دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 122

المدفق (1) ، ولعله الأنسب لما نحن فيه ، وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام « فصبرت وفي العين قذى » (2) وجاء الأخطل ليؤكد لنا المعنى العام الذي هو خلاف الصفاء والخلوص وقال مستظرفاً من الطويل :
وليس القذى بالعـود يسقط في الإنـا ولا بـذبـاب قـذفـه أيسـر الأمر
ولـكـن قـذاهـا زائر لا نحـبـه ترامت به الغيطان من حيث لاندري (3)
وأما قوله : « فرقتها » من فرق بينهما اذا فصل بعضه عن البعض الاخر بمعنى تفكيكها من المفاصل في المرحلة الاولى . .
وأما قوله : « تباينت » من البينونة وهي الإبعاد والفرقة .
وأما قوله : « الشوى » بالكسر فهي أعضاء الإنسان ، واختلفوا في شموليتها على الاعضاء جميعها فمنهم من قال الأطراف ومنهم توسع فقال والرأس منها ، ومنهم من قال : مالا يقتل صاحبه من الأعضاء إذا قطعت ، ومنه قولهم رمى فلان عدوه فأشواه أي لم يقتله بل أصاب شواه ، والمراد أطرافه وعليه فسر قول الهذلي من الطويل :
فإن من القـول التي لا شـوى لها إذا زل عن ظهر اللسان انفلاتها (4)
أي لا أبقاء لذلك القول ، والاسم من الشوى تكتب مقصورة لأن الألف مقلوبة عن الياء .
وأما قوله « رمم » واحدها الرمة كأمم وأمة ـ وهو الشيء البالي ، ومنه الرميم أي المتفتت ، ومنه قوله تعالى : « قال من يحيي العظام وهي رميم » (5) وأما قوله : « البلا » لها معان متعددة ، الاختبار وألفها ألف ممدودة تحذف الهمزة تخفيفاً ، والباء منها

(1) راجع قاموس المحيط : 4/ 546 .
(2) نهج البلاغة : 85 .
(3) ديوان الأخطل : 141 ، لسان العرب : 11 / 77 .
(4) لسان العرب : 7 / 247 .
(5) سورة يس ، الآية : 78 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 123

مفتوحة ، وبكسر الباء مقصورة هو الرث ، والبلاء بالفتح وبالمد لغة في البلى بالكسر والقصر ، وتأتي بمعنى الموت والهلاك ، وكل المعاني صادقة ، إلا أن الطواف مع الموت والهلاك أبلغ .
التصوير الفني :
يصور لنا أنه نديم للموتى ويحاول التحدث إليهم في ناديهم إلا أنهم أحجموا عن التحدث معه ليذكروه بمصيرهم عن مصيره ، وقد التزم هو الآخر الصمت على أثر الدهشة التي انتابته من اصغائه لتفاصيل ما حل بهم عبر من سيطر سلطانه عليهم ألا وهو التراب حيث جعل يعدد ممارساته في حقهم إحداها تلو الأخرى ، من خرق ملابسهم ( الأكفان ) وتمزيق لحمهم وحشو أماقيهم بالتراب ، وتفكيك العظام من المفاصل وتفريق الأعضاء بعضها عن البعض الآخر ، ليتركها بالية نحو الهلاك ، بعدما كانوا يحتقرونه ويطؤونه بكبرياء وتبختر .
الشرح والمعنى :
الشاعر ينادي سكان القبور مستخدماً لفظ « ناديت » مفضلاً إياه على مثل : « خاطبت » أو « حاورت » أو « حادثت » لما في مادة النداء من التساوي موضعاً بينه وبينهم فكأن القائل هو الآخر ميت عملاً بمقتضى الحديث الشريف : « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا » (1) فكأنه مع الأموات في ناد تجمعوا فيه غير أنه ناد آخر فيه ناطق بلسان وناطق بدلالات لا علاقة لها باللسان ، دلالات التحول إلى التراب .
ويتطلع الشاعر إلى القبور فيراها بيوتاً قد سكن فيها أولئك الذين يناديهم ولكن أي سكنى تلك ؟ حيث يشير إلى تلك المرحلة الصعبة ولذا فقد استعمل لفظ « القبور » بدلاً من الأجداث أو الرمس أو ما يشبههما ، ذلك أن القبر دال على الغموض ، والميت ما أن يوضع في قبره حتى تصبح حالته مجهولة للأحياء تماماً لا من حيث مصير جسده الذي يعرفه كل الناس ، ولكن من حيث مستقر روحه وسكان القبور سكتوا لأنهم بطبيعة الحال لا

