دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
123
«أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون» (1) ، «أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون»(2) .
وحتى لا ينسب القرآن إلى الشعر وما إلى ذلك منع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الشعر ودافع عنه بقوله : «وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين»(3) ، «وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون»(4) .
ولقد كان الشعراء في مكانة لدى الناس بحيث يسمح لهم أن يتنبؤوا بالغيب(5) ولعل المشركين إنما وصفوا الرسول الأعظم بالشاعر وكلامه بالشعر لأن القرآن كان بالإضافة إلى وقعه في نفوس الناس وإلى إيقاعاته الأخّاذة يحمل في طيّاته أخبار الماضي والمستقبل .
ولأهمية دور الشعراء آنذاك أنزل الله سبحانه وتعالى سورة قرآنية باسمهم وفي طياته يستنكر دور الشعراء كمنبئين أو مخرصين على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قبال القرآن حيث نقول مثل ما قال محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال الله عز وجل : «والشعراء يتبعهم الغاوون»(6) .
وكان الشعراء إذا أنشؤوا شعراً انتشر بين الناس وتناقلته القبائل وفي ذلك يقول المسيب بن علس من الكامل :
(1) سورة الصافات ، الآية : 36 .
(2) سورة الطور ، الآية : 30 .
(3) سورة يونس ، الآية : 69 .
(4) سورة الحاقة ، الآية : 41 .
(5) مجلة الفكر الجديد اللندنية : 1/266 عن أصول الشعر العربي تأليف : د . س . مرجليوت : 52 .
(6) سورة الشعراء ، الآية : 224 .
جاء في مجمع البيان : 7/325 إنها نزلت في الشعراء التالية اسماءهم : عبد الله بن الزبعري السهمي ، أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ، هبيرة بن أبي وهب المخزومي ، مسافع بن عبد مناف الجمحي ، أبو عزة عمرو بن عبد الله ، أمية بن أبي الصلت الثقفي .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
124
فلأهدين مع الرماح قصيدة
مني مغلغلة إلى القعقاع(1)
مما يدلنا على مدى الدور الذي يلعبه الشعر في الجاهلية رغم انتشار الأوبئة الروحية والفكرية حيث كانوا يعبدون الأصنام ويئدون البنات وفي غمرة هذا الجهل المخيم والبعيد عن الحضارة والمدنية في الجزيرة العربية تلوح بوارق الحضارة والمدنية في أطرافها حيث نجد في جلق(2) الشام التي كان فيها إمارة الغساسنة وحيرة(3) العراق التي كان فيها إمارة المناذرة الشعراء النوابغ أمثال النابغة الذبياني وطرفة والمتلمس وأعشى قيس وغيرهم قد التفوا حول ملوك المناذرة والغساسنة ينشدون الشعر فيهم وينقلون بطرائفهم وقصصهم(4) .
وكان الشعر الجاهلي يصب في غالبه على الفخر والمدح والهجاء والفروسية والشجاعة والغزل إلى غيرها من المعاني المتسمة بهذه الصفات .
هذا مجمل ما أردنا إيراده هنا ممن اشتهروا بأشعارهم وعرفوا في مجتمعهم ولا يخفى أن البحث عن أخبار شعراء الجاهلية وأدبهم يطول بنا المقام وما أثبتناه من الأسماء لا يعني الحصر فقد قال عبد الله بن مسلم ابن قتيبة : « والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف » .
وأضاف أيضاً : إنه « جاء فتيان إلى أبي ضمضم فأنشدهم لمائة شاعر كلهم اسمه عمرو ، فهذا ما حفظه أبو ضمضم ولم يكن بأروى الناس وما أقرب أن يكون من لا يعرفه أبو ضمضم من المسمين بهذا الاسم أكثر ممن عرفه » هذا إلى من سقط شعره من شعر القبائل ولم يحمله إلينا العلماء والنقلة .
وقال أيضاً : « وكان ثلاثة أخوة من بني سعد لم يأتوا الأمصار فذهب
(1) مجلة الفكر الجديد اللندنية : 1/267 عن طبقات الشعراء لمحمد بن سلام : 59 .
(2) الجلق : بكسرتين وتشديد اللام وهي أعجمية ، وهي قرية على مقربة من دمشق ولعلها ضمت إلى دمشق بعد التوسعة .
(3) الحيرة : كانت قاعدة الملوك اللخميين ، تقع بين مدينة النجف والكوفة شرقاً .
(4) مجلة الفكر الجديد اللندنية : 1/273 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
125
رجزهم يقال لهم منذر ونذير ومنتذر أو مبتذر »(1) .
وأما العصر الإسلامي فيبدأ من بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عام 13 ق . هـ وينتهي حسب تقسيماتنا بمقتل الإمام الحسين عليه السلام في بداية عام 61 هـ(2) ، وقد خفّ الشعر في بداية العصر الإسلامي بشكل عام لأسباب غير خافية على أهل الفن والتي من أهمها أن الشعوب العربية بالذات كانت منصرفة إلى نبأ بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتتبع أخباره من جهة ومشغوفة بسماع تلاوة القرآن الكريم ذي الإيقاع والنغمة الجديدة الممتعة للقلوب والأسماع مضافاً إلى محاولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إبعاد دور الشعراء الذين كانوا سيطروا على الشعوب البسيطة وعودوهم على التخرص والافتراء والهجاء والمدح المتطرف من جهة والوقوف أمام المشركين وحلفائهم في تهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن بالشعر من جهة أخرى إلى غيرها من الأسباب التي منها انشغال المسلمين بالهجرة والدعوة إلى الإسلام وتعليم مبادئه(3) .
وربما أراد البعض أن يعزو السبب إلى انشغال المسلمين بالحروب الطاحنة فيما بينهم وبين المشركين واليهود إلا أن هذا غير وارد صغرى وكبرى حيث لم تكن هناك حروب طاحنة(4) أولاً ، ولم تكن بأكثر من ذي
(1) الشعر والشعراء لابن قتيبة : المقدمة .
(2) ويسمى الأدب في صدر الإسلام الأول أي في عصر الرسول وعصر الخلفاء الراشدين بالأدب المخضرم لأن أهله عاشوا في عصرين الجاهلية والإسلام ويسمى شعراء هذا العصر بالمخضرمين لأنهم نظموا في العصرين .
(3) ويذكر ابن سلام في طبقاته : 10 « كان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم وانتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون وقال ابن عوف عن ابن سيرين قال قال عمر بن الخطاب : كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزوا فارس والروم ونهيتْ عن الشعر وروايته ، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يئلوا إلى ديوان مدوّن ولا كتاب مكتوب فألّفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقلّ ذلك وذهب عنهم منه أكثره وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه » .
(4) إن مجموع الحروب التي قامت بين المسلمين وغيرهم في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان
=
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
126
قبل ثانياً ، مضافاً إلى أن الحروب كانت تخلق أرضية خصبة للشعراء وفيها كانت تنشد القصائد والمقطوعات الحماسية لتحريض المقاتلين من جهة ووصف تطورات الحرب وأخبارها وشجاعة الأبطال والمجاهدين من جهة أخرى ، ولذلك فإن المسلمين ما أن رسخت فيهم المبادئ السماوية والقوانين الإسلامية حتى بدأوا بالرجوع إلى الشعر إنشاءً وإنشاداً وقد وسّع الإسلام لهم دائرة البلاغة وفتح لهم آفاقاً جديدة فاستخدموها في أشعارهم وجعلوا من القرآن أهم مصدر يأخذون منه هذا النمط الجديد من الفكر والبلاغة فأصبح لديهم لون جديد من الشعر ذو نكهة حضارية متطورة ومعانٍ سامية متألقة زادته جمالية وحسناً(1) .
هذا وقد أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شعراء المسلمين بإنشاد الشعر حينما هجا المشركون الإسلام والرسول صلى الله عليه وآله وسلم فعندها أنشأ أمثال حسان بن ثابت وكعب ابن مالك وعبيد الله بن رواحة(2) من هذا النمط الجديد المطعم بالروح الإسلامية .
وقد نبغ في هذا العهد ـ العهد الإسلامي الأول ـ عدد كبير من الشعراء أبرزهم كعب بن زهير المتوفى في حدود عام 23 هـ المادح للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قصيدته التي يقول في أولها من البسيط :
بانت سعاد فقلبي اليوم مبتولُ
متيّم أثرها لم يُفدَ مكبول(3)
= عددها 27 غزوة و48 سرية على أكثر الأقوال ومجموع ما قتل من المسلمين ومن غير المسلمين (1008) شخص راجع فصل سياسة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الموسوعة وراجع أيضاً السبيل إلى إنهاض المسلمين : 355 ، وكتاب حروب الرسول لمحمود شيت خطاب .
(1) يرى الدكتور عمر فروخ في كتابه تاريخ الأدب العربي : 1/246 ، إن الشعر في العهدين الجاهلي والإسلامي لا يختلف في الأسلوب ولكنه يختلف في الأغراض اختلافاً كبيراً حيث هجر العشراء المسلمون الأغراض الوثنية ، والكلام في العصبيات والفخر بالخمر والثأر ثم احلوا مكانها المعاني الإسلامية مثل التوحيد والتقوى والجهاد والجنة أما فيما يتعلق بالأسلوب خاصة فقد كان للقرآن الكريم أثر ظاهر في الألفاظ والتراكيب .
(2) الأغاني : 4/4 .
(3) مجلة الفكر الجديد اللندنية : 1/276 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
127
وأبو ذؤيب الهذلي المتوفى نحو عام 27 هـ القائل في مطلع قصيدته من الكامل :
أمِنَ المنون وريبهِ تتوجّعُ
والدهر ليس بمُعتِبٍ مَن يجزعُ(1)
وحسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المتوفى عام 54 هـ والقائل في مطلع رائعته الإسلامية من الوافر :
عفت ذات الأصابع فالجواءُ
إلى عَذراء منزلها خلاءُ(2)
والنابغة الجعدي المتوفى عام 65 هـ القائل ـ من الطويل ـ :
بلغنا السماء مجدنا وجدونا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا(3)
والملاحظ أن الإسلاميين استعملوا مفردات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة في إنشائهم مما ألبسوه وشاحاً عقائدياً وأعطوه طابعاً علمياً(4)
(1) معجم الأدباء : 6/87 .
(2) مجلة الفكر الجديد اللندنية : 1/275 .
(3) الكنى والألقاب : 3/228 تاريخ الأدب العربي لعمر فروخ : 1/343 . وفيه أنه أنشده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم : إلى أين يابن أبي ليلى ؟ قال : إلى الجنة يا رسول الله ، قال : احسنت لا يفضض الله فاك .
وكان النابغة مع علي عليه السلام في صفين .
(4) جاء في تاريخ الأدب العربي لفروخ : 1/57 ، « إن نفراً من المستشرقين رغم أن الإسلام انتشر بين العرب انتشاراً جغرافياً سياسياً منذ انتصار الإسلام الحربي في شبه الجزيرة العربية ولكن الإسلام الثقافي لم يجد طريقه إلى قلوب المسلمين إلا في العصر العباسي ـ راجع كتاب :
Das bild des Fruhislam in der arabischen Dichtung von der Higra bis zun tode Umars : 1/23 .
وقد كانت حجتهم أن الشعر العربي الأول كان خالياً من الصور الإسلامية المختلفة ، وبالرجوع إلى العربي يتبين أن حجة المستشرقين لم تكن تستند إلى أساس ، فإن الألفاظ الإسلامية والمدارك الإسلامية وجدت طريقها إلى الشعر العربي منذ الهجرة الأولى على الأقل ، وهذا لا يعني ان المسلمين الذين اسلموا قبل الهجرة ثم اتفق لهم أن قالوا شعراً لم يظهر أثر الإسلام في شعرهم ، ولكن المسلمين قبل الهجرة كانوا قلة ولم يكن ثَمة مناسبات تقتضي قول الشعر كالتي كانت بعد الهجرة ، أن ديوان حسان بن ثابت مملوء بالألفاظ والأغراض الإسلامية فمنذ السنة الأولى
=
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
128
فدخلت فيه الفلسفة والعلوم الأخرى وقلّما يوجد اليوم شعر عربي لم يتأثر بالقرآن الكريم والحديث الشريف وإن كان من نظم غير المسلمين ، ومن ذلك قول أحد شعراء النصارى جورج صيدح(1) في مأساة فلسطين وجهاد الفلسطينيين ضد اليهود من الخفيف :
ربّ ذكرى تطلُّ من كأسِ خمرٍ
كعيون الصفاة سكرى نديّهْ
مـا عرفنا فيها فلسطين لو لمْ
يشهـد الطعـم أنّها دمويّهْ
تلك ذكرى الجهـادِ بل قطراتٌ
من دماء المستشهدين طريّهْ(2)
ومن ذلك أيضاً قول أحد شعراء اليهود مير بصري(3) في الموشياح
= للهجرة نجد أن الشعراء قد أخذوا يستعملون في أشعارهم أسماء الله الحسني بدلاً من تلك التي كانت معروفة في الجاهلية ، نحو الله ، اللهم ، رب ، الرحمان استعمالاً إسلامياً ومنذ العام الثاني للهجرة أخذ العشراء يوردون في أشعارهم أسماء الله التي لم تعرف قبل نزول القرآن نحو : رؤوف ، ذي العرش ، الواهب الرزاق العزيز الغفور الوهاب ، ومن ذلك قول عبد الله بن رواحة من البسيط :
أنت النبي ومن يُحرم شفاعته
يوم الحساب فقد أزْرى به القدر
وقال عبد الله بن جحش الأسدي مشيراً إلى الهجرة من الطويل :
واخراجكم من مسجد الله أصلَه
لئلا يرى الله في البيت ساجد
ويقول حسان بن ثابت من الوافر :
وبايعت الرسول وكان خيراً
إلى خير وادّاك الثراء
هذا وقد انشأ أبو طالب بن عبد المطلب قبل الهجرة أبياتاً كثيرة في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منها ـ من الطويل ـ :
لقد أكرم الله النبي محمداً
فاكرم خلق الله في الناس أحمد
وشق له من اسمه بجلالة
فذو العرش محمود وهذا محمد
(1) جورج صيدح : ولد في دمشق عام 1311 هـ وتخرج من كلية عينطورا في لبنان ، وسافر إلى مصر للتجارة وسكن فنزويلا ، مارس الأدب الفرنسي ، ثم سكن الأرجنتين وانشأ بها راطبة أدبية ، ثم إنتقل إلى بيروت وباريس ، وله عدد من الدواوين منها : النوافل ، نبضات ، حكاية مغترب بالإضافة إلى دواوينه الفرنسية توفي عام 1398 هـ .
(2) تاريخ الشعر العربي الحديث : 335 .
(3) مير بصري : هو مير بن شاؤل عوبديا ، ولد عام 1330 هـ في بغداد وتخرج من مدارسها ، وعمل في الوظائف العامة والخاصة وكان منها العمل بوزارة الخارجية ،
=
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
129
(المسيح) المنتظر من الكامل :
يـا ليتنـي أحيا لأشهـد عالماً
رفّت عليه المكرماتُ وَشَعَّتِ
لَم يخش ظلماً والعـدالة دأبـه
والحق يعلو فوق هامِّ السلطة
لا الحربُ تغني أرضه ورجاله
والجهـلُ لا يبلو البلاد بفتنةٍ(1)
وقال في مقطوعة أخرى بعنوان يوم الحشر الكاذب من الرمل :
اقتلـوا أنفسكم يـا مؤمنون
حلّ يوم الحشر حان الموعدُ
كي تفوزوا بنجاة في المنون
في جنان الخلد دوماً تسعدوا(2)
من ذلك قول احد شعراء الصابئة عبد الرزاق من المتقارب يقول :
ليوم القيامة يبقى السؤال
هل الموت في شكله المبهمُ
هو القدر المبرم اللا يرد
ام خـادم الـقدر المبـرم (3)
هذا ومن الأخطاء الشائعة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يقف أمام حركة الشعر إنشاءً وإنشاداً ، نعم إنه صلى الله عليه وآله وسلم سعى إلى تطهير الشعر من دنس الجاهلية التي استخدمته لأغراض غير نبيلة فتعالى الشعر إلى أوج المعرفة وسماء العلم عبر تعليمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فبدأ المسلمون بإنشائه في أغراض شريفة ، ولو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقف أمام إنشاء الشعر لما أمر شعراء المسلمين بالرد على شعراء المشركين ـ كما سيأتي الحديث عنه ـ ولما قال للنابغة الجعدي عندما أنشده بيتاً من الشعر يرجو فيها النيل من المكرمات : « أحسنت لا يفضض الله فاك »(4) ، نعم إن الإسلام هذّب الشعر بتهذيب النفوس أولاً ، ثم يتهذيب الصورة التي ينظم عليها الشاعر .
إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن شعر التشبيب والهجاء وما إلى ذلك مما
= ثم انصرف إلى الأعمال الحرة ثم انتقل إلى لندن ، له عدد من المؤلفات منها : مباحث في الاقتصاد العراقي ، رجال وظلال ، رسالة الأديب العربي .
(1) ملحق نزهة المشتاق : 351 .
(2) مجلة الموسم العددان : 23 ـ 24/360 .
(3) راجع ديوان القرن الخامس عشر من هذه الموسوعة قافية الميم .
(4) الكنى والألقاب : 3/288 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
130
يسبب هتك أعراض المسلمين ويبث روح البغضاء والكراهية فيما بينهم مضافاً إلى إنشاد الشعر في أوقات العبادة ومحالها مما يسبب تعطيل بعض الشعائر الإسلامية ومن ذلك كراهية الشعر في يوم الجمعة باعتباره يوم يجتمع فيه المسلمون لإقامة الشعائر ويستمتعوا بالتعاليم الإسلامية عبر خطب الجمعة .
ولو كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قصد النهي عن مادة الشعر لما كان يسمح لكعب بن زهير أن ينشد رائعته اللامية رغم ما فيها من الغزل بسعاد(1) ، ولا يخفى أن في طياتها حكماً ومواعظ حيث يقول من البسيط :
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمولُ
ويسرد رائعته هذه حتى يصل إلى مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيستميحه عذراً ويطالبه بالعفو عنه قائلاً :
أنبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
إلى أن يقول :
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
وما أن أنهى كعب قصيدته هذه إلا وعفا عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأكرمه بأن خلع عليه بردته إعجاباً بما أنشده وتكريماً له(2) .
هذا وكان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام شاعراً مجيداً نظم الشعر منذ العقد الأول من الهجرة النبوية ومن ذلك قصيدته المعروفة في رثاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي يقول في أولها من الطويل :
ألا طرق الناعي بليل فراعني
وأرقني لما استهل مناديا(3)
(1) ويقول فيها أيضاً :
ومـا سعاد غـداة البين إذ برزت
إلا أغن غضيض الطرف مكحولُ
هيفاء مقبلـة عجـزاء مـدبـرة
لا يشتكي قصـر منها ولا طولُ
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنّه منهـلٌ بالـراح مصلـولُ
(2) مجلة الفكر الجديد اللندنية : 1/277 ، عن جمهرة أشعار العرب : 282 .
(3) ديوان الإمام أمير المؤمنين جمع العاملي 143 ، تاريخ الأدب العربي لفروخ :
=
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
131
وهناك أفواج من الشعراء(1) مارسوا الشعر في العهد الأول الإسلامي وعرفوا به واستخدموا المفاهيم الإسلامية الجديدة .
وإذا ما عرّجنا على عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فنرى أن الشعراء كان لهم دور بالغ الأهمية في الحروب الثلاث المفروضة التي دارت بينه وبين القاسطين والناكثين والمارقين فهذه حرب صفين الذي وقف الجيش العلوي أمام المعسكر الأموي ، وكان الشعر يتطاير بينهما كتطاير السهام ، ومن ذلك ما أمر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ابن عباس بأن يرد على كتاب عمرو بن العاص(2) نثراً ويرد أخوه الفضل بن العباس عليه شعراً ، فكتب عبد الله الكتاب وأنشأ الفضل قصيدته التي يقول في أولها ـ من البسيط ـ :
= 1/309 . هذا وقد ذكر أبو زيد القرشي في جمهرة أشعار العرب : 19 ، كما جاء في العمدة أيضاً : 1/1 « ولم يبق أحد من أصحاب رسول الله إلا وقد قال الشعر » .
(1) فالمعروفون من شعراء صدر الإسلام هم كالتالي : 1 ـ عبد الله بن رواحة 8 هـ ، 2 ـ أبو خراش الهذلي « بعد » 13 هـ ، 3 ـ الحصين بن الحمام المرّي 14 هـ ، 4 ـ عبد الله بن الزبعري 15 هـ ، 5 ـ العباس بن مرداس 18 هـ ، 6 ـ الأغلب العجلي الراجز 21 هـ ، 7 ـ عمرو بن معدي كرب 21 هـ ، 8 ـ زيد الخيل 23 هـ ، 9 ـ حميد ابن ثور الهلالي « بعد » 23 هـ ، 10 ـ المخبل السعدي « بعد » 23 هـ ، 11 ـ أبو ذؤيب الهذلي نحو 27 هـ ، 12 ـ أبو محجن الثقفي 28 هـ ، 13 ـ أبو زبيد الطائي « بعد » 30 هـ ، 13 ـ عروة بن حزام 30 هـ ، 14 ـ متمم بن نويرة 30 هـ ، 15 ـ الشماخ بن ضرار « بعد » 30 هـ ، 16 ـ سحيم بن عبد الحسحاس « بعد » 23 هـ ، 17 ـ الخنساء 24 هـ ، 18 ـ قيس بن عمرو النجاشي 50 هـ ، 19 ـ أبو الطحان القيني « نحو » ، 50 ، 20 ـ ربيعة بن مقروم « نحو » 50 ، 21 ـ كعب بن مالك الأنصاري « بعد » 50 هـ ، 22 ـ حسان بن ثابت 54 هـ ، 23 ـ الحطيئة 45 هـ ، 24 ـ سويد بن أبي كامل 59 هـ ، 25 ـ النابغة الجعدي 65 هـ ، 26 ـ أبو الأسود الدؤلي 69 هـ .
ولا يخفى أن كعب بن زهير و عبد الله بن رواحة والخنساء وأبو ذويب الهذلي ومالك بن الريب التميمي وحسان بن ثابت والحطيئة شعراء مخضرمون فقد انشأوا في العصرين الجاهلي والإسلامي وكلهم اسلموا باستثناء الأعشى حيث انشأ قصيدة في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه لم ينشدها وظل مشركاً .
(2) جاء في أسفل كتاب ابن عاص قصيدة يقول في أولها ـ من البسيط ـ :
طال البلاء وما يُرجى له آس
بعد الإله سوى رفق ابن عباس
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
132
يا عمرو حسبُك من خَدعٍ ووسواسِ
فاذهب فليس لداء الجهل من آسي
فعرض الشعر والكتاب على علي عليه السلام فقال لابن عباس : « أراه ـ ابن العاص ـ يجيبك بشيءٍ بعدها إن كان يعقل ولعله يعود فتعود عليه » ولما ورد الكتاب على ابن عاص أتى به معاوية وقال له : « أنت دعوتني إلى هذا » فكتب معاوية بنفسه إلى ابن عباس ، فلما انتهى الكتاب إلى ابن عباس أسخطه فكتب إليه كتاباً قاسياً ، فلما انتهى الكتاب إلى معاوية قال هذا عملي بنفسي « والله لا أكتب إليه كتاباً سنة كاملة وأنشأ فيه شعراً »(1) فلما انتهى إلى ابن عباس رده أخوه الفضل بن عباس بقصيدة ، قال في مطلعها من الطويل :
ألا يا بن هند إنني غير غافلٍ
وأنك ما تسعى له غير نائل
فعرض شعره على علي عليه السلام فقال : أنت أشعر قريش(2) .
ومما ينسب للزهراء عليها السلام قولها في رثاء أبيها الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم من مقطوعة شعرية جاءت أولها من الكامل :
قل للمغيب تحت أطباق الثرى
إن كنت تسمعُ صرختي وندائيا(3)
وينسب إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في رثائه صلى الله عليه وآله وسلم مقطوعات شعرية منها ـ من الكامل ـ :
نفسي على زفراتها محبوسة
يا ليتها خرجت مع الزفرات(4)
وينسب إلى الإمام الحسن عليه السلام قوله ـ من الكامل ـ :
قل للمقيم بغير دار إقامة
حان الرحيل فودّع الأحبابا(5)
(1) جاء مطلعه ـ من الطويل ـ :
دعوتُ ابن عباس إلى حدّ خطة
وكان امرءٌ أهدى إليه رسائلي
(2) وقعة صفين : 412 ـ 417 .
(3) عبير الرسالة : 21 عن مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب : 1/242 .
(4) ديوان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام جمع السيد محسن الأمين العاملي : 49 .
(5) عبير الرسالة : 34 عن مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
133
وينسب إلى الإمام الحسين عليه السلام في رثائه لأخيه الإمام الحسن عليه السلام قصيدة مطلعها ـ من الطويل ـ :
أأدهنُ رأسي أم تطيب مجالسي
ورأسك معفور وأنت سليب(1)
وقد واصل الشعر في هذه الفترة عطاءه وبرز بوشاحه الجديد الفضفاض الذي حمل في طيّاته الوعظ والإرشاد إلى جانب المدح والرثاء ، وطرق سائر الأبواب وتزين بكل الألوان ، سوى الهجاء والتشبيب إلى أن أخذ معاوية بزمام الحكم ، فأعاد إلى الشعر منهجه الجاهلي وقرب الشعراء من بلاطه لتلك الأغراض الدنيئة وحرض ابنه يزيد في عهد كعب بن جعيل(2) على هجو الأنصار إلا أنه رفض ذلك وقال : أرادّي أنت إلى الكفر بعد الإسلام ؟ فالتجأ إلى الأخطل وقربه من بلاط أبيه وطلب منه أن يهجو الأنصار ففعل وقال في قصيدته التي مطلعها ـ من الكامل ـ :
ذهبتْ قريشُ بالسماحة والندى
واللّؤم تحت عمائم الأنصارِ
فدعو المكارم ، لستم من أهلها
وخذوا مساحيكم بني النجار(3)
إلى غيرها من الأغراض الدنيئة التي استخدم الشعر لأجلها ، فهذا معاوية بن أبي سفيان يوعز إلى مسكين الدارمي(4) ليستخدم الشعر في العمل السياسي لاستخلاف ابنه يزيد مستفيداً منه عملاً إعلامياً في قبال بعض الدراهم والدنانير فينشأ قائلاً ـ من الطويل ـ :
إذا المنبر الغربي خلاه ربُّه
فإنّ أمير المؤمنين يزيدُ(5)
(1) عبير الرسالة : 47 عن بحار الأنوار : 75/124 .
(2) كعب بن جعيل : هو حفيد قمير بن بحرة التغلبي ، المتوفى نحو عام 55 هـ ، شاعر مخضرم ، شهد مع معاوية معركة صفين ، اختص بمعاوية .
(3) الاخطل في سيرته ونفسيته وشعره لإيليا حاوي : 30 .
(4) مسكين الدارمي : هو ربيعة بن عمر بن أنيف بن شريح التميمي توفي عام 89 هـ ، من شعراء العراق ، ومن أشراف بني تميم ، اشتهر بالمسكين لقوله في إحدى قصائده « أنا مسكين » من شعراء الأمويين ، له ديوان شعر .
(5) مجلة الفكر الجديد اللندنية : 1/280 عن الشعر والعشراء : 1/544 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
134
فرد عليه عبد الله بن همام السلولي(1) مستهزءاً ـ من الوافر ـ :
فإن تأتوا برملة أو بهند
نبايعها أميرةً مؤمنينا(2)
ويقول ول ديورانت : « لقد كان عالم الإسلام على الدوام غنياً بالشعراء ، ذلك أن الصحارى الرهيبة والسماء المحيطة والنجوم المنتشرة إلى ما لا نهاية في الليالي الصافية كل أولئك حرّك الخيال كما حرك الإيمان الديني بالإحساس بما في الكون من أسرار ملغزة »(3) .
إذاً فالفترة الأولى من العهد الإسلامي كانت فترة انتقال الحركة الأدبية من واقعها المرير إلى واقع جديد موشح بالعلم والمعرفة ، والفترة الانتقالية هذه كانت ضرورة لإرجاع الشعر إلى مساره الصحيح ، وهذا بالطبع يتطلب التوقف عن الماض لانطلاقه جديدة .
(1) عبد الله بن همام السلولي : هو حفيد نبيشة بن رياح ، المتوفى عام 100 هـ تقريباً ، شاعر إسلامي عاش فترة حكم بني أمية ، وهو الذي بعث يزيد بن معاوية على البيعة لابنه معاوية ، وكان يقال له العطار لحسن شعره .
(2) مجلة الفكر الجديد اللندنية : 1/280 عن الأدب في موكب الحضارة : 176 .
(3) قصة الحضارة : 41/7 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1
135
مراحل الشعر الحسيني
وأما عصر ما بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام فهو يبدأ من حين استشهاده في العاشر من محرم عام 61 للهجرة ويستمر إلى عصرنا الحاضر ولعل دراسة هذه الفترة الزمنية تحتاج إلى وضع عدة مجلدات ولكن بما أننا لا نريد الخوض هنا(1) في دائرةٍ غير الدائرة الحسينية فالبحث لا ينصب على خارج تلك الدائرة إلا بمقدار المقارنة والدراسة العابرة فلذلك يختصر الطريق نوعاً ما من هذه الناحية ولكن هذه الفترة الزمنية التي تعاقبت معركة الطف الحزينة لهي فترة غير قصيرة خضعت لكثيرٍ من التطورات والتغييرات فلذلك لا يمكن تأطيرها بإطار واحد رغم أنها في فلك الإمام الحسين عليه السلام فلذلك لا بد من الإيجاز أولاً وتقسيمها إلى عدة مراحل ، ولعلنا لو وزعناها إلى ثلاثة أدوار كنا واقعيين في ذلك .
1 ـ المرحة الأولى : عهد الأئمة عليهم السلام ويبدأ بمقتل الإمام الحسين عليه السلام يوم العاشر من محرم عام 61 هـ وينتهي بغيبة الإمام المهدي عليه السلام عام 326 هـ أي أوائل القرن الرابع .
2 ـ المرحلة الثانية : عهد ما بعد الغيبة ويبدأ من أوائل القرن الرابع وحتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري .
3 ـ المرحلة الثالثة : بداية العصر الحديث وقد بدأ منذ بداية القرن الرابع عشر وحتى يومنا هذا .
(1) إذ لعلنا نبحث هذا الأمر في خاتمة المطاف لدى دراسة وتقييم الشعر الحسيني مع نفسه ومع غيره إن شاء الله تعالى .