دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 53

وهذا هو الذي جعل جونسون(1) يقول : بأن مهمة الأديب أن يحسّن العالم ، وانتقد شيكسپير(2) بأنه يبدو وكأنه يكتب دون غاية خلقية فهو لا يوزع الفضيلة والرذيلة توزيعاً عادلاً ولا يهتم أن يظهر عند الفاضل استنكاراً للشرير(3) .
وعلى أية حال فإن هناك مدرسة غربية تتجه نحو اللهو واللعب بالأدب والشعر ولا يهمها دور الشعر في المجتمع ، وهي تعتبره نوعاً من الترف ومن تلك المدرسة شللي(4) حيث قال : « الشعر أغنية يتسلى بها الشاعر في وحدته » ، ومن المؤسف أن عدداً من أدبائنا أصبحوا من مقلّدي الغرب حتى في هذا الاتجاه ، ونسوا أو تناسوا دور الشعر في المجتمع .

(1) جونسـون : هو صمـوئيـل (Samuel Johnson) ولد عام 1121 هـ (1709 م) وتوفي عام 1199 هـ (1784 م) كاتب وناقد ومعـجمي انكليـزي يعرف بالدكتور جونسون .
(2) شيكسپير : هو وليـم (William Shakespeare) ولد عام 972 هـ (1564 م) وتـوفي عـام 1025 هـ (1616 م) شاعر انكليزي بل يعتبر من أعظم شعرائهم ، من آثاره المسرحيات التالية : تاجر البندقية ، هملت ، العاصفة .
(3) فن الشعر : 173 .
(4) فن الشعر : 174 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 54

الأدب والالتزام

كدت أقفل هذا الباب إلا أنه ألقي إليّ كتاب كريم من أستاذ عزيز تعرفت عليه على مائدة الأدب وكان كتابه « الديوان » يحمل في غرته كلمات رقيقة ووصفاً لا أستحقه ولكن استوقفني بعض موضوعات الديوان فطالعته بدقة فوجدت فيه بالفعل ما يسرني كما أشار(1) وأود أن أنقل منه موضوعاً باختصار ، جاء تحت عنوان من عناوين مقدمته الرائعة الا وهو « الشعر والالتزام » حيث آثرت أن أنقل بعض فقراته لتوارد الخواطر أولاً وتقديراً لشخصه وفكره ثانياً ، وقد قال عن مسألة الالتزام في الشعر ـ بايجاز ـ « في الخمسينات والستينات »(2) . نبتت فكرة الالتزام في الادب ، وقد تبنّت الصحف والمجلات الرائجة في تلك الفترة ، وبخاصةٍ مجلة (الآداب) اللبنانية ، الدعوة لهذا الالتزام ، وكان هدف الإلحاح في هذه الدعوة واضحاً ، هو حشد الطاقات الأدبية والفكرية لخدمة قضايا الأمة ، فلا يبقى في الساحة الأدبية شاعر ينصرف إلى (رومانسيته) وأحلامه الذاتية ، ولا كاتب يُفكّر أو ينتج غير ما تريده قضايانا المصيرية ، وطبيعي أن فكرة الالتزام هذه لم تنشأ من غير جذور ، فقد كانت جذورها تمتد إلى الأربعينات يوم كان سلامة موسى(3) ، وجيل الشباب المتأثّر به ، في محافل

(1) حيث ورد في هدية مؤلف كتاب الديوان للشاعر الراحل السيد مصطفى جمال الدين رحمه الله إلى المؤلف بعد حذف الصفات : « ... مع حبي لشخصه وتقديري لعلمه وأدبه وذوقه راجياً أن تجد في هذه الصفحات بعض ما يسرك من مسيرة أخيك وتجربته الشعرية ... » .
(2) الخمسينات والستينات الميلادية : 1950 ـ 1960 م .
(3) سلامة موسى القبطي المصري : (1304 ـ 1378 هـ) ولد في كفر العفي بمصر ، وتعلم بها وبباريس ولندن ، دعا إلى الفرعونية ، شارك في تأسيس حزب اشتراكي حلّة البريطانيون جحد الديانات ، ثم عاد إلى المسيحية ، عمل بالصحافة ، له مؤلفات=
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 55

مصر الأدبية ، والمجلات المعنيّة بهمومهم ، تطغى عليها معركة : (الأدب للأدب .. أم الأدب للحياة ؟!) واختار جيل الخمسينات الشقَّ الثاني من هذا الجدل وطوّروه إلى فكرة (الأدب الملتزم) .
وقد كان لا بد للفكرة أن تذبل ولكن جذورها لم تمت فقد أمدت لتنجم .. في الصحوة الإسلامية المعاصرة وبدأنا نسمع بالالتزام الإسلامي في بعض أجنحتها ونرى فيه نفس الإلحاح الخمسيني في ان يقف الشاعر أو الكاتب والمفكر موهبته وإنتاجه في خدمة الدعوة إلى قيام دولتنا الدينية ، وأنا واحد من هذه الأمة .. لم يتخلف يوماً ما عن المشاركة في قضايا وطنه أو أمّته أو معتقده .. ولكنه مع ذلك كان في شعره يتغزل إذا أحبّ ويضحك إذا داعب ، ويبكي إذا فَقَد عزيزاً ، وينتشي إذا سامَرَ رفيقاً ، ويتألّم إذا جَرَحه صديق ، ويفرح إذا ولد له مولود .. فهل يُعتَبر هذا الشاعر ، في عرف هؤلاء الالتزاميين ، مُلتزِماً ، أم ماذا ؟!
إذا كان الالتزام في الأدب معناه : (الالتزام) ، أي أن الشاعر أو الكاتب والمفكر ، إذا ارتأى رأياً ، أو تبنّى موقفاً سياسياً أو اجتماعياً ، فينبغي له أن يلتزم به ، ويعبّر عنه بكل ما يعتقد أنه يقرّبه من الانتشار ، دون أن يحيد عن التزامه هذا ، أو يستبدله ، مراعاةً لأي ضغطٍ مخيف ، أو إغراء مريح ، فأنا مع هذا الالتزام ، لأنه هو الذي يبنينا أمّةً ذات رسالة وهدف .
أما إذا كان الالتزام معناه : (التحجير) أي أن الشاعر أو الكاتب ، حين يلتزم ، يقف كل إنتاجه على ما التزم به ، ولا يحق له أن يكتب شيئاً ذاتياً ، أو وجدانياً ، خارج موقفه السياسي أو الاجتماعي ، فأنا لست مع هذا الالتزام ، ولا أجده يحقق لنا أيّ طموح في تطور أدبنا وفكرنا ، وفي تقدمنا كأمّه تريد أن تلتحق بركب الحضارات المحيطة بها »(1) .
ومن المؤسف جداً أن التطرف ظهر في كل شيء وتحزب له حتى جمع من الأدباء والشعراء ، ومن الغريب أن نميل ذات اليمين وذات

= كثيرة منها : حرية الفكر ، التجديد في الأدب الانكليزي ، اليوم والغد ، مات في القاهرة .
(1) الديوان : 86 ـ 88 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 56

الشمال ونستذوق الإفراط أو التفريط ونهجر الوسطية التي بدأت عليها حضارتنا كمسلمين على أقل التقادير ويبدو أن الفئة القليلة هي التي تدور مع الحق أينما دار وهي التي تنتصر في النهاية ومعها الغلبة .
إن التزمُّت لا يجدي في الواقع إلا إلى الإباحية كرد فعل طبيعي فالمتزمتون هم المسؤولون عن الإباحية وهم على شاكلة قوم موسى عليه السلام الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم ، وسيأتي في هذا الباب بعض ما يرتبط بهذا الشأن إن شاء الله تعالى .

دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 57

قمة الأدب

للأدب درجات شأنه شأن سائر الأمور النسبية فكلما ارتفعت نسبة الالتزام بالمقومات اتجه نحو الرقي أكثر ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن من شأن المُركَّب الخضوع إلى عملية التركيب المتكرر ولكن ضمن شروط التناسب والنسبة .
ففي العملية التركيبية كلما كانت هذه الأجزاء منتقاة أو بعبارة أخرى كلما كانت الجزئيات المركبة من الصنف الراقي كانت نتائجها عالية النسبة .
وفي عالم الأدب الحروف تشكل الكلمة والكلمات تشكل الجملة والجمل تكون المقطع والمقاطع تكون المقالة أو القصيدة وهكذا .
وإن اختيار الحروف مؤثر في صناعة الكلمة الأدبية كما أن انتقاء الكلمات مؤثر في تركيب الجملة الأدبية وهلمجرا .
بالإضافة إلى مراعاة الحركة والسكون والموضوع والمادة إلى أن يصل إلى دور المقال والمقام فإن مراعاتها تعتبر مؤثرات إيجابية في رقي الأدب وفن التعبير .
فللتعبير عن العطف لا بد من استخدام كلمات رقيقة مركبة مثلاً من حـروف لينة(1) يراعى فيها التفعيلة (الحركة والسكون) وعددهما (عدد الحروف من جهة وعدد الحركات والسكنات من جهة أخرى) وهو ما يمكن أن يعبر عنه بالتناسب التكعيبي التركيب والموضوع والتعبير .

(1) راجع بشأن الحروف وتقسيماتها الكتب الخاصة بعلم الحرف ومنها كتاب المنهل 53 ـ 57 فقد قسم الحروف إلى المهموسة والمهجور ، والشديد ، والرخوة والمطبقة ، والمستعلية ، والمنحرفة ، والمكررة ، والمشربة ، والمهتونة ، والذلاقة ، إلى غيرها من تقسيمات .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 58

ولدى وصفك للربيع والصباح والنسيم مثلاً نحتاج إلى انتقاء الكلمات الرقيقة لتتناسب مع التركيب ومع التعبير ، وأما عندما تريد وصف الشتاء والرعد وهطول الأمطار فلا بد أن يكون اختيارك للحروف والكلمات مغايراً للوصف الأول .
وفي حالة الحرب والشجاعة يختلف الأمر تماماً عن ممارسة العشق والحب فالفخر في ساحة المعركة يختلف كلياً عن الفخر في ساحة المعاشقة فلكل حروفه وكلماته وجمله وتركيباته الخاصة .
وفي الحقيقة فإن الذي نريد قوله إن الكلمات والجمل لا بد وأن تكون بنفسها دالّة ومعبرة فلو أن أجنبياً عن لغتنا العربية استمع إلى كلمة أو جملة روعيت فيها هذه المحسنات فلا بد وأن ينقل تلقائياً إلى المعنى المراد ولو على سبيل التقريب .
إذاً فقمة الأدب هو حسن الاختيار الثلاثي ؛ هذا وقد سبقت الإشارة إلى بعض هذه الأمور(1) وسنتطرق إلى ما يكمل هذا البحث في مجالات أخرى إن شاء الله .
ومن هذا الباب قولهم : « ليس من الأدب استخدام الكلمات الشاذة وغير المأنوسة » وقولهم : « أن تكون المفردات مأنوسة والكلام جزلاً لا مفصلاً ولا موجزاً » وقد فسّر الجزالة بأنها إظهار المعنى الرقيق في اللفظ الأنيق .
وللمناقشة فقط : فإن كلمة « دمث » لا تصلح بنظري أن تحمل معنى لين الأخلاق وسهله لأن اجتماع الدال والميم والثاء(2) يوجّه الكلمة نحو الثقل والغلظة لا اللين فإذا دخلت في العهود الأولى في اللغة بهذا المعنى عبثاً والتزمناها فلا ضرورة للأديب أن يستخدمها بل لا بد أن يراعي هذا المعنى في استخداماته الأديبة ، ولو أراد استخدمها فليكن فيما يناسب الجمع بين خشونة الظاهر وليونة الباطن ، كاستعماله في عداد صفات الشجاع أو ما شابه ذلك كأن يستخدم في غير الأخلاق مثل قولهم : « دَمِّثْ

(1) راجع مقدمة الصحيفة الحسينية من هذه الموسوعة .
(2) راجع المنهل في قواعد علم الحروف .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 59

لجنبك قبل الليل مضطجعاً »(1) .
إذاً فالحرف أولاً لا بد وأن يخضع لعملية التركيب والتزواج بالكفء والمناسب حتى تتم عملية التلاقح والإخصاب ، والكلمة ثانياً تخضع للعمليتين وهكذا ، وهذا شأن الحياة فالاختيار المناسب ضرورة شعرية بل أدبية وهذا لا يعني إلغاء دور حرف دون آخر بل لكل حرف صوت خاص يمكن أن يقوم بدور جميل ومهم إلا أن وضعه في المكان اللائق والمناسب هو الذي يولد الجمالية المطلوبة والتي تقتحم القلوب دون إرادة أصحابها ، ولو كان الاختيار غير مناسب لصك الأسماع ومنعها من قبول الحرف فلا يصل إلى القلب .
والشاعر أو الأديب هو المذواق الذي يحدد نوعية الحرف والكلمة دون عناء أو تفكير بل إنه يملك الملكة التي وهبها الله له ليكون دليلاً إلى الخير دون سواه .

(1) لسان العرب : 4/400 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 60

التقسيم الأدبي

الأديب يحلّق بجناحين جناح الشعر وجناح النثر والقاسم المشترك بينهما هو حسن الأداء للصورة التجريبية سواء الواقعية منها أو الخيالية بشكل يكون التعبير موحياً ويتميز الشعر عن النثر بأنه خاضع للوزن والقافية بالإضافة إلى جوانب أخرى قد نراه شرطاً في تحقق مصداقية تسميته بالشعر والذي سنتحدث عنه قريباً .
وقد عبّر بعضهم عن الأدب بأنه فكرة وشعور وصورة وذوق وأداء ، وربما غلب نسبة بعضها على البعض الآخر في احداهما ليميزه عن صاحبه .
فالنثر هو الكلام المرسل الفصيح البليغ ذو الوقع الموسيقي الخفيف . وقد قال ابن خلدون : إن كلام العرب على فنين : فن المنظوم وهو الكلام الموزون المقفى ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على روى واحد وهو القافية ، وفن النثر وهو الكلام غير الموزون ، وكل واحد من الفنين يشتمل على فنون ومذاهب(1) .
والنثر قد يكون نثراً مرسلاً وقد يكون نثراً مسجعاً ، فالأول ما التزم بفنون البديع إلا أنه يرسل على سجيته ولا يتقيد بالسجع كما في سائر النصوص الأدبية ومنها الخطب والمقالات ، والثاني يحمل تلك المواصفات بفارق التزامه بالسجع ويتم ذلك باتحاد القوافي في مقطوعاته وقد يختلف مقدار الالتزام بذلك فتارة يتقيد بكل مقطوعتين وتارة أخرى بأكثر ثم يتحول إلى قافية أخرى كما هو ملاحظ في الآيات القرآنية وبعض النصوص الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام والذي سوف

(1) مقدمة ابن خلدون : 566 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 61

نلقي بعض الظلال عليه قريباً .
وهذا يختلف عن الشعر اختلافاً كبيراً ، ومن ذلك أن في الشعر يلتزم بعدد التفعيلات في كمال القصيدة الواحدة ، ومنها أن الشعر يلتزم فيه بالوزن وله حدوده وموازينه فلا يجوز تجاوزها مضافاً إلى التزامه بالقافية الواحدة في كل القصيدة أو في كل شطرين على الأقل أو ما شابه ذلك .
ومن الملاحظ أن هذا التدرج في الكلام بدءاً بالنثر المرسل ثم النثر المسجع ثم الشعر يأتي من جراء الالتزام الأكثر فالأكثر ففي الأول التزم بقواعد البديع وفي الثاني أضيف إليه بالالتزام بالقافية غير المحددة وفي الثالث أضيف الالتزام بالقافية والوزن ، وبعبارة موجزة هو تدرج إيقاعي وموسيقي .
ويبقى الشعر الحر الذي يمكن الاعتماد عليه هو من بين الأدب كالخنثى من بين الأولاد فتارة شعر وتارة أخرى نثر وتارة بين بين وسيأتي الكلام عنه قريباً .

دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 62

أدب النثر وفنونه

سبق وتحدثنا عن النثر المرسل والمسجع ويبقى أن نشير إلى أن السجع على أقسام : قصير ومتوسط وطويل ومرسل(1) ، فالأول : ما اتحد كل فصلين قصيرين منه على قافية واحدة مع مراعاة التساوي في القصر والطول كما في قوله تعالى :
«فإذا فرغت فانصب» «وإلى ربّك فارغب»(2)

والثاني : ما اتحد أكثر من فصلين قصيرين منه على قافية واحدة كما في قوله تعالى :
«والليل إذا يغشى ،
والنهار إذا تجلى ،
وما خلق الذكر والأنثى ،
إن سعيكم لشتى ،
فأما من أعطى واتقى ،
وصدق بالحسنى ،
فسنيسره لليسرى
»
(3) .
وأما الثالث : فهو ما اتحدت قوافي عدد من الفصول المتوسطة فيه ولا ضرورة في التزام التساوي كما في قوله تعالى :

(1) راجع مقدمة ابن خلدون : 567 ، العمل الأدبي : 311 .
(2) سورة الشرح ، الآيتان : 7 ـ 8 .
(3) سورة الليل ، الآيات : 1 ـ 7 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 63

«قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ،
فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ،
وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً»
(1) .
وأما الرابع : فهو ما اتحدت مقاطع طويلة في قافيته ليكوّن في آخرها جرس موسيقي جميل يوحد كل المقاطع كما في قوله تعالى :
«قالوا : أءِنّكَ لأنتَ يوسف قال أنا يوسفُ وهذا أخي قد منّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ،
قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا لخاطئين ،
قال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً واتوني بأهلكم أجمعين»
(2) .
وقوام النثر المسجع يتم بمراعاة الجرس الموسيقي في كل الفصول ، وبتنويع القافية بين حين وآخر حتى لا يوجب الملل ، وهناك أمور لو روعيت لزادته جمالية منها أن يأتي تغيير القافية مع انتقال المعنى ، ومنها أن يطبق قصر وطول الفصول مع الغرض المنشود ، فالأسلوب القصصي يختلف عن الأسلوب الوصفي وهذا الأخير يختلف أيضاً عن الأسلوب العِبروي(3) .
وبعيداً عن هذه التقسيمات فالأدب النثري له فنون متعددة وموارد مختلفة للتعبير الموحي عن تجربته الشعورية ، وسنذكر أهمها بإيجاز من دون فصل الإنشائي منه عن غيره :
1 ـ القصة بكل أقسامها : تعبير عن الحياة المطلقة خيالية كانت أو

(1) سورة نوح ، الآيات : 5 ـ 7 .
(2) سورة يوسف ، الآيات : 90 ـ 93 .
(3) العبروي : نسبة إلى العبرة .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 64

واقعية بجميع جزئياتها وتفاصيلها وهي تشبه الشعر في تناول الموضوع والسير فيه ، غير أن مجال القصة أوسع إذ يسمح لها بأن تستعرض جميع الحالات والملابسات في حين لا يمتلك الشعر هذه الحرية ، والرواية صنف مـن أصناف القصة بمعناها العام(1) كما أن القصة جزء من التاريخ بشكل عام ، والقصة تشمل أيضاً أدب الملحمة النثري منه والشعري .
2 ـ التمثيل : بقسميه(2) لواقع الحياة بكل جزئياته وملابساته خيالاً أو واقعاً ، صريحاً كان أم غير ذلك يوحي بخلفية شعورية معبرة ، ولا بد أن يكون من وراء كل تمثيل قصة .
3 ـ المقالة : هي التعبير عن فكرة تجمع وتنسق عناصرها بصورة منطقية تؤدي إلى غاية مرسومة لها لتخلق قناعة فكرية بعيدة عن العواطف .
4 ـ الخطابة : محاولة جادة لجلب أكثر عدد ممكن من أفكار الجماهير عبر وسائل تتجاوب معها الغالبية الحاضرة ، وتعتمد في الغالب على العاطفة أكثر من أي شيء آخر .
5 ـ النقد : أسلوب حضاري يقوم على أساس فلسفي يرمي إلى توسيع آفاق النظر تجاه الأدب الشعوري والتعبيري ، وأقسامه كثيرة .
6 ـ المكاتبة : هي مخاطبة الغائب عبر القلم وهي كثيرة الشبه بالخطابة حيث تخضعان للمقام والمقال والتدرج في الكلام ، وهي والمراسلة متحدتان كما أنها في الواقع رسول القلب إلى القلب وهي من فنون الإنشاء البديعة .
7 ـ المناظرة : هو الحوار الدائر بين شخصين أو أكثر وتعتمد في أسلوبها وطرحها على الفلسفة والمنطق .

(1) ومن الجدير ذكره أن الرواية في المجتمع الغربي أخذت الصدارة في الأدب الأوروبي بينما ظل الشعر في المجتمع العربي في الصدارة راجع موسوعة نظرية الأدب : 2/91 .
(2) القسمان : هما المسرحية والتمثيلية ولكل منهما أقسام أيضاً .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 65

8 ـ المثل : حكمة سريعة النفوذ إلى الأعماق تنبع عن حكاية ذات عمق ذي مستوى رفيع .
9 ـ المقامة : قطعة أدبية رائعة تُسبك بأسلوب روائي يُهدف منها تجسيد حكمة أو ترسيخ فكرة(1) وقد أبدع فيها الهمداني(2) والحريري(3) .
وهناك فنون أخرى أعرضنا عنها خوف الإطالة والخروج عن الموضوع كما أعرضنا عن الأمثلة والشواهد لعدم إمكان الاقتصار على قطعة صغيرة حيث يبقى المعنى أبتَر في الغالب .
ومن الجدير قوله إن هذه الفنون تطورت بمرور الزمان حتى خرج قسم منها عن إطارها الموضوع لها شأنها شأن سائر الأمور التي طرأ عليها التطور الذي يحمل في طيّاته عناصر إيجابية إلى جانب عناصر أخرى سلبية ولسنا هنا في مقام النقد بمقدار ما نريد العرض فقط .

(1) المقامة : في الأصل هي المجلس ومقامات الناس مجالسهم ، ويعتبر الهمداني أبدع من كتب في هذا الفن يقول عوض في كتابه : (فن المقامات بين الشرق والغرب : 8) « نعني بالمقامة الفنية تلك التي ابدعها بديع الزمان ـ الهمداني ـ وهي التي اتخذت شكلاً درامياً لم يسبق إليه » ويأتي بالدرجة الثانية الحريري ، وانتقل هذا الفن من العربية إلى الفارسية وإلى الأدب الأوروبي وفي هذا الصدد يقول : الدكتور حجاب في كتابه حوليات دار العلوم : 68 ـ 69 / 86 « ظهور المقامات في اللغتين العبرية والسريانية كان بعد ظهور ترجمة مقامات الحريري إلى السريانية » ـ راجع فن المقامات لعوض : 9 ويقول الصدر في كتابه الشيعة وفنون الاسلام : 86 « أول من وضع المقامات وجعلها علما هو أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي الكوفي ـ صاحب المجمل في اللغة وفقه اللغة ـ فإنه انشأ رسائل اقتبس علماء الأدب منها نسقه ، أولهم تلميذه بديع الزمان الهمداني ووضع المقامات وله فضل التقدم في ذلك ، ومن أئمة هذا العلم ابن العميد وصاحب بن عباد وأبو بكر الخوارزمي .
(2) الهمداني : هو بديع الزمان أحمد بن الحسين بن سعيد (358 ـ 398 هـ) أديب شاعر ، عرف بمقاماته إلى جانب كتابه الرسائل ، وله ديوان شعر .
(3) الحريري : هو القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري الحرامي الشافعي (446 ـ 516 هـ) أديب لغوي ، وشاعر نحوي ، اشتهر بمقاماته ، وله أيضاً : درة الغواص وديوان شعر .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 66

أدب القرآن

لا نريد التفصيل عن أدب القرآن وأسلوبه لغرضين الأول عدم الخروج عن الموضوع ، الثاني : عدم التكرار حيث تطرقنا إلى ذلك لدى البحث عن أدب الـدعاء(1) وعن أدب الخطابة(2) وعن الأدب في عصر الدعوة(3) وبالإجمال فإن القرآن الكريم بسوره القصار والطوال قد جمع أساليب العرب في الجاهلية وعصر الدعوة بجميع خصائصها حتى في الجانب الخيالي ، ولذلك عبروا عنه بالشعر وعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالشاعر ، فمن أسلوبه الخطابي المنطوي على الوعيد سورة المسد التي برز فيها هذا الإبداع حين يقول عز وعلا :
«تبت يدا أبي لهبٍ وتب ،
ما أغنى عنه ماله وما كسب ،
سيصلى ناراً ذات لهب ،
وامرأتُه حمّالة الحَطَب ،
في جيدها حبل من مسد »
.
ونموذج من أسلوبه القصصي الممزوج بشيء من الحوار والوصف قوله عز وجل : في النبي نوح عليه السلام وابنه :
«وقال اركبوا فيها ، بسم الله مجراها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم ، وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونادى نوح ابنه وكان في معزلا

(1) راجع الصحيفة الحسينية من هذه الموسوعة .
(2) راجع معجم الخطباء من هذه الموسوعة .
(3) راجع مقدمة الشعر الحسيني من هذه الموسوعة .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 67

يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ، قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ، قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين»
(1) .
وهناك نماذج أخرى وأساليب ثانية للحوار والمناقشة التي أودعها الله في آياته البينات .
هذا ولقد ساعد القرآن على توحيد لغة المخاطبة بين المسلمين في جميع أقسام شبه جزيرة العرب ، ولا ريب في أن هذا الأثر كان يقوى مع الأيام حتى بلغ ما بلغ إليه في أيامنا هذه .
ولقد كان الناثرون والشعراء بطبيعة الحال شديدي التأثر في الأغراض والأساليب بالقرآن وذلك لجهتين : حيث كان في الدرجة الأولى أفصح ألفاظاً وأسهل تركيباً وأعذب تعبيراً ، وأما من الجهة الثانية فقد كان أمتن سبكاً وأبرع دلالة وآنق ديباجة ، فالناثرون تأثروا ببلاغة القرآن الكريم التي كانت تجري في أساليب متعددة بتعدد الأغراض من ترغيب وترهيب ومن وعد ووعيد ومن سرد وقصص ، ومن وصف وتشريع .
وأما الشعراء فحدث عنهم ولا حرج حيث لم يبق مورد إلا واستغلوه في نظمهم متأثرين بالصور البديعة التي أودعها الله جل وعلا في محكم كتابه الكريم وقد رصّع الكثير من الشعراء أبياتهم وقصائدهم بالآيات القرآنية مما زادها بهاءً ورونقاً .
ولقد نحى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الكرام ونخبة من الأصحاب والتابعين هذا المنح الأدبي وتأثروا بالقرآن فجاءت كلماتهم وخطبهم تحمل الطابع ذاته مستخدمين فنون القرآن الأدبية من السجع والتصوير وغيرهما .

