موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 209

وفي رواية ابن أعثم الكوفي قال: «وكان في مرضه يرى أشياء لا تسرّه كأنّه يهذي هذيان المدنف، وهو يقول اسقوني اسقوني، فكان يشرب بالماء الكثير فلا يروى، وكان ربما غشي عليه اليوم واليومين، فإذا أفاق من غشوته ينادي بأعلا صوته: ما لي ولك يا حجر بن عدي، ما لي وما لك يا عمرو بن الحمق، ما لي وما لك يا بن أبي طالب. إن تعاقب فبذنوبي وإن تغفر فإنك غفور رحيم»(1).
« وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ » (2)، « فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ » (3)، « إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا » (4)، « وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ » (5).
ومع هذه الخاتمة السيئة واعترافه ببعض جرائمه يطالعنا الذهبي في سير أعلام النبلاء فيقول: «ومعاوية من خيار الملوك الّذين غلب عدلهم على ظلمهم، وما هو ببريء من الهنات والله يعفو عنه»(6).

(1) الفتوح 4/251.
(2) ق /19.
(3) الملك /11.
(4) النساء /17 ـ 18.
(5) الأنعام /93.
(6) سير أعلام النبلاء 4/312 ط دار الفكر بيروت.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 210

« كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً » (1). ألم يقرأ الذهبي قوله تعالى: « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا » (2)؟ وهل يسع الذهبي ومن على مذهبه وذهبه إحصاء من أزهقت نفوسهم ظلماً وعدواناً أيام حكم معاوية؟ فكم هي الدماء الطاهرة الزكية الّتي أريقت على رمال صفين مع عمار وابن التيهان والمرقال وبقية المؤمنين؟
وكم هم شهداء بلاد المسلمين الّتي جاست خيول الضلالة بأمر معاوية ديارهم فنهبت أموالهم وأزهقت أرواحهم وحتى سبيت نساؤهم؟ من المدينة المنورة إلى اليمن جنوباً ومن هيت وعانة إلى القادسية وعين التمر شرقاً سوى من قتلوا بمصر مع محمّد بن أبي بكر غرباً ودع عنك جرائم زياد وسمرة، في الكوفة والبصرة، وكم لهذين المسخَين من نظائر، ومع هذه الجرائم كلّها يسميها الذهبي هنات: « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » (3).
وبموت معاوية تفاقم الخطب والخطر على النفر الّذين كانوا يمثّلون المعارضة وفي مقدمتهم الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد الله بن عباس وبقية العبادلة.
أمّا كيف استقبل أولئك النفر نبأ موت معاوية فليس يعنينا فعلاً إلاّ معرفة موقف ابن عباس، ولا شك أنّه قد تسرّب إلى نفسه اليأس من استصلاح الحال بعد موت معاوية، وقد رويت عنه رواية تمسّك بها بعض الباحثين في بيعته ليزيد وهي لا تصح سنداً ولا دلالة.

(1) الكهف /5.
(2) النساء /93.
(3) القصص /50.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 211

فقد روى البلاذري عن المدائني عن عبد الرحمن بن معاوية قال: «قال عامر بن مسعود الجحمي: إنّا لبمكة إذ مرّ بنا بريدٌ ينعى معاوية، فنهضنا إلى ابن عباس وهو بمكة وعنده جماعة وقد وضعت المائدة ولم يؤتَ بالطعام فقلنا له: يا أبا العباس، جاء البريد بموت معاوية، فوجم طويلاً ثمّ قال: اللّهمّ أوسع لمعاوية، أما والله ما كان مِثل مَن قبله، ولا يأتي بعده مثله، وإنّ ابنه يزيد لمَن صالحي أهله، فالزموا مجالسكم واعطوا طاعتكم وبيعتكم، هات طعامك يا غلام، قال: فبينا نحن كذلك إذ جاء رسول خالد بن العاص وهو على مكة يدعوه للبيعة، فقال: قل له اقض حاجتك فيما بينك وبين مَن حضرك، فإذا أمسينا جئتك، فرجع الرسول فقال: لابدّ من حضورك فمضى فبايع»(1).
وسند هذا الخبر فيه ما يسقطه عن الاعتبار:
فعامر بن مسعود راوي هذا الخبر كان عامل ابن الزبير على الكوفة فهو وإن ذكره ابن حبان في ثقات التابعين إلاّ أنّه قال: «يروي المراسيل، ومن زعم أنّ له صحبة فقد وهم»(2) فهو غير مأمون في حديثه على ابن عباس للخلاف مع ولي نعمته ابن الزبير.
والراوي عنه عبد الرحمن بن معاوية هو ابن الحويرث الانصاري الزرقي أبو الحويرث المدني الّذي قال فيه مالك: ليس بثقة، قال ابن عدي: ليس له كثير حديث ومالك أعلم به لأنّه مدني ولم يرو عنه شيئاً. وقال أبو حاتم: ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به، وعن ابن معين: ليس يحتج بحديثه. وقال مالك: قدم علينا سفيان فكتب عن قوم يذمون بالتخنيث يعني أبا الحويرث منهم، قال أبو

(1) أنساب الأشراف 1/289 ق 4 تح ـ احسان عباس.
(2) أنظر تهذيب التهذيب 5/91.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 212

داود: وكان يخضب رجليه وكان من مرجيء أهل المدينة، وقال النسائي: ليس بذاك(1).
وذكر ابن قتيبة هذا الخبر مرسلاً، وبتفصيل أوسع وفيه أكثر من مؤاخذة سنذكرها بعد ايراد الخبر بروايته.
قال في الإمامة والسياسة (وفاة معاوية رحمه الله ): «وذكروا أنّ عتبة بن مسعود قال: مرّ بنا نعي معاوية بن أبي سفيان ونحن بالمسجد الحرام، قال: فقمنا فأتينا ابن عباس فوجدناه جالساً قد وضع له الخوان وعنده نفر، فقلنا: أما علمت بهذا الخبر يا بن عباس؟ قال: وما هو؟ قلنا: هلك معاوية، فقال: ارفع الخوان يا غلام، وسكت ساعة ثمّ قال: جبل تزعزع ثمّ مال بكلكله، أما والله ما كان كمن قبله ولما يكن بعده مثله، اللّهمّ أنت أوسع لمعاوية فينا وفي بني عمنا هؤلاء الّذين لبّ معتبر، اشتجرنا بيننا فقتل صاحبَهم غيرُنا، وقتل صاحبَنا غيرُهم، وما أغراهم بنا الا أنّهم لا يجدون مثلنا، وما أغرانا بهم إلاّ أنّا لا نجد مثلهم، كما قال القائل: ما لك تظلمني؟ قال: لا أجد من أظلم غيرك، ووالله ان ابنه لخير أهله، أعد طعامك يا غلام.
قال: فما رفع الخوان حتى جاء رسول خالد بن الحكم إلى ابن عباس أن انطلق فبايع، فقال للرسول: أقرئ الأمير السلام وقل له: والله ما بقي فيّ ما تخافون، فاقض من أمرك ما أنت قاض، فإذا سهل الممشى وذهبت حطمة الناس جئتك ففعلت ما أحببت.
قال: ثمّ أقبل علينا فقال: مهلاً معشر قريش أن تقولوا عند موت معاوية ذهب جد بني معاوية وانقطع ملكهم، ذهب لعمر الله جدّهم وبقي ملكهم وشرّها بقية هي أطول ممّا مضى، إلزموا مجالسكم وأعطوا بيعتكم.

(1) نفس المصدر 6/272 - 273.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 213

قال: فما برحنا حتى جاء رسول خالد فقال: يقول لك الأمير لابدّ لك أن تأتينا.
قال: فإن كان ل بدّ فلا بدّ ممّا لابدّ منه، يا نوار هلمي ثيابي، ثمّ قال: وما ينفعكم إتيان رجل إن جلس لم يضرّكم.
قال: فقلت له أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر ويلهو بالقيان ويستهتر بالفواحش؟
قال: مه فأين ما قلت لكم، وكم بعده من آت ممّن يشرب الخمر أو هو شرّ من شاربها أنتم إلى بيعته سراع، أما والله إنّي لأنهاكم وأنا أعلم أنكم فاعلون ما أنتم فاعلون حتى يصلب مصلوب قريش بمكة يعني عبد الله بن الزبير»(1).
فأوّل ما في هذا الخبر: أنّ ابن قتيبة رواه مرسلاً.
وثانياً: رواه عن عتبة بن مسعود، وهذا الرجل أخو عبد الله بن مسعود، وقد ذكره ابن قتيبة نفسه في كتابه المعارف وقال: «إنّه مات في خلافة عمر»(2).
وثالثاً: ذكر اسم الوالي بمكة الّذي أرسل إلى ابن عباس بانّه خالد بن الحكم، وهذا غلط فاضح فليس بين ولاة معاوية عند موته ولا ولاة يزيد من اسمه خالد بن الحكم، على أنّه كرر ذكره في ولاية المدينة حين دعا الحسين (عليه السلام) وابن الزبير إلى البيعة، وهذا ممّا يوهّن الخبر، وقد مرّ بنا في رواية البلاذري للخبر أنّ عامل مكة اسمه خالد بن العاص، وهو أيضاً غلط فإنّ عامل مكة يومئذ عمرو بن سعيد بن العاص كما عن ابن خلدون(3)، وهو كذلك عند

(1) الإمامة والسياسة 1/167مط الأمة سنة 1328 هـ و 1/193 ط مصطفى محمّد.
(2) كتاب المعارف /110.
(3) تاريخ ابن خلدون 3/19.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 214

البلاذري وفيه: «وقيل الحرث بن خالد بن العاص»(1) ـ فمهما يكن فهو ليس الّذي ورد ذكره في الخبر.
رابعاً: إنّ ابن عباس لم يبايع ليزيد مطلقاً. فقد ورد ما يؤيد هذا ما سنقرأ من تاريخ حياته في عهد يزيد.
ومن الغريب العجيب أن يُستنَد إلى هذا الخبر في مبايعته ليزيد دون تمحيص وفحص عن السند وفي الدلالة!!
والآن إلى خبر ثالث رواه الزبيدي في أتحاف السادة المتقين، وإليك ما لفظه: «قال محمود بن محمّد بن الفضل، حدّثنا أحمد بن عبد الرحمن الكزبراني، حدّثنا الحسن بن محمّد بن أعين حدّثنا عد بن عبد الرحمن بن محمّد بن مروان عن أبيه قال قال عامر بن مسعود الجمحي كنا جلوساً في مجلس عند الكعبة إذ مرّ بريد ينعى معاوية، فقلت لأصحابي: قوموا بنا إلى ابن عباس ـ وهو يومئذ بمكة وقد كفّ بصره ـ فنكون أوّل من نخبره ونسمع ما يقول، فأتيناه فاستأذنا عليه فدخلنا فإذا بين يديه خوان عليه الكفري(2) ولم يوضع الخبر فسلّمنا وقلنا: هل أتاك الخبر يا بن عباس؟ قال: وما هو؟ قلنا بريد ينعى معاوية، فقال: ارفع خوانك يا غلام، ثمّ ظل واجماً كئيباً مطأطئاً رأسه لا يتكلم طويلاً ثمّ رفع رأسه وقال:
جبل تزعزع ثمّ مال بركنه في البحر لا ارتفعت عليه الأبحر

ثمّ قال: اللّهمّ فإنّك أوسع لمعاوية...»(3) إلى آخر ما مرّ عن ابن قتيبة بتفاوت وزيادات يسيرة لا يعنينا أمرها.

(1) أنساب الأشراف 4/12.
(2) وعاء طلع النخل.
(3) أتحاف السادة المتقين 14/193.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 215

وسند هذا الخبر فيه ينتهي إلى عامر بن مسعود وقد مرّ حاله في خبر البلاذري، غير أنّ الراوي عنه هنا غير الّذي مرّ في خبر البلاذري، فلا بدّ من بيان حال رجاله من أوّل السند:
1- محمود بن محمّد بن الفضل صاحب كتاب المتفجعين الّذي نقل عنه الزبيدي هذا الخبر ولم أعرف عنه شيئاً بالرغم من البحث عنه في مظانه فهو مجهول عندي.
2- أحمد بن عبد الرحمن الكزبراني مجهول كسابقه.
3- الحسن بن محمّد بن أعين مولى أم عبد الملك: بنت محمّد بن مروان، قال أبو حاتم: «أدركته ولم أكتب عنه»(1).
4- محمّد بن عبد الرحمن بن محمّد بن مروان مجهول الحال.
5- عبد الرحمن بن محمّد بن مروان مجهول الحال.
ويكفي في سقوط الخبر وجوده وابنه ثمّ مولاهم الأموي وكلّهم متهمون في روايتهم لأنّهم يجرون نفعاً بتصحيح خلافة يزيد ومبايعة ابن عباس لواليه.
وثمة خبر يرويه أبو الفرج في الأغاني فيه جملة ممّا مرّ في خبري ابن قتيبة والزبيدي من قول ابن عباس في القرابة بين بني عبد مناف، غير أنّ ذلك كان في أيام ابن الزبير حين نفى بني أمية عن الحجاز، فلعل الأمويون ركّبوا من ذلك وما أضافوه إليه الخبر الّذي رواه الزبيدي، واليك خبر أبي الفرج بسنده عن ابن أبي مليكة: «قال: رأيتهم ـ يعني بني أمية ـ يتتايعون(2) نحو ابن عباس حين نفى ابن الزبير بني أمية عن الحجاز، فذهبت معهم وأنا

(1) أنظر تهذيب التهذيب 2/317.
(2) والتتايع: التتابع في الشر والتهافت من غير رويّة.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 216

غلام فلقينا رجلاً خارجاً من عنده فدخلنا عليه، فقال له عبيد بن عمير ما لي أراك تذرف عيناك؟
فقال له: إنّ هذا ـ يعني عبد الرحمن بن الحكم ـ قال بيتاً أبكاني وهو:
وما كنت أخشى أن ترى الذل نسوتي وعبد مناف لم تغلها الغوائل

فذكر قرابة ما بيننا وبين بني عمّنا بني أمية، وإنا إنّما كنا أهل بيت واحد في الجاهلية حتى جاء الإسلام فدخل الشيطان بيننا أيّما دخل»(1).
ومهما يكن نصيب تلك الأخبار من الصحة لدى من رواها من المصنفين فليس لها عندي أيّ وزن.

(1) الأغاني 13/264 ط دار الكتب.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 217


الفصل الثاني


حبر الأمة أيام حكومة يزيد


موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 218




موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 219

في عهد يزيد:

(وإذ بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد فعلى الإسلام السلام) هكذا قال سيّد الشهداء أبيّ الضيم، وهكذا كانت النتيجة المتوقعة، فقد طرق المدينة شر عظيم، حين أتى كتاب يزيد إلى الوالي، وكان هو ابن عمه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وفي آخر الكتاب:
«فبايع لنا قومنا ومَن قِبلك من رجالنا بيعة منشرحة بها صدوركم، طيّبة عليها أنفسكم، وليكن أوّل من يبايعك من قومنا وأهلنا الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر، ويحلفون على ذلك بجميع الأيمان اللازمة، ويحلفون بصدقة أموالهم غير عشرها، وحرية رقيقهم، وطلاق نسائهم بالثبات على الوفاء بما يعطون من بيعتهم، ولا قوّة إلاّ بالله والسلام». هكذا روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة(1).
غير أنّ البلاذري(2) والطبري(3) وابن الاثير(4) ذكروا: «أنّه كتب إليه في صحيفة كأنّها أذن فارة: أمّا بعد فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة ولا هوادة حتى يبايعوا والسلام»، فلم يرد

(1) الإمامة والسياسة 1/168ط سنة 1328 هـ بمصر.
(2) أنساب الأشراف 1ق 4/299.
(3) تاريخ الطبري 5/338 ط دار المعارف.
(4) تاريخ ابن كثير 4/6 ط بولاق.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 220

ذكر ابن عباس مع النفر المذكورين. إلاّ أنّ البلاذري قال: «وكتب يزيد إليه ـ إلى ابن عباس ـ كتاباً يأمره فيه بالخروج إلى الوليد بن عتبة ومبايعته له وينسبه إلى قتل عثمان والممالأة عليه، فكتب ابن عباس إليه أيضاً كتاباً يقول فيه: إنّي كنت بمعزل عن عثمان، ولكن أباك تربّص به وأبطأ عنه بنصره، وحبس مَن قَبلَه عنه حين استصرخه واستغاث به، ثمّ بعث إليه الرجال معذّراً حين علم أنّهم لا يدركونه حتى يهلك»(1).
ويبدو من هذا الجواب الّذي صح عندي أنّه لم يبايع ليزيد إلى حين الكتاب، ولو أنّ البلاذري قد ذكر لنا كتاب يزيد وتمام جواب ابن عباس لتبيّن ما هو أفصح وأصرح وإن كان فيما ذكره ما كشف عن زيف ما تقدّم منّا ذكره نقلاً عن البلاذري وابن قتيبة من خبر مبايعته وبيّنا أنّه لم يصح سنداً ولا دلالة، وأنّه تمسك به بعض الباحثين ورأى مبايعته ليزيد، ولعل ما أغراه به ذكر ابن قتيبة له من دون التفات إلى ما في خبره من هنات ومهما يكن فقد توجّس ابن عباس الشر كلّ الشر في حكومة يزيد، وزاد في قلقه مواقف بقية رجال المعارضة الّتي اختلفت أهدافُهم، فبين راغب كابن عمر وراهب كابن الزبير، ومستنكرٍ رافض لكل العروض والمغريات كالإمام الحسين (عليه السلام) فهو ابن أبيه في إنكار المنكر ودحض الباطل، لا تأخذه في الحقّ لومة لائم. وابن عباس كان ـ مع انّه اليائس المتشائم ـ يقارب الحسين (عليه السلام) في موقفه الهادف لتحقيق العدالة، ولكن يأسه من الناس أضمَر من عزيمته، وفقدانه لبصره أوهى من شكيمته، فصار إمّا أن يصول بيد جذّاء أو يصبر على طخية عمياء، كحال ابن عمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما سلف من الأيام. وعنده في خزين علمه

(1) أنساب الأشراف 1ق 4/306 تح ـ احسان عباس.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 221

الموروث عن النبيّ المصطفى وابن عمه المرتضى من أخبار وإخبار بما ستلاقي عترته من بعده في عهد يزيد، فهو في حال اضطراب شديد لما سيحلّ بالمسلمين من الفوادح. ولات حين مناص من مزيد ترقّب، لتتابع الأحداث سراعاً منذرة بالخطر.
فمع الأحداث المتتابعة:


كتاب يزيد الى ابن عباس:

لعل أوّل حدَث غامت به نفس ابن عباس كتاب يزيد إليه بمبايعته، وقد مرّ جواب ابن عباس عليه. وأحسب أنّه كان في المدينة بعد رجوعه من مكة عمرة رجب، وقد مرّ بنا كتاب يزيد إلى واليه الوليد بن عتبة بأخذ البيعة من الحسين وابن الزبير وابن عمر نقلاً عن الطبري وقلنا إنّه لم يرد لابن عباس ذكر معهم، وربما لأن ابن عباس لم يكن يومئذ بالمدينة وكان بمكة معتمراً عمرة رجب وكان موت معاوية في رجب، فلمّا عاد إلى المدينة أتاه كتاب يزيد بأمره فيه بالخروج إلى الوليد بن عتبة ومبايعته له... ولم يذكر أنّه ذهب إلى الوليد، كما لم يذكر أنّ الوليد أرسل عليه، كما أرسل على الحسين وابن الزبير، قال الدينوري: «وأمّا عبد الله بن عباس فقد كان خرج قبل ذلك بأيام إلى مكة»(1)، وقد روى ابن الأثير(2) وابن كثير(3) في تاريخهما وغيرهما أنّه وابن عمر لقيا الحسين وابن الزبير في الأبواء منصرفهما من العمرة ـ وكان الحسين وابن الزبير قد خرجا من المدينة بعد طلب الوليد منهما مبايعتهما ليزيد ـ فسألاهما عمّا وراءهما فقالا:

(1) الأخبار الطوال /228.
(2) تاريخ ابن الأثير 4/7 ط بولاق.
(3) تاريخ ابن كثير 8/148 نقلاً عن الواقدي.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 222

موت معاوية والبيعة ليزيد، فقال ابن عمر: لا تفرقا جماعة المسلمين(1) وقدم هو وابن عباس المدينة(2).
قال ابن الأثير: «فلمّا بايع الناس بايعا».
إلاّ أنّ ابن كثير قال: «فلمّا جاءت البيعة من الأنصار بايع ابن عمر مع الناس». ولم يذكر في هذا المقام(3) عن ابن عباس شيئاً فهو أدق من ابن الأثير في تعبيره، لذلك قلت وأحسب ان كتاب يزيد المشار إليه آنفاً اتى ابن عباس في ذلك الظرف لأنّه لم يبايع ليزيد.


خروج الحسين من المدينة إلى مكة وإقامته بها:

قال الدينوري في الأخبار الطوال: «ومضى ـ الحسين حتى وافى مكة، فنزل شعب عليّ(4)»(5).
وقال ابن كثير في تاريخه: «فنزل الحسين دار العباس(6)»(7).
وحكى الخوارزمي في مقتل الحسين عن الإمام أحمد بن أعثم الكوفي قوله: «ولمّا دخل الحسين مكة فرح به أهلها فرحاً شديداً وجعلوا يختلفون إليه

(1) ومن هنا قلنا ان ابن عمر انّه راغب فيما زهد فيه غيره من المعارضة.
(2) في طبقات ابن سعد ذكر عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة هو الّذي كان مع ابن عمر حين التقيا الحسين وابن الزبير بالابواء، لكن في تاريخ دمشق وسير أعلام النبلاء وتاريخ ابن الأثير وابن كثير انّه ابن عباس ولعله تصحيف توارد عليه النسّاخ.
(3) احترازاً عمّا ذكره في /151 من قوله: بايع ابن عمرو ابن عباس.
(4) هو شعب أبي طالب، ولا يزال يعرف حتى اليوم بشعب عليّ وبجانبه سوق الليل قارن أخبار مكة للأزرقي 2/233 تح ـ رشدي الصالح محسن ط الثانية سنة 1385 هـ مطابع دار الثقافة مكة المكرمة.
(5) الأخبار الطوال /229.
(6) هي بالقرب من مولد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصارت لخالصة والدة الخيزران قارن / ن م.
(7) تاريخ ابن كثير 8/162.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 223

غدوة وعشية (وكان قد نزل بأعلى مكة وضرب هناك فسطاطاً ضخماً... ثمّ تحول الحسين إلى دار العباس حوّله إليها عبد الله بن عباس)(1)»(2).
قال ابن أعثم في تاريخه: «وأقام الحسين بمكة في شهر شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة.
قال: وبمكة يومئذ ـ أحسب مراده في ذي القعدة ـ عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) وعبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فأقبلا جميعاً حتى دخلا على الحسين وقد عزما على أن ينصرفا إلى المدينة، فقال له ابن عمر: أبا عبد الله رحمك الله اتق الله الّذي إليه معادك فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت لكم وظلمهم إياكم، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية، ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء فيقتلونك ويهلك فيك بشر كثير، فإني قد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يقول: حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله إلى يوم القيامة، وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل، فلعل الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين.
فقال له الحسين أبا عبد الرحمن أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه، وقد قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيه وفي أبيه ما قال؟
فقال ابن عباس: صدقت أبا عبد الله، قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته: ما لي وليزيد، لا بارك الله في يزيد، وانّه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين (رضي الله عنه) والّذي نفسي بيده لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه الا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم، ثمّ

(1) ما بين القوسين لم نجده في تاريخ ابن أعثم ط دار الندوة، فظن خيراً، وازدد خُبراً بمطبوعات العصر الحديث. ودار العباس كانت بين الصفا والمروة، منقوشة عندها العَلَم الّذي يسعى منه من جاء من المروة إلى الصفا قارن نفس المصدر في المتن.
(2) مقتل الحسين 1/190 ط الزهراء في النجف.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 224

بكى ابن عباس وبكى معه الحسين وقال: يا بن عباس تعلم أني بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
فقال ابن عباس: اللّهمّ نعم نعلم ونعرف أنّ ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غيرك، وأن نصرك لفرضٌ على هذه الأمة كفريضة الصلاة والزكاة الّتي لا يقدر أن يقبل إحداهما دون الأخرى.
قال الحسين: يا بن عباس فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من داره وقراره ومولده وحرم رسوله ومجاورة قبره ومولده ومسجده وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقر في قراره ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يشرك بالله شيئاً، ولا اتخذ من دونه ولياً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والخلفاء من بعده؟
فقال ابن عباس: ما أقول فيهم إلاّ أنّهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلاّ وهم « كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً » (1) وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، واما أنت يا بن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّك رأس الفخار برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وابن نظيره البتول، فلا تظن يا بن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انّ الله غافل عمّا يعمل الظالمون. وأنا أشهد أنّ من رغَب عن مجاورتك وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فما له من خلاق.
فقال الحسين: اللّهمّ اشهد.
فقال ابن عباس: جعلت فداك يا بن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كأنك تنعى إليّ نفسك وتريد مني أن أنصرك؟ والله الّذي لا إله إلاّ هو أن لو ضربت بين يديك

(1) النساء / 142- 143.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 225

بسيفي حتى ينقطع وتنخلع يداي جميعاً من كتفي لما كنت ممّن أوفى من حقك عشر العشير، وها أنا بين يديك مرني بأمرك.
فقال ابن عمر: مهلاً ذرنا من هذا يا بن عباس.
قال: ثمّ أقبل ابن عمر على الحسين فقال: أبا عبد الله مهلاً عمّا قد عزمت عليه، وارجع من هنا إلى المدينة وادخل في صلح القوم، ولا تغب عن وطنك وحرم جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا تجعل لهؤلاء الّذي لا خلاق لهم على نفسك حجة وسبيلاً، وإن أحببت أن لا تبايع فأنت متروك حتى ترى برأيك، فإنّ يزيد ابن معاوية ـ لعنه الله ـ عسى أن لا يعيش الا قليلاً فيكفيك الله أمره.
فقال الحسين: أفّ لهذا الكلام أبداً، ما دامت السماوات والأرض، أسألك بالله يا عبد الله أنا عندك على خطأ من أمري هذا؟ فإن كنت عندك على خطأ فردني فإنّي أخضع وأسمع وأطيع.
فقال ابن عمر: اللّهمّ لا، ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسوله على خطأ، وليس مثلك من طهارته وموضعه من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يسلم على مثل يزيد ابن معاوية ـ لعنه الله ـ باسم الخلافة، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأمة ما لا تحب، فارجع معنا إلى المدينة، وان شئت أن لا تبايع فلا تبايع أبداً، واقعد في منزلك.
فقال له الحسين: هيهات يا بن عمر إن القوم لا يتركوني، إن أصابوني وان لم يصيبوني، فإنّهم يطلبوني أبداً حتى أبايع وأنا كاره أو يقتلوني، ألا تعلم أبا عبد الرحمن أنّ من هوان هذه الدنيا على الله أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل، والرأس ينطق بالحجة عليهم، فلم يضر ذلك يحيى بن زكريا، بل سارو الشهداء فهو سيدهم يوم القيامة؟ ألا تعلم أبا عبد الرحمن ان

السابق السابق الفهرس التالي التالي