موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 351

وإنّي أقسم بالله لئن لم تنته عمّا بلغني عنك لتجدنّ جانبي خَشِناً، ولتجدنني إلى ما يردعك عني عجلا، فرأيك، فإن أشفى بك شقاؤك على الردى فلا تلم إلاّ نفسك». فهذا كتاب فيه تنديد وفيه تهديد ووعيد.
فأجابه ابن عباس: «أمّا بعد فقد بلغني كتابك قلت إنّي أفتي الناس بالجهل، وإنّما يفتي بالجهل من لم يعرف من العلم شيئاً، وقد أتاني الله من العلم ما لم يؤتك، وذكرت أنّ حلمك عني واستدامتك فيئي جرأني عليك، ثمّ قلت اكفف من غربك، واربع على ظلعك، وضربت لي الأمثال، أحاديث الضبع، متى رأيتني لعرامك هائبا، ومن حدك ناكلاً، وقلت: لئن لم تكفف لتجدنّ جانبي خشناً، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا أرعى إليك إن أرعيت، فوالله لا أنتهي عن قول الحقّ، وصفة أهل العدل والفضل، وذم الأخسرين أعمالاً الّذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً والسلام»(1).
وهذا جواب فيه تقريع وزراية، وفيه إهانة واستهانة نافت على الغاية. وأيّ غايةٌ بعد قوله: «فلا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا أرعى إليك إن أرعيت»؟ ولعل ابن عباس إنّما أجابه على كتابه لأنّه كان يقول: «إنّي لأرى ردّ جواب الكتاب حقاً عليَّ كردّ السلام»(2) ولئلا يظن به الجبن والانهزامية أمام تهديد ووعيد ابن الزبير، وهو هو لا يزال في صلابة موقفه المتماسك، وقوة شخصيته المتعالية.
روى البلاذري في أنسابه خبر ذلك بسنده عن أبي مخنف قال: «لمّا نزل ابن عباس الطائف حين نافره ابن الزبير، كان صلحاء الطائف يجتمعون إليه،

(1) شرح نهج البلاغة 20/125.
(2) الطبقات الكبري لابن سعد /166 تح ـ السُلمي.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 352

ويأتيه أبناء السبيل يسألونه ويستفتونه، فكان يتكلم في كلّ يوم بكلام لا يدعه وهو: (الحمد لله الّذي هدانا للإسلام، وعلّمنا القرآن، وأكرمنا بمحمّد (عليه السلام)، فانتاشنا به من الهلكة، وانقذنا به من الضلالة، فأفضل الأئمة أحسنها لسنّته اتّباعاً، وأعلمهم بما في كتاب الله احتساباً، وقد عمل بكتاب الله ربّكم وسنة نبيكم قوم صالحون، على الله جزاؤهم، وهلكوا فلم يدعوا بعدهم أمثالهم، ولا موازياً لهم، وبقي قوم يريغون الدنيا بعمل الآخرة، يلبسون جلود الضأن لتحسبوهم من الزاهدين، يرضونكم بظاهرهم، ويسخطون الله بسرائرهم، إذا عاهدوا لم يوفوا، واذا حكموا لم يعدلوا، يرون الغدر حزماً، ونقض العهد مكيدة، ويمنعون الحقوق أهلها، فنسأل الله أن يهلك شرار هذه الأمة ويولّي أمورَها خيارَها).
فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إليه: (إنّك تجلس العصرين فتفتي بالجهل، وتعيب أهل البرّ والفضل، وأظنّ حلمي عنك واستدامتي إياك جرّءاك عليَّ، فاكفف عني من غربك، واربع على ظلعك، واربح على نفسك).
فكتب إليه ابن عباس: (فهمت كتابك، وإنّما يفتي بالجهل من لم يؤت من العلم شيئاً، وقد أتاني الله منه ما لم يؤته إياك، وزعمت أنّ حلمك عني جرأني عليك، فهذه أحاديث الضبع أستها، متى كنت لعرامك هائباً، وعن حدّك ناكلاً ثمّ تقول: إنّي إن لم أنته وجدت جانبك خشناً، وجدتك إلى مكروهي عجلاً، فما أكثر ما طرت إليَّ بشقّة من الجهل، وتعهدتني بفاقرة من المكروه، فلم تضرر إلاّ نفسك، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا أرعى إن رعيت، فوالله لا انتهيت عن ارضاء الله بإسخاطك»(1).

(1) أنساب الأشراف (في ترجمة ابن عباس) بخطي.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 353

معطيات ابن عباس في الطائف:

أمّا أنّ معطياته لكثيرة وكبيرة إذا ما تدبّرنا ما جاء في كتاب ابن الزبير ما يعرب عن قلق، يخشى أن يستمر العطاء فيفلت منه الوكاء لذلك هدّد وتوعّد، ولكن ابن عباس كما قرأنا جوابه قد أقسم بالله أن لا ينتهي عن قولة الحقّ وصفة أهل العدل والفضل، وذمّ الأخسرين أعمالاً... وقد أبرّ قسمه ولم يحنث، بل وفى وأوفى، وقد وردت أخبار متفرقة في معانيها، مجتمعة في مبانيها، دلّت على ما كان يبذله من عطاء مثمر ومستمر حتى آخر أيامه، بل وحتى ساعة موته.
فلنقرأ ما وصل إلينا من تلك الأخبار:
1- روى السيّد ابن طاووس (ت 664) في فلاح السائل قال: «ورواية أخرى في أسرار الأذان مروية عن ابن عباس رضوان الله عليه، وهو تلميذ مولانا عليّ (عليه السلام)، ورواياته في مثل هذا إمّا إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأمّا إلى مولانا عليّ (عليه السلام).
قال السعيد أبو جعفر ابن بابويه(1): حدّثني أبو الحسن محمّد بن عمرو بن عليّ بن عبد الله البصري، قال: حدّثنا أبو محمّد خلف بن محمّد البلخي بها عن أبيه محمّد بن أحمد قال: حدّثنا عياش بن الضحاك عن مكي بن إبراهيم عن ابن جريج عن عطاء قال: كنا عند ابن عباس بالطائف أنا وأبو العالية وسعيد بن جبير وعكرمة، فجاء المؤذن فقال الله أكبر الله أكبر ـ واسم المؤذن قثم بن عبد الرحمان الثقفي ـ قال فقال ابن عباس: أتدرون ما قال المؤذّن؟ فسأله أبو العالية وقال: أخبرنا بتفسيره.
قال ابن عباس: إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر يقول: يا مشاغيل الأرض قد وجبت الصلاة فتفرّغوا لها.

(1) معاني الأخبار /38 ط الحيدرية بتقديمي سنة 1391.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 354

وإذا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله يقول: يقوم يوم القيامة ويشهد لي ما في السموات وما في الأرض على أنّي أخبرتكم في اليوم خمس مرات.
وإذا قال: أشهد أنّ محمّداً رسول الله يقول: يقوم يوم القيامة ومحمّد يشهد لي عليكم أن قد أخبرتكم بذلك في اليوم خمس مرات وحجتي عند الله قائمة.
وإذا قال: حي على الصلاة يقول: ديناً قيّماً فأقيموه.
وإذا قال: حي على الفلاح يقول: هلمّوا إلى طاعة الله وخذوا سهمكم من رحمة الله ـ يعني الجماعة ـ.
وإذا قال العبد: الله أكبر يقول: حرمت الأعمال.
وإذا قال: لا إله إلاّ الله يقول: أمانة سبع سماوات وسبع أرضين والجبال والبحار وُضعت على أعناقكم، إن شئتم فأقبلوا، وإن شئتم فأدبروا»(1).
وفي هذا النص إيماءة إلى أنّ ابن عباس كان يصلي بهم جماعة، وتلك الايماءة هي قول عطاء: «فجاء المؤذن فقال... لماذا جاء وأذّن؟ أليس للصلاة؟» فمن ذا يكون الإمام إذا لم يكن هو ابن عباس، ولو كان غيره لذكر لنا عطاء اسمه كما ذكر اسم المؤذن. هذا ما أراه وفوق كلّ ذي علم عليم.
2- أخرج الحاكم النيسابوري بسنده عن عبد الله بن مليك العجلي: «قال سمعت ابن عباس (رضي الله عنهما) قبل موته بثلاث يقول: اللّهمّ إنّي أتوب إليك ممّا كنت أفتي الناس في الصرف».
ثمّ قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد وهو من أجلّ مناقب عبد الله ابن عباس، إنّه رجع عن فتوى لم ينقم عليه في شيء غيرها»(2). ووافقه الذهبي(3).

