موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 178

2- وهل كان الفقه يجيز له التمرّد على خليفة بايعه المهاجرون والأنصار في المدينة وبقية الأمصار إلاّ الشام الّتي أنغلها معاوية، وقد قال سفيان بن عيينة: «ما كانت في عليّ خصلة تقصر به عن الخلافة، ولم يكن في معاوية خصلة ينازع بها عليّاً»(1).
3- وهل كان الفقه يجيز له الحرب الضروس على إمام زمانه ومن معه حتى قتل فيها أكثر من مائة ألف مسلم ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لعليّ: (حربك حربي وسلمك سلمي).
4- وهل كان الفقه يجيز له تبرير قتل عمار بأنّ عليّاً هو الّذي قتله، حين استعظم بعض زبانيته ذلك للحديث النبوي الشريف الثابت المتواتر: (عمّار تقتله الفئة الباغية)؟ إنّ عليّاً هو الّذي قتله أتى به فألقاه بين رماحنا، فبلغ ذلك الإمام (عليه السلام) فقال: وحمزة قتله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (؟؟).
5- وهل كان الفقه يجيز له استلحاق الدعي زياد بن أبيه فيناقض القرآن والسنّة؟
6- وهل كان الفقه يجيز له استخلاف ابنه الفاسق الفاجر على المسلمين وفيهم من هو صاحب الأمر والحقّ؟
ودع عنك تلك الأمور لأنّها في سبيل الحكم، ولكن هلم الخطب في موارد غيرها ممّا تنبئ عن استخفافه بالدين وأحكامه، وإليك الإشارة إلى بعضها وجميعها في البداية والنهاية الّتي يعتمدها شعّوط في كتابه (أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ).

(1) نفس المصدر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 179

أ- قال الزهري: مضت السنّة أن لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر، وأوّل من ورّث المسلم من الكافر معاوية(1) وقضى بذلك بنو أمية من بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فراجع السنة، وأعاد هشام ما قضى به معاوية وبنو أمية من بعده، وبه قال الزهري.
ب- ومضت السنّة أنّ دية المعاهد كدية المسلم، وكان معاوية أوّل من قصرها إلى النصف، وأخذ النصف لنفسه(2).
ج- قال ابن كثير: وذكر ابن جرير أنّ عمرو بن العاص قدم في وفد أهل مصر إلى معاوية، فقال لهم في الطريق: إذا دخلتم على معاوية فلا تسلّموا عليه بالخلافة فانه لا يحبّ ذلك. فلمّا دخل عليه عمرو قبلهم قال معاوية لحاجبه: أدخلهم، وأوعز إليه أن يخوّفهم في الدخول ويرعبهم، وقال: إنّي لأظن عمراً قد تقدم إليهم في شيء؟ فلمّا أدخلوهم عليه ـ وقد أهانوهم ـ جعل أحدهم إذا دخل يقول: السلام عليك يا رسول الله، فلمّا نهض عمرو من عنده قال: قبّحكم الله، نهيتكم عن أن تسلموا عليه بالخلافة فسلمتم عليه بالنبوّة(3).
وأخيراً: فاقرأوا ما رواه ابن عساكر في ترجمة خديج الخصي مولى معاوية قال: «اشترى معاوية جارية بيضاء، فأدخلتها عليه مجردة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها ـ يعني فرجها ـ ويقول هذا المتاع لو كان لي متاع، اذهب بها إلى يزيد بن معاوية، ثمّ قال: لا، ادع لي ربيعة بن عمرو

(1) تاريخ ابن كثير 8/139.
(2) نفس المصدر.
(3) تاريخ الطبري 5/330 وفي المصدر المذكور زيادات اختصرها ابن كثير، وقارن ابن الأثير 4/7،وابن كثير 8/140 وأنساب الأشراف (بنو عبد شمس) 1ق4/31 تح ـ احسان عباس بتفاوت يسير بينها.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 180

الجرشي ـ وكان فقيهاً ـ فلمّا دخل عليه، قال: انّ هذه اتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك، وإنّي أردت أن أبعث بها إلى يزيد؟ قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنها لا تصلح له، فقال: نعم ما رأيت. قال: ثمّ وهبها لعبد الله بن مسعدة الفزاري مولى فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكان أسود فقال له: بيّض بها ولدك.
وهذا من فقه معاوية وتحريّه حيث كان نظر إليها بشهوة ولكنه استضعف نفسه عنها، فتحرّج أن يهبها من ولده يزيد لقوله تعالى: « وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ » (1) وقد وافقه على ذلك الفقيه ربيعة بن عمرو الدمشقي... اهـ».
وإلى هنا فلنختم فقه معاوية بما ذكره ابن كثير(2) عن ابن عساكر فيما رواه في فضائل معاوية.
وليس لنا من تعليق على ما ذكره سوى إنّا نقول: أنّ زوجته ميسون الكلبية كانت أفقه منه حين دخل عليها يوماً ومعه خادم خصيّ فاستترت منه وقالت: ما هذا الرجل معك؟ فقال: إنّه خصيّ فاظهري عليه، فقالت: ما كانت المثلة لتحل له ما حرّم الله عليه، وحجبته عنها. قال ابن كثير: وفي رواية إنّها قالت له: إنّ مجرّد مثلتك له لن تحلّ ما حرّمه الله عليه.
هذه نماذج من موارد فقهه الّتي خالف فيها الكتاب والسنّة، ثمّ ينسب أولياؤه ـ وبلا حياء ـ إلى ابن عباس الّذي هو حبر الأمة وترجمان القرآن أنّه قال فيه: «أصاب إنّه فقيه»!؟ وهب أنا صدقنا الراوي في شهادة ابن عباس

(1) النساء /22.
(2) أنظر البداية والنهاية 8/140.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 181

فإنّ ابن عباس روى أيضاً أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (آفة الدين ثلاثة: فقيه فاجر، وإمام جائر، ومجتهد جاهل)، وفي قول ابن عباس ـ لو صح الخبر ـ دعه، ما يدل على سخريته بمعاوية لمخالفته السنّة، ولو لم يكن كذلك لأمره بالاقتداء به.
وتعقيباً منا على ما نسب إليه أيضاً من تبرير عمل معاوية بأنّه صحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذه الشهادة أيضاً يبطلها تقسيم ابن عباس نفسه للصحابة، فقد كان له رأي في تقسيمهم، ذكرناه في الجزء الأوّل حيث قال: «ترك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناس يوم توفي على أربع مراتب (منازل) » فراجع. ونضيف إليه هنا ما روي عنه في تقييمهم وقد قاله لمعاوية: «يا معاوية إنّ الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، خصّ نبيّه محمداً صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كلّ حال، ووصفهم في كتابه فقال: « رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ » (1) الآية، قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذّبت طرقه، وقويت أسبابه، وظهرت آلاءُ الله، واستقرّ دينُه، ووضحت أعلامه، وأذلّ الله بهم الشرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله العليا، وكلمة الّذين كفروا السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعدُ فيها.
فقطع عليه معاوية الكلام وقال: إيها يا بن عباس حديثاً في غير هذا»(2).

(1) الفتح /29.
(2) مروج الذهب 3/61 ـ 62 ط عبد الحميد.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 182

وأخيراً نختم الكلام عن رأيه في الصحبة ومن يتشدّق بها انتماءً بما رواه البزار بسند صحيح عن ابن عباس قال: «يقول أحدهم أبي صحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولَنعلٌ خَلِِقٌ خير من أبيه»، قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح(1).
فهو لا يقيم الوزن لمجرد الصحبة العامة إذ ليس كلّ من رأى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو صحبه يستحق شرف الصحبة ما لم يحسن الصحبة في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويؤدي حقّ الصحبة بعد وفاته. فذلك هو الّذي يحظى بوصف الصحبة الحقيقية على ضوء ما ذكره ابن عباس أخذاً من التخصيص الشرعي الّذي استفاده من القرآن الكريم. أمّا الّذين أساؤا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحياة، ولم يحسنوا بعد الممات فهم في الدرك الأسفل من النار وإن شملهم الإطلاق اللغوي، وضمّت تراجمهم معاجم الصحابة، ويكفينا دليلاً أخبار الحوض الصحيحة الّتي تُخرج الكثير الكثير من حظيرة القدس وشرف الصحبة إلى مهاوي الحضيض في نار جهنم(2).
فقد روى البخاري بسنده عن جبير بن نفير ـ في حديث مع المقداد بن عمرو قال فيه المقداد: «والله لقد حضر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أقوامٌ كبّهم الله على مناخرهم في جهنم... « فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ » (3)»(4).

(1) مجمع الزوائد 1/113.
(2) لي رسالة في ذلك أسميتها (قطف الروض من أحاديث الحوض) جمعت فيها الأحاديث المتعلقة بذلك من الصحاح والمسانيد والسنن، والتاريخ مع اعترافات خطيرة لأكابر الصحابة بأنهم أحدثوا بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحداثاً يخشون منها، المؤلف.
(3) الأعراف /157.
(4) الأدب المفرد /33 باب الولد قرة العين تح ـ محمّد فؤاد عبد الباقي ط السلفية سنة 1375 بمصر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 183

فهل كان ابن عباس يرى معاوية ممّن حظي بشرف الصحبة، ومن حظي بهما فلا يُسأل عمّا فعل كما هو رأي علماء التبرير؟! اللّهمّ لا، لأنّه قد لعنه في يوم عرفة على ملأ من المسلمين لأنّه ترك التلبية، وهو بالأمس قد حاربه في صفين وهو لا يزال يروي فيه ما سمعه من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من لعنه والدعاء عليه. فكيف نصدّق برواية البخاري الّتي فيها أكثر من ملاحظة!
والأعجب عندي من ذلك رواية هذا الخبر عند الشافعي في مسنده فرواه بإسناده إلى كريب مولى ابن عباس: «أنّه رأى معاوية صلّى العشاء ثمّ أوتر بركعة واحدة لم يزد، فأخبر ابن عباس، فقال: أصاب، وأي بنيّ ليس أحدٌ منا أعلم من معاوية، هي واحدة أو خمس أو سبع أو أكثر...اهـ»(1)!!
وهذه الشهادة بالأعلمية أفظع وأفضح المفتريات على ابن عباس، فقد استعر أوار المزايدات المناقبية في هذا الخبر عند الشافعي، ولست أدري كيف لم يذكرها ابن حجر وهو المتهالك على جمع الرمّ والطمّ لمعاوية؟ ولعله رآها فلم يعتن بها لوضوح كذبها. وما أدري ما جواب الشافعي والبخاري وأضرابهما ممّن روى المفتريات على ابن عباس في حقّ معاوية عمّا رواه ابن عباس من لعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمعاوية وعمرو بن العاص عندما سمعهما يغنّيان (؟)
فقد أخرج الطبراني في المعجم قال: «حدّثنا أحمد بن عليّ الجارودي الاصبهاني، ثنا عبد الله بن سعيد الكندي، ثنا عيسى بن سوادة النخعي عن ليث عن طاووس عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صوت رجلين يغنّيان وهما يقولان:
ولا يزال حواريٌ يلوحُ عظامُه زوى الحربُ عنه أن يُجَنَّ فيقبرا

