* * *
|
وكأنّ المَجَـرّ جَدول ماءٍ | نوّر الأُقحوان في جانبيه | |
وكأن الهلال نِصف سوارٍ | والثـّريّا كفٌّ تشير إليه |
لِـدوا للموتِ وابنوا للخـرابِ | فـكلّكـم يصيـر إلى تبـاب(3) | |
لِمَـن نَبني ونحن إلى تـرابٍ | نصيـر كما خُلقنا مـن تراب | |
ألا يا مـوت لم أرَ منك بـُدّاً | أتيـتَ وما تُحيفُ وما تُحابي(4) | |
كأنّك قـد هجمتَ على مشيبي | كما هجم المشيبُ على شبابي | |
أيـا دنياي مـا لـيَ لا أراني | أسـومكِ منـزلاً إلا نبابـي(5) | |
ألا وأراك تبـذُلُ يـا زمـاني | لـيَ الدنيا وتُسـرعُ باستِلابي | |
وإنّـك يا زمانُ لذو صروفٍ | وإنّك يا زمان لـذو انقـلاب | |
وما لي لستُ أحلبُ منكِ شطراً | فأحمدَ منـك عاقبة الحـلابِ |
(1) الحُندس : الظلمة بل الظلمة الشديدة . (2) ديوان ابي العتاهيته : 23 . (3) التباب : الهلاك ، وفي نسخة : « إلى ذهاب » . (4) في نسخة : « ابيت فلا تحيف ولا تحابي » ، ويحابي : يصانع . (5) في نسخة : « مالي لا أراك تسومي منزلاً إلا ببابي » . |
|
ومـا لـيَ لا أُلـِحُّ عليـكِ إلا | بعثـتِ الهـمّ لي مـِن كُلّ بابِ | |
أركِ وإن طُلِبـتِ بكـلّ وجـهٍ | كحُلـمِ النّـوم أو ظلّ السحـاب | |
أو الأمس الـذي ولّـى ذهـاباً | وليس يعـود أو لمـعِ السّـراب | |
وهـذا الخلـق منكِ على وفاءٍ | وأرجلهـم جميعاً فـي الـرّكابِ | |
ومـوعدُ كلّ ذي عملٍ وسعي | بمـا أسـدى غـداً دارُ الثـوابِ | |
تقلّـدتُّ العظـامَ مـن البرايا | كأنـي قـد أمِنـتُ من العقـاب | |
ومهما دمتُ في الدنيا حريصاً | فـإنّي لا أُفيـق إلى الصـوابِ | |
سأُسأَلُ عـن أمورٍ كنتُ فيها | فما عُـذري هناكَ ومـا جوابي | |
بـأيَّـةِ حُـجّـةٍ أحتـجّ يـوْ | مَ الحسابِ إذا دُعيتُ إلى الحسابِ | |
هما أمـران يوضح عنهما لي | كتابـي حيـن أنظرُ في كتابـي | |
فإمّـا أن أُخَـلـَّدَ فـي نعيمٍ | وإمّـا أن أخَلـَّدَ فـي عـذابـي |
كذا فليَجِلَّ الخطبُ ، وليَفدَح الأمرُ | فليس لعيـن لم يَفِضْ ماؤها عذرُ(3) | |
تُـوُفِّيَـتِ الآمالُ بعـد محمـدٍ ، | وأصبح في شُغلٍ عن السَفَر السَفْرُ(4) | |
ومـا كان إلا مالَ من قلّ مالُه ، | وذخـراً لمن أمسى وليس له ذخر |
(1) محمد بن حميد الطوسي : الطاهري المتوفى عام 214 هـ من قواد جيش المأمون العباسي وولاته تولى قتال بعض الثارئين في عهده ، أمثال : زريق ، وبابك الخرمي ، قتل غيلة وعظم مقتله على المأمون . (2) ديوان أبي تمام : 328 . (3) ماؤها : دموع العين . (4) السَّفَر : قطع المسافة ، والسفر : السافرون . |
|
وما كان يدري مُجتدي جود كفّه(1) | إذا مـا استهلّـت ، أنـه خُلـِق العُسر | |
ألا في سبيـل الله مـن عُطِّلـت له | فجـاجُ سبيـل الله وانثـغـر الثغـر | |
فتىً ، كلما فاضـت عيـون قبيلـةٍ | دمـاً ضَحِكـت عنه الأحاديث والذِكر | |
فتى دهـره شَطـران فيما ينوبه : | ففـي بأسه شطرٌ وفي جـوده شطـر | |
فتىً مات،بين الطعن والضرب،ميتةً | تقـوم مقام النصـرِ إن فاتـه النصر | |
وما مات حتى مـات مضربُ سيفه | من الضرب ، واعتلّت عليه القنا السُمر | |
وقـد كان فوتُ الموت سهلاً ، فردّه | إليـه الحِفاظُ المـُرّ والخُلـُقُ الـوَعْر | |
ونفسٌ تَعافُ العـارَ حتى كأنمـا(2) | هـو الكفر يوم الرَوع ، أو دونه الكُفر | |
فأثبتَ في مستنقـعِ المـوت رجلَه ، | وقال لها : « من تحتِ أخمصِكِ الحَشْر »(3) | |
غـدا غـدوةً والحمدُ نسج ردائـه ، | فلـم ينصـرف إلا وأكفانـه الأجـر | |
تردّى ثياب الموتُ حمراً ، فما دَجا | لها الليل إلا وهـي من سندس خضـر |
(1) المجتدي : الطالب . (2) تعاف : تكره . (3) الأخمص : ما لا يصيب الأرض من باطن القدم . (4) ومع هذا يقول فروخ في تاريخ الأدب العربي : 2/358 « كان البحتري تكسب من الطولونيين ولكن أخبار هذا التكسب لم يعم انتشارها ولا تضمنت النسخ المشهورة من ديوان البحتري ذلك المديح » . (5) المتوكل العباسي : هو المتوكل على الله جعفر بن محد المعتصم ، ثامن من حكم من العباسيين على بلاد الإسلام من مدينة سامراء جاء على الحكم بعد هارون الرشيد عام 232 هـ ، وتوفي عام 247 هـ فخلفه ابنه المنتصر . (6) يذكر بعض الدارسين بأن النعمانين عرفا بالنابغة ، وملوك بني عبس عرفوا بعنترة ، وهرم بن سنان عرف بزهير ، والأمويون عرفوا بالأخطل والفرزدق ، وجرير ، وسيف الدولة وكافور عرفا بالمتنبي والمتوكل عرف بالبحتري ـ راجع مقدمة ديوان النابغة الذبياني : 13 . (7) ديوان البحتري : 1/20 . |
|
يا مَـن رأى البِركة الحسناء رؤيتها | الغـانياتِ إذا لاحَـت مغـانيهـا(1) | |
بَحَسْبِهـا أنّها فـي فضلٍ رُتبتهـا(2) | تُعَـدّوا واحـدةً والبحـر ثانيهـا(3) | |
كأن جِـنّ سليمـان الـذين وَلـوا(4) | إبـداعها فأدقـّوا فـي معانيهـا | |
فلـو تمـر بها بَلْقيسُ من عَرَضٍ(5) | قالت : هي الصَّرْحُ تمثيلاً وتشبيهاً(6) | |
تَنصَـبُّ فيها وفـودُ الماءِ مُعجَلَةً | كالخيـل خارجةً من حبل مُجريها | |
كأنمـا الفِضّـة البيضاء سائلـةً | مـن السبائك تجري في مجاريها | |
إذا عَلَتْهـا الصبا أبدَتْ لها حُبُكاً(7) | مثل الجـواشنِ مصقولاً حواشيها(8) | |
فحاجِبُ الشمسِ أحياناً يُضاحِكُها(9) | ورَيّـقُ الغيـث أحياناً يُباكيهـا(10) | |
إذا النجوم تـراءت في جوانبها | ليلاً حَسِبـْتَ سماءً رُكِّبـَتْ فيها | |
لا يبلُغُ السُمْكُ المحصورُ غايتَها | لبُعـد مـا بين قاصيها ودانيهـا |
(1) في نسخة : « الآنسات » بدل « الغانيات » . (2) حسبها : يكفيها . (3) واحدة : الأولى . (4) سليمان : هو نبي الله سليمان بن داوود (884 ـ 831 ق . هـ) تولى الأمر بعد أبيه داوود بوصية منه عام 871 ق . هـ وله من العمر 13 سنة وملك أربعون سنة ، ينسب إليه بناء قلعة بعلبك ، وهو الذي أحضر الملكة بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس . (5) بلقيس : هي ملكة سبأ في اليمن وهي ابنة الهدهاد بن شرحبيل وليتْ بعد أبيها ، ورد ذكرها في القرآن . (6) وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى : «قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها قال : إنه صرحٌ ممرد من قوارير» [النمل : 44] . (7) الصبا : الريح الواردة من جهة الشرق ، والحبك : الغيم . (8) الجواشن : الدروع ، أراد أن الريح إذا هبت على سطح هذه البركة تموج وسطها وظلت أطرافها ملساء ، كناية عن سعتها . (9) عندما تنعكس أشعة الشمس على ماء البركة يَبرق فكأن البركة والشمس يتضاحكان . (10) عندما يسقط رذاذ المطر على سطح البركة فتبدو كأنها والبركة يتباكيان . |
|
وجـوه شقائقٍ تبـدو وتخفى | على قُضُـبٍ تميدُ بهنّ ضعفا(2) | |
تـراها كالعـذارى مسبلاتٍ | عليها مـن جميم النبت سجفا(3) | |
تنازعتِ الخدود الحمر حُسناً | فما إن أخطأت منهـنّ حرفا(4) | |
إذا طلعتْ أرتكَ السُرجَ تُذكى | وأن غَرَبتْ أرتك السرج تطفا | |
تُخال إذا هـي اعتدلت قياماً | زجـاجاتٍ مُلئن الخمر صِرفا | |
إذا مـا جمَّشتها الريح أومَتْ | لتقبيـل الخـدود حياً وظرفا | |
يُجَنُّ بهنّ زهر الرَوض عُجباً | إذا ما زهرهُـنَّ بهـنَّ حفـّا(5) | |
فما تألـو أقاحيهـنّ ضِحْكاً | وليس يَغـضّ نرجسهنّ طَرفا | |
ومـا ينفكُّ سوسنُهنَّ يُصغي | بآذانٍ جَفَـت قُـرطاً وَشِنفـا | |
أَبيتُ فما أكفُّ عن التصابي | بهـنَّ وكيف يَحسنُ أن أكفـّا |
(1) ديوان الصنوبري : 385 . (2) تميد : في بعض الروايات تميس . (3) جميم في بعض النسخ عميم ، وفي آخر جميم الشعر بدل جميم النبت . (4) حرفا : في بعض المصادر وصفا بدل حرفا . (5) جاء الصدر في بعض الروايات : « يزيد بهن روض الحزن حسنا » . (6) ديوان كشاجم : 268 . |
|
يـا قاتـَلَ الله كُـتـّابَ الـدواويـنِ | مـا يستحلّـون مِن سَرقِ السكاكين | |
لقـد دهـاني لطيفٌ منهـم خَتـِلٌ(1) | فـي ذاتِ حـدّ كحدّ السيفِ مسنونِ | |
فابتزّنيهـا ولـم يشعـر بـه عبثـاً(2) | ولسـتُ لـو سائني ظـنُّ بمغبـونِ | |
واقفـرتْ بعـد عمرانٍ بمـوقعهـا | منهـا دواةُ فتـىً بالكُتْـبِ مفتـون | |
تبكي علـى مُـديةٍ أودى الزمان بها(3) | كانـت على جائـر الأقلام تعديني | |
كـانـت تُقـَوّمُ أقـلامي وتنحتُهـا | نحتـاً وتسخطهـا قطّـاً فتُرضيني(4) | |
فأُضحِكُ الطَرْسَ والقرطاس عن حُلَلٍ(5) | تنـوبُ للعيـن عـن نـَوْرِ البساتين | |
إذا بَشـرتُ بهـا سوداءَ من صُحفي | عـادتْ كبعض خـدود الخُرّدِ العين(6) | |
جـزعُ النّصابِ لطيفـاتٌ شعائـرها(7) | مُحسّنـاتٌ بـأصنـافِ التّحـاسين | |
هيفـاء مـرهفةٌ بيضـاء مـُذهبـةٌ | قـال الإلـه لهـا سبحـانه كـوني | |
محفوظة الوسط تحكي في تخصُّرِها | خُصـر البديع بديع في الحضانيـن | |
كأنّهـا حيـن يشجينـي تـذكُرُهـا | في القلب منّي وفي الأحشاء تفريني(8) | |
لكن مِقَطّـيَ أمسـى شامتاً جـَذِلاً(9) | وكان في ذلّـةٍ منها وفـي هـونِ(10) | |
فصيـنَ حتى يُضاهي في صيانته | جـاهي لِصـوْنيهِ عمّا لا يُـدانيني | |
ولـو يريد فـداءً مـا جعلتُ بـه | منها فـديناه بالـدنيـا وبـالـدينِ | |
فلستُ عنها بسالٍ ما حَييـتُ ولا(11) | بواجـدٍ عـِوَضـاً منهـا بسكّيـن |
(1) الختل : المخادع . (2) ابتز : سلب أو سرق . (3) المدية : السكين . (4) قط القلم : بَراه . (5) الطرس : الصحيفة . (6) الخرد : جمع الخريدة وهي الفتاة العذراء ، والعين : الواسعة العينين . (7) النصاب : مقبض سكين . (8) الفري : القطع والتمزيق . (9) المقط : خشبة يضع الكاتب اقلامه عليها . (10) الهول : الذل . (11) السالي : الناسي . |
|
صَحِـبَ النـاس قبلنـا ذا الـزّمانـا | وعناهـم من شأنه ما عنانا | |
وتَـوَلّـوْا بـِغُـصـّة كلّـهـم مِنْـ | ـهُ وإنْ سَرّ بعضهم أحيانا | |
رُبّـما تـُحسـنُ الصـّنيـع لَيـاليـ | ـهِ ولكنْ تُكَـدّرُ الإحسانـا | |
وكَأنّا لـم يـَرْضَ فينا بـرَيـْبِ الـ | ـدّهرِ حتى أعانه مَن أعانا | |
كـُلـّما أنـبـتَ الـزمـانُ قـنـاةً | رَكّبَ المرءُ في القناة سِنانا | |
ومُـراد النّفـوس أصغـرُ مـن أنْ | تتعـادى فيـه وأن تتفانـى | |
غيـرَ أنّ الفتـى يـلاقـي المنايـا | كالحاتٍ ولا يُلاقي الهوانا(2) | |
ولـو أنّ الحـيـاة تبـقـى لِحـَيٍّ | لعَـدَدنا أضلّنـا الشجعانـا | |
وإذا لـم يـكن مـن المـوتِ بُـدٌّ | فمِـن العجزِ أن تكون جبانا | |
كلُّ ما لم يكن من الصعبِ في الأنـ | ـفُسِ سهلٌ فيها إذا هو كانا |
(1) ديوان المتنبي : 2/246 . (2) الكالح : العابس . (3) ديوان ابن فارض : 31 . |
السابق | الفهرس | التالي |