(1) فلاح السائل /137 ط الحيدرية بتقديمي سنة 1385.
(2) المستدرك 3 /542.
(3) التلخيص /543 بهامش المستدرك على التصحيح.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 355

وأشار إلى ذلك ابن أبي الحديد في شرحه ، فقال : « وأنكرت الصحابة على ابن عباس قوله في الصرف وسفّهوا رأيه حتى قيل إنّه تاب من ذلك عند موته »(1) .
أقول: لقد روى ابن حزم عدم رجوعه عن سعيد بن جبير وهو من المختصين به. ومهما يكن فسوف يأتي البحث حول هذه الفتيا الّتي أثارت عليه نقد الصحابة في الحلقة الثالثة في فقهه. وممّا ينبغي الإشارة إليه أنّه لم يكن وحده يرى ذلك، فقد كان ابن الزبير وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم يرون مثل رأيه أيضاً كما في الخلاف للشيخ الطوسي(2) والمغني(3).
3- أخرج الخزاز في كفاية الأثر بسنده عن عطاء قال: «دخلنا على ابن عباس وهو عليل بالطائف في العلة الّتي توفي فيها ـ ونحن رهط ثلاثين رجلاً من شيوخ الطائف ـ وقد ضعف، فسلّمنا عليه وجلسنا، فقال لي: يا عطاء من القوم؟ قلت: يا سيدي هم شيوخ هذا البلد منهم عبد الله بن سلمة الحضرمي الطائفي وعمارة بن الأجلح وثابت بن مالك فما زلت أعدّ له واحداً بعد واحد، ثمّ تقدموا إليه فقالوا: يا بن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسمعت منه ما سمعت، فأخبرنا عن أختلاف هذه الأمة، فقوم قد قدّموا عليّاً على غيره، وقوم جعلوه بعد ثلاثة؟
قال ـ عطاء ـ فتنفّس ابن عباس وقال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ، وهو الإمام والخليفة من بعدي، فمن تمسّك به فاز ونجا، ومن تخلف عنه ضل وغوى، يلي تكفيني وتغسيلي، ويقضي ديني، وأبو سبطيّ

(1) شرح النهج 4/459.
(2) الخلاف 3/42 - 43 ط جماعة المدرّسين بقم.
(3) المغني لابن قدامة الحنبلي المقدسي 4/1 ط دار المنار.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 356

الحسن والحسين، ومن صلب الحسين تخرج الأئمة التسعة، ومنا مهدي هذه الأمة) فقال له عبد الله بن سلمة الحضرمي: يا بن عم رسول الله فهلاّ كنت تعرفنا قبل هذا؟
فقال: قد والله أدّيت ما سمعت، ونصحت لكم ولكنكم لا تحبّون الناصحين. ثمّ قال:
أتقوا الله عباد الله تقاة من اعتبر بهذا، واتقى في وجل، وكمش في مهل، ورغب في طلب، ورهب في هرب، واعملوا لآخرتكم قبل حلول آجالكم، وتمسكوا بالعروة الوثقى من عترة نبيكم، فإني سمعته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (من تمسك بعترتي كان من الفائزين).
ثمّ بكى بكاءً شديداً، فقال له القوم: أتبكي ومكانك من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكانك؟
فقال لي: يا عطاء إنما أبكي لخصلتين: هول المطّلع وفراق الأحبّة. ثمّ تفرّق القوم...»(1).
4- روى الذهبي عن عكرمة: «إنّ الناس من أهل الطائف ومعهم علم من علمه أو قال كتب من كتبه، فجعلوا يستقرؤونه، وجعل يقدّم ويؤخّر، فلمّا رأى ذلك قال: إنّي قد تلهت من مصيبتي هذه، فمن كان عنده علم من علمي، فليقرأ عليَّ، فإنّ إقراري له كقراءتي عليه. قال: فقرأوا عليه»(2).
تلهت: تحيرت، والأصل: ولهت كما قيل في وجاه تجاه.

