دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 36

وهذا الاعتبار هو الذي حدا ببعض اللهجات إلى عملية الإبدال في الكثير من الحروف ، فقام أصحابها بتبديل الحروف الرقيقة إلى شديدة وبالعكس ، وعليها وصفت الأولى باللهجة الخشنة والثانية باللهجة الرقيقة فبعضهم مثلاً يبدلون القاف الثقيلة إلى الگاف لمزيد الخشونة ، بينما يبدلها آخرون إلى الألف للتحول إلى حرف رقيق .
فعملية اختيار المفردة المتناسبة مع الفكرة من بين الكلمات ترتبط بالملكة الأدبية فكلما كان الاختيار دقيقاً كان إيقاعه جميلاً عند أصحاب الذوق السليم ذوي الأذن الموسيقية فإذا ما تم اللقاح بين المفردات والفكرة عندها يتم التعبير الموحي .
ولتكن المفردة المختارة قادرة على كسر حاجز اللغة حالها حال الموسيقي الموحاة دون استخدام أي واسطة بين الطرفين ولعل هذا هو السبب الرئيس في فهم السامع بعض المقطوعات الملقاة من أصحاب لغات أخرى .
ومن الجدير ذكره أن للحركات والسكنات دوراً فاعلاً في صياغة الكلمة الأدبية بل هي من أولويات الصناعة الأدبية ومن مقومات الموسيقى والشعر فلا بد من مراعاتها عند اختيار المفردات لأهمية الإيقاع الموسيقي للألفاظ والعبارات ، وما البحور والأوزان بل حروف القوافي والروي إلا واحدة من تلك .
ولننتقل إلى حقيقة أخرى وهي مسألة مراعاة التنسيق بين الغرض الشعري والبحر وأوزانه والقافية بحركاتها وحروفها فلو أن شاعراً راعى هذه الأبعاد الثلاثة لزاد من عذوبة نظمه ولسحر الناس بشعره ولذلك نجد أن شاعراً قد ينظم غرضاً من الأغراض على بحر من البحور وبقافية معينة لا يستسيغها السامع بينما لو اختار بحراً آخر أو قافية أخرى فتجده موفقاً في أداء غرضه ، ومن هنا جاء البحث عن خصائص البحور والأوزان ، وقد أشار الرافعي(1) إلى أهمية انسجام تفاعيل البحر

(1) الرافعي : هو مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد (1298 ـ 1356هـ) أصله من طرابلس الشام ، ولد في الهتيم وتوفي في طنطا بمصر ، اصيب بصمم فكان يكتب له ما يراد مخاطبته به ، أديب شاعر ، له مؤلفات منها : اعجاز القرآن ، تحت راية القرآن ، رسائل الأحزان .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 37

مع الموضوع وعناية العرب بإخراج المعنى في البحر الملائم له فقال : وعلى ذلك كان لا بد في الأوزان ـ البحور ـ التي نظموها من موافقة المعنى في حركاته النفسية للوزن ـ للبحر ـ حركاته اللفظية ـ الوزن ـ حتى يكون هذا قالب ذاك ، وإذا أنت اعترضت شعر الجاهلية فإنك ترى كل بحر من البحور مخصوصاً بنوع من المعاني فالطويل وهو أكثر الأوزان ـ البحور ـ شيوعاً بينهم إنما اتسع لتفرغ فيه العواطف جملة فهو يتناول الغزل الممزوج بالحسرة ، والحماسة يخالطها شيء من الإنسانية ، والرثاء الذي يتوسع فيه بقص الأعمال مبالغة في الأسف والحزن ويتصل بذلك سائر ما يدل على التأمل المستخرج من أعماق النفس كالتشبيهات والأوصاف ونحوها ، وبالجملة فإن حركات هذا الوزن ـ البحر ـ إنما تجري على نغمة واحدة في سائر المعاني وهذه النغمة تشبه أن تكون حركة الوقار في نفس الإنسان بخلاف الكامل ، فإن كل ما يحمل من المعاني لا يدل إلا على حركة من حركات النزق في هذه النفوس ، فإن كان حماسة كان شديداً ، وإن كان غزلاً كان أدخل في باب العتاب والارتفاع إلى الشكوى ، وإن كان رثاءً كان أقرب إلى التذمر والسخط ، وإن كان وصفاً كان نظراً سريعاً لا سكون فيه ولا إبطاء ، وقس على ذلك سائر الأوزان ـ البحور ـ .(1)
ومن هنا يتضح مثلاً لماذا أصبحت الأرجوزة مطية العلماء ومركبة العلوم حيث إنهم مجمعون على استخدام هذا النمط من الرجز الذي يستقل فيه كل مصراعين بقافية ، إذ الملاحظ أن الشاعر اختار ما يلي : الغرض البحر + القافية .
الغرض = الشعر العلمي ، البحر = الرجز ، القافية = المزدوج .
فإن في رعاية هذه الأمور الثلاثة سَهَّلَتْ عملية النظم وجعلتها مستساغة رائجة تتقبلها الأذواق السليمة وتحفظها الخواطر التوّاقة وتستمتع بها الآذان الصاغية .

(1) تاريخ آداب العرب : 3/13 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 38

وقد أشار الشامي(1) إلى هذه الفكرة لدى حديثه عن شعر الدوامغ(2) ـ المفاخرة ـ قائلاً أن الشعراء منذ العصور الأولى اختاروا بحر الوافر ذا القافية النونية المفتوحة والتي تسبقها واو قبلها ضمة ، أو ياءٌ قبلها كسرة(3) ، ويمثل بأقوال الشعراء قديماً وحديثاً ومن ذلك قول الشهابي(4) :
ملكنا حقل صعدة بالعوالي ملكنا السهل منها والحزونا
وشاركنا بهـا أبناء حُجر وهـمّ منّا مكان بني أبينا(5)

وقول القضاعي(6) :
إذا الجـوزاء أردفـت الثريا ظننت بآل فاطمـة الظنونا
وحالت دون ذلك من همومي هموم تخرج الشجن الدفينا(7)

فمن الملاحظ أن الواو في كل من « الحزونا » و« الظنونا » مسبوقتان بالضمة بينما الياء في كل من « أبينا » و« الدفينا » مسبوقتان بالكسرة .

(1) الشامي : هو أحمد بن محمد ، ولد عام 1342هـ في مدينة الضالع اليمنية ، كاتب ناثر وأديب شاعر ، تدرج في وظائف حكومية في الوزارة والسفارة ، ومن مؤلفاته : النفس الأولى ، علالة المغترب ، ألحان الشوق .
(2) الدامغة : لغة مشتقة من دمغة إذا ضربه على دماغه وهي من الشجاج التي تهشم الدماغ .
(3) وهذا هو السناد الذي هو من مسائل القافية والروي والذي يعاب شاعر على تخطيه كما في قول عبيد الأبرص ـ من الوافر ـ :
فإن يك فاتني أسفا شبابي وأضحى الرأس مني كاللجين
فقد ألج الخباء على جوار كأن عيـونهن عيـون عين
وقد يفتخر الشاعر بأنه التزم بذلك ولم يقع في مثل هذه العيوب قائلاً ـ من الوافر ـ :
وشعر قد أرقت له غريب أجانبه المساند والمحالا
(4) الشهابي : هو إبراهيم بن كُنَيْف النبهاني ، قال عنه الزركلي في الأعلام : 1/58 نقلاً عن سمط اللآلي : 430 أنه شاعر إسلامي .
(5) الإكليل : 1/461 .
(6) القضاعي : هو خزيمة بن نهد من شعراء الجاهلية عاش في القرن الخامس قبل الهجرة ، وقال أبو الفرج أنه شاعر مقل من قدماء الجاهلية ، ويقال : أن شعره من أقدم شعر العرب قبل الإسلام من الذي وصلنا .
(7) تاريخ اليمن الفكري : 1/325 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 39

ويقول الشامي عن الوافر بالمناسبة : إن وزن الوافر في أصل شكله يستوعب كل العواطف الإنسانية ولكن بحرقة وحرارة أو سخرية واستهتار ، ونغمته المتموجة توفر للشاعر نفساً كلما تطلع إلى معنى جديد وهو يشارك الخفيف في صلاحيته للمواقف الخطابية التي تنسجم مع الشعر الملحمي وذكر أسماء الرجال والأماكن وحوادث التاريخ واتساعه للأقاصيص في قالب شعري تهوى إلى نغمته الإسماع والقلوب وخصوصاً في قافيته التي نتحدث عنها .. فلقد كان الوافر دائماً منبر النفوس حين تجيش ، والعقول حين تضل ، والقلوب حين تثور ، ومستفرغاً لعواطف الأبطال والمغامرين والعشاق والماجنين والزهاد والساخرين والحاقدين والمؤرخين ، والنون المفتوحة في هذا الوزن تمد من نفس الشاعر وتترك لبراعته الحرية في التلاعب بالألفاظ والمعاني وحشدها حشداً إنسانياً يتأرجح بين النزق(1) والحكمة ، والخوف والرجاء ، والحنين والحماس ، والحرية والاستقلال ، ورهبوب المجهول ، وجبروت الواقع ، ولذلك فكثيراً ما يلجأ إليه كبار الشعراء في مواقفهم العاطفية الحماسية منذ قال عمر بن كلثوم(2) معلقته :
ألا حُبّي بصحنَكِ فأصبحينا ولا تُبقي خمور الأنْدرينا(3)

إلى أن أبدع شوقي(4) طويلته :
قفي يا أخت يوشع خَبّرينا أحادثَ القُرون الغابرينا(5)

ومن قبل ومن بعد(6) .

(1) النزق : العجلة جهل وحمق ، الخفة في كل أمر .
(2) عمرو بن كلثوم : هو ابن مالك التغلبي أباً وأماً ولد في أواخر القرن الثاني قبل الهجرة وتوفي عام 38 ق . هـ وهو شاعر جاهلي مطبوع صاحب إحدى المعلقات التي كانت تبلغ أبياتها ألف بيت .
(3) شرح المعلقات السبع : 163 .
(4) شوقي : هو أحمد بن علي بن أحمد (1285 ـ 1351هـ) ولد وتوفي في القاهرة وهو من أصل كردي ، درس في القاهرة وفرنسا فكان أديباً باللغتين ، شغل مناصب حكومية ، من آثاره : الشوقيات ، دول العرب ، مجنون ليلى .
(5) الموجز في الأدب العربي وتاريخه : 4/489 .
(6) تاريخ اليمن الفكري : 1/329 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 40

ومن هنا تتضح لنا فوائد الكثير من العلل التي تدخل الضرب والعروض بل نقف على السيولة المتوخاة من التلاعب ببعض البحور لتصبح مجزوءةً أو منهوكة أو مشطورة حيث يترك للشاعر حرية الاختيار والتنسيق بين الأبعاد الثلاثة الغرض ، البحر ، القافية ، ولذلك تجدهم عندما يتحدثون عن خصائص البحور والأوزان يذكرون أن المديد مثلاً بحر قليل الاستعمال لا تبنى منه القصائد المطولة بل يقتصر نشاطه على المقطوعات ، بينما عندما يتحدثون عن الهزج يعدون من خصائصه أنه بحر غنائي الجرس والأداء أصله سداسي التفعيلات لكنه لم يستعمل إلا رباعي التفعيلات .
ومن هذا الباب جاء اختيار بولس سلامة(1) بحر الخفيف لملحمته المسماة بعيد الغدير التي يقول في أولها :
يا مليك الحياة انزل عليّا عزمة منك تبعث الصخر حيا(2)

بينما يقول في آخرها :
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنني ذكرت عليّاً(3)

ويبدو أن بحر الخفيف وكذلك بحر الرمل وبالأخص مجزوءهُ المحتويان على تفعيلة « فاعلاتن » تناسب قافية الهاء التي تتوسط بين ألفين لتستخدم في المدح والإطناب حيث مرونة التفعيلة وبهاء القافية يضفيان عليهما أنغاماً خاصة تؤهلهما للمدح أكثر من غيرهما ، ومن ذلك قصيدة للسيد مهدي الشيرازي(4) في مدح السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام

(1) بولس سلامة : ولد في قرية تبدين اللقش بلبنان عام 1320هـ وتوفي في لبنان عام 1399هـ ، أديب شاعر ، وكاتب ناثر ، اشتغل بالتعليم والتربية ، عمل محامياً ، ثم قاضياً بعدد من المدن اللبنانية ، له عدد من المؤلفات : فلسطين وأخواتها ، حديث العشبة ، كتاب علي والحسين .
(2) عيد الغدير : 23 .
(3) عيد الغدير : 246 .
(4) مهدي الشيرازي : هو ابن حبيب (1304 ـ 1380هـ) من أعلام الإمامية ومراجعها ، فقيه أصولي وأديب شاعر ، من آثاره : شرح العروة الوثقى ، ذخيرة العباد ، مناسك الحج .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 41

من الخفيف يقول في مطلعها :
درّة أشرَقَتْ بأبهى سَناها فَتلاها الورى فَيا بُشراها(1)

وقول الشاعر يمتدح لغة الضاد قائلاً ـ من مجزوء الرمل ـ :
لغة القرآن هذي رفع الله لواها

إلى غيرها ، ولو أمهلنا الأجل وتراكم الأعمال لأضفت إلى كتابنا الأوزان الشعرية فصلاً لتحدثنا فيه عن خصائص البحور والقوافي إن شاء الله تعالى .

(1) شعراء كربلاء : 7 ترجمة مهدي الشيرازي .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 42

القيمة التعبيرية

للتعبير قيمتان قيمة التحويل مضافاً إلى قيمة الإنتاج ، فمع تحويل الشحنة الذهنية إلى أرض الواقع بالأسلوب الشعوري يتحقق الإنتاج الأدبي المطلوب وهو كسب مشاعر القارئ أو المستمع نحو الفكرة التي أراد الأديب أداءها بعرضه الفني الرائع ، فكلما كان الأداء فنياً كلما كانت نسبة القبول عالية ، وكانت النتائج مرضية، وعندها ينتهي دور الصناعة الأدبية (العمل الأدبي) .

دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 43

حقيقة الأدب

يندرج تحت هذا العنوان الكثير من التساؤلات والتي من أهمها :
1 ـ هل الأدب فن أم علم ؟
2 ـ هل الأدب عمل أم مجرد فكر ؟
3 ـ هل الأدب هدف أم وسيلة ؟
وللجواب عن السؤال الأول لا بد من التمييز بين العلم والفن .
فالعِلْم : بالكسر ثم السكون هو إدراك الشيء بحقيقته ، اليقين ، ويأتي بمعنى المعرفة أيضاً ، كما تأتي المعرفة بمعناه حيث ضمن كل منهما معنى الآخر ، ويشتركان في كون كل منهما مسبوقاً بالجهل ، ويفترقان ـ على ما قيل ـ إن العلم لإدراك الكلي أو المركب ، والمعرفة لإدراك الجزئي أو البسيط ، ولذا يقال : عرفت الله ، ولا يقال : علمت الله ، كما أنهما يفترقان بأن الإنسان يوصف بالعلم والمعرفة ، والحيوان يوصف بالمعرفة دون العلم .
وفي الاصطلاح : العلم يطلق على مجموع مسائل وأصول كلية تجمعها جهة واحدة كعلم الفقه والطب والفيزياء واللغة وما إلى ذلك .
وأما الفن : بالفتح ثم التشديد فهو الضرب من الشيء ، واللون من الأمر ، وتزيين الشيء ، والحال . يقال : رعينا فنون النبات وأصبنا فنون الأموال أي ضربا منهما ، كما يقال : اشتق من فن إلى فن إذا اشتق من حال إلى حال ، ويقال أيضاً : فن رأيه إذا لوّنه ، ولم يثبت على رأي واحد ، كما يقال : فن الشيء إذا زيّنه .
وربما أطلقوه على الصناعة والعلم وعلى نوع من المقالة مجازاً ، والجمع فنون وأفنان ، والفنون أيضاً الاخلاط من الناس .

دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 44

وفي الاصطلاح : هو استخدام الأسلوب المناسب لإظهار الشيء بمظهر حسن ومنه قولهم « فِنٌّ علمٍ » أي حسن القيام به ، ولذا يطلق على الرسم وأمثاله بالفنون الجميلة ، وفي المثل « الجنون فنون » باعتباره يستخدم الأساليب المختلفة لإظهار حاله على أحسن حال حسب تصوره ، ولا يخفى أن الفنون الجميلة تطلق على الأدب كما تطلق على النحت والرسم والموسيقي لأنها جميعاً تعبير موحٍ عن تجربة شعورية ولكن لكل منها أسلوباً خاصاً للتعبير فالموسيقار يعبر من خلال الصوت ، والنحات يعبر من خلال أحجامه الفنية والرسام من خلال الخطوط ، والخطاط من خلال الحروف ، والمصور من خلال اللون ، بينما الأديب يعبر عن مشاعره بالألفاظ .
وقد يطلق الفن على العلم وبالعكس أيضاً بل يفسر به على سبيل المجاز . وعلى ضوء ما قدمناه فالأدب بما أنه يبحث عن أساليب التعبير وفنون الأداء بغرض تحسين صورة الفكرة فهو فن ، ومن المجاز إضافة العلم إلى الأدب ليطلق على العلوم العربية وذلك باعتبار أن الأداء الفني لا يتم إلا بمعرفة هذه العلوم فهي إذاً دخيلة في تحقق هذا الفن .
ولعل تسميته بالعلم جاءت من أنه يحتوي على مجموعة من مسائل الصرف و النحو واللغة وأمثالها ، كما ورد في تعريف العلم ، ويؤيد ذلك ما ذكره ابن خلدون في تعريفه للأدب رغم وصفه بالعلم حيث نفى أن يكون له موضوع إذ قال : هذا العلم لا موضوع له يثبت في إثبات عوارضه أو نفيها وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته(1) .
وأما الإجابة عن الثاني وهو هل أن الأدب عمل أم فكر ؟ فبعد تحديد الأدب بفن التعبير وتحديد الفن بالأسلوب يتضح مدى مصداقية من أطلق عليه تسمية العمل الأدبي لأن المرء مهما كلف مخيلته لا يمكن أن يطلق عليه أديباً إلا إذا مارس الأداء الفني في التعبير ، وهذه الممارسة هو الأدب ذاته ، نعم إن العمل الأدبي كاشف عن وجود ملكة

(1) تاريخ ابن خلدون : 1/553 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 45

الأدب أي القدرة على الأداء الفني والتعبير الموحي .
وأما الحديث عن السؤال الثالث وهو هل إن الأدب وسيلة أم هدف ؟ فلا شك أن العقلاء يهدفون من وراء الأدب إيصال فكرة معينة إلى القارئ أو المستمع وترسيخها في ذهنه بشكل مستساغ ، ولا يتخذونه هدفاً بحد ذاته ، وعليه فلا مجال للقول بأن الأدب بحد ذاته هدف من الأهداف التي يقصدها المرء ، نعم قد يكون من أهداف المرء أن يتخصص في الأدب أو يكتب عن الأدب أو يعلم ويحاضر عنه ، وهذا لا يعني بالضرورة تحويله إلى خانة الأهداف بل الصحيح أن تداوله هو لغرض استخدامه كوسيلة للوصول إلى الاهداف المتوخاة .
ولا يخفى أن الأهداف الصغرى دائماً ما تكون وسيلة على طريق تحقيق الهدف الأكبر ، فلو قلنا مثلاً : إن الهدف من العمل هو استمرارية الحياة ، والهدف من وراء استمرارية الحياة هي الخدمة ، والهدف من الخدمة هو رضا الله ، والهدف من وراء ذلك هو الفوز بالنعيم الأبدي ، لوجدنا أن بعض الأهداف أصبحت قنطرة إلى أهداف أكبر منها .
ومن الجدير ذكره أن الأدب مرآة صافية وصفحة بيضاء ينعكس فيها أبدع الصور وأقبحها وبتعبير آخر : إن الأدب حكمه حكم المقبلات التي تستخدم في طبق الطعام لجعله طبقاً شهياً فيزين بالأوان الباهرة تارة وبالروائح الطيبة أخرى وبالبهارات اللذيذة الطعم تارة أخرى ، وقد يتضاعف ذلك بالمقبلات المنفصلة أيضاً ، فعليه إن شئت سميت الأدب بالمقبلات اللفظية .
إذاً فالأدب لا يتصف بحد ذاته بلون خاص ولا يتأطر بإطار معين بل يتحكم فيه الأديب ويمتطيه إلى حيث يشاء ، ومن هنا جاء تعبير بعض الأعلام عن هدف الأدب بالشكل التالي : توجيه الحياة وفق القاعدة الفكرية التي انطلق منها لأنه انفجار شاعر ينبثق عن نفس جاشت بشعور معيّن حتى الانفجار فلا يكون هنالك باب مغلق على الأدب ولا منطقة محرمة عليه بل مجاله كل المجالات ومسرحه كل المسارح فهو يتناول الظاهرة الجمالية ، والظاهرة الاجتماعية ، والظاهرة السياسية ، والظاهرة الاقتصادية ، والظاهرة

دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 46

النفسية ، وكافة(1) الظواهر والمظاهر سواءً بسواء ، لأن الأدب كالحياة إذ هو مرآتها المعبر عنها فلا يستوعبه مذهب معين ولا هدف خاص(2) .

(1) كذا في المصدر ، وبما أن كافة تأتي حالاً فلا بد من تأخيرها وهو من الخطأ الشائع تقديمها وقد وردت في القرآن خمس مرات متأخرة ، ومنها قوله تعالى : «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة» [البقرة : 208] .
(2) العمل الادبي : 224 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 47

منابع الأدب ومجاله

سبق وقلنا إن الادب نابع في مخيلة الإنسان عن مؤثرات خارجية مخزونة أو حاضرة ، ولا شك أن التجربة الشعورية تأخذ بالمواد الأولية من واقعها المعاش (المؤثرات) لتصنع منها أطروحتين أطروحة معبرة عن الواقع وأطروحة معبرة عن الخيال ، رغم أن المواد الأولية لكلتا الأطروحتين واحدة إلا أن النتائج مختلفة وهذا شأن التصنيع ، فالصناعة عبارة عن التركيب المتناسب ، واختلاف المقادير والنسب هي المعيار في تعدد المصنوعات والمنتجات وهذه المنتجات قد تكون خالصة في تعبيرها عن الواقع أو في تعبيرها عن الخيال أو تكون مركبة من تعبيرين بنسب مختلفة .
وتأتي هنا عملية العرض والطلب فالأديب لا بد أن يقدم الفكرة بالأسلوب المطلوب وقد قيل أن الأدب اندفاع شعوري يتدفق من المشاعر البشرية ويأخذ مجاريها في المشاعر البشرية دون أن يلفته شيء إلا بمقدار ما يلفت مشاعر الأدباء ومشاعر الجماهير(1) .
ولكل كتلة أدبية مصادرها ومنابعها الخاصة والعامة التي يستقي الأديب منها ويتأثر بها دون أن يضع حداً لخياله الخصب كفرد أو كمجتمع .
وهناك من يرى أن الشعر يكتسب قيمته الأخيرة من داخله من غنى التجربة والتعبير وليس من الخارج مما يعكسه أو يعبر عنه وأنه لا يمكن تقويم الشعر بمقياس اعتباره وثيقة اجتماعية أو تاريخية أو باعتباره تناول موضوعات معينة دون أخرى وإنه صوت قائم بذاته فيما وراء بيئته وموضوعه ، وهذا الشعر إنما يحتفظ بحرارته وعمقه وحساسية الإبداع عندما

(1) راجع العمل الأدبي : 226 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 48

يتخلص من سيطرة الحالة المحيطة به اجتماعياً وتاريخياً ، لكيلا يعود به ذلك إلى أن يكون صوتاً شاحباً يردد أصداءها ويكررها .
ولكن الجواهري(1) رد على ذلك بقوله : « إنني أختلف كل الاختلاف مع وجهة النظر التي يأخذ بها بعض المعاصرين من أنهم ينظرون إلى ما يختار من الشعر العربي نظرة فردية ومحض مزاجية ، ويفضلون أن يكون هذا الشعر المختار مجرداً من القيم التي ينطوي عليها ، بعيداً عن الاعتبارات التاريخية والأخلاقية والاجتماعية » .
ويضيف قائلاً : إنني أنكر هذه النظريات لأنها خطرة ، ومرد خطورتها قبل كل شيء ، أن القائلين بها يدينون أنفسهم بها قبل أن يدينهم الآخرون إذ أنهم ـ والحالة هذه ـ لا بد أن يكونوا جزءاً لا ينفك عن نظراتهم تلك ، بمثل ما أنها جزء منهم ، أي إنهم يعبرون بها عن مسالك الحياة الفكرية الخاصة بهم بعيداً عن كل تفاعلات المجتمعات سياسياً واجتماعياً وخلقياً ، وعن كل الصراعات والملابسات التي تفرزها هذه المجتمعات وعن كل هموم الآخرين المأخوذين بهم ومعايشتهم ومصائرهم .
ومرد خطورتها ثانياً ـ ومن الناحية التبشيرية ـ أنها وهي تعرض على الجيل الراهن وما بعده بحلل قشيبة منمقة ، وبأسلوب ناعم أحياناً ، متفلسف أحياناً ، تبدو وكأنها تَدُسّ السَمَّ في الدَّسَم أو في العسل ، لا سيما وأنها تجيء في معرض الأخذ بالتراث العربي وبوجه خاص في معرض الاهتمام بالتراث الجاهلي واختيار أحسن ما فيه ، وأنها تنزل على أقلام أناس متمكنين من الأدب العربي ، وأكثر من ملمّين بالشعر العربي وفي هذا ما فيه من ظلم للواقع وللحقيقة ومن تثبيط عن فهمها ، وعن النزول على حكمها بل إنه تضليل صارخ مكشوف .
ومرد خطورتها ثالثاً : من الناحية الأدبية ، ما دامت تعرض نفسها بمثل ذلك العرض وتنزل على مثل تلك الأقلام أنها تنكر ـ بل وتستنكر ـ كل

(1) الجواهري : هو محمد مهدي بن عبد الحسين بن عبد علي (1317 ـ 1418هـ) ولد في النجف وتوفي في دمشق من كبار شعراء العراق بل العالم العربي في عصره ، من أعماله الأدبية : الجمهرة ، ديوان الجواهري ، ديوان الخلجات .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 49

المواهب والقابليات حتى الخلاقة منها ، التي تعاني معاناة الناس ، ويهمها مصائرهم ، وحرياتهم ، وكراماتهم والتي تتحدى في هذا السبيل المجتمعات العربية المتخلفة ، والأنظمة المرعبة السائدة فيها ، والتي تتصدى بكل عنفوانها وقوتها للإحاطة بها وبمن يحرض على إدامتها(1) .
ورغم أنه يبحث عن الأدب المختار ويتحدث عن الأدب الموجه والذي سنأتي على ذكره إلا أنه في نفس الوقت يحدد مصادر الأدب ومنابعه ويحدد مجاله بشكل أو بآخر في إطاره الواسع .

(1) الجمهرة : 13 ـ 14 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 50

الادب الموجه

إذا كان الأدب وسيلة للتعبير وأداة يمتطيها الأديب لتفريغ شحناته الفكرية بكلا قسميه الواقعي والخيالي فلا بد أن يستخدمها لغرض نبيل ويكون هادفاً ليتمكن من أداء رسالته الإنسانية وعندها يمتلك مقومات الفن الحقيقي إذ أن القيمة اللفظية للأدب تنمو وتتضاءل بقيمة الهدف الذي يحاول طرحه ، وإلا فإن حفنة من الألفاظ البراقة المفرغة من الاهداف النبيلة لا يمكن أن تحمل وسام الأدب كما لا يمكن أن يسجل لها الخلود ومهما حاول الأديب ذلك في حياته فإنه سيموت بموته ويندثر بفنائه ، ولعل هذه مفردة من أسرار خلود القرآن العظيم .
ولو لم يضع الأديب لنفسه إطارَ المسؤولية ويتحمل الصعاب لإيصال رسالة الأدب التي تعهد بها في أول أبجديته فعليه أن يتخلى عن هذا الفن الرسالي ويترك الأمر لأهله ليحملوا رسالة السماء وصوت الضمير إلى الأجيال القادمة والبراعم الفتية لتتحقق مصداقية التسمية اللغوية وقد قالوا الأديب الأريب ، ومنذ الجاهلية كان الإنسان يرى في الأديب رسولاً نبياً وعليه أن يبقى معلّماً رسولاً يزرع الامل في النفوس وينشر الخير بين الناس ، ويكون رمزاً للمحبة والإخاء ومعلماً للأدب والأخلاق .
ومن أخلاقية الأدب أن لا يتسكع صاحبه على أبواب الأمراء ، وأن لا يتخذه حرفة يتاجر بها أو سبيلاً للوصول إلى نزواته اللا إنسانية ، فالتاريخ لا يعظم هذه الزمرة من الأدباء بل لا يعظم إلا حكيماً سكب آراءه في قالب أدبي رقيق لينقذ مَنْ جرفته المياه إلى حافة الهاوية .
فمن الظلم أن نعد أدباء تلك المدرسة من ناشري الوعي وقادة الفكر لأنهم دخلوا في صفقة تجارية مع الأمراء واستغلوا نقاط الضعف فيهم أو استغلوا من نقاط ضعف أنفسهم بل من الظلم أن نعدهم من الأدباء .

دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 51

اللهم إلا أن يريد بذلك إحقاق الحق أو إبطال الباطل وهم فئة قليلة كتب الله لهم النصر .
وهذا الكلام يقودنا إلى الهدف من وراء الأدب أو العشر .
ويقول علي عليه السلام : خير الشعر ما كان مثلاً ، وخير الأمثال ما لم يكن شعراً(1) ويقول ابن الرومي(2) ـ من الرمل ـ :
أنظم الشِعْـرَ ولازِمْ مَذْهَبي في إطّراح الرِّفْدِ لا تَبْغ النَّحِلْ
فَهْوَ عُنْوانٌ على الفَضْلِ وَما أحْسَـنَ الشِّعْـرَ إذا لم يُبتَذَلْ(3)

(1) كنجينه أمثال عرب : 157 .
(2) ابن الرومي : هو علي بن العباس بن جريج الرومي (221 ـ 283هـ) ولد ونشأ في بغداد ، اغتاله الوزير العباسي بالسم ، كان من شعراء الإمامية ، من آثاره : ديوان شعر ، وقد كتب أخباره عدد من الأدباء .
(3) نفح الأزهار : 50 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 52

هدف الأدب والشعر

لا شك أن الأديب لا يريد العبث بمشاعر الناس وعواطفهم بل يريد تقديم رسالة إليهم عبر الكلام الخميل والنظم الجميل وهو بذلك يرى نفسه مسؤولاً أمام كل حركة يقوم بها ليتطبع السامع أو القارئ بتلك المفاهيم التي يطرحها الأديب الشاعر ليخلق منه إنساناً كما يملي عليه ضميره وإلا فإن لم يك يهدف به أمراً فهو عبث محض بل هو من لهو الحديث الذي يرفضه المثقف وإن كان كلاماً معسولاً يحتوي على الشر فهو السم المعسول والشعر الحرام وهو الانحراف والتآمر والخيانة .
ونجد في عصر النهضة من لا يؤمن بذلك بل يجعل المتعة الغاية القصوى للنظم والشعر حيث يقول إحسان عباس(1) : إن هوارس(2) اعتبر المتعة غاية للشعر ولكنه استعمل اصطلاحات ثلاثة : « أن يُعَلِّمْ ، أن يَمَتِّعْ ، أن يُهزّ » .
ونحن نتساءل هل هناك متعة أهم من إصابة الهدف ، فإن كان هذا هو غرضه من المتعة فلا كلام ولا مراء ، حتى إذا كان الهدف هو إدخال البسمة إلى قلوب النفوس الكئيبة حيث يريد علاجها من المرض النفسي أي الكآبة فهذا هدف مشروع يلتقي مع هدف بناء الشعر ، وبما أنه استخدم ثلاثة مصطلحات : أن يعلم ، أن يهز إلى جانب أن يمتع ، يفهم منه أن الغرض من المتعة هو إسعاد نفسه أو إسعاد الآخرين وهو شيء جيد وإن اختلفنا في معنى السعادة .

(1) إحسان بن عباس : هو أديب شاعر ، له مقالات نشرت في العديد من الصحف العربية ومن مؤلفاته : عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي .
(2) هوارس :
(3) فن الشعر : 173 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي