دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 277

أكاد أن اذوب إن رآني راء بهذا الوجه والجثمان (1)

ولم يزل زواره عليه السلام يقصدونه ويصلحون قبره الشريف ، وعن الهدم المتكرر يقول الخياط : « وإن دلت أعمال الهدم المتكررة هذه وما يتبعها من تعمير سريع للقبر على شيء فإنما تدل على انحراف ظاهر في عقلية المتوكل من جهة ، ومدى القوة في عقيدة الرأي العام المسلم الذي كان يأبى يومذاك إلا أن يخلد الحسين الشهيد عليه السلام ويعمر ضريحه وتقديس تربته رغم جميع ما كان يريده الغاشمون من اضطهاد وتنكيل » (2) .
وفي سنة 240 هـ توجه الأشناني (3) إلى زيارة قبر الحسين عليه السلام سراً برفقة أحد العطارين فلما وصلا القبر الشريف جعلا يتحريان جهة القبر حتى عثرا عليه وذلك لكثرة ما كان قد مخر وحرث حوله فشاهداه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق ، وأجري عليه الماء فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق حول القبر ولما أتما مراسيم الزيارة نصبا حول القبر علامات شاخصة في عدة مواضع من القبر (4).

(1) مجالي اللطف : 2/ 27 .
(2) موسوعة العتبات المقدسة قسم كربلاء . فصل كربلاء في المواجع الغربية بقلم الدكتور جعفر الخياط : 259 .
وجاء في شهر حسين : 208 إنهم هدموا القبر والبيوت المجاورة أيضاً مما يدلنا على أن المجموعة المجاورة كانت تصر على البقاء .
(3) الأشناني : نسبة الى الأشنان ولعل احد آبائه كان يبيع الاشنان ، وجاء في بعض المصادر « اشتاني » وعلى أية حال فهو محمد بن الحسين بن علي الاشناني ، جاء في هامش شهر حسين : 215 إنه كان من أهل الكوفة وكان من كبار علمائها وقد سجنه المتوكل ، ولعله هو ابو جعفر محمد بن حسين بن حفص بن عمر الخثعمي الكوفي ( 221 ـ 317 هـ ) الذي روى عنه التلعكبري وله منه اجازة .
(4) تاريخ الحركة العلمية في كربلاء : 16 وتراث كربلاء : 227 ، جريدة عاشوراء الطهرانية العدد : 9 العام : 5 الصفحة : 3، محرم عام 1411 هـ ، تاريخ كربلاء وحائر الحسين : 212 ، مقاتل الطالبيين : 479 وشرح الشافية : 210 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 278


ويصف الاشناني الوضع الأمني انذاك بقوله : « بعد عهدي بالزيارة في تلك الايام خوفاً ، عملت على المخاطرة بنفسي فيها وساعدني رجل من العطارين على ذلك ، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية ، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى اتينا القبر فخفي علينا فجعلنا نشمه ... » (1).
ولعله لهذا السبب تجدد تسميته بالحائر لارتفاع الماء حوله ، وإن كانت التسمية قد أطلقها الإمام الصادق عليه السلام ( 148 هـ ) من قبل .
الرابع : سنة 247 هـ (2) كان قد بلغ المتوكل مرة أخرى مسير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام وأنه قد كثر

(1) مقاتل الطالبيين : 479 .
(2) في كتاب تاريخ كربلاء وحائر الحسين : 214 أظهر أن هدم المتوكل لقبر الحسين عليه السلام في المرة الرابعة صادف في النصف من شعبان حيث كان الناس يتوافدون بكثرة على زيارة كربلاء في مثل هذا الوقت .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 279

جمعهم لذلك ، وصار لهم سوق (1) كبير فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبره ، ونبش وحرث أرضه وانقطع الناس عن الزيارة ، وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة فقتل منهم (2) جمعاً كثيراً .
وقد تولى الهدم في هذه المرة إبراهيم الديزج أيضاً حيث يقول : إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر ، فوافيت الناحية مساء ومعنا الفعلة ومعهم المساحي (3)والمرود (4) فتقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت فذهب بي النوم ، فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية ، وجعل الغلمان ينبهوني ، فقمت وأنا ذعر فقلت للغلمان : ما شأنكم ؟
قالوا : أعجب شأن !
قلت : وما ذاك ؟
قالوا : إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب ، فقمت معهم لأتبين الأمر ، فوجدته كما وصفوا ، وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض (5) .
فقلت : ارموهم ، فرموا فعادت سهامنا إلينا فما سقط سهم منا إلا في

(1) السوق : لعلها بفتح السين وسكون الواو بمعنى السير ، ولكن المتبادر هو بضم السين وهو مكان البيع والشراء .
(2) بحار الأنوار : 45 / 397 / ح 5 ، أمالي الطوسي : 335 ، في تاريخ كربلاء وحائر الحسين : 211 عن ناسخ التواريخ القديم : 438 « بلغ المتوكل مرة أخرى ، أن الناس من مختلف الطوائف والأقطار يتوافدون إلى أرض نينوى فصارت لهم مطافاَ كبيت الله وأسسوا لهم أسواقاً عظيمة بالقرب من القبر المطهر فأثار ذلك نفسه فأرسل جيشاً إلى كربلاء لهدم القبر المطهر ومخره وحرثه وقتل من يجدون بها من آل أبي طالب وشيعتهم ولكن الله دفع شره فقتل على يد ابنه المنتصر » .
(3) المساحي : أداة لحفر الأرض .
(4) المرود : المعاول .
(5) ليالي البيض : هي الليالي القمرية 13 ، 14 ، 15 وعندها يكون القمر بدراً كاملاً .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 280

صاحبه الذي رمى به فقتله ، فاستوحشت لذلك وجزعت وأخذتني الحمى والقشعريرة ورحلت عن القبر لوقتي ، ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لما لم أبلغ في القبر جميع ماتقدم إليه به (1) .
ويصف فعلة الديزج الحادثة في أرجوزته فيقول :
بأن إبراهيم يـعني الديزجـا قـال أراد جعفـر أن أخرجـا
وانـبث الـقبر بـكربـلاءا واحرث الأرض واجري الماءا
فصرت للقـبر بـمن أعـده من كل قـرم معجـب أشـده
ومعـي الأكـار بالـمساحي فـبت لـيلي ناظـر الصبـاح
فـنبهنـي زعـقات الجـند فـقلـت ماذا لأنـاس عنـدي
فقـيل صـدنا عـن الـتقدم قوم رمـوا وجوهـنا بأسهـم
وكـل مـن رماهـم بسهـم عاد (2)عليه السهم منه المرمي
قال فقمت لأرى الأمـر الجلي فما رأيت غيرما قد قـيل لـي
فارتعت من ذا وطويت كشحي وقـلت غـادروهم للـصبح (3)
ويذكر ابن بندار (4) : « انه خرج نهي عن زيارة مقابر قريش والحائر (5) فلما كان بعد أشهر دعا الوزير ـ العباسي ـ الباقطاني ، فقال له ـ الوزير ـ :

(1) بحار الأنوار : 45 / 395 / ح 4 وفيه أن أبا برزة قال له :قد كفيت ما تحذر من المتوكل قد قتل بارحة الأولى ، وأعان عليه في قتله المنتصر ، فقال له : قد سمعت بذلك وقد نالني في جسمي ما لا أرجو معه البقاء ، فقال أبو برزة : كان هذا في أول النهار فما أمسى الديزج حتى مات ، وقد روى الطوسي رؤياه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبصاقه صلى الله عليه وآله وسلم على وجهه والذي تسبب في موته راجع باب الرؤيا وباب الكرامات من هذه الموسوعة .
(2) ظاهر الابيات تختلف ونص الرواية حيث ان عودة السهام كانت بعد انتباه الديزج من النوم لا قبله .
(3) مجالي اللطف : 2/ 26 .
(4) ابن بندار : هو علي بن محمد بن بندار من مشايخ الكليني محمد بن يعقوب المتوفى عام 329 هـ وقد روى عنه كما روى عنه ايضاً علي بن ابراهيم القمي .
(5) وفي نسخة الحير وهي لغة في الحائر او ربما رسم قديم في الخط ، والمراد به حائر الحسين .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 281

إلق بني الفرات (1) والبرسيين (2) وقل لهم : لا يزوروا مقابر قريش فقد أمر الخليفة (3) ان يتفقد كل من زار فيقبض عليه » (4) .
وانتشر ظلم المتوكل وذاع خبر هدمه قبر سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس فتألم المسلمون لذلك وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان ، وهجاه الشعراء ومنهم دعبل الخزاعي (5) ، وفي ذلك يقول ابن السكيت (6) : وقيل البسامي (7) ـ من الكامل ـ :
تالله إن كانـت أميـة قـد أتت مقتل ابن بنت نبيها مظلوماً
فلقـد أتـاه بنـو أبيـه بمثلـه هذا لعمرك قبـره مهـدوماً
أسفوا على أن لايكونوا شاركـوا في قتله فتتبعوه رميمـاً (8)

(1) بنوفرات : رهط الوزير ابي الفتح الفضل بن جعفر بن فرات المتوفى عام 405 هـ ، وان ذكر الوزير في تعريفهم فهو لمجرد التعريف فلا دلالة له على انهم كانوا من ذريته ليفهم من ذلك ان الحادثة وقعت في القرن الخامس ، هذا واحتمل المجلسي في البحار ان يكون المراد ببني الفرات الذين نزلوا شط الفرات .
(2) البرسيون : نسبة الى برس قرية بين الكوفة والحلة كان اهلها من الموالين لاهل البيت عليهم السلام .
(3) الخليفة : لعله اراد به المتوكل العباسي حيث عرف عنه منع الزائرين في تلك الفترة الزمنية .
(4) الكافي : 1/ 525 ، الغيبة للطوسي : 284 ، بحار الأنوار : 51 / 312 .
(5) الخزاعي : هو دعبل بن علي ( 148 ـ 246 هـ ) ولد في الكوفة ونشأ بها ، سكن بغداد ، يعد من العلماء المتكلمين والصفوة من الشعراء ، عاصر حكام بني العباس من هارون الرشيد إلى المتوكل العباسي .
(6) ابن السكيت : هو يعقوب بن إسحاق الدورقي الأحوازي ( 186 ـ 244 هـ ) من علماء الإمامية ، نحوي وأديب ، كان حامل لواء علم العربية من الأدب والشعر واللغة والنحو ، له الكثير من التصانيف منها : تهذيب الألفاظ وكتاب إصلاح المنطق ، قتله المتوكل في حادثة مشهورة .
(7) البسامي : هو علي بن محمد بن نصر بن منصور بن بسام البغدادي ( 230 ـ 303 هـ ) كان من الشعراء والظرفاء ، له عدة تصانيف منها كتاب المعاقرين ، مناقضات الشعراء ، واخبار عمر بن ابي ربيعة .
(8) فوات الوفيات : 1/ 291 ، تاريخ كربلاء وحائر الحسين :207 ديوان القرن الثالث : 141 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 282

ولأبن الرومي (1)أبيات في ذلك نذكر له هذا البيت من الطويل :
ولم تقنعوا حتى استثارت قبورهم كلابهم منها بهيم وديـزج (2)

وفي عام 247 هـ (3) يقول عبد الله الطوري (4) حججت فلما صدرت من الحج إلى العراق فزرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على حال خيفة من السلطان ، وزرته ثم توجهت إلى زيارة الحسين عليه السلام فإذا قد حرث أرضه ومخر فيها الماء وأرسلت الثيران العوامل في الأرض ، فبعيني كنت رأيت الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتى إذا حازت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً فتضرب بالعصا الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها ولا تطأ القبر بوجه ولا سبب ، فما أمكنني الزيارة ، فتوجهت إلى بغداد وأنا أردد :
تالله إن كانت أمية قـد أتـت قتل ابن بنت نبيها مظلومـاً
فلقـد أتاه بنـو أبيـه بمثلهـا هـذا لعمرك قـبره مهدوماً
أسفوا على أن لايكونوا شايعوا في قتله فتتبعوه رميـماً (5)

لقد وضع المتوكل يده على أوقاف الحائر وصادر أموال خزينة الحسين عليه السلام ووزعها على جنوده قائلاً : « إن القبر ليس بحاجة إلى الأموال

(1) ابن الرومي : هو علي بن العباس البغدادي ( 221 ـ 283 هـ ) شاعر فحل وكاتب قدير ولغوي نحوي ، وكلامي فيلسوف عالم باليونانية والفارسية .
(2) موسوعة العتبات المقدسة قسم كربلاء : 259 ، تاريخ كربلاء وحائر الحسين : 208 ، ديوان القرن الثالث : 63 ومن أشعاره :
,ظبخىف.,ظلا.أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طـريقان شتى مستقيـم وأعـوج
وقد ألجمتكم خيفه القتل منكم وفي القوم حاج في الحيازيم حوج
(3) ولا يخفى أن زيارته لكربلاء لابد وأن تكون في عام 247 هـ وحجه عام 246 هـ حيث أن قتل المتوكل كان في 3 شوال عام 247 هـ .
(4) الطوري : هو عبد الله بن رابية أوابن دانية ، من أعلام القرن الثالث الهجري ، روى عن عبد الرزاق بن سليمان بن غالب الأزدي .
(5) بحار الأنوار : 45 / 398 / ح 6 ، أمالي الطوسي : 339 ، وفيه تكملة قال : فلما بلغت بغداد سمعت الهايعة فقلت ماالخبر ؟ قالوا : سقط الطائر بقتل جعفر المتوكل ، فعجبت لذلك وقلت : إلهي ليلة بليلة .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 283

والخزائن » (1) وسمع زيد المجنون (2) وهو من مصر أن المتوكل أمر بحرث قبر الحسين عليه السلام وأنهم خربوا بنيانه وحفوا آثاره وجروا عليه الماء من نهر العلقمي بحيث لا يبقى له أثر ولا أحد يقف له على خبر ، وتوعد الناس بالقتل لمن زار قبره ، وجعل رصداً من أجناده وأوصاهم : « كل من وجدتموه يريد زيارة الحسين عليه السلام فاقتلوه » يريد بذلك إطفاء نور الله وإطفاء آثار ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فعظم ذلك على زيد واشتد حزنه وتجدد مصابه بسيده الحسين عليه السلام وغلب عليه الوجد والغرام فخرج من مصر ماشياً هائماً على وجهه شاكياً وجده إلى ربه وبقي حزيناً كئيباً حتى بلغ الكوفة فالتقى ببهلول (3) وتعرف عليه فسأله عن سبب خروجه من مصر فاخبره بذلك فقال له البهلول : وأنا والله كذلك ، فقال : قم بنا نمضي إلى كربلاء لنشاهد قبور أولاد علي المرتضى .
فأخذ كل بيد صاحبه حتى وصلا إلى قبر الحسين عليه السلام وإذا هو على حاله لم يتغير وقد هدموا بنيانه وكلما أجروا عليه الماء غار وحار واستدار بقدرة العزيز الجبار ولم تصل قطرة واحدة إلى قبر الحسين عليه السلام وكان القبر الشريف إذا جاءه الماء ترتفع أرضه (4) بإذن الله تعالى ، فتعجب زيد المجنون مما شاهده وقال : انظر يابهلول « يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله أن يتم نوره ولو كره الكافرون (5)» (6) .

(1) تاريخ كربلاء وحائر الحسين لعبد الجواد الكليدار : 163 عن ناسخ التواريخ الطبعة القديمة : 6 / 438 .
(2) زيد المجنون : من شعراء مصر الموالين لأهل البيت عليهم السلام وإنما سمي بالمجنون لأنه أفحم كل لبيب وأقطع حجة كل أديب ، كان لا يعي من الجواب ولا يمل من الخطاب .
(3) البهلول : لعل المراد به هو وهيب بن وهب بن عمر الكوفي الصوفي المعروف ببهلول ، وكان أبوه المتوفى عام 190 هـ هو المعروف عنه ببهلول صاحب الرشيد .
(4) إن مسألة عدم وصول الماء إلى القبر وارتفاع الأرض من الإعجاز الذي خصصنا له باباً من هذه الموسوعة باسم « في ظلال الحسين ، معاجز وكرامات » وتحدثنا عنه بشكل علمي .
(5) سورة التوبة الآية : 32 .
(6) بحار الأنوار : 45 / 403 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 284

فلما نظر الذي يحرث الأرض إلى ذلك قال : آمنت بالله وبمحمد رسول الله ، وحل البقر ، فبلغ ذلك المتوكل فأمر بقتله (1) .
وتمثل زيد بالأبيات السابقة وانطلق إلى بغداد فإذا به يسمع صراخاً عالياً ونوحاً مشجياً ، فظن أن المتوكل قد هلك ، فتقدم إلى رجل منهم فسأل عن الميت فقيل له : جنازة جارية المتوكل (2) وكان يحبها حباً شديداً ، ثم أنهم عملوا لها شأناً عظيماً ودفنوها في قبر جديد وبنوا عليه قبة عالية ، فلما نظر زيد إلى ذلك ازدادت أشجانه وجعل يبكي حتى غشي عليه ، فلما أفاق من غشوته أنشد يقول ـ من المتقارب ـ :
أيحرث بالطف قبر الحسين ويعـمر قـبر بني الزانية
لعل الزمان بهـم قد يعـود ويـأتي بـدولتهـم ثانيـة
ألا لعـن الله أهـل الفسـاد ومن يأمن الدنية الفانية (3)

وكتب هذه الأبيات في ورقة وسلمها لبعض حجاب المتوكل فلما قرأها اشتد غضبه فأمر بحبسه فحبس ، وفي الليل رأى المتوكل كرامة فأوحشته ، فأسرع وأفرج عن زيد وخلع عليه خلعة سنية ، وقال له : اطلب ما تريد ، قال له : أريد عمارة قبر الحسين عليه السلام ، وأن لا يتعرض أحد لزواره، فأمر له بذلك ، وخرج من عنده فرحاَ مسروراً وجعل يدور ويقول : من أراد زيارة الحسين عليه السلام فله الأمان طوال الأزمان (4) .
ويذكر الرحالة الهندي محمد هارون : إنه في عام 248 هـ جدد زيد المجنون بناء المرقد (5) .

(1) وقيل إنه ذهب إلى المتوكل وأخبره بذلك فاستشاط غيظاً وازداد بغضاً لأهل البيت عليهم السلام وأمر بقتله .
(2) جارية المتوكل : كانت تسمى ريحانة وهي أمة سوداء من الحبشة وكان قد تعلق بها المتوكل لجمالها وحسن أدائها في الغناء حتى اختصت به .
(3) ديوان القرن الثالث : 175 .
(4) بحار الأنوار : 45 / 405 .
(5) رحلة عراقية لمحمد هارون : 100 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 285

وروى ابن عساكر (1) بإسناده إلى هشام بن محمد (2) قال لما أجري الماء على قبر الحسين نضب بعد أربعين يوماً وانمحى أثر القبر فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمه حتى وقع على قبر الحسين وبكى ، وقال بأبي أنت وأمي ما كان أطيبك وأطيب تربتك ميتاً ثم بكى وأنشأ يقول ـ من الطويل ـ :
أرادوا ليخفوا قـبره عن وليه فطيب تراب القبر دل على القبر (3)

لقد أراد المتوكل محو ذكر الحسين عليه السلام ولكنه قتل (4) عام 247 هـ وعلى فراشه بمعونة ابنه المنتصر (5) ولم يتم له ما قدره (6) .
ولما استقر الحكم للمنتصر في نفس السنة وبلغ مسامع الأشناني توجه من ساعته إلى كربلاء (7) ومعه جماعة من الطالبيين (8) والشيعة ، فلما وصلوا كربلاء أعادوا للقبر معالمه القديمة (9).

(1) ابن عساكر : هو علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي الشافعي ( 499 ـ 571 هـ ) المؤرخ الدمشقي الذي اشتهر بكتابه تاريخ مدينة دمشق والمعروف باسمه .
(2) هشام بن محمد : هو ابو النضر بن السائب الكلبي توفي عام 204 هـ ، مؤرخ عالم بالأنساب وأخبار العرب ، كثير التصانيف ، وله نيف ومئة وخمسون كتاباً منها : جمهرة الأنسان ، بيوتات قريش ، الكنى .
(3) ترجمة ريحانة الرسول المستل من تاريخ دمشق لابن عساكر : 275 ، ديوان القرن الثالث : 107 .
(4) في تاريخ كربلاء وحائر الحسين : 162 « وقد قتل على أثر هدمه للقبر الشريف ، قتله قواده الأتراك بإشارة من ابنه المنتصر » .
(5) المنتصر بالله : هو محمد بن جعفر المتوكل على الله ، الحادي عشر ممن حكم من بني العباس ( 247 ـ 248 هـ ) .
(6) تراث كربلاء : 35 ، نزهة أهل الحرمين : 31 .
(7) حيث كان قد زارها عام 240 هـ وشاهد مافعله المتوكل بأم عينه .
(8) جاء في كتاب شهر حسين : 218 قول للمحدث النوري : إنه كان برفقة الأشتاني ، إبراهيم بن محمد العابد ابن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام المعروف بسيد إبراهيم المجاب أو إبراهيم الضرير الكوفي فسكن بها وتزوج من بني أسد المجاورة .
(9) جريدة عاشوراء الطهرانية : العدد : 9 العام : 5 الصفحة : 3 التاريخ : محرم عام 1411 هـ ، تاريخ الحركة العلمية في كربلاء : 15 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 286

وعند ذاك أي عام 248 هـ أمر المنتصر العباسي ببناء مرقد الإمام الحسين عليه السلام وإعادته إلى ما كان عليه (1)، ونصب على قبره الشريف علماً طويلاً ليستهدي الناس إليه (2) ودعا إلى زيارته عليه السلام وعطف على آل أبي طالب وأحسن إليهم وفّرق فيهم الأموال وارجع إليهم الأوقاف الخاصة بهم كما ارجع فدكاً إليهم (3) ، فهب الشيعة إلى زيارته باطمئنان وراحة بال وجاوروه ، وفي ذلك يقول السماوي في أرجوزته :
حتى إذا ما انتصر المنتصر وآمن الناس أعيد الأثـر
وعـادت السكان والـديـار وشيد المقام والمزار (4)



(1) العراق قديماً وحديثاً : 129 ، تاريخ كربلاء وحائر الحسين : 164 عن مختصر تاريخ العرب للسيد أمير علي : 248 .
(2) وجاء في بعض كتب التاريخ : انه وضع على القبر سارية لإرشاد زوار قبر الحسين عليه السلام ، والسارية : هي الاسطوانة ، وعند الملاحين العمود الذي ينصب في وسط السفينة لتعليق القلوع به، بينما جاء في صحيفة البديل الإسلامي الدمشقية العدد : 620 الصفحة : 8 نقلاً عن يعقوب سركيس : إن المنتصر شيد ميلاً عالياً للدلالة على المرقد بعد أن بنى وشيد عليه سقيفة ، والميل : منار يبنى للمسافر في انشاز الارض يهتدى به ويدرك المسافة ، تاريخ الروضة الحسينية المصور : 9 .
(3) تاريخچه كربلاء : 59 ، تاريخ كربلاء وحائر الحسين : 165 ، مروج الذهب : 4/ 51 .
(4) مجالي اللطف : 2/ 20 .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 287

ولعل أقدم شخصية علوية سكنت كربلاء هو السيد إبراهيم المجاب (1) ابن محمد العابد بن الإمام الكاظم عليه السلام وابنه محمد (2) الحائري (3).
وقبل عام 271 هـ زار الحائر الشريف الداعي الكبير الحسن العلوي (4) ملك طبرستان وديلم فباشر بتشييد الحضرة الحسينية واتخذ حولها مسجداً ولم يكن الزمن كفيلاً بإنجازه حيث توفي عام 271 هـ ، وتولى بعده أخوه الملقب بالداعي الصغير محمد العلوي (5) الذي ملك طبرستان وديلم وخراسان(6) .
وفي سنة 273 هـ (7) تهدمت بناية المنتصر(8)، ومات جمع كثير من

(1) المجاب : توفي عام 200 هـ في كربلاء ودفن بها في الشمال الغربي من قبر الحسين عليه السلام وقبره معروف يزار ، وإنما لقب بذلك لأنه أتى قبر جده عليه السلام مخاطباً إياه : السلام عليك ياجداه فسمع الجواب من القبر الشريف فلقب بالمجاب لذلك ، وكان قد سكن كربلاء عام 247 هـ .
(2) الحائري : سكن كربلاء عام 247 هـ وتناسل بها وعرف بالحائري كما عرف نسله بآل الحائري وتفرع منهم آل شيتي ، ومن أفخاذهم آل فزار وآل فخار التي استوطنت الحائر والغري والحلة ، ومن آل الحائري السادة العواودة ، توفي في حي واسط ودفن فيه .
(3) تراث كربلاء : 35 ، نزهة أهل الحرمين في عمارة المشهدين : 36 .
(4) العلوي : هو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل الحسني المتوفى عام 270 هـ مؤسس الدولة العلوية في طبرستان ، كان يسكن الري ، بايعه الناس بعد الفتنة بين صاحب خراسان وأهل طبرستان ، فجاء إليهم وزحف بهم على ديار بكر فاستولى عليها وزاد جمعه فوجه جيشاً إلى الري فملكها ، استمر حكمه عشرين سنة ، مات في طبرستان عرف بحسن التدبير .
(5) محمد العلوي : هو محمد بن زيد بن إسماعيل الحسني المتوفى عام 287 هـ ، صاحب طبرستان والديلم ، تولى الحكم بعد وفاة أخيه الداعي الكبير سنة 270 هـ ، قتل على أثر جرح سام أصابه في واقعة له مع محمد بن هارون ، من أشياع إسماعيل الساماني على أبواب جرجان .
(6) تراث كربلاء : 78 .
(7) وذلك في أيام المعتمد ، الخامس عشر من حكام العباسيين والذي تولى الحكم ما بين ( 256 ـ 279 هـ ) وفي مدينة الحسين : 24 جاء سقوط الحرم سنة 270 هـ وعلى عهد المعتضد ، ولكنه غير صحيح لأن المعتضد تولى الحكم عام 279 هـ .
(8) العراق قديماً وحديثاً : 129 عن أمان الأخطار لابن طاووس ، ولم نعثر على ذلك =
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 288

الزائرين (1) لازدحام الروضة بالزوار لأنه صادف سقوطه في يوم عرفة أو العيد من ذي الحجة وقيل إن الموفق (2) كان وراء ذلك (3) فقام على أثر ذلك الداعي الصغير محمد بن زيد أمير جرجان بزيارة الحائر وأمر (4) بعمارة المرقد الشريف (5) فانتهى من بنائه عام 280 هـ (6) فوضع قبة شامخة على المرقد وبابين وبنى للمرقد إيوانين كما بنى سوراً حول الحائر

= في النسخة التي لدينا ، تاريخ مرقد الحسين والعباس : 79 ، فرحة الغري : 118 ، نزهة أهل الحرمين : 34 .
(1) تاريخچه كربلاء : 60 .
(2) الموفق بالله طلحة بن جعفر المتوكل كما في منجد الأعلام : 695 ، كان ولياً للعهد في خلافة أخيه المعتمد على الله ، توفي عام 278 هـ .
(3) تاريخچه كربلاء : 100 ، تاريخ كربلاء وحائر الحسين : 215 وجاء فيه نقلاً عن فرحه الغري : 61 ، ونزهة اهل الحرمين : 20 نقلاً عن أمان الأخطار لابن طاووس ،عن أبي الحسن بن علي بن الحسن بن الحجاج قال : بانهم « كانوا جلوساً في مجلس ابن عمه أبي عبد الله محمد بن عمران بن الحجاج وفيه جماعة من أهل الكوفة من المشايخ وفيمن حضر العباس بن أحمد العباسي ، وكانوا قد حضروا عنده يهنؤونه بالسلامة لأنه حضر وقت سقوط سقيفة سيدي أبي عبد الله الحسين بن علي بن طالب عليه السلام في ذي الحجة سنة 273 هـ ، فبينما هم قعود يتحدثون إذ حضر المجلس إسماعيل بن عيسى العباسي فأحجمت الجماعة عما كانت فيه وأطال إسماعيل الجلوس » ويعلق عبد الجواد الكليدار على هذا فيقول : ولو أخذنا بنظر الإعتبار ما جاء في ذيل الخبر المتقدم بسنده عن إسماعيل بن عيسى العباسي من أن عمه داود العباسي كان قد حاول في مثل هذا الوقت هدم قبر أمير المؤمنين عليه السلام سراً لانكشفت لنا حقيقة الأمر في حادث سقوط السقيفة على رؤوس الزائرين في حرم الحسين عليه السلام .
(4) تراث كربلاء : 78 ، المنتظم : 8 / 60 .
(5) العراق قديماً وحديثاً : 129 ، فرحة الغري : 109 ، وفي تاريخچه كربلاء : 60 أنه حمل معه أموالاً طائلة من بلاد العجم لبناء مرقد الإمام الحسين عليه السلام وأبيه أمير المؤمنين عليه السلام بعدما استأذن المعتضد العباسي ، ونقل عن تتمة منتهى الأمال : 370 أن مرقد الإمام الحسين عليه السلام قد كان بقي عشر سنوات مهدوماً ، ولكن عرفت أن بناء المرقد قد تهدم عام 274 هـ وقد تم تجديده عام 280 هـ فيكون الفاصل بين التاريخين ست سنوات لاعشر سنوات .
(6) العراق قديماً وحديثاً : 129 وجاء في تراث كربلاء : 78 انه انتهى من بنائه عام 283 هـ واستغرق عشر سنوات .
دائرة المعارف الحسينية ـ تاريخ المراقد ـ 1 289

ومنازل للزائرين والمجاورين (1).
ويصف السماوي في أرجوزته السقوط والبناء فيقول :
فـسقطـت سقيفـة الأجـداث فـي سـنة السبعين والثلاث
من بعد قرنين فما ضرت أحد وهنئ الزائـر بعد مـا ورد
وانتهـز الداعي هناك الفرصة وطلب الإذن له والرخصـة
إذ كان لم يدع إلى من قد ولي من الملوك بـل إلى آل علي
فـزار أولا ًلأرض النـجـف ثم لأرض الطف ذات الشرف
وشـاد قـبة لـهـا بـابـان ومـن حـواليهـا سقيفتـان
وعمر السور بهـا والمسكـنا ونول الساكن ماقد أمكنا (2)

وفي سنة 282 هـ أرسل محمد بن زيد مبلغ إثنين وثلاثين ألف دينار (3) لمساعدة العلويين والأشراف (4) عبر واليه محمد (5) بن ورد القطان (6) بل وجعلها عليهم سنوية (7) فاجتمعت الشيعة من جديد وبنت

(1) تاريخچه كربلاء : 60 ، وتراث كربلاء : 36 ـ 38 وفيه إنه بنى حوله مسجداً وسوراً .
(2) مجالي اللطف : 2/ 39 .
(3) الدينار : عملة نقدية ذهبية تعادل مثقالاً واحداً ، والمثقال وحدة وزن تعادل 25 و4 غرام .
(4) تاريخچه كربلاء : 61 ، الكامل لابن الأثير : 6 / 80 ، حوادث سنة 282 هـ .
(5) القطان : لقبه الجزري في الكامل والطبري في تاريخه بالعطار ، كان من الموالين لأهل البيت عليهم السلام والمقربين لحكام طبرستان .
(6) كتاب شهر حسين : 235 وفيه انه وشي إلى المعتضد بالله العباسي ( 279 ـ 289 هـ ) عن القاضي ، ولكن المعتضد كان قد رأى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في منامه وقد أوصاه بآله ولذلك لم يتعرض إلى ابن القطان بل كتب إلى محمد ابن زيد الداعي وأوصاه بإستمرار العطاء للعلويين المجاورين وبناء مراقد الإمامين علي والحسين عليه السلام وكان يحترم مرقد الإمام الحسين عليه السلام ، وجاء في تاريخ الطبري 5/ 611 ان محمد بن زيد العلوي أرسل من طبرستان الى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار ، ليفرقها على أهله ببغداد والكوفة ومكة والمدينة .
(7) تاريخچه كربلاء : 60 ، تتمة منتهى الآمال : 369 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي