دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 82

وكانت روحه الزكية ثمناً لولائه لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهجائه لأعدائهم من بني أمية ، ومن هاشمياته المعروفة قصيدته من الطويل ، التي بلغت 140 بيتاً يقول فيها(1) :
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ ولا لعباً منّي وذو الشيبِ يلعبُ
ولكن إلـى أهـل الفضائل والنهى وخير بني حواء والخير يطلبُ

إلى أن يقول :
بخاتمكـم غصباً تجـوز أمـورهم فلـم أر غصباً مثلـه يتغضـبُ
وجـدنا لكم فـي آل حاميـم آيـةً تـأولهـا منـّا تقـيٌّ ومُعـرِبُ
وفي غيـرها آيـاً وأيـاً تتابعـت لكم نصبٌ فيها لذي الشّكِ منصبُ
بحقكـم أمسـت قـريش تقـودنا وبالفـذ منهـا والـرديفَين نركبُ
وقالـوا ورثـناهـا أبـانا وأمـّنا ومـا ورّثتهـم ذاك أمُّ ، ولا أبُ
يرون لهم فضلاً على الناس واجباً سفاهـا وحـقّ الهاشميين أوجبُ
ولكن مـواريث ابـنُ آمنةٍ الـذي بـه دان شـرقي لكـم ومغـرب
فـدى لك مـوروثاً أبي وأبو أبي ونفسي ، ونفسي بعدُ بالناس أطيبُ
وتستخلف الأمـوات غيرك كلّهم ونعتِـبُ لـو كنّا على الحق نعتبُ
يقـولون لـم يورث ولولا تراثه لقـد شـركت فيـه بكيلٌ وأرحبُ
وعكٌ ، ولخمٌ ، والسكون وحِميرٌ وكنـدةٌ ، والحيان : بكرٌ وتغلب(2)
ولا تنشلت عضوين منها يحابـر وكان لعبـد القيس عضو مؤرّب
وما كانـت الأنصار فيهـا أذلّة ولا غيباً عنهـا إذا الناس غُيَّـب
هـم شهـدوا بدراً وخيبر بعدها ويـوم حنيـن ؛ والدماء تُصببُ
فإن هـي لم تصلح لقوم سواهم فإنّ ذوي القـربى أحق وأقربُ

6 ـ وإن نقائض جرير فإنها تولدت بعدما اشتد النزاع بين بني أمية

(1) أعيان الشيعة : 9/30 .
(2) هؤلاء كلهم قبائل عربية معروفة .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 83

وبين عبد الله بن الزبير حيث وقف جرير في صفوف القيسيين من أنصار ابن الزبير(1) يهاجي اليمانيين أنصار بني أميّة ، ثم لج الهجاء بين الشعراء فانحدر جرير من اليمامة(2) إلى البصرة مركز الحركة السياسية وميدان شعراء المناقضات وذلك ما بين عام 71 و 74 هـ وقد تمكن جرير من الغلبة على جميع الذين هجوه وهم كثر ما عدا الأخطل(3) والفرزدق(4) لأنهما اجتمعا عليه ، وقيل لو تفرقا لغلبهما وأخمل ذكرهما كما فعل بالآخرين فتكوّن من هذه المناقضات الأهاجي شعر كثير(5) ، وتحمل مناقضات جرير بالخصوص صفتين حلاوة اللفظ ومرارة المعنى فالأول لأنه ألبسه من حسن اللفظ واستهلها بالغزل ، والثاني يؤلم من هجاء بلوعة(6) ، ومن بين تلك المناقضات اخترنا قوله من قصيدة من البسيط يقول فيها(7) :
يا أمّ عمرٍو ، جزاكِ الله مغفرةً ، رُدّ عليّ فـؤادي كالذي كانـا
ألستِ أملحَ مَن يمشي على قدمٍ ، يا أملح الناس كلِّ الناس إنسانا(8)
يلقى غريمكم من غير عُسرتكم بالبذل بخلاً وبالإحسان حِرمانا(9)

(1) ابن الزبير : هو عبد الله بن الزبير بن العوام (1 ـ 73 هـ) أمه كانت اسماء بنت أبي بكر ، وهو أول مولود بعد الهجرة في المدينة ، انضم إلى جانب عائشة في معركة الجمل ، بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام استقل بالحجاز .
(2) اليمامة : بلاد وسط الجزيرة العربية من مقاطعات نجد ، تنسب إلى زرقاء اليمامة الرائية الشهيرة .
(3) الأخطل : هو غياث بن غوث العمري (19 ـ 95 هـ) اتصل بالبلاط الأموي وظل يمدحهم وتسمى اليوم العارض . ويهجو مخالفيهم إلى أن توفي يزيد بن معاوية عام 64 هـ فتركهم ثم احتاجه عبد الملك بن مروان لهجو مخالفيه فقربه .
(4) الفرزدق : هو همام بن غالب التميمي (20 ـ 114 هـ) نشأ على حب آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الاعتقاد بحقهم للخلافة . ولكنه كثيراً ما كان يخفي ذلك ، وهو الذي نصح الإمام علي عليه السلام أباه أن يحفظه القرآن ليمكنه من الشعر .
(5) جمعت نقائضه مع الفرزدق في ديوان سميت بـ « نقائض جرير والفرزدق » بينما جمعت نقائضه مع الأخطل وعنونت بـ « نقائض جرير والأخطل » .
(6) راجع تاريخ الأدب العربي : 1/665 .
(7) تاريخ الأدب العربي : 1/674 .
(8) جاءت كلمة « إنساناً » تمييزاً من « أملح الناس » .
(9) فيه إشارة إلى قوله تعالى : «وإن كان ذو عسرة فنَظِرَةٌ إلى ميسرة» [البقرة : 280] .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 84

قـد خُنتِ من لم يكن يخشى خيانتكم ؛ ما كنتِ أول مـوثوقٍ به خانا
لقـد كتمـتُ الهشوى حتى تَهَيّمَني(1) لا أستطيـع لهـذا الحبِ كتمانا
كاد الهـوى يـوم سلمانَين يـقتلني(2) وكاد يقتلنـي يـوماً ببَيْـدانـا
لا بارك الله في مَـن كان يحسبكـم إلا على العهد حتى كان ما كانا
لا بارك الله في الـدنيا إذا انقطعـت أسباب دنياكِ من أسباب دنيانـا
ما أحـدث الـدهر مما تعلمين لكـم للحبل صَرماً ولا للعهد نسيانا(3)
إنّ العيـون التي في طَـرفها حَوَرٌ(4) قتلننا ثـم لـم يُحَييـنَ قتلانـا
يصرعنَ ذا اللبّ حتى لا حراكَ به ، وهنّ أضعف خلق الله أركانـا
يا حبـّذا جبل الــريّان من جبل(5) وحبـذا ساكن الريّانِ من كانـا
وحـبذا نفـحاتٌ مـن يمـانيـةٍ تأتيك مـن قِبَل الريان أحيانـا

إلى أن يقول موجهاً كلامه إلى الأخطل :
ما يدري شعراء الناس ، ويحهم ، من صَولة المخدر العادي بخفّانا(6)
جهـلاً تمَنّى حُدائي من ضلالتهم فقـد حـدَوتهم مثنى ووحدانـا(7)
غادرتهم من حسير مات في قرن(8) وآخرين نسوا التهدار خِصيانـا(9)

(1) تهيمني : أي كاد أن يذهب بعقلي .
(2) سلمانين : بكسر النون الأولى وفتح الثانية وقيل بالتثنية هما واديان في جبل لغني يقال له سواج ، ويقرأ بالجمع فهو واد يصب على الدهناء شمالي الجفر مقر الرباب بناحية اليمامة بموضع يقال له الهرار .
(3) الصرم : القطع ، الهجر ، البعد .
(4) الحور : شدة بياض ما ابيض من العين ، وشدة اسوداد ما اسود منه .
(5) جبل الريان : بفتح الراء وتشديد الياء جبل في ديار طيئ وهو أطول جبال أجأ على مقربة من معدن بني سُليم .
(6) المخدر : الأسد ، خفان : منطقة في طريق الكوفة كانت مأوى الأسود ، إلا أنها خليت منها بعد فتح قناة السويس .
(7) أراد أن كل واحد من هؤلاء الشعراء يظن أن بإمكانه أن يغلبني في الهجاء فقد تغلبت عليهم أفراداً وجماعات .
(8) الحسير : هو الذي تعب من كثرة الجري .
(9) التهدار : صوت البعير أو الثور ، والخصاء يفقد المخصي كثيراً من أوجه نشاطه .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 85

مـا زال حبلي في أعناقهم مَرِساً(1) حتّـى اشتفَيـتُ وحتّى دانَ من دانا
إنّي امرؤٌ لم أرِد ، في من أناوئه ، للناس ظلمـاً ولا للحـرب إدهـانا(2)
أحمي حِمايَ : بأعلى المجد منزلتي من خِندفٍ ، والذُرى من قَيس عَيلانا(3)
قال الخليفة ـ والخنزير منهزمٌ ـ(4) ما كنـتَ أول عبـد مُجلـبٍ خانـا(5)
لاقـى الأُخَيطـِلُ بالجَولان فاقِرَةً(6) مثـل اجتـداع القوافـي وَبْرَ هزّانا

7 ـ وأما خمريات أبو نؤاس فشكلت ديواناً كبيراً تناول فيها اتجاهات مختلفة للخمرة فأصبح بذلك أشعر من نظم في الخمرة على الإطلاق حيث فاق بها من قبله ولم يأت بعده مثله ، ومن خمرياته المختارة قوله من المديد(7) :
يـا شقيق النفسِ مـِن حَكَمِ(8) نِمـتَ عَن ليلي ، ولم أنِم
فاسقني البِكر التي اختمرتْ(9) بخمار الشّيـبِ في الرَّحِمِ(10)
ثُمّـتَ أنصاتَ الشباب لها(11) بعـدما جازت مدى الهَرمِ
فهـي لليـوم الذي بُزِلتْ(12) وهي تِربُ الدّهر في القِدَمِ
عُتِّقـَتْ حتى لـو اتّصلتْ بلسـانٍ نـاطـقٍ ، وفـمِ

(1) المرس : الناشب ، المعقود .
(2) الأدهان : المداراة .
(3) خندف وقيس عيلان قبيلتان عربيتان مشهورتان .
(4) الخنزير : كناية عن الأخطل .
(5) المجلب : المجلوب .
(6) الجَولان : الحرب ، والفاقرة : الضربة التي تقطع فقار الظهر فتشل حركة الجسم .
(7) الخمريات : 160 .
(8) حَكَم : قبيلة يمانية انتسب إليها أبو نؤاس بالولاء .
(9) البكر : أراد الخمر التي لا تزال في دنها مختوماً ، جاء في بعض النسخ : « الخمر » بدل « البكر » .
(10) خمار الشيب : أراد نسيج العنكبوت .
(11) انصات : عاد .
(12) بزلت : ثقب دنّها بالبزال ، فهو مثقب الدنان .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 86

لاحْتَبـتْ في القومِ ماثلةً(1) ثـمّ قصّـتْ قَصّة الأمَـمِ
فـرعتها بالمـزاج يـدٌ(2) خُلِقَـت للكَــأسِ والقلـم
في نـدامى سادةٍ نُجـُبٍ(3) أخـذوا اللـذّات مـن أمَمِ
فتمشّتْ فـي مفاصلهـم كتمشّي البُـرءِ في السَقـم
فعَلَتْ في البيتِ إذ مُزِجَتْ مثل فعل الصُبحِ في الظُلَم
فاهتدى ساري الظلام بها كاهْتـداءِ السَّفـْرِ بالعَلم(4)

8 ـ وأما تشبيهات ابن المعتز فإنه بعدما انصرف عن الحكم والبلاط إلى العلم والأدب تتلمذ على كبار أهل اللغة والأدب وأرباب العلم والفضيلة فنشأ على أسس علمية مكّنته من الاستخدامات البلاغية ومارسها باتقان حتى أصبح من ذوي الاختصاص في تركيب المعاني الجميلة واستخدام التشابيه والاستعارات بحيث اشتهر بذلك ، وكانت ديباجة قصائده مرتعاً لهذا اللون البلاغي الجميل ، ومن ذلك مقطوعة يصف فيها الهلال والنجوم من الخفيف(5) :
زارني والدّجى أحَمّ الحَواشي(6) ، والثُريّا في الغربِ كالعُنقودِ ،
وهلال السما كطَوقِ عَروسٍ بات يُجلى على غلائلَ سود(7)

* * *

أهلاً بِفِطرٍ قد أنار هلاله(8) فالآن فاغدُ إلى المُدام وبَكّرِ

(1) احتبى : جلس القرفصاء ، ثم جعل شملة أو نحوها حول ركبتيه وظهره حيث يساعد المرء على طول الجلوس دون اعياء .
(2) فرع الخمر بالمزاج : أي مزجها بالماء .
(3) في نسخة : « زُهُرٍ » بدل « نَجُبِ » .
(4) السفر : المسافرون ، والعلم : العلامة .
(5) تاريخ الأدب العربي لفروخ : 2/379 .
(6) أحمّ الشيء : جعله أسود .
(7) الغلائل : جمع الغلالة وهي شعار يلبس تحت الثوب أو تحت الدرع .
(8) فطر : أراد عيد الفطر .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 87

وانظر إليه كزَورقٍ من فِضّةٍ قد أثقلته حمولةٌ من عنبر

* * *

أُنظُر إلى حُسن هلال بدا ، يهتِكُ مـن أنـواره الحُنـدُسا(1)
كمِنْجل قد صيغَ من فِضّةٍ يحصُد من زهر الدُّجى نَرجسا

* * *

وكأنّ المَجَـرّ جَدول ماءٍ نوّر الأُقحوان في جانبيه
وكأن الهلال نِصف سوارٍ والثـّريّا كفٌّ تشير إليه

9 ـ وأما زهديات أبي العتاهية فقد ملأت ديوانه الكبير وشاع على الألسن ، ويقال : إن السبب من وراء زهده هذا هو رفض الجارية ـ التي كان يُحبها ـ العيش معه فهجر المديح والغزل وانتقل إلى قول الزهد فخرج من أعماقه وأجاده ، فاشتهر به دون غيره ، ومن المختار منه قوله من الوافر(2) :
لِـدوا للموتِ وابنوا للخـرابِ فـكلّكـم يصيـر إلى تبـاب(3)
لِمَـن نَبني ونحن إلى تـرابٍ نصيـر كما خُلقنا مـن تراب
ألا يا مـوت لم أرَ منك بـُدّاً أتيـتَ وما تُحيفُ وما تُحابي(4)
كأنّك قـد هجمتَ على مشيبي كما هجم المشيبُ على شبابي
أيـا دنياي مـا لـيَ لا أراني أسـومكِ منـزلاً إلا نبابـي(5)
ألا وأراك تبـذُلُ يـا زمـاني لـيَ الدنيا وتُسـرعُ باستِلابي
وإنّـك يا زمانُ لذو صروفٍ وإنّك يا زمان لـذو انقـلاب
وما لي لستُ أحلبُ منكِ شطراً فأحمدَ منـك عاقبة الحـلابِ

(1) الحُندس : الظلمة بل الظلمة الشديدة .
(2) ديوان ابي العتاهيته : 23 .
(3) التباب : الهلاك ، وفي نسخة : « إلى ذهاب » .
(4) في نسخة : « ابيت فلا تحيف ولا تحابي » ، ويحابي : يصانع .
(5) في نسخة : « مالي لا أراك تسومي منزلاً إلا ببابي » .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 88

ومـا لـيَ لا أُلـِحُّ عليـكِ إلا بعثـتِ الهـمّ لي مـِن كُلّ بابِ
أركِ وإن طُلِبـتِ بكـلّ وجـهٍ كحُلـمِ النّـوم أو ظلّ السحـاب
أو الأمس الـذي ولّـى ذهـاباً وليس يعـود أو لمـعِ السّـراب
وهـذا الخلـق منكِ على وفاءٍ وأرجلهـم جميعاً فـي الـرّكابِ
ومـوعدُ كلّ ذي عملٍ وسعي بمـا أسـدى غـداً دارُ الثـوابِ
تقلّـدتُّ العظـامَ مـن البرايا كأنـي قـد أمِنـتُ من العقـاب
ومهما دمتُ في الدنيا حريصاً فـإنّي لا أُفيـق إلى الصـوابِ
سأُسأَلُ عـن أمورٍ كنتُ فيها فما عُـذري هناكَ ومـا جوابي
بـأيَّـةِ حُـجّـةٍ أحتـجّ يـوْ مَ الحسابِ إذا دُعيتُ إلى الحسابِ
هما أمـران يوضح عنهما لي كتابـي حيـن أنظرُ في كتابـي
فإمّـا أن أُخَـلـَّدَ فـي نعيمٍ وإمّـا أن أخَلـَّدَ فـي عـذابـي

10 ـ وأما مراثي أبي تمام فهو عدل مدائحه حيث أجاد فيهما عندما نظم فيمن أعجب بهم ممن صادقهم ، وبما أن غيره تفوق عليه في المديح بقي رثاءه هو الأبرز في العهد العباسي بل وبعد الخنساء لأنه نبع من داخله ، واحتل رثاءه في ديوانه المرتبة الثانية من حيث الكم بينما احتل المدح المرتبة الأولى ، والمختار من شعره في هذا الاتجاه رثاءه لمحمد بن حُميد الطوسي(1) من الطويل(2) :
كذا فليَجِلَّ الخطبُ ، وليَفدَح الأمرُ فليس لعيـن لم يَفِضْ ماؤها عذرُ(3)
تُـوُفِّيَـتِ الآمالُ بعـد محمـدٍ ، وأصبح في شُغلٍ عن السَفَر السَفْرُ(4)
ومـا كان إلا مالَ من قلّ مالُه ، وذخـراً لمن أمسى وليس له ذخر

(1) محمد بن حميد الطوسي : الطاهري المتوفى عام 214 هـ من قواد جيش المأمون العباسي وولاته تولى قتال بعض الثارئين في عهده ، أمثال : زريق ، وبابك الخرمي ، قتل غيلة وعظم مقتله على المأمون .
(2) ديوان أبي تمام : 328 .
(3) ماؤها : دموع العين .
(4) السَّفَر : قطع المسافة ، والسفر : السافرون .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 89

وما كان يدري مُجتدي جود كفّه(1) إذا مـا استهلّـت ، أنـه خُلـِق العُسر
ألا في سبيـل الله مـن عُطِّلـت له فجـاجُ سبيـل الله وانثـغـر الثغـر
فتىً ، كلما فاضـت عيـون قبيلـةٍ دمـاً ضَحِكـت عنه الأحاديث والذِكر
فتى دهـره شَطـران فيما ينوبه : ففـي بأسه شطرٌ وفي جـوده شطـر
فتىً مات،بين الطعن والضرب،ميتةً تقـوم مقام النصـرِ إن فاتـه النصر
وما مات حتى مـات مضربُ سيفه من الضرب ، واعتلّت عليه القنا السُمر
وقـد كان فوتُ الموت سهلاً ، فردّه إليـه الحِفاظُ المـُرّ والخُلـُقُ الـوَعْر
ونفسٌ تَعافُ العـارَ حتى كأنمـا(2) هـو الكفر يوم الرَوع ، أو دونه الكُفر
فأثبتَ في مستنقـعِ المـوت رجلَه ، وقال لها : « من تحتِ أخمصِكِ الحَشْر »(3)
غـدا غـدوةً والحمدُ نسج ردائـه ، فلـم ينصـرف إلا وأكفانـه الأجـر
تردّى ثياب الموتُ حمراً ، فما دَجا لها الليل إلا وهـي من سندس خضـر

11 ـ أما مدائح البحتري فإن ديوانه المؤلف من جزئين كبيرين فقد غلب عليه المدح(4) حيث اكتسب بشعره فمدح الحكام واختص ببعض العباسيين أمثال المتوكل العباسي(5) حتى قيل ان المتوكل عرف بشعر البحتري(6) ، ومن مختار شعره في بركته بسامراء قوله من البسيط(7) :

(1) المجتدي : الطالب .
(2) تعاف : تكره .
(3) الأخمص : ما لا يصيب الأرض من باطن القدم .
(4) ومع هذا يقول فروخ في تاريخ الأدب العربي : 2/358 « كان البحتري تكسب من الطولونيين ولكن أخبار هذا التكسب لم يعم انتشارها ولا تضمنت النسخ المشهورة من ديوان البحتري ذلك المديح » .
(5) المتوكل العباسي : هو المتوكل على الله جعفر بن محد المعتصم ، ثامن من حكم من العباسيين على بلاد الإسلام من مدينة سامراء جاء على الحكم بعد هارون الرشيد عام 232 هـ ، وتوفي عام 247 هـ فخلفه ابنه المنتصر .
(6) يذكر بعض الدارسين بأن النعمانين عرفا بالنابغة ، وملوك بني عبس عرفوا بعنترة ، وهرم بن سنان عرف بزهير ، والأمويون عرفوا بالأخطل والفرزدق ، وجرير ، وسيف الدولة وكافور عرفا بالمتنبي والمتوكل عرف بالبحتري ـ راجع مقدمة ديوان النابغة الذبياني : 13 .
(7) ديوان البحتري : 1/20 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 90

يا مَـن رأى البِركة الحسناء رؤيتها الغـانياتِ إذا لاحَـت مغـانيهـا(1)
بَحَسْبِهـا أنّها فـي فضلٍ رُتبتهـا(2) تُعَـدّوا واحـدةً والبحـر ثانيهـا(3)
كأن جِـنّ سليمـان الـذين وَلـوا(4) إبـداعها فأدقـّوا فـي معانيهـا
فلـو تمـر بها بَلْقيسُ من عَرَضٍ(5) قالت : هي الصَّرْحُ تمثيلاً وتشبيهاً(6)
تَنصَـبُّ فيها وفـودُ الماءِ مُعجَلَةً كالخيـل خارجةً من حبل مُجريها
كأنمـا الفِضّـة البيضاء سائلـةً مـن السبائك تجري في مجاريها
إذا عَلَتْهـا الصبا أبدَتْ لها حُبُكاً(7) مثل الجـواشنِ مصقولاً حواشيها(8)
فحاجِبُ الشمسِ أحياناً يُضاحِكُها(9) ورَيّـقُ الغيـث أحياناً يُباكيهـا(10)
إذا النجوم تـراءت في جوانبها ليلاً حَسِبـْتَ سماءً رُكِّبـَتْ فيها
لا يبلُغُ السُمْكُ المحصورُ غايتَها لبُعـد مـا بين قاصيها ودانيهـا

12 ـ وأما روضيات الصنوبري ، بما أنه كان كثير النظم في الرياض وجميل الوصف لها ولما فيها من الأزهار والورود والرياحين وتلك الألوان الزاهية التي أودعها الله فيها ، والجمال الخلاب الذي تتمتع به فقد عرف

(1) في نسخة : « الآنسات » بدل « الغانيات » .
(2) حسبها : يكفيها .
(3) واحدة : الأولى .
(4) سليمان : هو نبي الله سليمان بن داوود (884 ـ 831 ق . هـ) تولى الأمر بعد أبيه داوود بوصية منه عام 871 ق . هـ وله من العمر 13 سنة وملك أربعون سنة ، ينسب إليه بناء قلعة بعلبك ، وهو الذي أحضر الملكة بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس .
(5) بلقيس : هي ملكة سبأ في اليمن وهي ابنة الهدهاد بن شرحبيل وليتْ بعد أبيها ، ورد ذكرها في القرآن .
(6) وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى : «قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها قال : إنه صرحٌ ممرد من قوارير» [النمل : 44] .
(7) الصبا : الريح الواردة من جهة الشرق ، والحبك : الغيم .
(8) الجواشن : الدروع ، أراد أن الريح إذا هبت على سطح هذه البركة تموج وسطها وظلت أطرافها ملساء ، كناية عن سعتها .
(9) عندما تنعكس أشعة الشمس على ماء البركة يَبرق فكأن البركة والشمس يتضاحكان .
(10) عندما يسقط رذاذ المطر على سطح البركة فتبدو كأنها والبركة يتباكيان .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 91

بذلك حيث انه كان يمتلك فن التصوير ، فإنه يعايشك بين جمالية الرياض وجمالية الألفاظ فعندما ينشد له قطعة أدبية في وصف تلك الرياض ينقلك إلى أجواء تحيط بك الأزهار والرياحين وما ذلك إلا لبراعته في الوصف ومن تلك قوله من الوافر(1) :
وجـوه شقائقٍ تبـدو وتخفى على قُضُـبٍ تميدُ بهنّ ضعفا(2)
تـراها كالعـذارى مسبلاتٍ عليها مـن جميم النبت سجفا(3)
تنازعتِ الخدود الحمر حُسناً فما إن أخطأت منهـنّ حرفا(4)
إذا طلعتْ أرتكَ السُرجَ تُذكى وأن غَرَبتْ أرتك السرج تطفا
تُخال إذا هـي اعتدلت قياماً زجـاجاتٍ مُلئن الخمر صِرفا
إذا مـا جمَّشتها الريح أومَتْ لتقبيـل الخـدود حياً وظرفا
يُجَنُّ بهنّ زهر الرَوض عُجباً إذا ما زهرهُـنَّ بهـنَّ حفـّا(5)
فما تألـو أقاحيهـنّ ضِحْكاً وليس يَغـضّ نرجسهنّ طَرفا
ومـا ينفكُّ سوسنُهنَّ يُصغي بآذانٍ جَفَـت قُـرطاً وَشِنفـا
أَبيتُ فما أكفُّ عن التصابي بهـنَّ وكيف يَحسنُ أن أكفـّا

13 ـ وأما لطائف كشاجم فلأنه كان عارفاً بالكتابة والشعر والإنشاء والجدل والمنطق فأخذت الحروف الأولى منها وركِّب منها لقبه « كشاجم » وبما انه كان بارعاً في اخبار الظرفاء ولطائفهم وكان هو الاخر صاحب لطائف ، وكتب في ذلك مصنفاً سماه : ادب الندماء ولطائف الظرفاء فاشتهر ببراعة إنشائه اللطائف ، ومن لطائفه المنظومة قوله من البسيط(6) في سكين دواةٍ سُرِقَتْ له :

(1) ديوان الصنوبري : 385 .
(2) تميد : في بعض الروايات تميس .
(3) جميم في بعض النسخ عميم ، وفي آخر جميم الشعر بدل جميم النبت .
(4) حرفا : في بعض المصادر وصفا بدل حرفا .
(5) جاء الصدر في بعض الروايات : « يزيد بهن روض الحزن حسنا » .
(6) ديوان كشاجم : 268 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 92

يـا قاتـَلَ الله كُـتـّابَ الـدواويـنِ مـا يستحلّـون مِن سَرقِ السكاكين
لقـد دهـاني لطيفٌ منهـم خَتـِلٌ(1) فـي ذاتِ حـدّ كحدّ السيفِ مسنونِ
فابتزّنيهـا ولـم يشعـر بـه عبثـاً(2) ولسـتُ لـو سائني ظـنُّ بمغبـونِ
واقفـرتْ بعـد عمرانٍ بمـوقعهـا منهـا دواةُ فتـىً بالكُتْـبِ مفتـون
تبكي علـى مُـديةٍ أودى الزمان بها(3) كانـت على جائـر الأقلام تعديني
كـانـت تُقـَوّمُ أقـلامي وتنحتُهـا نحتـاً وتسخطهـا قطّـاً فتُرضيني(4)
فأُضحِكُ الطَرْسَ والقرطاس عن حُلَلٍ(5) تنـوبُ للعيـن عـن نـَوْرِ البساتين
إذا بَشـرتُ بهـا سوداءَ من صُحفي عـادتْ كبعض خـدود الخُرّدِ العين(6)
جـزعُ النّصابِ لطيفـاتٌ شعائـرها(7) مُحسّنـاتٌ بـأصنـافِ التّحـاسين
هيفـاء مـرهفةٌ بيضـاء مـُذهبـةٌ قـال الإلـه لهـا سبحـانه كـوني
محفوظة الوسط تحكي في تخصُّرِها خُصـر البديع بديع في الحضانيـن
كأنّهـا حيـن يشجينـي تـذكُرُهـا في القلب منّي وفي الأحشاء تفريني(8)
لكن مِقَطّـيَ أمسـى شامتاً جـَذِلاً(9) وكان في ذلّـةٍ منها وفـي هـونِ(10)
فصيـنَ حتى يُضاهي في صيانته جـاهي لِصـوْنيهِ عمّا لا يُـدانيني
ولـو يريد فـداءً مـا جعلتُ بـه منها فـديناه بالـدنيـا وبـالـدينِ
فلستُ عنها بسالٍ ما حَييـتُ ولا(11) بواجـدٍ عـِوَضـاً منهـا بسكّيـن

(1) الختل : المخادع .
(2) ابتز : سلب أو سرق .
(3) المدية : السكين .
(4) قط القلم : بَراه .
(5) الطرس : الصحيفة .
(6) الخرد : جمع الخريدة وهي الفتاة العذراء ، والعين : الواسعة العينين .
(7) النصاب : مقبض سكين .
(8) الفري : القطع والتمزيق .
(9) المقط : خشبة يضع الكاتب اقلامه عليها .
(10) الهول : الذل .
(11) السالي : الناسي .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 93

14 ـ وأما حكميات المتنبي فإنها تناثرت في شعره ولم تخل قصيدة من قصائده من عدد من الأشطر أو الأبيات الحكمية التي أخرجت مخرج المثل المضروب والتي سارت على ألسن الناس واستشهد بها العلماء والأدباء في مناقشاتهم وكتاباتهم ، وديوانه زاخر بحكمياته حيث غلبت عليه ، فما من قصيدة ثناء أو هجاء أو حماس أو رثاء إلا وفيها عدد من الأبيات ذات الطابع الحكمي ومما جاءت مجموعة في مقطوعة قوله من الخفيف(1) :
صَحِـبَ النـاس قبلنـا ذا الـزّمانـا وعناهـم من شأنه ما عنانا
وتَـوَلّـوْا بـِغُـصـّة كلّـهـم مِنْـ ـهُ وإنْ سَرّ بعضهم أحيانا
رُبّـما تـُحسـنُ الصـّنيـع لَيـاليـ ـهِ ولكنْ تُكَـدّرُ الإحسانـا
وكَأنّا لـم يـَرْضَ فينا بـرَيـْبِ الـ ـدّهرِ حتى أعانه مَن أعانا
كـُلـّما أنـبـتَ الـزمـانُ قـنـاةً رَكّبَ المرءُ في القناة سِنانا
ومُـراد النّفـوس أصغـرُ مـن أنْ تتعـادى فيـه وأن تتفانـى
غيـرَ أنّ الفتـى يـلاقـي المنايـا كالحاتٍ ولا يُلاقي الهوانا(2)
ولـو أنّ الحـيـاة تبـقـى لِحـَيٍّ لعَـدَدنا أضلّنـا الشجعانـا
وإذا لـم يـكن مـن المـوتِ بُـدٌّ فمِـن العجزِ أن تكون جبانا
كلُّ ما لم يكن من الصعبِ في الأنـ ـفُسِ سهلٌ فيها إذا هو كانا

15 ـ وأما غزليات ابن الفارض فإنه استخدم الغزل في أغراضه الصوفية حيث تدور أغراضه على الحب الإلهي ويستخدم الرمز في غاية البراعة وحسن الإشارة فالتغزل هو الظاهر في شعره بغض النظر عن التصوف المبطن ورغم صغر ديوانه إلا أن جل شعره على هذا النمط والمختار من شعره في هذا الاتجاه من الطويل(3) :
(1) ديوان المتنبي : 2/246 .
(2) الكالح : العابس .
(3) ديوان ابن فارض : 31 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي