دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 221

فالغرب : حد الشيء ، واغرب في الضحك : استغرق فيه ، والغرب : الدلو العظيمة .. وهكذا تتكدس المعاني حتى تفقد الصلة الطبيعية بين مشتقاتها ، فالمادة تأتي بالمعاني الرئيسية التالية ، ويشتق منها اسماً للمكان والزمان والفاعل والمفعول واسماً للحيوان والآلة ، ويشتق منها الفعل من خلال الأبواب التي وضعت لتحويلها إلى المزيد فيه فتشكل جمهرة من المعاني التي ابتعدت رويداً رويداًَ بأدنى مناسبة عن المادة والجذر ، وعلى أية حال فالمادة تأتي بمعنى البعد والتنحي والنزح عن الوطن والنفي عن البلاد ، كما تأتي لأفول الكوكب أو النجم ، وإلى البعد عن الفهم والكلام الغامض ، والخفي ، والشيء غير المألوف ، والصنيع القبيح ، كما تأتي بمعنى شدة جري الفرس وكثرته إلى أن يموت ، والعرق الذي في العين الذي لا ينقطع ، والدمع الذي يسيل ، إلى عشرات المعاني المتفرعة من هذه والأسماء المختارة للبلدان وللجهات والتي تنحصر في نهاية الشيء ، والشيء غير المألوف ، والبعد ، وهذه توصلنا إلى القاسم مشترك بينها هو الغياب المعروف سواء كان عن المألوف عن النظر أو عن الواقع المعاش أو ما إلى ذلك ، وحتى أن تسمية الغراب إنما جاءت لأنه دال على الغياب دون رجعة للتشاؤم الذي اقترن بصوته أو بسبب حطه على المنزل ، وفي قباله بعض المشتقات التي توحي بحسن الحال في مثل كلمة أغرب الرجل بمعنى حسن حاله وذلك لملازمته الاغتراب الذي أصبح مألوفاً لأجل كسب العيش ، أو كلمة الغرب الذي يطلق على الذهب والفضة والقدح والخمر وما إلى ذلك ، وكذلك أغرب الحوض إذا ملأته . إذاَ فالموت يسبب الغياب ، والعداء يسبب الغربة بين بني البشر ، والغراب يضرب به المثل للبعد والبين ، ومنه يقال للأسود الحالك بمناسبة شدة اسوداد لونه ، والليل أيضاً لأجل إحساس الإنسان بالغربة أو شدة اسوداده وهكذا تولدت المعاني واشتقت المفردات إلا أن معنى الجذر واحد وانتقلت إلى تلك لأدنى مناسبة .

دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 222

وأخيراً فإن المعاني قد ترجع إحداها إلى الأخرى كحلقة دائرية لا يمكن تفكيكها مثلاً : يمكن أن يقال إن الغربة أخذت من غروب الشمس فتلك المرحلة من النهار مرحلة موحشة تسكن فيها الأشياء وتفتقد الحياة حركتها وحيويتها ، حتى إن كثيراً من الناس يصيبهم الاكتئاب في ذلك الوقت من النهار طيلة حياتهم وهي ظاهرة معروفة في الطب النفسي هذه الأيام ومنه قولهم في المثل : « هل من مغربة خبر » يريدون هل جاء خبر من بعيد ، والغريب هو الغائب وليس المسافر فحسب ، ويقال أغرب الرجل : صار غريباً ، والتغرب البعد والغربة أيضاً : البعد عن الأوطان ، ومثلها الاغتراب ، ومن هذا قول الشاعر من الطويل :
وإني والعبسي في أرض مذحج غريبان ، شتى الدار مختلفان
وما كان غض الطرف منا سجية و لـكننا في مذحج غربـان (1)
ومن هذا اللفظ في القرآن الكريم : الغرب وما يشتق منه من أفعال : غربت وتغرب والغروب وغروبها والمغرب والمغربين والمغارب ومغاربها ، ثم الغربي ولا غربية ، والغراب وغراباً ، وأخيرا « وغرابيب سود » (2) فهل غروب الشمس مأخوذة من البعد ، أم البعد مأخوذ من غروب الشمس أو أن بينهما وسائط تربط المولدات بعضها ببعض .
قوله : « صبيب » وفي بعض المصادر « سكوب » والفرق بينهما : أن السكب هو الصب المتتابع ، والصب : يكون دفعة واحدة ، ولذلك يقال فرس سكب إذا كان يتابع الجري ولا يقطعه ومنه قوله تعالى : « وماء سكوب » (3) لأنه دائم لا ينقطع ، بينما يقال : صبه في القالب ولا يقال سكبه فيه لأن ما يصب في القالب يصب دفعة واحدة ، وعلى أية حال فإن لكل منهم وجهاً ، حيث إن الانصباب

(1) لسان العرب : 10 / 33 .
(2) سورة فاطر ، الآية : 27 .
(3) سورة الواقعة ، الآية : 31 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 223

تعبير عن الكثرة والغزارة كما تقول : صببت الماء صباً ، ومنه في التنزيل العزيز : « إنا صببنا الماء صباً » (1) وكذلك في حالات العذاب قال تعالى : « فصب عليهم ربك سوط عذاب » (2) وكذا الصبة : فإنها القطعة من الخيل كأنها تنصب في الإغارة انصباباً (3) ، والصيب أيضاً : الدم الخالص ، إذ يحتمل أن يكون أراد أن دمعه هو من الدم الخالص ، أي تحول إلى الدم من شدة الأسى وكثرة البكاء ، وهذا التعبير كثير الاستخدام في مثل هذه الحالات .
وأما « الرنة » : فهو الصوت العالي المفعم بالحزن ، إشارة إلى شدة الحزن التي جعلت من قلبه أداة معبرة عن الحزن بالصوت .
وأما قوله : « الباقي » فهو هنا خلاف الراحل ، فإن الكلمة تطلق على الدائم منه والمؤقت فالله سبحانه وتعالى الباقي المطلق دون تحديد ، والدنيا أيضاً باقية ولو لفترة طويلة والإنسان باقي بالنسبة إلى الميت منه ، فهي إذا صفة نسبية .
وقوله : « بعد » متعلق البعد هنا الموت أي ابتعد عن الأحياء بالموت . وذكرت المصادر أيضاً « الخلاف » بدل « البعد » وهو بمعنى البعد بفتح الباء لا بضمها ومنه الخليفة أي الذي يخلفه ويعقبه .
وأما قوله : « الحريب » اسم مفعول بمعنى المسلوب ماله أو مطلق المسلوب في الحرب فالحريب هو السليب ، واللفظة مأخوذة من « حرب » الدال على السلب عموماً وبه سميت « الحرب » لأنها تسلب وتهلك ، وحربة الرجال ماله الذي يعيش به ، فإذا سلب منه لم يتمكن من العيش .
وأما النسيب فهو عموماً من يتصل بك بنسب ما ، وذلك لأن الجذر « نسب » دال على الاتصال ، والنسب اتصال كيفما كان ،

(1) سورة عبس ، الآية : 25 .
(2) سورة الفجر ، الآية : 13 .
(3) المقاييس : 3/ 280 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 224