(1) كفاية الأثر (باب ما جاء عن عبد الله بن عباس) ط حجرية و20 ط محققة إيران.
(2) أنساب الأشراف ترجمة ابن عباس بخطي برقم /53، سير أعلام النبلاء 4/454 ط دار الفكر.
تلهت: تحيرت، والأصل: ولهت كما قيل في وجاه تجاه.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 357

ورواه المقريزي في كتابه المقفى الكبير(1).
5- أخرج الكشي في معرفة الناقلين، قال: «حمدويه وإبراهيم قالا: حدّثنا أيوب بن نوح عن صفوان بن يحيى عن عاصم بن حميد عن سلام بن سعيد عن عبد الله بن عبد ياليل (ثاليل/خ) ـ رجل من أهل الطائف ـ قال: أتينا ابن عباس (رحمة الله عليهما) نعوده في مرضه الّذي مات فيه، قال: فأغمي عليه في البيت فأخرج إلى صحن الدار. قال: فأفاق فقال: إنّ خليلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إنّي سأهجر هجرتين، وإنّي سأخرج من هجرتي، فهاجرت هجرة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهجرة مع عليّ (عليه السلام)، وإنّي سأعمى فعميت، وإنّي سأغرق، فأصابني حكة فطرحني أهل في البحر فغفلوا عني فغرقت ثمّ استخرجوني بعد.
وأمرني أن أبرأ من خمسة من الناكثين وهم أصحاب الجمل، ومن القاسطين وهم أصحاب الشام، ومن الخوارج وهم أهل النهروان، ومن القدرية وهم الّذين ضاهوا النصارى في دينهم فقالوا: لا قدر، ومن المرجئة الّذين ضاهوا اليهود في دينهم فقالوا: الله أعلم»(2).
وسيأتي عنه بعض الأخبار الغيبية ممّا قد يرتاب فيها المبطلون، لكنّا لا نشك في إنّها من عين صافية وهو صادق أمين، وفي هذا الخبر الآنف الذكر دليل على صحة ما نراه.
6- إنّ بداية هجرته الآخرة إلى الطائف كانت فيما أحسب بعد مقتل المختار الّذي هو في 14 رمضان سنة 67 هـ، وقد مرّ بنا شماتة ابن الزبير به حين

(1) المقفى الكبير 4/501 ط دار الغرب الإسلامي بيروت.
(2) معرفة الناقلين كما في اختياره للشيخ الطوسي /38 ط بمبئ و 56 بتحـ حسن المصطفوي ط دار مشكاة مشهد.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 358

أخبره بقتل المختار وجوابه اللاذع البارع حتى استهانّ به، أهون من كلب في درب الجامع على حدّ تعبيره، أمّا نهايتها فكانت سنة 68، ومن المؤسف حقاً أن لا يذكر لنا رواة وفاته الّذين حضروها وشاركوا في تجهيزه والصلاة عليه، وحتى ذكروا ما قيل في تأبينه ساعة دفنه، فلم يذكروا لنا تاريخ موته يوماً وشهراً، وحتى السنة الّتي ذكروها، قد خالفهم من ذكر أنّها كانت في غير سنة 68 كما سيأتي تحقيق ذلك.


ماذا عنه في مرض موته؟

لقد ذكر ابن سعد في طبقاته من حديث عطية بن سعد العوفي، قال: «فمرض عبد الله بن عباس، فبينما نحن عنده إذ قال في مرضه: إنّي أموت في خير عصابة على وجه الأرض، أحبهم إلى الله، وأكرمهم عليه، وأقربهم إلى الله زلفى، فإن متّ فيكم فأنتم هم. فما لبث إلاّ ثماني ليال بعد هذا القول حتى توفي رحمه الله...»(1). وحكى ذلك أيضاً ابن الأثير(2).
ونحن أزاء هذا الخبر لا نستبعد أن يكون ابن عباس قد تلقى ذلك إمّا من ابن عمه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإمّا من ابن عمه أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولا أحسب أنّه قاله من عنده لأنّه من الغيبيات المبشّرة، وهو مع سموّ مكانته العلمية، فلم يكن من أهل الغيبيات من عنده، كيف وهو يتلو ويفسّر قوله تعالى: « عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا » (3).

(1) الطبقات الكبرى (ترجمة ابن عباس) /188 بتحـ السلمي.
(2) أسد الغابة 3/195 مط أفست الإسلامية.
(3) الجن /26 ـ 27.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 359

فقد حكى السيوطي في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: « فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ » قال: أعلم الله الرسلَ من الغيب الوحي وأظهرهم عليه فيما أوحى إليهم من غيبه، وما يحكم الله فإنّه لا يعلم ذلك غيره(1).
وإذا أردنا أن نتعامل مع النص السابق كوثيقة تاريخية أمكننا أن نعرف أنّ مدة مرضه كانت أكثر من الّتي حدّدها عطية بن سعد بثماني ليال، فإنّها الليالي الّتي عاشها بعد قوله القول، ولو أنّ عطية ذكر لنا تاريخ المرض أو تاريخ الوفاة لأفاد كثيراً.


وصاياه لابنه عليّ:

ومهما يكن فإنّ لابن عباس وصية أوصى بها ولده عليّاً لعلها كانت في تلك الفترة الّتي ذكرها عطية.
فقد ورد في مختصر تاريخ الخلفاء: «إنّه لمّا دنا موت عبد الله أوصى إلى ابنه عليّ فقال له: إنّ أفضل ما أوصيك به تقوى الله الّذي هو دعامة الأمر، وبه يقوم الدين والدنيا، ومن بعد ذلك فاعلم يا بني إن الناس قد أصبحوا ـ إلاّ قليلاً ـ في عمىً من أمرهم، يضرب بعضهم بعضاً على دنيا فانية قد نعاها الله إليهم، وقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لجدّك: هذا الأمر كائن في ولدك عند زواله عن بني أمية، فمن منهم ولي أمر الأمة فليتق الله وليعمل بالحقّ، وليقتد برسول الله، فإنّ أحق الناس باتباع أثره أمسّهم به رحماً، وليست الحجاز لكم بدار بعدي، فإذا أنت واريتني، فالمم شعث أهلك

(1) الدر المنثور 6/275.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 360

والحقّ بالشام، فإنّ لبني أمية أُكُلاً لابدّ أن يستوفوه، وهم وإن كانوا على ضلالتهم وعتوّهم أرأف بك وبأهلك من آل الزبير، للرحم الّتي بينك وبينهم، وتوقّ حركات بني عمك عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وأوص بذلك ولدك، فإنّ لهم حركات يُقتَل الشاخص فيها»(1).
وقيل: إنّه قال له: الحقّ بابن عمك عبد الملك فإنّه أقرب وأخلق بالإمارة، ودع ابن الزبير، فإنّي رأيته لا يعرف صديقه من عدوه، ومن يكون كذلك لم يتم أمره ولم يَصفُ له، إنّ عبد الملك مشى اليقدمية، وابن الزبير مشى القهقري وتمثل:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

ثمّ قال له: يا بني إن أتيت الشام وخيّرك عبد الملك المنازل فانزل بالشراة فإنّ الملك إذا تحوّل من بني أمية تحوّل إلى رجل من أهل الشراة من أكثر أهل بيت في الناس، وأنتم أولئك....
ولا شك أنّ ابن عباس لم يكن ليقول ذلك من عنده، إنّما تلقاه من لدن مدينة العلم، أو من بابها، وقد حدّثت هند بنت المهلب أنّ عكرمة أخبرها ـ وكان يدخل عليها كثيراً ويحدّثها ـ قال قال ابن عباس: لا يزال هذا الأمر في بني أمية ما لم يختلف بينهم رمحان، فإذا اختلفوا خرجت منهم إلى يوم القيامة(2). وله نحو هذا عدّة أقوال.

(1) مختصر تاريخ الخلفاء ط موسكو /ورقة 242 ب.
(2) كتاب الفتن لنعيم بن حماد (نسخة مصورة ـ ميكروفلم ـ عن مكتبة المتحف البريطاني في لندن بمكتبتي)، والملاحم والفتن للسيد ابن طاووس /13 نقلاً عن الفتن لنعيم بن حماد وعنه في كنز العمال 14/87.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 361

منها ما رواه نعيم بن حماد في كتاب الفتن، قال: «عن سعيد بن جبير عن ابن عباس انّهم ذكروا عنده اثني عشر خليفة ثمّ الأمير فقال ابن عباس: والله إنّ منّا بعد ذلك السفاح والمنصور والمهدي يدفعها إلى عيسى بن مريم»(1).
ومنها: ما روه نعيم أيضاً بسنده عن أبي هريرة يقول: «كنت في بيت ابن عباس فقال: اغلقوا الباب، ثمّ قال: هاهنا من غيرنا أحد؟ قالوا: لا، وكنت في ناحية من القوم فقال ابن عباس: إذا رأيتم الرايات السود تجيء من قبل المشرق فأكرموا الفُرس، فإنّ دولتنا فيهم.
قال أبو هريرة: فقلت لابن عباس: أفلا أحدّثك ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه و(آله) وسلّم؟
قال: وإنك لهاهنا؟ قلت: نعم، قال: حدّث، فقلت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول: إذا خرجت الرايات السود فإنّ أولها فتنة وأوسطها ضلالة وآخرها كفر»(2).
ولابن عباس وصايا لابنه عليّ، غير ما تقدم:
منها: ما رواه أبو نعيم في تاريخه: «قال لابنه يا بني عليك بالاعتبار فإنّه يذهب بالإغترار، وعليك بتقصير الأمل وتقريب الأجل، فإنّه يذهب بالكسل ويحض على العمل»(3).
ومنها: ما رواه الشيخ المفيد في أماليه وعنه الشيخ الطوسي في أماليه(4) وعنهما المجلسي في البحار(5)، واللفظ للأوّل بسنده عن عكرمة قال: «سمعت

(1) الفتن 1/96، وعنه في كنز العمال 11/246 ط مؤسسة الرسالة سنة 1409 بيروت.
(2) الفتن 1/202ـ 203 و 551 ط القاهرة سنة 1412 تح ـ سمير ابن أمين الزهري.
(3) تاريخ اصبهان 1/356 ط أوروبا.
(4) أمالي الطوسي 1/ 110 ط النعمان.
(5) بحار الأنوار 17/335 ط حجرية.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 362

عبد الله بن عباس يقول لابنه عليّ بن عبد الله: ليكن كنزك الّذي تدّخره العلم، كن به أشد اغتباطاً منك بكنز الذهب الأحمر، فإنّي مودعك كلاماً إن أنت وعيته اجتمع لك به خير أمر الدنيا والآخرة:
لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، ويقول في الدنيا قول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، إن أعطي منها لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ويأمر بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض الجاهلين ـ الفجار ـ وهو أحدهم، ويقول لِمَ أعمل فأتعنّى، ولا أجلس فأتمنّى، فهو يتمنى الغفرة وقد دئب في المعصية، قد عمّر ما يتذكر فيه من تذكّر، يقول فيما ذهب لو كنت عملت ونصبت كان ذخراً لي، ويعصي ربّه ـ تعالى ـ عزّ اسمه فيما بقي، غير مكترث، إن سقم ندم على العمل، وإن صحّ أمن واغترّ وأخّر العمل، معجبٌ بنفسه ما عوفي، وقانط إذا بشيء ابتُلي، إن رغب أَشِر، وإن بسط له هلك، تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن، لا يثق من الرزق بما قد ضُمِن له، ولا يقنع بما قُسِم له، لم يرغب قبل أن ينصب، ولا ينصب فيما يرغب، إن استغنى بَطِر، وان افتقر قنط، فهو يبتغي الزيادة وان لم يشبع، ويضيّع من نفسه ما هو أكره، يكره الموت لإساءته، ولا يدع الإساءة في حياته، إن عرضت شهوته واقع الخطيئة ثمّ تمنى التوبة، وإن عرض له عمل الآخرة دافع، يبلغ في الرغبة حين يسأل، ويقصّر في العمل حين يعمل، فهو بالطول مدلّ، وفي العمل مقلّ، يبادر في الدنيا يعيى بمرض، فإذا أفاق واقع الخطايا ولم يعوّض، يخشى الموت ولا يخاف الفوت، يخاف على غيره بأقلّ من ذنبه، ويرجو لنفسه بدون عمله، وهو على الناس طاعن، ولنفسه مداهن، يرى الأمانة ما رضي، ويرى الخيانة إن سخط، إن عوفي ظنّ أنّه قد تاب، وإن ابتلي طمع في العافية وعاد، لا يبيت قائماً، ولا يصبح صائماً، يصبح وهمّه الغذاء،

موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 363

ويمسي ونيّته العشاء وهو مفطر، يتعوّذ بالله مَن فوقه، ولا ينجو بالعوذ مَن هو دونه، يهلك في بغضه إذا أبغض، ولا يقصّر في حبّه إذا أحبّ، يغضب من اليسير، ويعصي على الكثير، فهو يطاع ويعصي، والله المستعان»(1).
أقول: قارن هذه الوصية مع الحكمة (150) نهج البلاغة بشرح محمّد عبده(2)، تجدها مأخوذة منها مع تغيير بعض ألفاظها بما يرادفها، ولا تكاد تفرّق بينهما، وتلك الحكمة هي الّتي قال عنها الشريف الرضي (رحمه الله): «لو لم يكن في الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة، وحكمة بالغة، وبصيرة لمبصر، وعبرة لناظر مفكّر»(3).
وهي بحق كذلك، ولا غرابة فقد وصفها حبر الأمة لابنه أبلغ وصف حين قال له: إنّي مودعك كلاماً إن وعيته اجتمع لك به خَير الدنيا والآخرة.
وأخرج الطبراني في المعجم بسنده عن زاذان قال: «مرض ابن عباس مرضة ثقل منها فجمع إليه بنيه وأهله، فقال لهم: إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول: (من حج من مكة ماشياً حتى يرجع إليها فله بكلّ خطوة سبع مائة حسنة من حسنات الحرم)، فقال بعضهم: وما حسنات الحرم؟ قال: (كلّ حسنة بها ألف حسنة) »(4). وأحسب أنّ هذا كان منه في الطائف في مرضه الّذي توفي فيه (رحمه الله).
وكان ابن عباس (رحمه الله) يقول: «آخر شدّة يلقاها ـ ابن آدم ـ المؤمن الموت»(5).

(1) أمالي المفيد /176 ط الحيدرية سنة 1367 هـ.
(2) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده /189 حكمة (150).
(3) المصدر نفسه.
(4) المعجم الكبير 12/82 ط الموصل.
(5) صفة الصفوة 1/319.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 364

فها هو الآن يودّع الحياة الّتي قاسى آخر أيامه فيها الشدائد من ظلم ابن الزبير الّذي أخرجه عن مكة حرم الله، وكان يودّ أن يموت فيها كما مرّ في دعائه بنُعمان، ولكن لله أمر هو بالغه.
وها هي آخر شدة من شدائد الحياة يلقاها بأحسن عدة وخير زاد ليوم المعاد.


ملاك العمل خواتيمه: (1)

لقد ورد في الحديث النبوي الشريف: (وإنّما الأعمال بخواتيمها)، وهو حديث صحيح لا غبار عليه سنداً ومتناً(2)، وهو ميزان يعرف به تقويم الناس في الحياة الدنيا.
ولمّا كانت خاتمة ابن عباس في حسنها فريدة في بابها، يحسن بنا أن نذكرها ونقدم عليها ذكر من رواها توثيقاً لها.
فقد رواها أحمد بن حنبل ـ وهو أقدم من رواها ـ في كتابه فضائل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «حدّثنا الحسن بن عليّ البصري قال حدّثنا محمّد بن يحيى قال حدّثنا أبي قال حدّثنا الحاكم بن ظهيرة عن السدي عن أبي صالح...»(3) الخبر.
وروى الخبر بهذا السند أيضاً أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم عليّ بن محمّد بن عليّ الطبري ـ من علماء الإمامية في القرن السادس ـ في كتابه بشارة المصطفى(4)، وأحسبه أخذه من كتاب أحمد.

(1) حديث نبوي شريف رواه عن ابن عباس، أنظر كنز العمال 20/187 ط حيدر آباد الثانية.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاص، وأحمد في مسنده 5/335 من حديث سهل بن سعد، وغيرهما.
(3) فضائل الصحابة (الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام» 1/ورقة 101 أ نسخة مصورة بمكتبتي.
(4) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى /239 ط الحيدرية سنة 1383 هـ.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 365

كما رواه عن أحمد العصامي المكي في سمط النجوم العوالي(1)، وكذلك الباعوني في جواهر المطالب(2).
وروى حسن الخاتمة أيضاً عطاء المكي، وهو من تلامذة ابن عباس المحظيين عنده، وكان معه في الطائف ملازماً له كسعيد بن جبير وأبي العالية وهما من خيرة التابعين.
وحديثه أخرجه الخزاز في كفاية الأثر بسنده في باب ما جاء عن عبد الله ابن عباس(3).
وروى حسن الخاتمة أيضاً عبد الله بن عبيد ياليل (ثاليل)، وعنه الكشي بسنده في رجاله(4).
وعنه مبثوثاً في مصادر المتأخرين كالدرجات الرفيعة(5)، وغيرها.


حديث الخاتمة:

فلنقرأه أوّلاً برواية عطاء بن أبي رباح المكي في آخر ما حدّث به عن اُستاذه حبر الأمة، وقد مرّ في معطيات الطائف صدر الخبر:
«...وتفرّق مَن كان عنده من أهل الطائف، ووصيته لهم بتقوى الله والعمل للآخرة والتمسك بالعروة الوثقى من عترة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما سمعه منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (من تمسك بعترتي كان من الفائزين).

(1) سمط النجوم العوالي 2/384 ط السلفية بمصر.
(2) جواهر المطالب في آخر الباب الثالث عشر من كتابه ورقة 17 أ (نسخة مصورة بمكتبتي).
(3) كفاية الأثر ط حجرية سنة 1305.
(4) كما في اختياره /56 ط محققة.
(5) الدرجات الرفيعة /140 ط الحيدرية.
موسوعة عبدالله بن عباس- الحلقة الاولى - الجزء الخامس 366

قال عطاء: فقال لي: يا عطاء خذ بيدي واحملني إلى صحن الدار، فأخذنا بيده أنا وسعيد، وحملناه إلى صحن الدار، ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال: «اللّهمّ إنّي أتقرب إليك بمحمّد وآله، اللّهمّ إنّي أتقرب إليك بولاية الشيخ عليّ بن أبي طالب» فما زال يكررها حتى وقع إلى الأرض، فصبرنا عليه ساعة، ثمّ أقمناه فإذا هو ميت رحمة الله عليه».
ولنقرأ الخبر ثانية برواية عبد الله بن عبد ياليل (ثاليل) كما في رواية الكشي: «قال: اللّهمّ إنّي أحيى على ما حيي به عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وأموت على ما مات عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ثمّ مات».
ومرة ثالثة برواية أبي صالح كما رواها أحمد بن حنبل قال: «لمّا حضرت عبد الله بن عباس الوفاة قال: اللّهمّ إنّي أتقرب إليك بولاية عليّ بن أبي طالب».
هذه ثلاث روايات عن ثلاثة ممّن حضروا ساعة الوفاة، وكلّهم اتفقوا على رواية تقرّبه إلى الله تعالى بولاية عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فأيّ خاتمة أحسن من هذه الخاتمة: حبر الأمة يتقرب إلى الله سبحانه بولاية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ليثقّل بها ميزانه، فهو في آخر رمق من حياته يدعو مبتهلاً إلى الله تعالى أن يجعل الولاية أفضل قرباه إليه، مستودعاً لها عنده لتكون من وسائل فوزه يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
ولقد مرّ عنه أيضاً عندما بلغه خبر استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) فقال: «اللّهمّ إنّي أشهدك أنّي لعليّ بن أبي طالب ولولده وليّ، ومن عدوه وعدوهم بريء، وإنّي سلم لأمرهم. كيف لا وقد أوصاه بذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) »(1)، وأوصاه بذلك أبوه العباس(2).

(1) كما مر في الجزء الأوّل.
(2) كما مر في الجزء الأوّل.

السابق السابق الفهرس التالي التالي