دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 136

المرحلة الأولى(1)

يضم دورين

الدور الأول :

بدأ الشعر الحسيني بعدما تراجع الأدب بشكل عام عن نمطه الإسلامي منذ أن تسلم الأمويون زمام الحكم في أوائل العقد الخامس من الهجرة النبوية فقد أصبح الشعر في العصر الأموي أشبه بالشعر الجاهلي في أسلوبه وفي كثير من أغراضه ثم أصبح الجانب الأكبر منه وقفاً على السياسة الحزبية العصبية كما كان جانب كبير من الشعر الجاهلي متعلقاً بالحياة القبلية(2) .
وكان شعر النقائض في العصر الأموي استمراراً للهجاء القبلي في الجاهلية ، وكان يبعثها عادة خلاف بين قبيلتين أو أسرتين فينصر شاعر لقومه أو لأحلاف قومه فيرد عليه شاعر من هؤلاء فيعود الأول إلى الرد عليه ثم يلتحم الهجاء ويستطير ولقد أدّت هذه النزعة في الشعراء إلى قيام الأحزاب وتقرب هؤلاء الشعراء إلى الخلفاء والأمراء بهجاء خصومهم تكسباً للمال(3) .
وفي شعر النقائض يكمن الشعر السياسي الذي اتسعت رقعته واستخدمه الأمويون كوسيلة سياسية للنيل من الطرف الآخر ، هذا ومن جانب آخر انتشر شعر الغزل والنسيب منذ بداية العصر الأموي وازدهر وفي

(1) ويحدد بالتاريخ الميلادي من عام 680 م إلى عام 938 م .
(2) تاريخ الأدب العربي : 1/360 .
(3) تاريخ الأدب العربي : 1/363 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 137

ذلك يقول الأستاذ فروخ : عاد الغزل والنسيب في العصر الأموي إلى الازدهار بعد أن كانا قد أهملا قليلاً في صدر الإسلام الأول وقد انحدر الغزل الأموي من الغزل الجاهلي(1) . كما عادت الخمريات نسبياً إلى صفوف الشعراء المسلمين من جديد(2) ، وفي ظل هذه الأجواء الأدبية برز الشعر الحسيني حين اتجه الإمام الحسين عليه السلام نحو أرض الكرامة كربلاء لترسيخ دعائم حركته التصحيحية فكانت معركة الطف الأليمة الأرضية الخصبة للشعر الحسيني الذي يمكن اتصافه بشعر الحرب والثورة من جهة وبالشعر السياسي من جهة أخرى ، وقد بدأ الشعر الحسيني في معظمه بالرجز حيث أنه المطية الفضلى للسياسي المحارب منذ العهد الجاهلي لأسباب لا تخفى على أهل الفن ، والتي منها سهولة الإنشاء لمكان تفعيلته وانسجامه مع الطبع وسيولته فكان المحارب ينشؤه بديهة وارتجالاً ويقتصر على البيت والبيتين والمقطوعة والمقطوعتين ، وقد نحى شهداء الطف هذا المنحى فكان لكل منهم رجز أنشأه في ساحة الحرب والقتال استخدم فيه أغراضه .
وكان شعر الرجز في الجاهلية مقتصراً على الحرب إلا أنه بدأ يتطور لينشأ في المدح والفخر والهجاء ، ولقد اشتهر عدد من الشعراء بالرجز في تلك العصور منهم الأغلب العجلي(3) وأبو النجم(4) ، والعجاج(5) المتوفى سنة 97 هـ(1) .

(1) تاريخ الأدب العربي : 1/367 .
(2) ومنهم عبد الرحمن بن ارطأة المتوفى بعد عام 64 هـ المدمن للخمر والمستهتر به والقائل من البسيط :
اصبح نديمك من صهباء صافيةٍ حتى يـروح كريما ناعم البال
واشرب هديتَ أبا وهبٍ مجاهرةً واختل فإنك من قوم أولي خال
فكان يشرب الخمر مع الوليد بن عثمان بن عفان والوليد بن عتبة بن أبي سفيان ولما حدّه والي المدينة غضب معاوية ، ومن أحسن شعره خمرياته ، تاريخ الأدب العربي : 1/412 .
(3) الأغلب العجلي : سنأتي على ترجمته .
(4) أبو النجم : سنأتي على ترجمته .
(5) العجاج : سنأتي على ترجمته .
(6) راجع تاريخ الأدب العربي : 1/369 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 138

إذا فيمكن الركون إلى القول بأن الأديب الحسيني بدأ بالرجز السياسي واتسعت رقعته ليشمل كل البحور والأغراض .
وفي هذه المرحلة البدائية بالذات كان الشعراء على صنفين : شعراء الدولة وشعراء المعارضة(1) ، ومن الطبيعي أن يكون شعراء البلاط الأموي بكثرة إذ أنّ المال والسلطة كانا عاملين أساسيين في جلب الشعراء نحو البلاط ، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن السلطة الحاكمة استخدمت الشعر والشعراء لأغراضها السياسية من دعم أركان حكومتها المتهززة وضرب المعارضة وبذل الأموال الطائلة لذلك وحرمت الآخرين عن حقوقها المشروعة فلا جرم أن الأكثرية الساحقة تتجه نحو قصور الملوك والولاة ، ولكن مع هذا فإن عمر فروخ يحدثنا عن شعراء العلويين ـ الشريحة الأقوى معارضة ـ(2) قائلاً : إنهم كانوا كثيري العدد إلا أن بعضهم استتر ولم يظهر خوفاً من بطش الأمويين(3) وقد تقرب بعضهم الآخر إلى الأمويين لحفظ النفس من الجوع أو القتل .
ويتابع فروخ قوله عن الشعراء : بأنهم كانوا أفيض شاعرية وأرق عاطفة لتأثرهم بما أصاب آل البيت وشيعة الإمام علي من القتل والاضطهاد والنكبات .
بينما يصف شعراء الأمويين : بأنه كان شعر تكسب في الدرجة الأولى وكان لا يعبر عن عاطفة صحيحة في معظم الأحيان يدلك على ذلك

(1) وكان إلى جانب هاتين الكتلتين كتلة أخرى مستقلة إلا أن صوتها لم يكن مسموعاً لأنها كانت خارجة عن حلبة الصراع ، كما أن صوتها كان خارجاً عن دائرة التداول في المحافل السياسية وغيرها .
(2) لا شك أن الزبيريين والخوارج أيضاً كانوا من المعارضة للحكم الأموي القائم بالقوة إلا أن الفترة الزمنية التي تواجد الزبيريون بها كانت قليلة وشعراءهم على حد تعبير عمر فروخ : كانوا شعراء قليلي العدد متقلبي الهوى في الغالب .
وأما الخوارج فكان شعراءهم في الأغلب من أهل البادية بعيدين عن صروح السياسية ومراكزها .
(3) تاريخ الأدب العربي : 1/370 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 139

تلك المبالغات التي لم يدفع أولئك الشعراء إليها إلا الطمع في أن يزيد ما ينالونه من العطاء(1) .
وقد أخذ الشعر الحسيني يتطور في كل مجالاته بينما بقي الشعر الأموي شعراً تقليدياً رغم العطاء الجزيل الذي بذلته السلطات الأموية ويحدثنا عن ذلك أيضاً فروخ قائلاً : « إذا استعرضنا خصائص الشعر السياسي في العصر الأموي خاصة بدا لنا أنه كان في أكثره تقليداً للمعلقة الجاهلية ، وخصوصاً من حيث شكل القصيدة وتعدد الأغراض في القصيدة ، ثم إن كثيراً من أغراض الشعر الأموي ظلت أغراضاً جاهلية في القصيدة السياسية خاصة ، كالوقوف على الأطلال والفخر والهجاء القبلي والطرد ـ وصف الصيد ـ والغزل التقليدي في مطالع عدد كبير من القصائد(2) .
ولعل من أبرز شعراء هذه المرحلة هم :
1 ـ ابن المفرغ الحميري(3) 64 هـ .
2 ـ النابغة الجعدي(4) 65 هـ .
3 ـ أبو الأسود الدؤلي(5) 69 هـ .
4 ـ ابن قيس الرقيات(6) 85 هـ .

(1) تاريخ الأدب العربي : 1/371 .
(2) تاريخ الأدب العربي : 1/371 .
(3) ابن المفرغ الحميري : هو يزيد بن زياد بن ربيعة بن المفرغ سكن البصرة والكوفة دأب على هجاء زياد بن أبيه وابنه عبيد الله فسجن على أثره ، ومات بالكوفة ، وجمع شعره في ديوان عرف باسمه .
(4) النابغة الجعدي : مضت ترجتمه .
(5) أبو الأسود الدؤلي : هو ظالم بن عمرو بن سفيان ولد عام 1 قبل الهجرة ، وضع علم النحو وبعض العلوم الأخرى بأمر من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأشرافه ، سكن البصرة ، له ديوان صغير .
(6) ابن قيس الرقيات : هو عبيد الله بن قيس بن شريح العامري المتوفى في حدود
=
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 140

5 ـ سراقة البارقي(1) 79 هـ .
6 ـ أعشى همدان(2) 7 هـ .
7 ـ المتوكل الليثي(3) 85 هـ .
8 ـ عمر بن أبي ربيعة(4) 92 هـ .
9 ـ الأخطل الكبير(5) 95 هـ .
10 ـ كثير عزة(6) 105 هـ .
11 ـ نصيب بن رباح(7) 110 هـ .
12 ـ جرير(8) 114 هـ .

= عام 75 هـ ، كان شاعر قريش في حينه ، لقب الرقيات باسم محبوبته ، له ديوان شعر عرف باسمه .
(1) سراقة البارقي : هو ابن مرداس بن أسماء من قبيلة أزد ، شاعر العراق ، أصله من اليمن ، شهد اليرموك ، وقاتل المختار الثقفي عام 66 هـ بالكوفة ، له ديوان شعر عرف باسمه .
(2) اعشى همدان : هو ميمون بن قيس بن جندل المتوفى عام 7 هـ ويقال له أعشى قيس أيضاً ، وأعشى بكر ، والأعشى الكبير ، من شعراء الجاهلية وصاحب المعلقات ، طبع شعره بعنوان الصبح المنير .
(3) المتوكل الليثي : هو عبد الله بن نهشل بن مسافع الكوفي المتوفى عام 85 هـ ، شاعر فحل كان من أهل الحجاز سكن الكوفة ، وكان من شعراء الحماسة ، جمع شعره في ديوان عرف باسمه .
(4) عمر بن أبي ربيعة : هو عمر بن عبد الله المخزومي ولد عام 23 هـ وهو من طبقة جرير والفرزدق قيل أنه أشعر قريش في عصره ، نفاه عمر بن عبد العزيز الأموي ، وغرق في البحر فمات ، له ديوان شعر من جزئين .
(5) الأخطل الكبير : هو غياث بن غوث بن الصلت التغلبي ولد عام 19 هـ ، نشأ على المسيحية واتصل بالأمويين واستخدموه في اغراضهم ، سكن دمشق والجزيرة ، له ديوان شعر باسمه .
(6) كثير عزة : هو ابن عبد الرحمن الخزاعي مضت ترجتمه .
(7) نصيب بن رباح : يكنى بأبي محجن ، كان عبداً أسوداً لراشد بن عبد العزّى الكناني فانشد أبياتاً بين يدي عبد العزيز بن مروان فاشتراه واعتقه ، وجمع أخباره وشعره في كتاب .
(8) جرير : مضت ترجمته .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 141

13 ـ الفرزدق(1) 114 هـ .
14 ـ ذو الرمة(2) 117 هـ .
15 ـ الكميت(3) 126 هـ .
وشعراء هذا العصر (الأموي) وإن قُسموا من حيث الإنتماء السياسي أو العقائدي إلى شعراء علويين وزبيريين وخوارج وأمويين(4) ومحايدين إلا أن أكثرهم رغم انتماءاتهم فقد ساهموا في النظم عن الإمام الحسين عليه السلام أو عن قضيته المقدسة بشكل عام(5) ، وذلك لأن الحسين عليه السلام لم يعد قضية شخص أو واقعة بل تسامى على كل التقسيمات والانتماءات التي فرضها الواقع السياسي المر .

الدور الثاني :

وما أن انتهى العصر الأموي حتى تلاه العصر العباسي عام 132 هـ وأخذ الشعر بشكل عام منحىً جديداً إذ أنه بدأ بالانقلاب على الأمويين وبتبدل الولاء منهم إلى العباسيين وتحويل العاصمة من دمشق إلى غيرها لترتكز في النهاية ببغداد ، ومن خلالها تحول الكثير من معالم الحياة الاجتماعية بما فيها الدينية والسياسية إلى جانب الحياة الثقافية بما فيها العلمية والأدبية ، وتكونت حضارة إسلامية جديدة حمل لواءها إلى جانب العرب الفرس أولاً ثم الترك ، إلى جانب نقل المعارف من العديد من الحضارات البائدة والحاضرة كاليونان والفرس ، وقد انعكس هذا الأمر في تكوين حياة فكرية جديدة احتوت على مذاهب فلسفية متعددة حتى أصبحت العاصمة بغداد من أعظم العواصم في العالم بل العاصمة الوحيدة التي وفد

(1) الفرزدق : سبقت ترجتمه .
(2) ذو الرمة : هو غيلان بن عقبة بن نهيس العدوي ولد عام 77 هـ شاعر معروف يذهب مذهب الجاهليين ، وكان مقيماً بالبادية ، أكثر شعره تشبيب وبكاء اطلال ، له ديوان شعر عرف باسمه .
(3) الكميت : ترجمناه سابقاً .
(4) راجع تاريخ الأدب العربي لفروخ : 1/370 .
(5) راجع ديوان القرن الأول وديوان القرن الثاني من هذه الموسوعة .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 142

إليها كبار المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء بشكل لا مثيل له في التاريخ وفي هذا العهد بدأت المولدات الشعرية تتكاثر ويتفنن الشعراء في نظمهم .
وفي نهاية هذه الفترة بدأ العصر الذهبي ـ الذي اشتهر بين المؤرخين ـ تشرئب معالمه من الأفق القريب ويبسط أجنحته على كافة قطاعات المجتمع الإسلامي بشكل عام والعربي بشكل خاص .
ورغم أن جهود المعارضة للحكم الأموي وعلى رأسهم أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام تظافرت في أواخر العهد الأموي للقضاء على الحكم الوراثي المستبد الذي بدأ بالبطش والظلم ولم ينته إلا بفضيحة آل أبي سفيان ، والتي أدت إلى استغلال العباسيين لتلك الجهود ورفعهم شعار أخذ الثأر لسبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للوصول إلى الحكم وما أن استتب لهم الأمر حتى انقلبوا على أعقابهم ناكرين للجميل الذي أسداه لهم أتباع مدرسة أهل البيت في الكوفة وخراسان وغيرهما من الأقطار الإسلامية فقد أفاق الموالون لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على انحياز العباسيين عنهم بل شعروا بأنهم يضمرون لهم العداء وأن مخططاً يجري من تحتهم لضرب بنيتهم السياسية والعقائدية عبر اغتيال القادات وبث الإشاعات الكاذبة واضطهاد الاتباع ، فبدأت المعارضة بتوحيد صفوفها والتكتل من جديد وبدأ النظام الجديد بفرض سلطانه بالقوة والعنف تارة وبالخديعة والمكيدة أخرى ، فأخذ الحكام يضربونهم بيد من حديد وقبضة فولاذية ليتمكنوا من بناء العرش العباسي على حساب إزهاق أرواح الكثير من أتباع آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى اغتيال زعمائهم بما فيهم أبناء عمهم(1) العباسيون الذين كانوا يدعون أنهم من أنصارهم حتى قبيل نجاح الثورة على الأمويين ، ورغم أنهم كانوا يلعنونهم كأحد مصاديق الآية الكريمة «كلما دخلت أمة لعنت أختها»(2) إلا أنهم أخذوا يطبقون تلك الأساليب التي انتهجها أسلافهم وانتهجوا تلك

(1) بدءاً بالإمام جعفر الصادق عليه السلام انتهاءً بالإمام الحسن العسكري عليه السلام بالإضافة إلى جماعة من أهل بيت هؤلاء الأئمة الذي ثاروا بوجه الظلم بدءاً بالنفس الزكية محمد بن عبد الله بن الحسن عام 145 هـ .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 38 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 143

الخطط التي رسموها للقمع والاضطهاد ، ولكنهم مارسوها بنوعية أكثر تطوراً من ذي قبل ، شأنها شأن سائر مرافق الحياة التي دخلها التطور .
ومما لا شك فيه أن هذه الحالة ألقت بظلالها على الأدب بشكل عام وعلى الأدب الحسيني بل العلوي بشكل خاص فدخل الأدب الحسيني في محنة أخرى لعلها كانت الأقوى بالنسبة إلى التي سبقتها ، وذلك للمراوغة التي كانت السلطات الحاكمة تمارسها في كثير من الأحيان حيث وصل الاضطهاد ذروته مما حدا بدعبل الخزاعي(1) إلى أن يقول من البسيط :
أرى أميّة معـذورين إن قتلوا ولا أرى لبني العباس من عذر(2)

وقال ابن السكيت(3) من الكامل :
تـالله إن كانـت أمية قـد أتتْ قتْل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقـد أتـاه بنـو أبيـه بمثلـه فغـدا لعمركَ قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا فـي قتله فتتبعـوه رميماً(4)

ورغم ذلك فقد عاش الأدب والشعر في البلاط العباسي بل في كل القطاعات التابعة للامبراطورية العباسية بحالة فوق الجودة حيث اهتم السلاطين والحكام والأمراء والوزراء والولاة بالعلماء والشعراء والأدباء وأهل الفن بشكل لا مثيل له ، ولكن غيب بالطبع من حساباتهم أدب أهل البيت وتراثهم وذلك لنقض الغرض حيث لا شك بأن جزءاً كبيراً من هذا الاهتمام بالعلماء والشعراء كان لدعم سلطان الدولة بكل اتجاهاتها ووقوفاً

(1) دعبل الخزاعي : هو ابن علي بن رزين (148 ـ 246 هـ) أصله من الكوفة سكن بغداد ، كان من فحول الشعراء ، ومن الإمامية ، توفي ببلدة الطيب بين واسط وخوزستان ، له ديوان جمع فيه شعره .
(2) راجع ديوان القرن الثالث : 104 من هذه الموسوعة .
(3) ابن السكيت : هو يعقوب بن إسحاق الأهوازي (186 ـ 244 هـ) إمام في اللغة والأدب أصله من خوزستان ، من علماء الإمامية ، تعلم ببغداد ، أدب أولاد المتوكل العباسي ، له مؤلفات جمة ومهمة ، منها : الأضداد ، اصلاح المنطق ، والأجناس .
(4) راجع ديوان القرن الثالث : 141 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 144

أمام تيار العلم والمعرفة والشعر والأدب الذي تركه أهل البيت وأتباعهم ، وبالأخص في عصر الصادقين(1) عليهما السلام عندما كانت العلماء تحط رحالها في المدينة المنورة للأخذ من منهلهم العذب والأصيل ، وقد عد المؤرخون المميزين من الذين تخرجوا من مدرسة الإمام الصادق عليه السلام وحده أكثر من أربعة آلاف فقيه وعالم في مختلف الفنون الإسلامية والعلمية(2) .
وبما أن العصر العباسي بالذات كان عصراً طويلاً حيث حكم العباسيون البلاد أكثر من خمسة قرون فقد قسموها إلى فترات زمنية فمنهم من قسمها إلى ثلاثة(3) ومنهم من قسمها إلى أربعة(4) ومنهم إلى غير ذلك(5) ولكن الذي يدخل منها في المرحة الأولى من تقسيماتنا حسب كل تلك الآراء ، هي الفترة الزمنية الأولى (132 ـ 232 هـ) والفترة الزمنية الثانية (222 ـ 335 هـ) حيث تنتهي الإمامة الظاهرة لدى أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام في أوائل القرن الرابع الهجري .
ورغم كثرة الخلافات السياسية وظهور عدد من الولايات المذهبية أو القومية أو ما شابهها على أطراف البلاد الإسلامية فإن هذه الفترة حملت إلى الأدب العربي بشكل عام تطورات ملحوظة مهدت لإقامة عصر فريد من نوعه ، ولا شك أن التطور الأدبي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتطور في كل مرافق الحياة كالعمران والاجتماع والاقتصاد وما إلى ذلك وأصبح للغة العربية شأن بالغ الأهمية لارتباطه بالعقيدة حتى كانت البلدان الإسلامية جميعها دون استثناء يتكلم أهلوها باللغة العربية سواء في بلاد ما وراء النهرين كأرمينية وطاچكستان أو الصين أو الهند الكبرى أو خراسان أو غيرها من الأقطار الأوروبية التي كانت تخضع بين الفينة والأخرى تحت السلطة الإسلامية ، ومن تلك الديار برز عدد كبير من العلماء والفقهاء والحفاظ

(1) الصادقان : هما الإمام محمد الباقر عليه السلام ونجله الإمام جعفر الصادق عليه السلام ويقال لهما الباقران أيضاً من باب الغلبة .
(2) راجع مقدمة باب الحسين والتشريع الإسلامي من هذه الموسوعة .
(3) راجع الموجز في الأدب العربي وتاريخه : 2/16 .
(4) راجع أعلام الشعراء العباسيين : 6 .
(5) راجع تاريخ الأدب العربي لفروخ : 2/34 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 145

والنحاة واللغويين إلى جانب الأدباء والشعراء بل وصلت ثلة منهم إلى القمة في علمي النحو واللغة إلى جانب الأدب والشعر .
هذا وقد تطور الأدب في هذا العصر حتى وصف الجديد منه بالمولد لأن معظم الأدباء في ذلك العصر كانوا مولدين من أبوين أحدهما عربي والآخر غير عربي وربما أطلقوا عليه بالأدب المحدث لأن أولئك الأدباء كانوا محدثين جدداً ومن جهة أخرى دخل في الأدب العربي معانٍ جديدة وأساليب حديثة إلى جانب العديد من الأغراض والفنون لم يكن يألفها الأدب العربي من قبل كالغزل المذكر والخمريات والتوفّر على الأوصاف الحضرية وإهمال العصبية العربية البدوية إلى غيرها من الأمور كالإكثار من صناعة البديع كالجناس والطباق بشكل واضح وجلي وظهور بعض الأوزان والتلاعب ببعضها الآخـر مما أضفـى نكهة جديدة على الأدب العربي(1) .
وبذلك تخلص الأدب العربي من ثقل الأدب الجاهلي والعصبي الذي فرضته السياسة الأموية أكثر من قرن ، وأصبحت بغداد تنافس الشام بطرازها الأدبي المميز ، وعلى أثر هذا التطور جاء تصنيف بعضهم للناظمين إلى شعراء مخضرمين بين الدولتين وإلى غيره ، حيث كانت الفاصلة الأدبية بين العصرين كبيرة وعميقة لا يمكن تجاهلها ، وكان للتدوين الذي ساد في عصر العباسيين الأثر البالغ لظهور العديد من الدواوين الشعرية التي أخذت تساهم هي الأخرى في إنعاش الحركة الأدبية إلى جانب الترجمة من اللغات الأخرى إلى العربية والتي نقلت الكثير من الأفكار والفلسفات من الحضارات الأخرى .
والأقطار الإسلامية رغم أنها لم تخل من الاضطرابات والفتن إلا أن الوضع العام كان ينبؤ عن الاستقرار الطويل الأمد بشكل عام حيث إن بغداد العاصمة كانت عامرة بالأدب والعلم إضافة إلى جوانب أخرى من مرافق الحياة فلذلك نجد الأدباء تفاعلوا مع الأحداث وأصبحت جزءاً من حياتهم الأدبية حيث استخدموها في أغراضهم الشعرية وتعاملوا معها بروح إيجابية فهذه يمن العروبة ورغم ما أصابها في هذه الفترة من المحن والفتن

(1) راجع تاريخ الأدب العربي لفروخ : 2/40 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 146

والثورات والانقلابات وبالاخص ما بين عام 132 ـ 282 هـ إلا أنها ظلت معقلاً من معاقل العلم وحصناً من حصون الأدب فأنجبت زمرة من العلماء والفقهاء والأدباء الشعراء والقراء المحدثين ساهموا في تطوير الحركة الثقافية بشكل عام(1) .
هذا بالنسبة إلى الأدب أو الشعر عامة أما بالنسبة إلى شعر الولاء لأهل البيت النبوي الذي كان متجسداً في الغالب بالحسيني في كل أبعاده السياسي والعقائدي أو الفلسفي والعاطفي فإنه عانى أشد المعاناة كما عانى الشعراء أنفسهم من جراء نتاجهم الأدبي أو ممارستهم للشعائر العقائدية ورغم ذلك فإنه تطور هو الآخر مع التطور العام ولذلك نجد كل الخصائص التي تميزت فيها هذه الفترة متواجدة بشكل أو بآخر في الشعر الحسيني كما هو ملاحظ لمن ألقى نظرة شاملة على ديوان القرن الثاني وديوان القرن الثالث من هذه الموسوعة .
هذا وقد تمكن الشعراء الناظمون في الإمام الحسين عليه السلام أو نهضته المباركة من تحويل الأدب إلى نهضة فكرية ومدرسة فلسفية ذات طابع عقائدي وصبغة سياسية وذلك بدمج التطور العام مع المبادئ الحسينية الأصلية التي من أجلها انبثق فجر النهضة الحسينية وتلتها العديد من الثورات والانتفاضات أيام الحكم العباسي التي انطلقت من رحم تلك النهضة مما رسخ فيهم فكرة المقاومة على أسس مدروسة وفلسفية .
ورغم المحاولات المبذولة من قبل السلطات الحاكمة لإبعاد الأدب الحسيني الذي هو جزء من تراث أهل البيت عليهم السلام بكل الوسائل الترغيبية والترهيبية والأساليب الملتوية لصرف الأذهان عنه ، وإيجاد البدائل لإلهاء ، العامة والخاصة عن أهل البيت عليهم السلام كما هو الحال في دعم المذاهب الأخرى إزاء مذهب أهل البيت عليهم السلام إلا أن الأدب الحسيني ظل نابضاً ومتحركاً مع حركة الزمان والتطور وتمكن من تطوير نفسه بما يملي عليه واقعه وذلك بفضل ما يلي :

(1) راجع تاريخ اليمن الفكري في العصر العباسي : 1/23 .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 147

1 ـ وجود أهل البيت عليهم السلام إلى جانبه وحث القادرين على الإنشاء والانشداد في ظل الشرعية الدينية والفكرة العقائدية .
2 ـ قيام العلويين وأنصارهم بالحركات والانتفاضات في وجه النظام الحاكم مما كان يسقي شجرة الفكر والأدب إلى جانب العقيدة والولاء لأهل البيت ، ويرفض العبودية والاستسلام للطغاة .
3 ـ وبروز بعض الدول الموالية لأهل البيت على مجمل الخريطة الإسلامية .
بالإضافة إلى أن الاضطهاد والضغط الذي ولد فيهم انفجاراً في جانب آخر من جوانب الحياة وولد عندهم النضوج الفكري والتطور الآلي لوضع أساليب من شأنها خدمة تراث وشخص تلك الشريحة المضطهدة والمحاربة من قبل النظام الحاكم ولذلك نجد أن أتباع مدرسة أهل البيت كانوا في الفترات العصيبة في القمة من حيث العلم والفكر والأدب والشعر لهم الباع الأطول والريادة ، وبذلك تمكنوا من الحفاظ على كيانهم وهذه كتب التراجم تشهد لهم(1) ، وبالنسبة إلى الأدب والشعر فقد قال ابن هاني(2) من البسيط : « وهل رأيت أديباً غير شيعيّ(3) فالتفوق كان من شأن الموالي لأهل البيت عليهم السلام .
وهذا شأن كل شاعر هادف يستخدم نتاجه الأدبي كأداة توجيهية فيما يرى نفسه صاحب مبدأ يجاهد في سبيل فكره وعقيدته كاستخدامه لعدله رفيقه في ساحة الوغى ، وربما كان سلاح اللسان أكثر مضاءً من غيره .
ورغم محاولات السلطات الحاكمة الهادفة إلى قمع التراث الحسيني

(1) راجع تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : 184 وفيه أن شعراء الشيعة في كل عصر في الدرجة الرفيعة ، شاعرهم أشعر شعراء عصره ، وشعره أجلى وأظرف من شعر غيره .
(2) ابن هاني : هو محمد بن هاني الاندلسي (326 ـ 362 هـ) يتصل نسبه بالمهلب بن ابي صفرة كان عند المغاربة كالمتنبي عند أهل الشرق ، ولد باشبيلية ، كان من الامامية ومن اثاره : ديوان شعره .
(3) أعيان الشيعة : 10/86 ، وهو شطر من بيت وقال في اخرى من الطويل :
فكل امامي يجيء كأنما على خدّه الشعري وفي وجهه البدرُ
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 148

ونجاحاته الملموسة إلا ان ما بقي من ذلك التراث بسبب بعض الانفراج الذي تخلل فترات حكم الطغاة كاف لمعرفة خصائص هذا التراث الأصيل في تلك الحقب الزمنية .
والسرّ الذي جعل الأدب الحسيني نابضاً طيلة تلك الفترات المظلمة بالنسبة إليه وتُمكّنه من مواكبه التطور بل تصدره وتفوقه هو أن القضية الحسينية لم تحدث لكي تنتهي ، وذلك لأن في كل يوم صورة حسينية وإلى جانبها صورة يزيدية ، والموالي لا يتقرب إلى الحسين لكونه سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو ... فقط بل لكونه يعكس واقعه ويعالج مشاكله الفردية والاجتماعية ، لذلك تجد حبه للحسين حباً صادقاً نابعاً من خلجات قلبه ومن طيات دماغه امتزج بلحمه ودمه لا يكاد ينساه أبداً ويتطور معه بتطور زمانه .
وكان الموالي في هذه الفترة التي نتحدث عنها إذا منعه السلطان من دخول البلاط ليواكب الحركة الأدبية التي كانت تنمو في ظل البلاطات حيث الدعم المادي والمعنوي والإعلامي فسعة صدور أئمة أهل البيت عليهم السلام كانت تحتضنه وتملي عليه ذاك الفكر الأصيل والمفردات الجميلة والمعاني الرقيقة التي خلقت من هذا التراث ميزة اختلف عن غيره على مدى التاريخ .
إن بيوت الأئمة من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبيوت الموالين لهم كان مسرحاً حقيقياً لتداول العلم والفكر والأدب والشعر في تلك الظروف القاسية عليهم والتي كان شطرٌ من الشعر الولائي فيها كافياً لأن يعلق حبل المشنقة برقبة أي منهم .
وهذا النوع من التطور متأصل ومميز له نكهته الخاصة والتي لا توجد في سائر المذاهب الأدبية .
وبالنسبة إلى الأدب الحسيني فلم تختلف الفترة الأولى من العصر العباسي ـ التي نشأت من نشأته وحتى مقتل المتوكل(1) ـ مع الفترة الثانية

(1) المتوكل على الله : هو جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد (206 ـ 247 هـ) عاشر من حكم من العباسيين في سامراء ، حكم بعد أخيه الواثق بالله هارون عام 232 هـ ، وحكم بعده ابنه المنتصر بالله .
دائرة المعارف الحسينية ـ المدخل إلى الشعر الحسيني ـ 1 149

التي انتهت بغيبة الإمام المهدي عليه السلام حيث لم ينقطع الدعم المعنوي من قبل أئمة أهل البيت عليهم السلام طيلة هذه الفترة .
هذا ومن أبرز شعراء هذه الفترة :
1 ـ بشار بن برد(1) 166 هـ .
2 ـ منصور النمري(2) 190 هـ .
3 ـ أبو نؤاس(3) 198 هـ .
4 ـ الشافعي(4) 204 هـ .
5 ـ هشام الكلبي(5) 206 هـ .
6 ـ مسلم بن الوليد(6) 208 هـ .
7 ـ أبو العتاهية(7) 211 هـ .

(1) بشار بن برد : المكنى بابي معاذ والملقب بالعُقيلي بالولاء ، ولد عام 95 هـ اصله من طخارستان ونسبته إلى امرأة من عقيلة اعتقته ، كان ضريرا نشأ في البصرة وسكن بغداد وجمع شعره في ديوان حمل اسمه .
(2) منصور النمري : هو ابن الزبرقان بن سلمة ولد في اوائل القرن الثاني الهجري ، من اهل الجزيرة الفراتية ، كان من شعراء الشيعة ، وكان يخفي عقيدته عن الحكام خوف البطش ، له ديوان شعر عرف باسمه .
(3) أبو نؤاس : هو حسن بن هاني الحكمي ، مضت ترجمته .
(4) الشافعي : هو محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلبي ولد عام 150 هـ ، امام الشوافع ولد في غزة فلسطين وتوفي في مصر ، له مؤلفات جليلة منها : أحكام القرآن ، المسند ، الأم .
(5) هشام الكلبي : هو ابن محمد ابي نضر بن السائب بن بشر ، ولد في حدود منتصف القرن الثاني ، اديب شاعر ومؤرخ عالم بالانساب واخبار العرب ، كان من اهل الكوفة من الامامية ، له : جمهرة الأنساب ، الاصنام ، نسب الخيل .
(6) مسلم بن الوليد : الانصاري هو المكنى بأبي الوليد والملقب بصريع الغواني ، ولد في حدود منتصف القرن الثاني الهجري ، كان من اهل الكوفة الا انه سكن بغداد وهو اول من اكثر من البديع .
(7) ابو العتاهية : هو اسماعيل بن القاسم العيني ولد في عين التمر ـ كربلاء ـ عام 130 هـ ونشأ في الكوفة وسكن بغداد ، هجر الشعر إلا أن المهدي العباسي ، سجنه
=

السابق السابق الفهرس التالي التالي