال في كشف الخفاء: « (باب فضائل معاوية) ليس فيه حديث صحيح»(6).
7- الذهبي في سير أعلام النبلاء قال: «وقد ساق ابن عساكر في الترجمة أحاديث واهية وباطلة طوّل بها جداً. وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه

(1) أنساب الأشراف (بنو عبد شمس) /129.
(2) منهاج السنّّة 2/207.
(3) سفر السعادة /143 ط دار العصور بمصر سنة 1332.
(4) عمدة القاري 16/249.
(5) كما في الغدير 11/97 نقلاً عن الفوائد المجموعة /423 ح 162.
(6) كشف الخفاء /420.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 175

ويفضلونه، إمّا قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإمّا قد وُلدوا في الشام على حبّه، وتربّى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء وحاربوا معه أهل العراق ونُشّؤوا على النُصب، نعوذ بالله من الهوى»(1).
والآن فلننعم النظر في رجال السند:
فالخبر الأوّل بدأه البخاري بروايته عن شيخه الحسن بن بشر فمن ذا هو؟
ترجمه ابن حجر فذكر في ترجمته قول أحمد: «روى عن زهير أشياء مناكير. وقول النسائي ليس بالقوي، وقول ابن خراش: منكر الحديث»، وختم ابن حجر ترجمته بقوله: «وذكره الساجي وأبو العرب في الضعفاء»(2).
أقول: فحسبك من القلادة ما أحاط العنق.
أمّا سند الخبر الثاني ففيه نافع بن عمر، ضعّفه ابن سعد بقوله: «قليل الحديث فيه شيء»(3)، فتعقبه الذهبي بقوله: قلت هذا نوع من العنت والرجل فكما قال الإمام أجهد وكما قال ابن مهدي فيه كان من الناس ثم حكى توثيقه عن غير واحد(4). وسواء صح ما قاله أم لم يصح، فإنّ المتن يستبطن بطلانه من جهات بالبيان التالي:
الأوّل: اختلاف الراوي في نقله مع أنّ الواقعة واحدة كما مرّ في الخبرين عند البخاري، فابن المليكة ـ وهذا قاضي ابن الزبير ومؤذّنه(5) وحسبك بهذا دليلاً

(1) سير أعلام النبلاء (ترجمة معاوية) 4/291.
(2) تهذيب التهذيب 2/255 ـ 256.
(3) طبقات ابن سعد 8/56 ط الخانجي.
(4) ميزان الاعتدال 2/525 ط الهند.
(5) الطبري 5/330 وفي المصدر المذكور زيادات اختصرها ابن كثير، وقارن ابن الأثير 4/7، وابن كثير 8/140، وأنساب الأشراف (بنو عبد شمس) 1ق4/31 تح ـ احسان عباس بتفاوت ليس بينها.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 176

على هويّته الناصبة ـ قد روى الخبرين معاً وتفاوت في نقله الجواب عن ابن عباس، فهو إمّا أن يكون نطق بهذا أو بهذا، فلماذا الاختلاف في نقل الجواب؟ وهذا الاختلاف يجعل رصيداً لمعاوية عند أحبابه، فهو من الصحابة، فلا يُسأل عمّا فعل (دعه فإنّه قد صحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم»!.
وهو كذلك مصيبٌ فيما فعل (أصاب إنّه فقيه) وقد مرّ بنا قول ابن حجر: «لأن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير» مع أنّ ابن عباس لم يكن نطق بهما معاً كما هو صريح الخبرين، بل بأحدهما على تقدير صحة الخبر وأنّى ذلك؟ فلاحظ.
الثانية: منافاة تلك الشهادة المزعومة لجملة مواقف ابن عباس مع معاوية بدءاً من أوّل لقاء بينهما بعد صلح الإمام الحسن (عليه السلام) وقد مرّت الإشارة إليه، وفي ذلك الموقف يقول ابن عباس لمعاوية: «لأنّه ـ يعني الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ مسلم وأنت كافر»، فأين صارت الصحبة العاصمة؟ ثمّ من قرأ المحاورات الّتي كانت تجري بينهما طيلة عشرين سنة من حكم معاوية يجد أنّ ابن عباس لم يكن يرى لمعاوية أيّة حرمة فضلاً عن وصفه له بالفقه.
ومن ذا يصدّق بما في البخاري من خبر ابن أبي مليكة هذا، ولابن عباس موقف يعلن استنكاره على معاوية في لبسه الحرير، ويقول: «من عذيري من معاوية بن أبي سفيان أنا أقول له: قال رسول الله، وهو يقول: وأنا لا أرى به بأساً» ـ كما ستأتي المحاورة بنصها في الحلقة الثانية في صفحة احتجاجاته ـ فلو كان يراه فقيهاً لاغتفر له ذلك لإجتهاده.
كما أنّه لعنه في قطعه التلبية يوم عرفة ولم يغتفر له ذلك ـ وقد مر ذكر ذلك.

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 177

الثالثة: ولنغضّ الطرف عن جميع ما مرّ، ولنضع غشاوة على العيون لئلا نقرأ جرائم معاوية الّتي ارتكبها وكان ابن عباس ضده فيها، ولكن هلم نتسائل من أنصار معاوية عن تخريج بعض أفعال معاوية فقاهةً:
1- فهل كان الفقه يجيز له المطالبة بدم عثمان لأنّه ابن عمه، مع وجود أبنائه وهم أولياء الدم إن كان لهم حقّ المطالبة؟ وقد مرّ بنا من أجوبة ابن عباس لمعاوية في مسألة دم عثمان في بعض محاوراته ممّا يغني عن الإعادة.
ومن المفارقات أن نجد الذهبي وغيره يروي أنّ ابن عباس قال في كلام له مع بعض سمّاره واسمه زهدم الجرمي: «وأيم الله ليتأمرنّ عليكم معاوية، وذلك أنّ الله يقول: « وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا » (1)». وهذا الخبر أورده الطبراني(2) والهيثمي وعزاه للطبراني، وقال: وفيه من لم أعرفهم(3)، وأورده ابن كثير(4).
وهكذا تناقلته رواة التبرير مع رواياتهم أنفسهم لما يصادم ذلك من مواقف ابن عباس ضد معاوية في المطالبة بدم عثمان.
ورحم الله الأعمش فقد ذكر عنده معاوية وقالوا: كان حليماً فقال: كيف يكون حليماً وقد قاتل عليّاً وطلب ـ وزعم ـ بدم عثمان من لم يقتله؟ وما هو ودم عثمان، وغيره كان أولى بعثمان منه، وقال شريك القاضي: ليس بحليم من سفه الحقّ وقاتل عليّاً(5).

(1) الاسراء /33.
(2) المعجم الكبير 10/263برقم 10613.
(3) مجمع الزوائد 7/236.
(4) البداية والنهاية 8/130- 131.
(5) أنظر البداية والنهاية 8/130.

السابق السابق الفهرس التالي التالي