(1) مسند الشافعي 1/108.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 184

فسأل عنهما، فقيل: معاوية وعمرو بن العاص، فقال: (اللّهمّ أركسهما في الفتنة رَكساً ودعّهما إلى النار دعّا) »(1). وهذا الحديث صريح في ذمّهما ولعنهما والدعاء عليهما وبالتالي فهما من أهل النار، لأنّ دعاءه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مستجاب.
وقد أقلق هذا الحديث علماء التبرير، ولهم حوله غمغمة وجعجعة من غير طحين، فقد رواه غير ابن عباس جماعة منهم:
1- أبو برزة الاسلمي وحديثه في مسند أحمد(2)، ورواه نصر بن مزاحم في كتاب صفين(3)، إلاّ أنّ الأوّل تستر على الاسمين بينما الثاني صرح بهما، وفي مجمع الزوائد قال: رواه أحمد والبزار، وأبو يعلى بنحوه ولم يخفى محاولته التستر على الرجلين، فلم يصرّح باسميهما وقال: فلان وفلان(4).
2- المطلب بن ربيعة وحديثه رواه الطبراني في الأوسط وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد(5)، وخدشه سنداً ولا ضير فله شواهد.
3- صالح شقران مولى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقد روى حديثه ابن قانع في معجمه ـ كما في لئالي السيوطي(6) بسنده عن سيف بن عمر ـ الكذّاب الوضّاع المتهم بالزندقة ـ ومع ذلك فقد تهلل وجه الراوي ـ السيوطي ـ لأنّ روايته كشفت الغمة

(1) المعجم الكبير 11/32 برقم 10970 ط الموصل.
(2) مسند أحمد 4/421 ط الأولى.
(3) كتاب صفين /246 ط مصر سنة 1365 وقد عيّنا سنة الطبع ومكانه، لأن يد الخيانة في طبعة بيروت بالمطبعة العباسية سنة 1340 حذفت هذا وما قبله وما بعده ما يقابل صفحتين ونصف ضمّت ستة أخبار في ذم معاوية كما أسقطوا الأسانيد في الكتاب، وما درى الأغبياء ان ذلك لا يعني اخفاء الحقّ عن الباحثين، فله مصادر أخرى لم تنلها أيديهم، كما له شواهد ذكرناها في المتن.
(4) مجمع الزوائد 8/121.
(5) نفس المصدر.
(6) اللئالي المصنوعة للسيوطي 1/222 ط مصر الأولى سنة 1317.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 185

عن علماء التبرير، فجعلت الغناء والدعاء على عمرو بن رفاعة أحد المنافقين وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين فقال السيوطي ـ مبتهجاً ـ وهذه الرواية أزالت الإشكال وبينت أنّ الوهم وقع في الحديث الأوّل في لفظة واحدة وهي قوله ابن العاصي وإنّما هو ابن رفاعة.
وهذا من أغرب الغرائب!! حيث أنّ ما ذكره بسنده إنّما هو عن سيف بن عمر، وهذا هو نفسه قد طعن في روايته، فقال في حديث غير هذا: «إنّه وضّاع»، وقال في حديث آخر: «فيه ضعفاء أشدّهم سيف»(1)، فكيف يزول الاشكال برواية من هو وضّاع وضعيف؟ مع أنّ نصر بن مزاحم المتوفى سنة 212 ذكر الإسمين من دون أي همهمة أو غمغمة. وهو أوثق رواية من سيف الوضّاع الّذي قال الحاكم فيه: «اتهم بالزندقة»(2) وهو في الرواية ساقط، وقال البرقاني عن الدار قطني: «متروك»(3)، وقال ابن حجر: «وقرأت بخط الذهبي مات سيف زمن الرشيد»(4).
(أقول:) فإن صح ذلك فهو معاصر لنصر، ونصر أوثق منه، قال ابن أبي الحديد فيه: «ثقة ثبت صحيح النقل غير منسوب إلى هوى ولا إدغال، وهو من رجال أصحاب الحديث»(5)، وذكره ابن حبان في الثقات(6).
فهذه جملة من المفتريات على ابن عباس في فضل معاوية ذكرها ابن كثير وحكاها عن ابن عساكر، وآخرها ممّا أخرجه البخاري في صحيحه، وبيّنا ما في

(1) نفس المصدر 1/223.
(2) تهذيب التهذيب 4/ 296.
(3) نفس المصدر.
(4) نفس المصدر.
(5) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/183.
(6) الثقات 5/549 ط دار الكتب العلمية.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 186

تلك المفتريات من الآفات الّتي تسقطها عن الاعتبار، وقد يعظم على بعضهم أن يكون البخاري يروي بعضها في فضل معاوية وإن عنون باب ذكر معاوية.
ولكن هلم الخطب فيما وجدناه وأعظم من تلك الطامات في صحيح مسلم ممّا مر ما افتري به على ابن عباس، ما رواه في فضل أبي سفيان والد معاوية، إنّها لأحدى الكُبر. فاقرأ وتدبّر، ولا تأخذك بهرجة الألقاب، والإطناب في مدح إنسان أو كتاب، وكأنّ الصحاح فيها الكذب مباح.
أخرج مسلم في صحيحه: «حدّثني عباس بن عبد العظيم العنبري وأحمد ابن جعفر المعقري قالا: حدّثنا النضر ـ وهو ابن محمّد اليمامي ـ حدّثنا عكرمة حدّثنا أبو زميل حدّثني ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا نبيّ الله ثلاث أعطنيهنّ، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجها؟ قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك؟ قال: نعم، قال: وتومّرني. حتى أقاتل الكفّار كما كنت أقاتل المسلمين؟ قال: نعم.
قال أبو زميل: ولولا أنّه طلب ذلك من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما أعطاه ذلك، لأنّه لم يكن يُسأل شيئاً إلاّ قال: نعم... اهـ»(1).
ومن حقنا الكلام تعقيباً منا على ذلك من جهات:
أوّلاً: فلندع جانباً المغالاة في الصحيحين سواء كان صحيح البخاري الّذي قيل فيه إنّه أصح كتاب بعد كتاب الله، ومن روى عنه البخاري فقد جاز القنطرة، أو كان صحيح مسلم الّذي قيل فيه: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب

(1) صحيح مسلم 7/171 كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي سفيان بن حرب ط محمّد عليّ صبيح بمصر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 187

مسلم(1)، فجميع تلك من المزايدات الرخيصة، ولكن هلمّ لنسأل مسلماً أو أي مسلم آخر هل قامت عند مسلم صاحب الصحيح الحجة بصحة هذا الخبر وهو الّذي يقول: «ما وضعت شيئاً في كتابي هذا المسند إلاّ بحجة، وما أسقطت منه شيئاً إلاّ بحجة»(2)؟
ثانياً: هل أنّ عنوان الباب الّذي ذكره (باب من فضائل أبي سفيان) يعني أنّ لأبي سفيان فضائل غير ما ذكره لمكان (من) التبعيضية، وكلمة (فضائل) الّتي تعني الجمع؟ فهل هذا كان حقيقة أم على العين غشاوة؟
ثالثاً: هل كان يعرف زمن تلك الأحدوثة الكاذبة وأنّها لا بدّ أن تكون من بعد فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة الّتي أظهر فيها أبو سفيان كلمة الشهادتين بعد معاناته من صراع نفسيّ مرير؟ فكيف تصحّ وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان في السنة السادسة من الهجرة أي قبل إسلام أبيها بسنتين؟ وهذا ما عليه اتفاق المؤرخين وأهل السير.
قال ابن الأثير في أسد الغابة: «لا اختلاف بين أهل السير في ذلك إلاّ ما وقع عند مسلم أنّ أبا سفيان لمّا أسلم طلب من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يزوجها أياها فأجابه إلى ذلك؟ وهو وهم من بعض الرواة»(3).
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: «وقد ذكر الزبير في ذلك أخباراً كثيرة كلّها تشهد بتزويج النجاشي اياها بأرض الحبشة»(4).

(1) تذكرة الحفاظ للذهبي 1/389 افست طبع حيدر اباد.
(2) نفس المصدر /390.
(3) أسد الغابة (ترجمة أم حبيبة).
(4) الاستيعاب (ترجمة رملة بنت صخر أم حبيبة) 4/298 بهامش الإصابة.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 188

وقال ابن حجر في الإصابة: «وتزوج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ابنته أم حبيبة قبل أن يسلم، وكانت أسلمت قديماً وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة فمات هناك»(1).
وقد تهالك ابن حجر في تبرير ما وقع عند مسلم حتى أنّه رد على ابن الأثير قوله: «وهو وهم من بعض الرواة»، فقال: «وفي جزمه بكونه وهماً نظر، فقد أجاب بعض الأئمّة باحتمال أن يكون أبو سفيان أراد تجديد العقد»(2)؟!!
فاقرأ واضحك على ذقن ذلك البعض، فأي تجديد عقد لنكاح صحيح وقع قبل عامين؟ وليتني أدري كيف سوّغ ابن حجر لنفسه أن يكتب ذلك وهو نفسه ذكر: «أنّه لا خلاف أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دخل على أم حبيبة قبل إسلام أبي سفيان» ثمّ ساق عن ابن سعد قصة دخول أبي سفيان المدينة قبل إسلامه، ليزيد في مدّة الهدنة، فدخل على ابنته أم حبيبة فطوت فراش رسول الله دونه لئلا يجلس عليه فقال لها: يا بنيّة أرغبتِ بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنت أمرؤ نجس مشرك، فقال: لقد أصابكِ بعدي شرّ»(3).
وبعد هذا العرض السريع لملابسات رواية مسلم هل علينا إثم لو رددناها وقلنا لا تصح نسبتها إلى ابن عباس فإنّه أوعى وأورع من أن يروي ما لا يصح؟
وقد أدرك شرّاح صحيح مسلم ما في هذه الرواية من هنات وقذاة فأربكهم إيرادها في الصحيح، وهم لا يريدون أن ينزلوه من برجه العاجي ويجعلوه كسائر الكتب لداته يؤخذ منه ويترك. كما لم يمكنهم أن يمروا على الرواية بسلام ويعني ذلك تصديقهم لما هو بيّن الإفتراء، فخاضوا مخاضاً عسيراً

(1) الإصابة (ترجمة أبي سفيان صخر بن حرب) 2/172.
(2) نفس المصدر 4/299.
(3) نفس المصدر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 189

وبالتالي تمخض الجبل عن فارة، واعترفوا بغرابته ومخالفته لما هو ثابت قطعاً. وعلى سبيل المثال نورد بعض أقوالهم:
1- قال النووي ـ وهو أشهر من شرح صحيح مسلم وأكثرهم عناية واستيعاباً ـ: «واعلم أنّ هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال، ووجه الاشكال: أنّ أبا سفيان إنّما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وهذا مشهور لا خلاف فيه، وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل.
قال أبو عبيدة وخليفة بن خياط وابن البرقي والجمهور: تزوجها سنة ست، وقيل سنة سبع...»(1).
ثمّ حكى عن القاضي عياض وابن حزم:
2- وقال القاضي ـ عياض ـ: «والّذي في مسلم هنا أنّه زوّجها أبو سفيان غريب جداً، وخبرها مع أبي سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهور». ولم يزد القاضي على هذا(2).
3- وقال ابن حزم: «هذا الحديث وهم من بعض الرواة لأنّه لا خلاف بين الناس أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تزوّج أم حبيبة قبل الفتح بدهر بأرض الحبشة وأبوها كافر»، وفي رواية عن ابن حزم أيضاً أنّه قال: موضوع قال: والآفة فيه من عكرمة بن عمار الراوي عن أبي زميل(3).
ثمّ حكى النووي عن أبي عمرو بن الصلاح حملته على ابن حزم تبريراً لصحة رواية مسلم، وليس تبريره سوى مكابرة ومصادرة.

(1) شرح النووي على صحيح مسلم بهامش ارشاد الساري 9/397 - 398 ط دار الكتاب العربي بيروت.
(2) نفس المصدر.
(3) نفس المصدر.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 190

4- قال الآبي ألوشتابي المالكي: «هذا الّذي ذكره أبو زميل عن ابن عباس أنّه زوّجه إياها بعد إسلامه غريب جداً عند أهل السير، فإنّ المعروف أنّه إنّما تزوّجها قبل الفتح...»(1).
5- قال السنوسي الحسني نقلاً عن القرطبي في المفهم في شرح صحيح مسلم: «المتفق عليه عند أهل التاريخ أنّه إنّما تزوجها قبل الفتح وقبل إسلام أبيها، وأنّ أبا سفيان قدم قبل الفتح طالباً تجديد العهد بينه وبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وانّه دخل بيت أم حبيبة ابنته فأراد أن يجلس على بساط رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنزعته من تحته وقالت: إنّه بساط رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنت مشرك، فقال: أي بنية قد أصابك بعدي شرّ، ثمّ طلب من عليّ وفاطمة وغيرهما أن يكلموا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأبوا فرجع إلى مكة غير حاصل له ما قصد، وهذا كلّه معلوم لا شك فيه.
ثمّ ذكر حديث التزويج وختم كلامه بقوله: فيكون ما وقع في هذا الحديث من طلب أبي سفيان أن يزوّجها منه بعد إسلامه خطأ ووهماً، وقد بحث النقّاد عمن وقع ذلك الوهم منه فوجدوه وقع من عكرمة بن عمار، وقد ضعّف أحاديثه يحيى بن سعيد وابن حنبل، ولذلك لم يخرّج عنه البخاري. وإنّما خرّج عنه مسلم، لأنّه قد قال فيه يحيى بن سعيد هو ثقة.
قال بعضهم: وممّا يحقق الوهم فيه قول أبي سفيان: أريد أن تؤمرني فقال: نعم، ولم يسمع قط أنّه أمّره إلى أن توفي. وكيف يخلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوعد، هذا ممّا لا يجوز عليه»(2).

(1) إكمال إكمال المعلم 6/34.
(2) مكمل إكمال الإكمال بهامش سابقه ط دار الكتب العلمية، وقد ذكر الآبي عين ما ذكره الحسني عن القرطبي فراجع.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 191

ثمّ حكى تأويل من صح عنده الحديث بما لا يستحق أن يذكر، فهو تبرير من غير حجة.
ولنقف عند هذا الخبر من المفتريات على ابن عباس في فضائل معاوية وأبيه أبي سفيان، وستأتي جملة وافرة من هذه الشاكلة في الحلقة الثالثة عند البحث عن أحاديثه ما صحّ وما لم يصح.
والّذي دعاني إلى تقديم هذه النماذج من الزبارج ما ساقه شعوط من شهادة ابن عباس المفتراة عليه ليبيض بها صحيفة معاوية، وما درى أنّه سوّد صفحته وصحيفته.
ويبقى معاوية كما قال الدكتور سامي على النشار ـ وقد تقدم قوله ـ: «ومهما قيل في معاوية ومهما حاول علماء المذهب السلفي المتأخر وبعض أهل السنّة من وضعه في نسق صحابة رسول الله، فإنّ الرجل لم يؤمن أبداً بالإسلام، ولقد كان يطلق نفثاته على الإسلام كثيراً ولكنه لم يستطع أكثر من هذا»، ولا نستكثر اذن قول ابن أبي الحديد: «ومعاوية عند أصحابنا مطعون في دينه، منسوب إلى الإلحاد، قد طعن فيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) »(1).

شواهد كفر محمومة:

لقد كانت لمعاوية نفثات محمومة مسمومة، شاهدة عليه بالكفر، ولم يتجن التاريخ عليه حين روى بعضها:
فمنها: عن المغيرة بن شعبة ما سمعه منه ليلة فعاد مغتماً متبرماً متأففاً فسأله ابنه المطرف بن المغيرة عن سبب غمّه فقال: يا بني جئت من أكفر الناس

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/537 ط مصر الأولى.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 192

وأخبثهم ـ ثمّ حدثه بما سمعه من معاوية وكان في آخره قول معاوية: ـ وإنّ ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرات (أشهد أنّ محمّداً رسول الله) فأيّ عمل يبقى؟ وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك؟ لا والله إلاّ دفناً دفناً.
رواه الزبير بن بكارفي الموفقيات(1)، والمسعودي في مروج الذهب(2)، والإربلي في كشف الغمة(3)، وابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه(4).
- وليس دونها كلمته الأخرى وقد سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: لله أبوك يا بن عبد الله لقد كنت عالي الهمة ما رضيت لنفسك ألا أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين(5).
- وثالثة الأثافي ما ذكره البلاذري في أنسابه بسنده: «قال معاوية: يا معشر بني أمية إن محمداً لم يدع من المجد شيئاً إلاّ حازه لأهله، وقد أعنتم عليهم بخلتين: في ألسنتهم ذرَبَ وفي العرب أنَفُ وهم محدودون... ثمّ جعل يوصيهم فيما يفعلون بما يبلغوا به مرادهم وعنادهم»(6).
- وأنكى من ذلك كلّه: أنّ يهودياً تناول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فوصفه بالغدر بمحضره ـ واستغفر الله ـ فلم ينكر عليه!
روى البلاذري بسنده قال: «محمّد بن مسلمة الأنصاري عند معاوية قتل كعب بن الأشرف اليهودي، فقال يهودي (اسمه عند الواقدي/192 ابن يمين

(1) الموفقيات /576 ط أوقاف بغداد.
(2) مروج الذهب 4/40 في أواخر ترجمة المأمون العباسي.
(3) كشف الغمة 1/556.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/176.
(5) نفس المصدر 2/537 و10/101 ط محققة.
(6) أنساب الأشراف 1/51 ق 4 تح ـ احسان عباس.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 193

النضري) كان عند معاوية: غُدر به، فقال محمّد: يا معاوية أتمسك عنه وقد نسب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الغدر؟
فقال لليهودي: أخرج عنا، وطلبه محمّد فلم يقدر عليه، وقال لمعاوية: والله لا كلّمتك أبداً، ولأقتلنّ اليهودي إن قدرت عليه»(1).
وهذا ما ذكره أيضاً ابن تيمية في كتابه (الصارم) وسمى اليهودي (بنيامين النضري)(2).
- وقد تجاوز الحدّ حين سلّم عليه وفد أهل مصر بالرسالة فلم يردعهم، فقد ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه: «أنّ عمرو بن العاص وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر فقال لهم عمرو: اُنظروا إذا دخلتم على ابن هند فلا تسلّموا عليه بالخلافة فإنّه أعظم لكم في عينه، وصغّروه ما استطعتم، فلمّا قدموا عليه، قال معاوية لحجّابه: إنّي كأنّي أعرف ابن النابغة وقد صغّر أمري عند القوم، فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها فلا يبلغني رجل منهم الا وقد همّته نفسه بالتلف، فكان أوّل من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له ابن الخياط فدخل وقد تُعتع فقال: السلام عليك يا رسول الله، فتتابع القوم على ذلك، فلمّا خرجوا قال لهم عمرو: لعنكم الله، نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة فسلّمتم عليه بالنبوة»(3).
والخبر رواه البلاذري في الأنساب(4)، ورواه ابن الأثير وابن كثير وفي الجميع تفاوت يسير.

(1) نفس المصدر 1/160.
(2) الصارم المسلول في كفر شاتم الرسول 2/285 ط الأولى دار ابن حزم بيروت سنة 1417هـ.
(3) تاريخ الطبري 5/230 ـ 331 دار المعارف.
(4) أنساب الأشراف 1/31 ق 4.

السابق السابق الفهرس التالي التالي