والنسب في الشعر منه أخذ ، لأنه يسبب نسباً بين الشاعر ومن يتغزل بها ، وتتضمن لفظة « نسيبك » شيئاً أعم من صلة النسب ، ذلك أن « النسيب » هو المناسب أيضاً ، فرب أقرباء بينهم اختلاف وشنآن وبغضة ، ولكن الحق أن « النسيب » هو القريب المواتي ، أو هو المناسب لك ، يقال : تنسب فلان إذا ادعى النسب ، وجاء في المثل : « الغريب من تقرب لا من تنسب » .
وقوله : « ناجى » من باب المفاعلة الذي يستلزم وجود طرفين للفعل ، مأخوذ من الجذر « نجى » تقول نجى وناجى الرجل إذا ساره بما في فؤاده ، والنجوى يلازم الإخفات ، ولعل أصل الكلمة أيضاًَ يرجع إلى معنى النجاة أي الخلاص إذ بالنجوى تتخلص من الكلام والسر الذي احتقن في فؤادك ، والنجوى هو السر الذي يباح للغير او الكلام الذي تلقيه على غيرك بإخفاء دون البوح به للجميع ومنه قوله تعالى : « ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه »(1) وقال عز من قائل في مورد آخر : « وإذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة » (2) وذكر جل وعلا : « لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس » (3) ، واعتبر بعضهم الرؤيا نوعاً من المناجاة حيث يقال : نام القوم وحلموا في نومهم فكأنهم يناجون أهليهم في النـوم (4) وهو من مناجاة الطيف ، والفرق بين النجوى والسر : أن الأول اسم للكلام الخفي الذي تناجي به صاحبك كأنك ترفعه عن غيره وذلك لأن أصل الكلمة الرفعة ، ومنه النجوة من الأرض ، وسمي تكليم الله تعالى نبيه موسى عليه السلام مناجاة لأنه كان كلاماً أخفاه عن غيره ، وأما الثاني « السر » فهو إخفاء الشيء في النفس ولو اختفى بستر أو وراء

(1) سورة المجادلة ، الآية : 8 .
(2) سورة الأنبياء ، الآية : 12 .
(3) سورة النساء ، الآية : 114 .
(4) المقاييس : 5/ 399 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 225

جدار لم يكن سراً ، ويقال في هذا الكلام سر تشبيهاً بما يخفى في النفس ، ويقال سري عند فلان ، تريد ما يخفيه في نفسه من ذلك ، ولا يقال نجواي عنده ، والنجوى تتناول جملة ما يتناجى به من الكلام ، والسر يتناول معنى ذلك ، وقد يكون السر في غير المعاني مجازاً . فنقول مثلاً : فعل هذا سراً ، وقد أسر الأمر ، والنجوى لا تكون إلا كلاماً (1) .
والطيف : هو الخيال ، وما يرى في النوم ، بل هو الخيال الطائف في النوم ، ويسمى الجنون والغضب طيفاً أيضاً لأن فيهما خيالاً ، كما يقال لظلال بعض الأنوار طيفاً لمشاركته في إحداث الخيال .
التصوير الفني :
يصور الشاعر الحزن الذي انتابه من جراء فقد حبيبه بصور مختلفة ، منها أنه يستنكر تدهين شعر رأسه وتطييب شعر لحيته بل التجمل بكل صوره في قبال الحبيب التريب المعفور ، تلك إذاً مفارقة قاسية يريد مواساته بأقل ما يمكن ، ومنها أن شربه للماء ـ أي ماء كان ـ يتحول إلى لهيب في أحشائه ، وهذه من أقسى المفارقات فإن الماء الذي يبرد الأحشاء ينقلب لهيباً يحرق أحشاءه ، وقد عبر عن هذه المفارقة شاعر آخر بشكل آخر عندما قال من الطويل :
إلى الماء يسعى من يغص بريقه فإلى أين يسعى من يغص بماء (2)
ومنها أنه لا يمكن أن يتمتع بهذه الدنيا إذ ليس فيها بعد حبيبه ما يحببه إليها ولكنه يشير إلا أنه لم يفتقد غريزة الحب بل تحول حبه إلى الدنو إلى حبيبه الذي افتقده فاختار الموت ليكون مع حبيبه ، وهذه مفارقة ثالثة ، حيث تحول حبه إلى الموت لأنه يدنيه إلى حبيبه .
ثم يتطرق إلى صور أخرى من معاناته للفراق حيث إنه يبكي مع

(1) راجع معجم فروق اللغة : 533 .
(2) العقد الفريد : 1/ 48 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 226

نوح الحمامة حيث يجد فيه من يسليه ، بل إنه يبكي عندما تتغنى الحمامة ويبكي عند هبوب رياح الصبا التي تبعث بالرخاء والشرق وتدل على المعاني المفرحة ، كما أنه يبكي عند هبوب رياح الجنوب التي تحمل الهواء البارد في بلاده لينتعش ، فهذه أيضاً مفارقة أخرى فبدلاً من أن ينتعش يبكي ، ثم إنه يعدد مواطن بكائه : إذ يصور نفسه في دوح الرياض واخضرار قضبانه وتدفق مياهه التي يقابلها بدموع عينيه الغزيرة وبكائه الطويل الذي يبينه في البيت الذي بعده .
ومن تلك المفارقات التي أشار إليها أن قبر حبيبه قريب منه جغرافياً إلا أن روحه بعيدة عنه حيث ذهبت إلى لقاء ربها ، ثم يبين مفارقة أخرى بصورة أخرى حيث حصر البيت السابع بغربتين غربة في أوله بالرغم من أن البيوت تحوطه وغربة في آخره يفرضها انتقال المزور إلى العالم الآخر ، ولذلك نجده قد اختار كلمة « تحوطه » بدلاً من « تحيطه » أو « تحيط به » لأن الأولى أشمل من الثانية وأوسع فهي إضافة إلى الإحاطة تتضمن معنى الاعتذار والحنان فعندما يقال زيد يحوط عمرواً برعايته يراد أن رعايته تشمله ، ولا يقال هذا إلا في الخير ، أما في غيره فكقوله تعالى : « وإن جهنم لمحيطة بالكافرين » (1) على أن كلمة « يحيط » يمكن ان تستخدم في ذاك المعنى أيضاً غير أن « يحوط » ألصق بتلك الدلالة .
ثم يصور حركة حياته اليومية التي عبر عنها بالرواح والغدو وكيف أنها مليئة بالغم والهم مقارناً بالبكاء المرير وانهمار الدموع حتى لم تنشغل عيناه إلا بتتالي العبرات ، بينما نسب النحيب والعويل مباشرة إلى قلبه المفعم بالحزن والمستوطن بالكآبة . ثم إنه ينتقل إلى مستوى آخر من الرؤية حيث لا يكتفي بحزنه الفردي بل يدعو الناس إلى مشاركته الحزن والأسى على حبيبه ذاكراً أن الموت

(1) سورة التوبة ، الآية : 49 ، وسورة العنكبوت ، الآية : 54 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 227

واقع بهم لا محالة ، وهنا يصرف أنظارهم إلى أن السليب الذي يتعاطف معه ليس الذي فقد ماله بل هو الذي فقد عزيزه ، وهي التفاتة رائعة .
وفي نهاية المطاف يرجع بالخطاب إلى حبيبه ليبين قربه منه وكيفية التواصل بينهما وهو يعلم أن أسلوب التواصل قد اختلف تماماً وذلك بموت حبيبه ، ولذلك اختار التواصل عبر طيفه في النوم ، وأما في اليقظة فيزور رمسه .
ومن الملاحظ أن حركة الشاعر مع تلك العواطف الجياشة جاءت رصينة وموزونة ومتسلسلة إلى حد جمع بين الواقع والحقيقة .
الشرح والمعنى :
فيما قدمناه كفاية إلا أنه لابد من الإشارة إلى أن الشاعر رثى حبيبه وهو على مرقده رثاء عفوياً خرجت من أعماق قلبه بين فيه أموراً ثلاثة : مدى حبه لرفيق دربه ، أساليب الحزن عليه ، وكيفية التواصل معه ، ومن هذه الأمور يتبين الفراغ الذي خلفه وتأثيره في حياته ، وتطلعاته ، فلو أننا حولنا الأبيات إلى قطعة نثرية عادية لظهر بعض معالمها وكانت كالتالي :
« كيف أتجمل بتدهين شعر رأسي ، وأطيب لحيتي ، والحال أن خدك ـ يا حبيبي ـ ملاصق بالتراب ، وأنت مودع تحت وابل من التراب ، وكيف أشرب الماء الزلال بعد فراقك إذ أنه سيتحول في داخلي باللهيب الذي تتضمنه أحشائي إلى جرعة لا تستسيغها النفس من حرارتها ، وكيف أستمتع في الدنيا بشيء كنت أحبه بعدما أصبحت متعتي أن أكون بقربك على حساب الدنيا ، إنني حزين عليك فلا غناء الحمامة وهديلها ولا رياح الصبا المفرحة ، والجنوب المنعشة تصرفني عن البكاء عليك ، بل إنني مع كل قطرة تسقط ومع كل غصن جديد يخضر أبكي عليك ، وسيكون بكائي على فراقك طويلاً ودموعي على فقدك غزيرة ، لانك بعيد عني ، وان كان مزارك قريب مني ، فكلانا غريبان ما دمنا بعيدين ـ أحدنا عن الآخر ـ رغم أن حافة بيتي ملاصقة لأطراف بيتك الراقد فيه ، سيظل البكاء رفيقي في كل حركة أقوم بها بعدك ،

دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 228

وستصاحبني الكآبة ، وعيناي لن تنفكا تدران الدموع عليك أبداً حين ستكون عبرتهما متواصلة ، بل إن قلبي هو الآخر بدأ ينوح عليك بعويل ونحيب ، ولا أظن أن الذين بقوا على قيد الحياة سيفرحون برحيل الذي توفاه الله حيث إن الجميع يأخذ نصيبه من الموت ، أليس كذلك : او ليس السليب الحقيقي هو الذي افتقد الحبيب ، وليس الذي سلب منه ماله ، ومع هذا كله فإنني سوف لا انقطع عنك بل يا حبيبي سأواصل معك اللقاء ولو عبر الرؤى لعلمي بانقطاع تلك العلاقات بسبب وجود رمسك تحت التراب .
الحكمة :
لا شك أن الغرض الظاهر هو الرثاء والإفصاح عن ما حل به من مصائب بعفوية إلا أنه أراد مع هذا بيان المكانة التي يحتلها الراحل وبيان بعض المفارقات الاجتماعية والسياسية (1) والدينية ، ثم عظة الناس لأخذ العبرة بذلك ، وهي رسالة اخلاقية خالدة .
النسبة :
سبقت الإشارة إلى أن المصادر على رأيين : الأول وهي أكثرها بل جلها أن الأبيات صدرت عن الإمام الحسين عليه السلام في رثاء لشقيقه الإمام الحسن عليه السلام ، والثاني على أنها صدرت من محمد بن الحنفية أيضاً في رثاء أخيه الإمام الحسن عليه السلام وهي قلة ، ولكن الذين ذكروا أنها لابن الحنفية ذكروها ثلاثة أبيات أو أربعة ، البيت الأول باختلاف ، البيت الثاني ذكره احدهم وبإختلاف مع بقية المصادر ، البيت الرابع باختلاف ، البيت السابع باختلاف ، واختلاف بعضها يصل إلى تغيير شطر كامل من البيت .
ومن الناحية الأدبية والعقائدية بكل جوانبهما لا تتنافى ونسبة الأبيات إلى الإمام الحسين عليه السلام وبما أن أكثر المصادر تشير

(1) لعل الغربة التي أشار إليها كانت غربة الدفن حيث أبعد عن جوار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعن بيته الذي ورثه شرعاً عبر أمه فاطمة الزهراء عليها السلام ، ولعل حزن الإمام عليه السلام كان أيضاً أخذ منحى سياسياً حيث أقصي أخوه عن الخلافة وأقصي عن دفنه في مكانه الطبيعي ورميت جنازته بالسهام والنبال .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 229

إلى هذه النسبة فالرجحان إليها ، ولكن نسبة مصدرين إلى أنها لأخيه ابن الحنفية يجعلنا أن نبحث قبل الرفض عن وسيلة الجمع بين النسبتين ، ولعل الجمع يتحمل أحد الأمور التالية :
1ـ بما أن الأخ الشقيق والأخ غير الشقيق كانا حاضرين أثناء تجهيز أخيهما ورثى كل منهما أخاه نثراً أيضاً ، نحتمل أن ابن الحنفية أنشد ثلاثة أو أربعة منها وكمله الإمام حتى جعلها اثني عشر بيتاً .
2ـ أن ابن الحنفية أخذ يردد ما قاله أخوه الحسين عليه السلام وهذا متعارف عليه .
3ـ أن يكون ابن الحنفية أنشد بعض الأبيات التي نسبت إليه ثم إن الإمام عدل فيها وأكملها .
4ـ أو أنها كانت لأحدهما وفي النقل اختلط الحابل بالنابل حيث أن كليهما أخ للمتوفى وكلمة الأخ في النقل فسرت بأحدهما .
ولا يخفى أن اختلاف نصوص الأبيات تساعد على ما احتملناه .
وفي النهاية فإننا لا نستبعد صدورها عن الإمام .
الإقتباس :
يقول أبو العلاء المعري من الخفيف في نوح الحمامة وغنائها :
أبكت تلـكم الـحمـامـة أم غنت على فرع غصنها المياد (1)
وتقول الخنساء (2) في كثرة بكائها على أخيها (3) من البسيط :
كأن عيني لذكراه إذا خطرت فيض يسيل على الخدين مدرار (4)

(1) أروع ما قيل في الرثاء : 53 .
(2) الخنساء : هي تماضر بنت عمرو بن الشريد ( ... ـ 24 هـ ) ، أسلمت مع قومها بني سليم وقتل أولادها الأربعة في الإسلام عند فتح فارس عام 16 هـ ، تزوجها أولاً رواحة السلمي ثم مرداس السلمي ، لها ديوان شعر معروف .
(3) أخوها : هو صخر بن عمرو .
(4) ديوان الخنساء : 47 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 230

وتقول أيضاً من الوافر :
فقد ودعت يوم فراق صخر أبي حسان لذاتي وأنسي (1)
ويقول الإمام علي عليه السلام من الكامل واصفاً مساحة البعد بين الميت والحي :
من كان بينك في التراب وبينه شبران فهـو بغايـة البعد (2)
ويقول امرؤ القيس (3) في معلقته من الطويل واصفاً الغربة :
أجـارتنا إن الـمزار قـريب و إني مقيم مـا أقام عسيب
أجارتنا إنـا غـريبان ههنـا وكل غريب للغريب نسيب (4)
ويقول ابن الرومي (5) من الطويل في هذا المعنى :
طواه الردى عني فأضحى مزاره بعيداً على قرب ، قريباً على بعد (6)
ويقول الجواهري (7) من الخفيف (8) في معنى قريباً مما ورد في البيت الثامن :
أنا عندي من الأسى جبل يتمشى معي وينتقــل
ولكنه لا يفقد الأمل حيث يقول بعده :

(1) ديوان الخنساء : 85 .
(2) روائع الحكم : 188 .
(3) امرؤ القيس : مضت ترجمته .
(4) المعلقات العشر دراسة ونصوص : 52 .
(5) ابن الرومي : هو علي بن العباس بن جريح ( 221 ـ 283 هـ ) ولد في بغداد من أب رومي وأم فارسية ورغم ذلك فإنه ضليع بالعربية وأدابها ، له ديوان شعر عالج فيه جميع الموضوعات التي كانت شائعة عند العرب .
(6) أروع ما قيل في الرثاء : 45 .
(7) الجواهري : هو محمد مهدي بن عبد الحسين بن عبد علي ( 1317 ـ 1418 هـ ) ولد في النجف وتوفي في دمشق ، شاعر فحل اشتهر من بين أقرانه العرب ، من مؤلفاته : الجمهرة ، ديوان أيها الأرق ، ديوان خلجات .
(8) لقد دخل على التفعيلة الثالثة والسادسة من الخفيف الحذف والخبن فأصبحت فاعلاتن فعلن ( / / / ه ) .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 231

أنا عندي وإن خبا أمل جذوة في الفؤاد تشتعل (1)
ويقول ابن الرومي أيضاً من الطويل في شدة حزنه وبكائه :
سـأسـقيك ماء العين ما أسعدت به وإن كانت السقيا من العين لا تجدي
أعيني جـودا لي فقد جدت للـثرى بـأنفـس مما تسـألان من الـرقد (2)
ويقول أبو الحسن التهامي من الكامل :
حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار (3)
وأخيراً : يمكن أن نستخلص شرعية ما يلي إذا صحت النسبة إلى الإمام المعصوم عليه السلام :
1ـ جواز الرثاء .
2ـ جواز المبالغة في الشعر .
3ـ إن وضع خد الميت على التراب سنة .
4ـ جواز زيارة القبور .
5ـ جواز الدفن قرب البيوت .

(1) ديوان الجواهري : 3 / 296 .
(2) أروع ما قيل في الرثاء : 47 .
(3) أروع ما قيل في الرثاء : 75 .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 232

(9)
ذهب الذين أحبهم
1ـ ذهـب الـذين أحـبهـم و بقيت فيمن لا أحـبـه
2ـ فـي مـن أراه يسـبني ظهر المغيب ولا أسـبـه
3ـ يبغي فسـادي ما استطـا ع و أمـره ممـا أربـه
4ـ حنقـاً يدب إلى الـضرا ء وذاك مـمـا لا أدبـه
5ـ ويـرى ذباب الـشر من حـولي يطن و لا يذبـه
6ـ وإذا خبـا وغر الصدو ر فلا يزال بـه يشـبـه
7ـ أفـلا يعـيج بعـقـلـه أفلا يثـوب إلـيه لبـه
8ـ أفـلا يرى من فعـلـه مما يسـور إليـه غبـه
9ـ حسـبي بربي كـافيـاً ما أختشي والبغي حسبه
10ـ و لقل من يبغى عليـ ـه فما كفـاه الله ربـه
* * *
البحر :
من الكامل المجزوء (1) « متفاعلن × 4 » يدخل عليه الإضمار في كل تفعيلاته سواء العروض أو الحشو فتصبح متفاعلن بعد تسكين ثانيها متفاعلن فتنقلب إلى مستفعلن وهذا جائز ، وأما الضرب فيدخل عليه الترفيل (2) فتصبح متفاعلن بعد إضافة سبب خفيف (3) عليها متفاعلاتن ، وقد يدخل عليها الإضمار فتصبح مستفعلاتن ، وعليه فالعجز يزداد عن الصدر بحركة وسكون وهذا متعارف عليه

(1) المجزوء : ما اسقط تفعيلته الأخيرة من الصدر وكذلك من العجز ، فالكامل التام تفعيلاته ستة متفاعلن مكررة ، والمجزوء أربعة متفاعلن مكررة .
(2) الترفيل : هو زيادة سبب خفيف ( / ه ) على المعرى فيما إذا كان آخره وتد مجموع .
(3) السبب الخفيف هو حركة فسكون ( / ه ) ، والمعرى هو الجزء السالم من الزيادة .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 233

في الكامل المجزوء . ولا يخفى أن « الضراء » لا بد وأن تكون بالتخفيف ليستقيم الوزن .
القافية : من المتواتر وذلك بسكون الهاء .
سبب الإنشاء :
لعل الإنشاء وقع بعد موت الإمام الحسن عليه السلام كما نستظهره من البيت الأول ، مع ضم البيت الثاني حيث ان معاوية كان ما يزال حياً ويصر على سب أئمة المسلمين علي والحسن والحسين عليهم السلام ومالك الأشتر في قنوت الصلاة اللهم إلا أن تكون عامة وردت في الوعظ ، وربما كانت كما احتملنا إلا أنه عرج بها إلى الوعظ والله هو العالم بحقائق الأمور .
التخريج :
مصدران رئيسيان أحدهما كشف الغمة : 2/ 246 للأربلي المتوفى عام 692 هـ ، والفصول المهمة : 180 لابن الصباغ المتوفى عام 855 هـ ، وأما بقية المصادر فقد نقلوها عنهما وهي : بحار الأنوار : 75 / 122 ، أعيان الشيعة : 1/ 621 ، لواعج الأشجان : 18 ، أهل البيت لتوفيق أبو علم : 440 ، نور الأبصار : 243 ، أدب الحسين وحماسته : 34 ، أئمتنا : 1/ 224 ، عبير الرسالة : 62 ، إحقاق الحق : 11 / 641 ، وأخيراً ديوان الحسين بن علي : 118 .
عدد الأبيات :
ذكرها الأربلي عشرة أبيات ، وأما ابن الصباغ فقد أوردها خمسة على الترتيب التالي : الأول والثاني والثامن والتاسع والعاشر .
السند :
استند الأربلي في روايته هذه على ما رواه في ديوان الإمام الحسين عليه السلام الذي جمعه ابن الخشاب النحوي برواية أبي مخنف عن رجل من ساكني سلع (1) ، قال أبو مخنف : لقد أنشدني يوماً رجل من ساكني سلع هذه الأبيات ، فقلت له : اكتبنيها ، فقال لي : ما أحسن رداءك هذا ، وكنت قد اشتريته يومي

(1) سلع : بفتح أوله وسكون ثانيه اسم موضع قرب المدينة ، ولعله هو المراد ، حيث يوجد مواضع أخرى أيضاً ، منها ما هي بغرب القدس ، وجبل الهذيل ، وغيرها .
دائرة المعارف الحسينية ـ ديوان الإمام الحسين(ع) ـ 1 234

ذاك بعشرة دنانير (1) ، فطرحته عليه فاكتتبنيها وهي قال أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن عبد مناف ابن قصي الأبيات . . . .
سندها غير مرسل إلا أن الراوي مجهول حيث لم يحدد أبو مخنف شخصيته . واكتفى بأنه من ساكني سلع .
الراوي : لم نتمكن من تحديده وسلع هذه لم نجد من نسب إليها من الرواة أو العلماء والأدباء (2) .
النسخ :
قوله : « إلى الضراء » جاء بدلها في الإحقاق : « لي الضراء » وكلاهما يصحان .
قوله : « وإذا خبا » جاء في الكشف : « وإذا جنا » وتصحيفه ظاهر وهو من الخطأ المطبعي .
قوله : « يثوب » جاء في الكشف : « يتوب » وهو تصحيف .
قوله : « من فعله » جاء في البحار « أن فعله » بتشديد النون والظاهر إنه تصحيف « أن » المخففة ، وهو خطأ مطبعي .
قوله : « مما يسور » جاء في الإحقاق : « ما قد يسور » وكلاهما يصح ، وفي النور : « مما يسير إليه » وهو صحيح أيضاً ، ولكن الذي أثبتناه هو الأقوى .
قوله : « ما اختشي » جاء في النور : « مما اجتني » إلا ان وزنه لا يستقيم ، والظاهر أنه تصحيف « ما اجتني » وعندها يصح الوزن والمعنى .
قوله : « ولقل من » جاء في الفصول : « ولعل من » وكلاهما صحيحان .
قوله : « فما كفاه » جاء في الفصول : « إلا كفاه » وفي رواية في

(1) الدينار : وحدة نقدية تعادل عشرة دراهم وزنها مثقال من الذهب .
(2) نعم هناك السلعي بفتح أوله وتشديده هو يوسف بن يعقوب السدوسي من أهل البصرة والنسبة جاءت من سلعة كانت بقفاه ، والسلعة : هي الشجة التي تشق الجلد .

السابق السابق الفهرس التالي التالي