(1) سورة هود ، الآيات : 41 ـ 43 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 68

الأدب والشعر

ينقسم الكلام إلى عدة تقسيمات ومن تلك ما يخص هذا الباب ، وهو انقسامه إلى نثر وشعر ، فالنثر كما هو معروف : هو الكلام المنسق المبني على السليقة الجيدة من غير التزام الوزن وقد يلتزم قائله بالسجع والموازنة وربما تكلف بأكثر من ذلك كما في بعض خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وأما النظم فهو الكلام الموزون المقفي الذي يخضع للأوزان التي رتبها الخليل وغيره من الأوزان المستحدثة التي ذكرناها في كتابنا الأوزان الشعرية(1) ، وسيأتي الكلام عما تعورف عليه اليوم بالشعر الحر في العربية وبأسماء مماثلة في سائر اللغات هل هو شعر أم نثر حيث هناك خلاف بين الأدباء والمحققين في ذلك وقد فصلنا الكلام حوله في كتابنا السابق الذكر ، واخترنا أن القسم الذي يخضع للأوزان هو شعر وإن اختلفت تقاطيعه ، وإلا فهو نثر وإن أطلق عليه اسم الشعر في هذه الأيام ، ولكن ذكرنا تفصيلاً آخر في بيان حقيقة الشعر وقلنا لا بد وأن يكون الشعر محركاً لمشاعر الإنسان وإلا فهو مجرد نظم يخلو من الغرض الذي لأجله جاءت التسمية(2) ، ومن الواضح أن النظم المجرد من روح الشعرية كالجسد بلا روح .
هذا وقد قسم الدكتور عمر فروخ الأدب إلى نثر ونظم وشعر وقال : « الكلام الجيد نوعان : نثر وشعر ، أما النثر فهو الكلام الذي يجري على

(1) لا يخفى على القارئ فإن لنا ثلاثة مؤلفات باسم الأوزان : أحدها في الأوزان الصرفية وثانيها في الأوزان والمقادير وثالثها في الأوزان الشعرية وفيها استقصينا الأوزان المتداولة واستحدثنا من الدوائر العروضية بالحسابات الرياضية بعض الأوزان فليراجع .
(2) راجع كتاب الأوزان الشعرية باب الشعر الحر وباب تعريف الشعر وجه التسمية .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 69

السليقة من غير التزام ووزن ، وأما النظم فهو الكلام الموزون المقفى فإذا امتاز النظم بجودة المعاني وتخيير الألفاظ ودقة التعبير ومتانة السبك وحسن الخيال مع التأثير في النفس فهو الشعر وقد تكون هذه الخصائص في الكلام من غير أن يكون موزوناً وتظل تسميته شعراً »(1) .
وعلى تعريفه يدخل الشعر الحر في مجمل الشعر ، وعلى ما اخترناه لا يشمل جميع الشعر المصطلح عليه بالحر ، ومع هذا فإنه لا ينافي إثباتنا للشعر الحر في هذه الموسوعة في باب خاص به حيث إن تثبيته هنا بهذا الاسم من باب الاشتهار لا من باب الصناعة ، ولنا في ذلك بحث لدى التعريف عن البند أولاً والبحث عن تاريخ الشعر الفارسي وتطوره ، فليراجع .
ويقول الزهاوي(2) عن الشعر من مجزوء الكامل :
والشعر ليس سوى الذي هـــو للشعـور يُصـوِّرُ
والشعر بالمعنـى المُطا بِـــقُ للحقيقــة يكبـُرُ
والشعـر مـرآةٌ بـها صـور الطبيـعة تظهـرُ(3)

(1) تاريخ الأدب العربي : 1/44 .
(2) الزهاوي : هو جميل صدقي بن محمد فيضي الآتي ترجمته .
(3) الموجز في الأدب العربي وتاريخه : 4/463 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي