موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 336

فهذا الكتاب يكشف لنا عن عظيم بلوى ابن عباس ومحمّد بن الحنفية في تلك المحنة أيام ابن الزبير، حتى استساغا على مضض وفضّلا تجرّع مرارة المصافاة مع عبد الملك على مجافاة ابن الزبير وهما كأسان أحلاهما مرّ.
ومرّ بنا (ثانياً) قول البلاذري في روايته: «ولمّا أخرج عبد الله بن الزبير محمّد بن الحنفية عن مكة أغلظ له ابن عباس وقال له: أتخرج بني عبد المطلب عن حرم الله وهم أحق به منك...».
وزاد ابن الأثير في روايته على ذلك التعتيم بما يثير التساؤل، فقال: «فدخل ابن عباس على ابن الزبير وأغلظ له فجرى بينهما كلام كرهنا ذكره»(؟).
فليت شعري ما الّذي جرى من كلام استعظم ابن الأثير فكره ذكره (؟) إنّه التضبيب والتعتيم لإخفاء الحقائق، وهذا ليس بمستساغ ولا بمقبول من مؤرخ ينبغي أن يستعمل عقله فيضعه فوق قلبه، ويدرك عظم الأمانة الّتي تحمّل وزرها، ألا ساء ما يفعلون وما يزرون وما يحكمون. ومهما كانت غلظة الكلام فلن تبلغ ما قرأناه وما سنقرؤه من محاورات جرت بينهما هي بالمحاربات الكلامية أشبه، فثمة عتاب هو أقسى من عقاب، وثمة جواب هو أفظع من سباب، فلماذا الكراهة، إنّها البلاهة!
ألم يقل ابن عباس لابن مطيع وقد أتاه من قبل ابن الزبير برسالة فيها تهديد ووعيد فقال له ابن عباس: «قل لابن الزبير يقول لك ابن عباس ثكلتك أمك...»؟ وقد مرّ ذلك في الشاهد الأوّل فراجع.
ألم يقل لابن الزبير ـ كما في الشاهد الثالث وقد مرّ ـ بعد أن عيّره بالعمى فقال له: «بل أعمى الله قلبك، وقال له: والله لأنا أفقه منك ومن أبيك»؟

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 337

ألم يشبهه بالبغل حين ردّ على ابن الزبير ما قاله في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته؟ راجع الشاهد الخامس.
ألم يقل لابن أبي مليكة ـ وهو قاضي ابن الزبير ومؤذنه ـ: «إنّ الله كتب بني أمية وابن الزبير محلّين»؟ وقد مرّ ذكر الخبر في ذلك.
ألم يقل لمن قال له: «إنّ ابن الزبير ينتقصك فقال: دُبى حجل(1) لو ذات سوار لطمتني(2) أما والله إنّي لأعرف دخلاًً ودُخيلاً»(3).
فأيّ كلام أغلظ من هذا فكره ابن الأثير ذكره؟ ولن يبق الجواب مقبوراً في الصدور إلى يوم النشور، ما دمنا نقرأ حواراً جرى بين ابن الزبير وبين ابن عباس بعد مقتل المختار.
فقد رواه البلاذري في أنسابه وباقتضاب: قالوا: «وقال عبد الله بن الزبير لابن عباس وأخبره بأمر المختار، فرأى منه توجّعاً وإكباراً لقتله، أتتوجع لابن أبي عبيد، تكره أن تسمّيه كذّاباً؟ فقال له: ما جزاؤه ذلك منا، قتل قتلتنا وطلب بدمائنا وشفى غليل صدورنا»(4).
وإلى القارئ ما جرى بتفصيل أوفى ـ وهو الّذي أشار إليه ابن الأثير بقوله: «فدخل ابن عباس على ابن الزبير وأغلظ له فجرى بينهما كلام كرهنا ذكره» فلئن كره هو ذكره، فإنّ الخوارزمي الحنفي المتوفى سنة 568 هـ لم يكره ذلك فقد أورده بنصه وفصه ـ

(1) الدبى: المشي رويداً والحجل هو نزو الغراب في مشيته يعني ان ابن الزبير نزا في مشيته نحو الخلافة.
(2) مثل يضرب، الكريم يظلمه دنيء لئيم فلا يقدر على احتمال ظلمه، ويعني أنّه لو ظلمني من هو كفؤ لي لهان عليّ، ولكن ظلمني من هو دوني ودنيء.
(3) أنساب الأشراف (ترجمة ابن عباس) بخطي برقم /79.
(4) أنساب الأشراف 5/265 ط أفست المثنى ببغداد، وقارن ابن الأثير 4/117ط بولاق.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 338

ابن الزبير يشتد على بني هاشم بعد مقتل المختار:

قال الخوارزمي في مقتل الحسين: «ثمّ بعث مصعب برأس المختار إلى عبد الله بن الزبير، فأمر عبد الله برأس المختار فنصب بالأبطح، وكان قبل ذلك أبى أن ينصب محمّد بن الحنفية رأس ابن زياد خارج الحرم. ثمّ أرسل عبد الله ابن الزبير إلى ابن عباس فقال له: يا بن عباس ان الله قد قتل المختار الكذاب. فقال ابن عباس: رحم الله المختار، فقال: كأنّك لا تحب أن يقال الكذاب؟ قال: فإن المختار كان محباً لنا عارفاً بحقنا، وإنّما خرج بسيفه طالباً لدمائنا، وليس جزاؤه منّا أن نشتمه ونسمّيه كذّاباً».
وقال: «وبقي عبد الله بن الزبير يجدّ في مناوأة محمّد بن الحنفية وابن عباس وبقية أهل البيت حتى حبسهما إذ لم يجيباه إلى البيعة، وكان قبل ذلك حبس محمّد ابن الحنفية في قبة الشراب، فعلم المختار بذلك فأرسل إليه أبا عبد الله الجدلي في جيش عظيم فخلّصه، وتوعّد ابن الزبير إن أخافه، فأمسك ابن الزبير إلى ان قتل المختار، فعاد إلى ما كان عليه من العداوة، حتى قال يوماً لابن عباس: انّه قد قتل المختار الكذاب الّذي كنتم تمدون أعينكم إلى نصرته.
فقال ابن عباس: دع عنك المختار، فإنّه قد بقيت لك عقبة تأتيك من الشام، فإذا قطعتها فأنت أنت، وإلاّ فأنت أهون من كلب في درب الجامع. فغضب وقال: إنّي لم أعجب منك، ولكن أعجب مني إذ أدعك تتكلم بين يدي بملء فمك، فتبسم ابن عباس وقال: تكلمت والله بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعند أبي بكر غلاماً، وعند عمر وعثمان وعليّ رجلاً، وكانوا يرونني أحق من نطق، يسمعون رأيي، ويقبلون مشورتي، وهؤلاء الّذين ذكرتهم بعد رسول الله خير منك ومن

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 339

أبيك، فازداد غضبه وقال له: لقد علمتُ أنّك ما زلتَ لي ولأهل بيتي مبغضاً، ولا زلتُ لكم يا بني هاشم منذ نشأت مبغضاً، ولقد كتمتُ بغضكم أربعين سنة.
فقال ابن عباس له: فازدد في بغضنا فوالله ما نبالي أحببتنا أم أبغضتنا.
فقال ابن الزبير: أخرج عني فلا أراك بعد هذا تقربني.
فقال ابن عباس: أنا زاهد فيك من أن تراني عندك.
ثمّ عاد ابن الزبير فقال: دع عنك هذا وارجع إلى ابن عمك - يعني محمّد ابن عليّ (عليه السلام) - وقل له فليخرج من جواري، لا يتربص فإني لا أظنه سالماً مني أو يصيبه ظُفر.
فقال ابن عباس: مهلاً يا بن الزبير فإنّ مع اليوم غداً.
فقال ابن الزبير: صدقت مع اليوم غد، وليس يجب عليك أن تكلمني في رجل ضعيف سخيف، ليس له قدم ولا أثر محمود.
قال فتنمّر (فتميز ظ) ابن عباس غضباً وقال: ليس على هذا صبر يا بن الزبير، والله إنّ أباه لخير من أبيك، وإن أسرته لخير من أسرتك، وإنّه في نفسه لخير منك، وبعد فرماه الله بك إن كان شراً منك في الدنيا والدين.
ثمّ نهض مغضباً وخرج وهو يقول: لأنملة من محمّد بن الحنفية أحبّ إليَّ من ابن الزبير وآل الزبير، إنّه والله لأوفر منهم عقلاً، وأفضل ديناً، وأصدق حياءً، وأشدّ ورعاً».
قال الخوارزمي: «ثمّ خرج ابن الزبير في عدة من أصحابه، وقام في الناس خطيباً فقال: أيها الناس إنّ فيكم رجلاً أعمى الله بصره، يزري على عائشة أم المؤمنين، ويعيب طلحة والزبير حواري رسول الله ـ يريد بذلك ابن عباس ـ وكان ابن عباس حاضراً في المسجد، فلمّا سمعه وثب قائماً وقال: يا بن الزبير أمّا ما

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 340

ذكرت من أم المؤمنين عائشة، فإنّ أوّل من هتك حجابها أنت وأبوك وخالك طلحة، وقد أمرها الله أن تقرّ في بيتها فلم تفعل، فتجاوز الله عنها ورحمها، وأمّا أنت وأبوك وخالك فقد لقيناكم يوم الجمل فإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم المؤمنين، وإن كنّا كفاراً فقد كفرتم بفراركم من الزحف(1).
فقال ابن الزبير: أخرج عني ولا تجاورني.
فقال ابن عباس: نعم والله لأخرجن خروج من يقلاك ويذمّك.
ثمّ قال ابن عباس: اللّهمّ إنّك قادر على خلقك، قائم على كلّ نفس بما كسبت، اللّهمّ إن هذا الرجل قد أبدى لنا العداوة والبغضاء، اللّهمّ فارمه منك بحاصب، وسلّط عليه من لا يرحمه»(2).
فمن هذا النص الّذي رواه لنا الخوارزمي الحنفي يمكننا معرفة ما أعرض ابن الأثير وغيره عن ذكره واكتفى بالقول: «وأغلظ له فجرى بينهما كلام كرهنا ذكره»، ومن هذا النص أيضاً عرفنا مبلغ الحقد المتأصل في نفسية ابن الزبير على ابن عباس والمتخوف من لذع لسانه، وحجة بيانه، حيث خرج في عدّة من أصحابه ولم يخرج وحده، فقام في الناس خطيباً فذكر ابن عباس بما يهيج عليه العامة، وتشويه صفحته لديهم، كردة فعل غاضبة، ناتجة عمّا أسمعه ابن عباس من قوارص كلمه وقوارع حججه، ولكنه باء بالفشل حتى لم يستطع ابن الزبير أن يردّ عليه حججه، فقال له اخرج عني ولا تجاورني.

(1) وقد لقن نافع بن الأزرق الخارجي هذه الحجة من ابن عباس، فذكرها في كتابه إلى ابن الزبير، وقد ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد 2/395 تح ـ أحمد أمين: وان القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس (رحمه الله)...
(2) مقتل الحسين (عليه السلام) 2/250- 251 مط الزهراء في النجف الأشرف.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 341

فأجابه ابن عباس بما أسكت به نامته، وطأطأ به هامته، فقال له: «نعم والله لأخرجنّ خروج من يقلاك ويذمّك».


ما تقول يا عرية؟

لقد بقي ابن عباس في أخريات حياته بمكة يكابد ـ مع تقدّم سنّه وفقدانه بصره ـ معاناة عداوة آل الزبير، وتلك المعاناة أورثته حزناً مقيماً وكمداً دائماً، لأن عدوّه لدود معلنٌ بنصبه العداء لبني هاشم، ولا يرعى فيهم إلاّ ولا ذمة، ولا يخشى من الله سبحانه أن يستحل قتلهم وحرقهم في البلد الحرام، بينما ابن عباس لا يستحلّ ذلك منه، وهو لا يمتلك من قوّة يمكنه استعمالها، سوى قوة البيان وحجة البرهان. فحين يشهّر به ابن الزبير بفتياه في المتعة وحمله مال البصرة ومقاتلته عائشة، يسمعه ابن عباس من الجواب ما يدحض به دعاواه، لكن هل الخطب في عروة بن الزبير الّذي تناسى إحسان ابن عباس إليه يوم وفد عليه في البصرة وهو حدَثَ فقال له:
أمتّ بأرحام إليكم قريبة ولا قرب للأرحام ما لم تقرّب

فقال له ابن عباس: أتدري مَن قاله؟ قال عروة: أبو أحمد بن جحش.
فقال: فهل تدري ما قال له رسول الله؟ قال: لا، قال: قال له: صدقت(1).
فأحسن إليه مع سابق إساءة أبيه وأخيه إلى ابن عباس في الأمس القريب بمحاربتهم له وللإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الجمل.
لكن عروة بقي على ما ورثه من العداوة والمناواة لابن عباس وبني هاشم، فقد روى الذهبي في ذيل ترجمة محمّد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج عن

(1) ربيع الأبرار 2/181 نسخة الشيخ السماوي بخطه، و 3/578 ط الأوقاف ببغداد.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 342

سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «تمتع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: ما تقول يا عريّة؟ قال: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ـ ابن عباس ـ: أراهم سيهلكون! أقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقولون: قال أبو بكر وعمر.
قال ابن حزم: إنّها لعظيمة ما رضي بها قط أبو بكر وعمر...»(1).
وازداد عروة عتواً حين جرت الرياح لصالح أخيه وتعدّى في سلطانه على بني هاشم حتى أراد إحراقهم، فأنجاهم الله تعالى من كيده بإغاثة المختار لهم بجيش أرسله مع أبي عبد الله الجدلي ـ كما مرّ ذكر ذلك ـ وصار الناس ينقدون ابن الزبير على فعله ذلك، وخشية انفضاض من معه عنه.
«كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم، وحصره إياهم في الشعب، وجمعه الحطب لتحريضهم ويقول: إنما أراد بذلك ألاّ تنتشر الكلمة ولا يختلف المسلمون، وأن يدخلوا في الطاعة فتكون الكلمة واحدة، كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لمّا تأخروا عن بيعة أبي بكر، فإنّه أحضر الحطب ليحرّق عليهم الدار»(2). قال المسعودي في مروج الذهب بعد ذكره هذا الخبر

(1) تذكرة الحفاظ 3/837 ط حيدرأباد.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي 20/147 بتحـ محمّد أبو الفضل إبراهيم. نقلاً عن المسعودي، ولدى الرجوع إلى المطبوع من مروج الذهب نجد الاختلاف في الطبعات القديمة والحديثة وحسبنا أن ننقل لكم ما في طبعة بولاق سنة 1283، 2/79 وطبعة الأزهرية سنة 1303 وبهامشها روضة الناظر لابن الشحنة 2/72، وطبعة مصرية ثالثة بهامش تاريخ ابن الأثير 6/160 ـ 161 وطبعة العامرة البهية سنة 1346 ففيها: كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم وحصره إياهم في الشعب، وجمعه الحطب لتحريقهم ويقول: إنّما أراد بذلك إرهابهم، ليدخلوا في طاعته، كما أرهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب لإحراقهم، إذ هم أبوا البيعة فيما سلف...
أمّا في الطبعات الحديثة بمصر وبيروت فثمة حذف متعمد، ستراً على السلف. واليكم نص ما في طبعة مصر بتحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد سنة 1367 مطبعة السعادة، وأيضاً الطبعة الثالثة سنة 1377 وقد كتب عليها مزيدة ومنقحة في 3/86، وطبعة بيروت دار الفكر وكذلك طبعة دار الأندلس فجميعها حذف منها جملة «كما أرهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب لاحراقهم إذ هم أبوا البيعة فيما سلف» وقد عمي المحققون لهذه الطبعات عمّا نمّ به السارق على نفسه بإثباته جملة «إذ هم أبوا البيعة فيما سلف» فهي لا تتفق ولا تتسق إلاّ مع الجملة المحذوفة «كما أرهب بنو هاشم وجمع لهم الحطب لإحراقهم» فكيف استساغوا تمرير العبارة مع وضوح الإشارة؟ أما شارل بلا في تحقيقه لمروج الذهب منشورات الشريف الرضي 3/276 برقم 1934 فقد ذكر ذلك في الهامش عن نسخة م.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 343

باقتضاب: «وهذا خبر لا يحتمل ذكره هنا، وقد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت وأخبارهم المترجم بكتاب (حدائق الأذهان) ».
أقول: وهذا الكتاب من آثاره المفقودة فيما أعلم.
وأمّا الخبر الّذي أشار إليه ولم يحتمل ذكره في المقام، فهو من الأخبار الثابتة تاريخياً، ولا مجال لإنكارها أو كتمانها لاستنكارها، فقد رواه من المؤرخين من غير الشيعة من لا يتهم في نقله:
1- أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة وعنه ابن أبي الحديد في شرح النهج(1).
2- ابن قتيبة في الإمامة والسياسة(2).
3- البلاذري في أنساب الأشراف(3).
4- النظام وأقرّه الشهرستاني في الملل والنحل(4) وبهامش الفصل لابن حزم(5).

(1) شرح النهج 1/132 ط مصر الأولى.
(2) الإمامة والسياسة 1/12 ط مصطفى محمّد.
(3) أنساب الأشراف 1/586 دار المعارف بتحـ الدكتور محمّد حميد الله.
(4) الملل والنحل 1/57 ط بيروت.
(5) هامش الفصل لابن حزم 1/65 ط محمّد عليّ صبيح.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 344

5- ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد(1).
6- ابن أبي شيبة(2).
7- ابن الشحنة في تاريخه(3).
8- أبو الفداء في تاريخ المختصر في أخبار البشر(4).
9- المتقي الهندي في كنز العمال نقلاً عن ابن أبي شيبة كما مرّ(5).
10- حافظ إبراهيم شاعر النيل في قصيدته العمرية كما في ديوانه المطبوع بمصر حيث قال:
وقولة لعليّ قالها عمر أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرّقت دارك لا أبقي عليك بها إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها أمام فارس عدنان وحاميها

فهذا ما احتج به عروة تعذيراً لأخيه في عزمه على تحريق بني هاشم، لولا أن أنجاهم الله من كيده على يد جيش المختار بقيادة أبي عبد الله الجدلي كما مرّ.
وهذا ما أعرض عنه المسعودي فلم يروه في مروجه، وذكره غيره ولكلّ وجهةٌ هو مولّيها بين مشرّق ومغرّب، وهكذا تضيع الحقائق.
ولنعم ما فعل الشاطبي (ت 790) في كتابه الاعتصام حين ساق الشواهد على مخالفة الناس للسنّة ومؤالفتهم للبدعة فقال: «إذ ما من بدعة تحدث إلاّ

(1) العقد الفريد 4/259 ـ 260 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر بتحقيق أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأبياري.
(2) أنظر كنز العمال 3/140 ط حيدر آباد الأولى و 5/381 ط حيدر آباد الثانية.
(3) روضة الناظر بهامش تاريخ ابن الأثير 11/113 ط ذات التحرير بمصر سنة 1303 هـ.
(4) تاريخ المختصر في أخبار البشر 1/156 ط أفست بيروت عن الطبعة المصرية.
(5) كنز العمال 5/381 ط حيدر آباد الثانية.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 345

ويموت من السنّة ما هو في مقابلتها حسبما جاء عن السلف في ذلك، فعن ابن عباس قال: ما يأتي على الناس من عام إلاّ أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنّة، حتى تحيى البدعة وتموت السنن»(1).
وكأنّ فعل عمر وقوله في التحريق لبيت عليّ وفاطمة (عليهما السلام) صار سنة يقتدى بها، أمّا وقوف النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على باب ذلك البيت وتلاوته « إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا » (2) طيلة تسعة أشهر، فيعرض عنه، مع أنّ فعله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقوله حجة ملزمة للمسلمين، وسنّة تفرض المودّة والولاء، لكن المسلمين أعرضوا عن تلك السنّة، والتزموا سنّة عمر عملياً واحتجوا بها كما فعل أبناء الزبير .
ورحم الله ابن عباس الّذي وقف مجاهداً في سبيل إحياء السنّة وإماتة البدعة بشتى الوسائل المتاحة له يومئذ. فهو لم يبرح يحدّث الناس في ذلك.
فتارة يقول: «من أحدث رأياً ليس في كتاب الله ولم تمض به سنّة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله (عزّ وجلّ) »(3).
وأخرى يقول لهم: «إنّما هو كتاب الله وسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فمن قال بعد ذلك رأيه فلا أدري أفي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته»(4).
وثالثة ينكر على من يعارض ما بلغه من السنّة بقوله قال أبو بكر وعمر، ويقول: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتقولون: قال أبو بكر وعمر»(5).

(1) الاعتصام 1/213.
(2) الأحزاب /33.
(3) أعلام الموقعين 1/48 ط المنيرية.
(4) نفس المصدر.
(5) نفس المصدر 2/171.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 346

ورابعة يقول: «كيف لاتخافون أن يخسف بكم أو تعذّبون، وأنتم تقولون: قال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وقال فلان»(1).


الطائف دار الهجرة الآخرة إلى الآخرة:

لقد كان ابن عباس يرى في إقامته بمكة فضلاً لا يدركه في أيّ مكان آخر، كما أنّ أهل مكة كانوا يفتخرون على بقية الأقطار بعبد الله بن عباس.
وفي النجوم الزاهرة: «وكان ابن عباس يقول: ما أعلم على وجه الأرض بلدة تدفع فيها بالحسنة مائة إلاّ مكة، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة يكتب لمن صلّى فيها ركعة بمائة ركعة غير مكة، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة يتصدق فيها بدرهم فيكتب له ألف درهم إلاّ مكة، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة هي مأوى الأبرار ومصلى الأخيار غير مكة، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة ما مسّ منها شيء إلاّ وفيه تكفير للخطايا إلاّ مكة، ولا أعلم بلدة يحشر فيها الأنبياء غير مكة، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة ينزل فيها كلّ يوم من روح الجنة ما ينزل بمكة...»(2).
ولشدّة المعاناة الّتي لاقاها من ابن الزبير وأصحابه صار يتمنى الخروج إلى أي مكان وليس فيه سلطان للظالمين وهو القائل: «لولا مخافة الوسواس لرحلت إلى بلاد لا أنيس فيها وأقمت فيها إلى أن ألقى الله تعالى، فما يفسد الناس إلاّ الناس»(3).
ولم يهاجر ابن عباس إلى الطائف في هذه المرة وهي الثالثة، إلاّ مرغماً ومراغِماً من ابن الزبير، فقد قاسى منه الأمرّين مكابَداً و مكايَداً حتى تفتت من

(1) تاريخ جرجان للسهمي /427 ط أفست عن طبعة أوربا.
(2) النجوم الزاهرة 1/197.
(3) الحكمة الخالدة لأبي عليّ بن مسكويه /173 تح ـ عبد الرحمن بدوي ط مصر سنة 1952.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 347

أذاه كبده كما أخبر عن نفسه، فقد روى الشيخ يوسف البحراني: «أنّ بقرة ذبحت فوجد كبدها قد تفتت فقال له ابنه عليّ يخبره: أما ترى كبد هذه البقرة يا أبت قد تفتت، فقال له: يا بنيّ هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك»(1).
وقال المسعودي في المروج: «فخرج ابن عباس من مكة خوفاً على نفسه فنزل الطائف»(2).
وقال اليعقوبي في تاريخه: «ولمّا لم يكن بابن الزبير قوة على بني هاشم وعجز عمّا دبّره فيهم أخرجهم عن مكة، وأخرج محمّد بن الحنفية إلى ناحية رضوى، وأخرج عبد الله بن عباس إلى الطائف إخراجاً قبيحاً»(3).
ومهما تكن كيفية الخروج أو الأخراج فقد نزل ابن عباس وهو في طريقه إلى الطائف بنَعمان ـ وهو بلد بين مكة والطائف غزاه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ وقيل واد لهذيل بين أدناه ومكة نصف ليلة(4) ـ فنزل وصلّى ركعتين ثمّ رفع يديه يدعو فقال: «اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن بلد أحبّ إليَّ من أن أعبدك فيه من البلد الحرام، وإنّني لا أحب أن تقبض روحي إلاّ فيه، وإنّ ابن الزبير أخرجني منه ليكون الأقوى في سلطانه، اللّهمّ فأوهن كيده، واجعل دائرة السوء عليه»(5).
وبلغ أهل الطائف خبر مجيئه فخرجوا لاستقباله يهرعون فتلقوه بالترحاب وقالوا له: مرحباً يا بن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أنت والله أحبّ إلينا وأكرم علينا ممّن أخرجك، هذه منازلنا تخيّرها فانزل منها حيث أحببت. فنزل الطائف وحلّ بين

(1) الكشكول 2/13 ط النجف.
(2) مروج الذهب 3/89.
(3) تاريخ اليعقوبي 3/9 ط الغري.
(4) معجم البلدان (نعمان).
(5) شرح نهج البلاغة للمعتزلي 20 /124 ط محققة.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 348

ظهرانيهم، وشاع خبر إخراج ابن الزبير له عن مكة فعظم ذلك على المسلمين، وورد إليه كتاب تسلية من محمّد بن الحنفية ـ الّذي كان برضوى فيما أخال، وربّما كان بعدُ في طريقه إياباً أو ذهاباً إلى الشام ـ جاء فيه:
أمّا بعد فقد بلغني أنّ ابن الكاهلية ـ ابن الجاهلية ـ سيّرك إلى الطائف، فرفع الله (عزّ وجلّ) اسمه بذلك لك ذكراً، وأعظم لك أجراً، وحطّ به عنك وزرا، يا بن عم إنما يبتلى الصالحون، وإنما تهدى الكرامة للأبرار، ولو لم تؤجر إلاّ فيما نحب وتحب إذاً قلّ الأجر، فاصبر فان الله تعالى قد وعد الصابرين قال الله (عزّ وجلّ): « وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ » (1) وهذا ما لست أشك أنّه خير لك عند بارئك، وعظم الله لك الصبر على البلوى والشكر في النعماء انّه على كلّ شيء قدير).
فكتب إليه ابن عباس مجيباً عن ذلك:
(أمّا بعد فقد أتاني كتابك تعزّيني فيه على تسييري، وتسأل ربّك جلّ اسمه ان يرفع لي به ذكراً، وهو تعالى قادر على تضعيف الأجر، والعائدة بالفضل، والزيادة من الإحسان، ما أحب أنّ الّذي ركب مني ابن الزبير كان ركبه مني أعدى خلق الله لي، احتساباً، وذلك في حسناتي ولما أرجو أن أنال به رضوان ربّي، يا أخي الدنيا قد ولّت وإن الآخرة قد أظلّت، فاعمل صالحاً تجز صالحاً، جعلنا الله وإياك ممّن يخافه بالغيب، ويعمل لرضوانه في السرّ والعلانية، إنّه على كلّ شيء قدير)(2).

(1) البقرة /216.
(2) لقد روى الكتاب والجواب الشيخ المفيد في أماليه /186 ط الحيدرية سنة 1367 وعنه رواه الشيخ الطوسي في أماليه أيضاً 1/119 - 120 وبين الكتابين تفاوت لفظي يسير ليس بشيء إلاّ أن الحسن بن شعبة الحراني ـ من القرن الرابع الهجري ـ روى في كتابه تحف العقول /58 ط حجرية سنة 1299 ص250 طبعة كتابفروشي إسلامية هذا الكتاب بزيادة في آخره: ولا أشمت بنا ولا بك عدواً حاسداً أبداً والسلام. ونسبه إلى الحسين (عليه السلام)، فقد رواه فيما روي عن الحسين فقال: وكتب إلى عبد الله بن العباس حين سيّره عبد الله بن الزبير إلى اليمن وذكر الكتاب. ولما كان التبعيد من ابن الزبير أيام حكومته وهي بعد شهادة الحسين (عليه السلام) فلا يعقل أن يكون الكتاب منه (عليه السلام)، واحتمال انّه من عليّ بن الحسين بعيد، لأنّ ابن عباس خاطب المكتوب إليه بـ (يا أخي) ممّا يكشف أنّه من أقرانه سنّاً، وعليّ بن الحسين ليس كذلك في سنّه. فاحتمال وهم المؤلف أو من روى عنهم وارد، ويؤكد أن مرسل الكتاب هو محمّد بن الحنفية رواية اليعقوبي له في تاريخه 3/9 ط الغري فقد ذكره مرسلاً من دون ذكر الجواب.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 349

نشاط ابن عباس في الطائف:

قال أبو عبد الله النقاش فأجاد:
إذا وجد الشيخ من نفسه نشاطاً فذلك موت خفي
ألست ترى أنّ ضوء السراج له لهب قبل أن ينطفي(1)

وهكذا لقد نشط ابن عباس وهو بذلك السنّ وقد جاوز السبعين من العمر، نشاطاً ملحوظاً في تثقيف أهل الطائف وان كان نشاطه كنور ذبالة السراج قبل إنطفائها وقد نفد زيتها، فهو يؤدي بذلك رسالته الإصلاحية الّتي تحمّلها. فكان يجلس لأهل الطائف الّذين يتوافدون عليه مغتبطين بحلوله عندهم، يستفتونه فيفتيهم، ويتطلبون المزيد من حديثه فيحدّثهم، ينهلون من نمير علومه ما وسعهم، وهو على ما به من تقدم السنّ وفقدان البصر وضعف الحال، لم يترك أداء رسالته الّتي أخذ الله على العلماء أن يؤدّوها، وأن (لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم) كما قال إمامه وابن عمّه ومربّيه أمير المؤمنين (عليه السلام) في آخر شقشقته الّتي وعاها ابن عباس عنه دراية، فأدّاها إلى الأمة رواية، فمن هو أولى بها رعاية وحماية، فاتخذها نهجاً يخطب في أهل الطائف ويبلّغهم ـ غير هيّاب ولا خائف ـ

(1) الخريدة ق 3/1/50.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 350

ما وعى وحوى من العلم النافع، وكثر عكوف الناس عليه، فصار يخطب فيهم مندداً بابن الزبير من غير أن يسمّيه، ويكنّي عنه كناية أبلغ من التصريح، وبلغ خبره ابن الزبير فغاضه ذلك.
وقد حدّث المدائني عن جانب من ذلك فقال: «كان يحمد الله ويذكر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والخلفاء بعده ويقول: ذهبوا فلم يدعوا أمثالهم ولا أشباههم ولا من يدانيهم، ولكن بقي أقوام يطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن تحتها قلوب الذئاب والنمور، ليظن الناس أنّهم من الزاهدين في الدنيا، ويراؤون الناس بأعمالهم، ويسخطون الله بسرائرهم، فادعوا الله أن يقضي لهذه الأمة بالخير والإحسان، فيولّي أمرها خيارها وأبرارها، ويهلك فجّارها وأشرارها. ارفعوا أيديكم إلى ربّكم وسلوه ذلك»(1)، فيفعل ذلك أهل الطائف ذلك ويؤمّنون على دعائه.
وتطايرت الأخبار إلى ابن الزبير بواسطة رجاله عن نشاط ابن عباس في الطائف وحاله، ومدى تأثيره في الناس واستجابتهم لمقاله، فأقلقه ذلك وتميّز غيظاً وغضباً، فكتب إليه كتاباً يفيض بالحقد والشنآن والإحن والأضغان يقول فيه: «أمّا بعد فقد بلغني أنّك تجلس بالطائف العصرين، فتفتيهم بالجهل، وتعيب أهل العقل والعلم، وإنّ حلمي عليك، واستدامتي فيأك جرأك عليَّ، فاكفف لا أباً لغيرك من غربك، واربع على ضلعك، واعقل إن كان لك معقول، وأكرم نفسك، فإنّك إن تهنها تجدها على الناس أعظم هواناً، ألم تسمع قول الشاعر:
فنفسك أكرمها فإنّك إن تهَن عليك فلن تلق لها الدهر مكرما

(1) شرح نهج البلاغة 20/125.

السابق السابق الفهرس التالي التالي