(1) بحار الأنوار : 4/ 43 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 124

يتكلمون ، بل إن سكوتهم أسكت المتحدثين إليهم وبذلك اصبحوا ذاهلين أمام جلال الموت فتوقفوا عن النطق .
ويدل على ذلك أن الشاعر لم ينطق بعدها بشيء بل اكتفى بقوله ناديت ولم يخبرنا بأي شيء ناداهم وعن أي شيء حدثهم وماذا أراد أن يقول لهم كل هذا الغموض يتناسب مع الغموض الذي يدل عليه لفظ القبور ، ومن البديهي أن الذين أسكتوه كانوا هم ساكتين أيضاً فهم ساكنون ساكتون ألفاظ تتبارى فيما بينها لتخلق رهبة الموت ، ولذا تولى التراب على إجابته ، وأي تراب هو ؟ إنه تراب الحصى الذي أقل فائدة ترتجى منه بالنسبة إلى سائر الأتربة التي تستخدم للزراعة أو التي يستخرج منها المعادن ، هذا الحصى الذي يتجمهر على القبور وحولها ، ويتحول قسم منه تراباً .
إن هذا التراب والحصى يتكلم وأهل القبور ساكنون ساكتون بعدما كانوا بكل جبروتهم وطغيانهم وتكبرهم يطؤون التراب شامخين بأنفهم (1) والآن هذا الإنسان يتغلب عليه التراب والحصى ، فتتكلم الجوامد وهو هامد لا يستطيع كلاماً .
ثم ينتقل الشاعر ليسرد مقولة التراب ، ياللهول !! أوَ يدرك هذا الإنسان المتجبر الطاغي شره على هذه الأرض ، إن التراب الذي يطأه اليوم بنعله سيمزقه غداً ؟ سيفتت لحمه ويخرق كساءه ، إن كان يستطيع أن يأخذ من كساء له غير الكفن ؟ وحتى هذا الكفن لن يظل عليه إلا ريث أن يفعل التراب فعله تمزيقاً وتخريقاً ، هذا التراب جزء من ذلك الحصى ، تراب أقل نفعاً من غيره ولكن

(1) يقول أبو العلاء المعري من الخفيف ، مخاطباً الإنسان :
خفف الـوطء ما اظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
وينسب إلى علي عليه السلام من الكامل :
من كان لا يطأ التراب برجله يطـأ الـتراب بنـاعم الخد
« روائع الحكم : 188 » .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 125

فلينظر الإنسان ماذا فعل ؟ فهل من متعظ ؟ ! ولعل الـتراب ينتقم ممن دب علـيـه (1) .. فاللحم يتمزق والكساء يخترق والحصى أو ترابه هو البطل الفائز على الإنسان الذي كان يدوسه بقدميه ويركله كيف شاء ـ ليحوله إلى جنسه « وكل ما فوق التراب تراب » (2) .
إذاً لم يتوقف الأمر عند تمزيق اللحم وتخريق الكساء بل يتعداه إلى تصوير جزء آخر من الواقع المزداد فظاعة حيث إن العينين اللتين هما كريمتا الإنسان ومنهما يطل على العالم وبهما يعقد الصلة مع ما حوله تتحولان إلى تجويفين يملأ الحصى فراغهما بترابه ، فلينظر الإنسان إلى هذه المفارقة بين كرامة العين وحشوها بالتراب ، وهي المفارقة ذاتها ما بين الحياة والموت مفارقة تتجلى بالمقارنة بين تأذي العين بيسير من القذى فإذا بهما تستحيلان إلى فراغين أجوفين يحشوهما الحصى بالتراب حشواً بقوة وبلا رفق ولا لين ، فالعين التي كان يؤذيها القذى صارت مجالاً لعبث

(1) جاء في سفينة البحار : 7 / 189 عن أمالي الطوسي ، في كتاب طويل لأمير المؤمنين عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر : « إن الكافر إذا دفن قالت له الأرض : لا مرحباً بل ولا أهلاً لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري فإذا وليتك فستعلم كيف صنيعي بك ، فتضمه حتى تلتقي أضلاعه » .
(2) لقد أثبت العلم الحديث أن بدن الإنسان كله يمكن أن يتحول إلى تراب إلا قطعة صغيرة من أسفل العمود الفقري قد لا يصل طولها إلى سنتميتر واحد ، فإنها لا يمكن أن تتحول إلى تراب و ربما إلى هذه القاعدة التي أثبتها العلم الحديث يشير القرآن الكريم إلى العظام والتراب و جمع العظام الوارد في الآية الكريمة : « أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه » [ القيامة : 3 ] أو ما ورد على لسان المكذبين : « أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون » [ الصافات : 16 ] و[ المؤمنون : 82 ] و« أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون » [ الصافات : 53 ] وغيرها ، وما في المتن الظاهر انه عجز بيت من الكامل ، قد ينسبه بعضهم إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلا أن المصادر لا تؤيد ذلك ، ويناسب أن يكون عجزاً لهذا الصدر :
أما ترى من في الحياة يزول وكل ما فوق التراب تراب
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 126

الحصى حيث يحشوها حشواً بترابه ، ولا تستطيع له رداً (1) .
ولا يكتفي بالوصف المتقدم بل يتجاوزه ليشير إلى ما بعد تمزيق اللحم وتخريق وحشو محجري العينين ليتحدث عن تلك العظام التي تتفرق بعضها عن البعض الآخر متفتتة إلى تراب بعدما خلقها وصورها بأحسن الصور (2) ثم يعيدها مرة أخرى (3) .
إن الحصى الذي كدس التراب في محاجر العين ، ومزق اللحم وخرق الكساء يفتت العظام ويقطع أوصال الإنسان ! فيا لله وللحصى ماذا يفعل بالمرء . ثم إنه بدأ يستعين بأدوات الإشارة ليشير إلى أطرافه وأعضائه إحداها تلو الأخرى مستخدماً الإشارة القريبة تارة والبعيدة أخرى ليصور مقالته السابقة تصويراً عملياً لينهي كلامه بنهاية أمره الآيل إلى التراب المجانس لنفسه والذي فيه فنائه وهلاكه .
الحكمة :
لا شك أن غرض الشاعر هو العبرة والوعظ وقد اختار هذا الأسلوب التصويري الرائع ليكن مؤثراً .. فطوبى لمن كانت له حصاة (4) تهدي خطواته في هذه الحياة لما يرضي الله سبحانه وتعالى حتى إذا عمل فيه الحصى عمله بعد الوفاة لم يضره شيئاً لأن روحه وهي جوهرة وحقيقته هناك .. في عليين .

(1) ولعل في استخدام لفظ الحشو مسألة علمية أيضاً فمن المعروف أن للأرض ضغطاً والضغط يولد حشو الحفرة فلعله يريد الإشارة إلى هذه الحقيقة في استخدامه لفظ الحشو .
(2) يقول الله تبارك وتعالى مخاطباً الإنسان : « وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً » [ البقرة : 259 ] ، وقوله جل وعلا : « فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر » [ المؤمنون : 14 ] .
(3) يقول الله جل شأنه : « وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه ، قال من يحيي العظام وهي رميم » [ يس : 78 ] ، وقال جل ذكره : « أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه » [القيامة : 3 ] وقوله تعالى : « منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى » [ طه : 55 ] .
(4) الحصاة : العقل .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 127

النسبة :
قد يؤثر بعض التصحيفات ـ التي عادة ما تحوم حول الآثار والنصوص التي تروى ـ على صحة النسبة إلى قائلها وبالأخص إذا ما كان القائل من الشخصيات التي ترتبط بالسماء والتي تعد في المصاف الأول من الصنف البشري ، إلا أن الدارسة والتحقيق كفيلان بإعادة تلك النصوص إلى صياغتها الأولى حد الإمكان ، وربما ترتفع معها تلك الشبهات عن تلك النصوص ، ونحتمل ـ والله العالم ـ أن هذا النص ( الأبيات الخمسة ) بعدما جرى عليها التعديل باختيار النسخ المناسبة لسياقها وإعادة رسم كتابة بعضها الآخر ، والتي أخذت صورتها التي أثبتناها ـ بل لا نستبعد ـ أن تكون مضامينها صادرة عن مثل الإمام الحسين عليه السلام حيث إنه من تلك الزمرة التي لا تألو جهداً للدعوة إلى إصلاح الأمة ومفاهيمها وإلقاء العبر والنصائح لهم بصورة مختلفة بالخطب والروايات تارة وبالنثر والنظم أخرى ، ورغم أن هذه الأبيات ليست في مصاف عيون الشعر العربي حيث تعد من الشعر الوسطي الذي احتفظ بكل معايير النظم والتعبير ، ولكنه لم يشأ التفوق بل لم يكن المراد ، ولعل الاعتذار عن أن الغرض من إنشائه لم يكن إلا الوعظ والإرشاد وارد ، وهذا لا ينافي كونه عليه السلام من الصفوة التي هم سادة البلاغة والكلام ، إذ أن من البلاغة أيضاً الاهتمام بالغرض ، وملاحظة مدى تأثيرها في قرائه ، ولا أقول بأن الجمع بينهما لا يمكن ، إلا أنه مكلف ولا ضرورة للكلفة .
وقد يرى القارئ أن البيت الخامس لا يرتقي إلى دقة الوصف الوارد في الأبيات السابقة وربما نسبه إلى غيره حيث إن القاعدة جرت على أن البيت اللاحق يتولى التفصيل لما كان قد أجمله في البيت السابق ، وهنا حصل العكس ، إلا أننا استظهرنا أن التفصيل وقع ، ولكن لا بالألفاظ فحسب بل بالاستعانة بأداة الإشارة وبالطرق العملية وبذلك ترتفع الشبهة ومعها يرتفع الضعف من تنافي البيت الخامس مع ذلك التقسيم المنطقي

دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 128

والتصور الرائع في الأبيات السابقة ، وبذلك فلا يسيء إلى الشعر ومسحة الخيال والمبالغة التي فيه .
والحاصل : ليس في الأبيات ما يستبعد أن تكون منسوبة إليه عليه السلام إلا كونها ليست من عيون الشعر العربي وهذا غالب على شعر الوعظ والعرفان . ومن مؤيدات النسبة أنها تنطق بمضامين الآيات والروايات وتوجيه الأمة نحو الصلاح ، ومن الآيات المناسبة وبالأخص إلى البيت الأول قوله تعالى : « ألهاكم التكاثر ، حتى زرتم المقابر »(1) حيث أراد جل وعلا من الزيارة الموت ، ثم اردفهما بقوله : « كلا سوف تعلمون »(2) أي ماذا يجري عليكم في القبر ، قال علي عليه السلام : ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت : « ألهاكم التكاثر ، حتى زرتم المقابر ، كلا سوف تعلمون » (3) وقال : تعالى : « وما أنت بمسمع من في القبور »(4).
ويقول عليه السلام في خطبة له يصف الموت : « أصبحت أصواتهم هامدة ، ورياحهم راكدة ، وأجسادهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية ، فاستبدلوا بالقصور المشيدة ، وبالنمارق الممهدة ، الصخور والأحجار المسندة ، والقبور اللاطية الملحدة » (5).
هذا ويبدو أنه كان يزور المقابر بين فينة وأخرى حيث روى الصادق عليه السلام (6) قال : مر أمير المؤمنين علي بن أبي

(1) سورة التكاثر ، الآيتان : 1ـ 2.
(2) سورة التكاثر ، الآية : 3.
(3) مجمع البيان المجلد الخامس : 812 .
(4) سورة فاطر ، الآية : 22 .
(5) سفينة البحار : 8/ 126 عن نهج البلاغة .
(6) رواه الطوسي عن محمد بن محمد المفيد عن الحسين بن علي التمار ، عن علي بن ماهان ، عن عمه ، عن صهيب بن عباد بن صهيب عن جعفر بن محمد عليهما السلام .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 129

طالب عليه السلام بالمقبرة (1) فسلم ثم قال : « السلام عليكم يا أهل المقبرة والتربة ، اعلموا أن المنازل بعدكم قد سكنت ، وأن الأموال بعدكم قد قسمت ، وأن الأزواج بعدكم قد نكحت (2) ، فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم » .
فأجابه هاتف من المقابر يسمع صوته ولا يرى شخصه : عليك السلام ياأمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، أما خبر ما عندنا فقد وجدنا ما عملنا وربحنا ما قدمنا وخسرنا ما خلفنا .
فالتفت إلى أصحابه فقال : أسمعتم ؟
قالوا : نعم يا أمير المؤمنين .
قال : فتزودوا فإن خير الزاد التقوى (3) ؟
الإقتباس :
هناك أبيات تنسب إلى الإمام علي عليه السلام المتوفى عام 40 هـ أنشأها عندما وقف على قبر حبيبته فاطمة الزهراء عليها السلام ، فيها من العبر ما لا يخفى على أهله ولها سنخية مع هذه الأبيات حيث يقول من الكامل :
ما لي وقفت على القبـور مسلماً قـبر الحبيب فلم يرد جـوابي
أحبيب مـالك لا ترد جـوابـنـا أنسيت بعدي خلـة الأحبـاب (4)
قال الـحبيب وكـيف لي بجوابكم و أنـا رهين جنـادل وتـراب
أكل الـتراب محاسـني فنسيتكم وحجبت عن أهلي وعن أترابي

(1) وفي نسخة : « بالمقابر » .
(2) إنه تنبيه لطيف ، قد نستخدمه نحن أيضاً في حياتنا اليومية لتحذير الطرف الآخر ، ومن ذلك ما وجدت في بعض الدول الإسلامية العربية قد وضعوا على المنعطفات في الطرق الجبلية تحذيراً لسائقي السيارات : « يا بابا لاتسرع فنحن بانتظارك » وفي دول أخرى كتب :« يا بابا لاتسرع ماما ستتزوج بعدك » .
(3) أمالي الطوسي : 54 .
(4) في ديوان الأمير جمع قطب الدين البيهقي : 19 إلى هنا نسبه إلى الإمام وأما بعده فنسبه إلى الهاتف الذي أجاب الإمام عليه السلام على البيتين .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 130

فعليكم مني السلام تقطعت مني ومنكم خلة الأحباب (1)
وينسب إليه أيضاً في هذا المعنى عندما زار القبور فقال من الطويل :
سلام على أهل القبور الدوارس كأنهم لم يجلسوا في المجـالس
ولم يشربوا من بارد الماء شربة و لم يأكلوا ما بين رطب ويابس
ألا خبروني أين قـبر ذلـيلـكم وقبر العزيز الباذخ المتنافـس (2)
وقريب منه ، ينسب إلى علي عليه السلام من الوافر :
خلقت من التراب وعن قريب تغيب تحت أطباق الـتراب
إلى أن يقول :
أعامر قصرك المرفوع أقصر فإنك ساكن القبر الخراب (3)
ويقول أبو العلاء المعري (4) من الطويل :
وقفت على أجداثهم وسـألـتهم فما رجعوا قولاً و لا سألوكا
ولا علم لي من أمرهم غير أنهم لو انتبهوا من رقدة عذلوكا
تخلفت دون الـظاعنين كـأنهم رأوك أخا وهن فما حلوكا (5)
ويقول في أخرى من المتقارب :
إذا الحي ألبس أكفـانـه فقد فني اللبس واللابس
و يبلى المحيا فلا ضاحك إذا سـر دهر ولا عابس
ويحبس في جدث ضيق و ليس بمطلقه الحابس (6)
ويقول أيضاً من الخفيف :

(1) ديوان الإمام أمير المؤمنين ، جمع الأمين : 43 .
(2) ديوان الإمام أمير المؤمنين ، جمع الأمين : 87.
(3) ديوان الإمام أمير المؤمنين بخط حسين الحسيني الأصفهاني : 13 ( مخطوط ) .
(4) أبو العلاء المعري : هو أحمد بن عبد الله بن سليمان ( 363 ـ 449 هـ ) .
(5) ديوان لزوم ما لا يلزم : 2/ 121 .
(6) ديوان لزوم ما لا يلزم : 1/ 557 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 131

زاره حتفـه فقطب للمـوت وألقى من بعدها الـتقطيبـا
رودوه طيباً لـيحلق بالـناس و حسب الدفين بالترب طيبا
نـام في قبره و وسـد يمنـاه فخلناه قـام فينـا خطـيبـا
للمنيا حـواطـب لا تبـالـي أهشيماً جرت لها أم رطيبـا
صرفت كأسها ، فلم تسق شربا مرة خالصـا وأخرى قطيبا (1)
ويقول أبو العتاهية من الكامل :
إني سـألـت القبر ما فعلت بعدي وجـوه فيك منعفره
فـأجابني صيرت ريحهم تؤذيك بعد روائح عطره
وأكـلت أجسـاداً منعمـة كان النعيم يهـزها نضره
لم أبق غير جماجم عريت بيض تلوح وأعظم نخره (2)
ويقول في أخرى من الكامل أيضاً :
مـا حال من سكن الثرى ما حاله أمسى وقد قطعت هناك حباله
أمسى ولا روح الحيـاة تصيبـه يـومـاً ولالطف الحبيب يناله
أمسى و حيداً مـوحشـاَ متفرداً متشتتاً بعد الـجميع عيـالـه
أمسى وقد درست محاسن وجهه و تفرقت في قبره أوصالـه (3)
وأخيراً : فإذا كانت النسبة إلى الإمام المعصوم مقبولة فإنها تدل على جواز زيارة القبور .

(1) ديوان لزوم ما لا يلزم : 1/ 113 .
(2) ديوان أبي العتاهية : 121 .
(3) ديوان أبي العتاهية : 233 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 132

الهمزة المضمومة
(2)
الناصر والخاذل
1ـ إذا استنصر المرء إمرءاً لا يدي له فنـاصره والخـاذلـون سـواء
2ـ أنـا ابـن الذي قد تعلمون مكـانه و ليس على الحـق المبين طخاء
3ـ أليس رسـول الله جدي و والـدي أنا البدر إن أخفى النجـوم خفاء
4ـ ألـم ينزل القرآن خـلف بيـوتنا صبـاحاً ومن بعد الصباح مساء
5ـ ينـازعـني و الله بينـي و بينـه يزيد و ليس الأمـر حيث يشـاء
6ـ فيا نـصحـاء الله أنـتـم ولاتـه و أنتـم على أديـانـه أمـنـاء
7ـ بـأي كـتـاب أم بأيـة سـنـة تنـاولـها عن أهلـها الـبعـداء
* * *
البحر :
الطويل (1) ( فعولن مفاعيلن × 4) إلا أن عروضه مقبوض (2) وضربه محذوف (3) ، أما بالنسبة إلى عروضه فقد قيل بوجوب إضماره إلا

(1) الطويل : ويسمى كوبا ، وإنما سمي طويلاً لأنه أطول شعر حيث أن حروفه ثمانية وأربعون حرفاً ، وسمي ركوبا لأن العرب أكثر ما يركبون أي ينظمون أشعارهم عليه ، ويلقب بأمير البحور ، ولذلك لا يستعمل مجزوءاً ولا مشطوراً ولا منهوكاً إلا نادراً .
ولعل في اختيار الشاعر لهذا البحر في بيان غرضه سبب وجيه يعود إلى أن بحر الطويل اختص في الغالب لبيان الأخبار ، والشاعر فيها يريد بيان ما آلت إليه مصير الأمة من تولي أراذل القوم الحكم ، وفي بحر الطويل نفس طويل لسرد الأخبار ، ولذلك رجحه قدامى العرب في النظم عليه في هذا الغرض لأن فيه حلاوة الوافر ، ورقة الرمل ، ورسل المتقارب ، دون انتبارة الوافر ، وفرط لين الرمل ، وخفة المتقارب ، وجبلة الكامل ، وكزارة الرجز ، فهو بالنتيجة معتدل بين البحور .
(2) القبض : هو إسقاط خامس التفعيلة الساكن كما في « فعولن » فيصبح بعده حذف النون « فعول » .
(3) الحذف : هو إسقاط السبب الخفيف ( / ه ) من آخر الجزء مثل « فعولن » تصبح بعد حذف « لن » « فعو » فينقلب إلى « فعل » .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 133

في التصريع ، وأما في ضربه فالحذف فيه إحدى الخيارات ، ولكن على الشاعر الالتزام به في كل الأبيات إن اختاره ، وهذا ما حصل بالفعل فتحول العروض من « مفاعيلن » إلى « مفاعلن » بسبب القبض ، والضرب تحول من « مفاعيلن » إلى « فعولن » بسبب الحذف .
وأما الحشو : فقد دخل القبض أيضاً على بعض تفاعيلها القبض أيضاًَ فأصبحت « فعولن » « فعول » وهذا من الزحاف الجائز استخدامه بل قيل باستحسانه في التفعيلة الخامسة ، وقال بعضهم بل يكره أن تأتي سالمة ، وربما قالوا فيها بضرورة الالتزام به إن اختير لها القبض ، كما قيل بأن « فعولن » الواقعة قبل الضرب المحذوف ـ مفاعيلن المنقلب إلى فعولن ـ لا يكاد يجيء إلا مقبوضاً فتصبح على هذا « فعولن » « فعول » وهذا ما التزم به الشاعر في التفعيلة السابعة .
كما يجوز أن تخضع « مفاعيلن » في الحشو إلى القبض أيضاً لتصبح « مفاعلن » وهذا ما حصل بالفعل في بعض التفاعيل في هذه الأبيات ولكنه غير مطرد .
القافية : وهي من المتواتر (1) حيث لابد من إشباع الهمزه ليتولد واواً ساكنة .
سبب الإنشاء :
يبدو لنا والله العالم أن الأبيات إذا كانت نسبتها إلى الإمام صحيحة فإن إنشاءها جاء عندما طرح معاوية بن أبي سفيان أمر البيعة لابنه يزيد أو أخذها من المسلمين قهراً عام 60 هـ ، حيث يذكر الشاعر هذا الأمر بصراحة في البيت الخامس ويقارن بين نفسه وبين يزيد في أمر الخلافة ، ولكن المصادر التي بحوزتنا خلية من ذكر سبب الإنشاء .
التخريج : بحار الأنوار : 75 / 123 عن كشف الغمة : 2/ 247 ، الفصول

(1) المتواتر : هو ما كانت نهاية البيت يختم بسكونين بينهما حركة واحدة هكذا ( ه / ه ) كما في « عامل » .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 134

المهمة لابن الصباغ : 180 ، والاتحاف بحب الأشراف : 113 ، ونور الأبصار : 242 وعنه نقل عبير الرسالة : 44 ، وأهل البيت لأبي علم : 443 ، وعن الأخير نقل إحقاق الحق : 11/ 642 ، ومعالي السبطين : 2/ 313 ، وكتاب أئمتنا : 1/ 225 ، ديوان الحسين بن علي : 111 . ويعتبر كتاب كشف الغمة من أقدم المصادر حيث أن مؤلفه (1) توفي عام 692 هـ وهو لم يذكر له مصدراً سوى ما أوردناه في المقدمة .
عدد الأبيات :
يذكر الأربلي وغيره بأنها طويلة ، وفي العادة توصف القصائد بالطويلة إذا جاوزت العقدين وفاقت العشرين بيتاً ، والظاهر من الأبيات الواردة أن الشاعر استرسل في بيان مجريات الأحداث آنذاك وهي ليست بالقليلة ، وعلى أية حال يبقى أن الأيام تكشف لنا ما أخفته يد الإهمال أو الإجرام ، وأما الشبلنجي (2) فقد قال « من قصيدة طويلة هذا أولها » ولعله أراد من أولها ، ولعل الشاعر لم يهتم كما هو ديدن مجموعة من القدامى بالتصريع (3) في مطلع القصيدة .
ومن جهة أخرى فإن بعض المصادر أوردت ستة منها كما في ديوان الحسين المطبوع مؤخراً حيث أسقط البيت الرابع منها ، مع العلم أنه ينقل عن كشف الغمة وهو قد أوردها سبعة إلا أن جامع الديوان لم يفصح عن سبب اختياره ستة منها ، ولعله من السهو أو أنه نقلها عن الكشف بالواسطة ، والله العالم ، هذا وقد أورد

(1) مؤلفه : هو علي بن عيسى الأربلي ، ولد باربل شمال العراق ، سكن بغداد ، كان من أعلام الإمامية ، تولى ديوان الإنشاء ببغداد ، كما كان أبوه واليا باربل ، من مؤلفاته : طيف الإنشاء ، ديوان شعر ، المقامات الأربع .
(2) الشبلنجي : هو مؤمن بن حسن مؤمن ( 1251 ـ بعد 1308 هـ ) من أهل شبلنجة بمصر ، تعلم بالأزهر ، من الفضلاء والمؤلفين ، له كتاب : فتح المنان في التفسير ، وكتاب مختصر الجبرتي .
(3) التصريع : هو البيت الأول من القصيدة ويسمى المطلع أيضاً حيث يكون الصدر والعجز متطابقين في الوزن والقافية .

السابق السابق الفهرس التالي التالي