البالغون الفتح في كربلاء 42

ألأرض ، وأورقت ألأشجار ، فأقدم علينا إذا شئت ، فإنما تقدم على جند لك مجندة ، والسلام عليك ورحمة ألله وبركاته وعلى أبيك من قبلك .
فقال الحسين عليه السلام لهانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبدألله الحنفي :
(خبراني من إجتمع على هذا الكتاب الذي ورد عليّ معكما؟)
فقالا : يابن رسول ألله شبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد إبن الحارث ، ويزيد بن رويم ، وعروة بن قيس ، وعمرو بن الحجاج ، ومحمد بن عمير بن عطارد .
قال فعندها قام الحسين عليه السلام فصلى ركعتين بين الركن والمقام وسأل ألله الخيرة في ذلك .
ثم دعا بمسلم بن عقيل رضي ألله عنه وأطلعه على الحال و كتب معه جواب كتبهم .
إبتداء مهمة السفارة :


خرج عليه السلام من مكة المكرمة سفيرا للإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة في منتصف شهر رمضان سنة ستين للهجرة ودخل الكوفة في اليوم الخامس من شهر شوال من السنة نفسها ، وكان الإمام الحسين عليه السلام قد سرح معه قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبيدألله السلولي وعبدالرحمن بن عبدألله بن الكدن ألأرحبي وقيل بعث معه أيضا عبدألله بن يقطر كما نص على ذلك الشيخ السماوي في إبصار العين . وأوصاه ألإمام عليه السلام بتقوى ألله وكتمان أمره واللطف فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك .
فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلى في مسجد رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم

البالغون الفتح في كربلاء 43

وودع من أحب من أهله ، ثم إستأجر دليلين من قيس ـ فأقبلا به فضلا الطريق وجارا ، وأصابهم عطش شديد ، وقال الدليلان : هذا الطريق ينتهي إلى الماء ، وقد كادوا أن يموتوا عطشا . وتوفي الدليلان في المكان(1).

إفتراء تأريخي :


يذكر المؤرخون أن مسلما بعد موت الدليلين وبعدما أصابه من الجهد والتعب تخوف على نفسه فكتب إلى الحسين عليه السلام رسالة يرجوه فيها إعفاءه من مهمة السفارة وهذا نصها :
أما بعد ، فإني أقبلت من المدينة ومعي دليلان لي ، فجارا عن الطريق وضلا ، وإشتد علينا العطش ، فلم يلبثا أن ماتا ، وأقبلنا حتى إنتهينا إل الماء ، فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت ، وقد تطيرت من وجهي هذا ، فإن رأيت أعفيتني عنه ، وبعثت غيري والسلام(2).

جواب ألإمام الحسين عليه السلام :


وكتب ألإمام عليه السلام جوابا لرسالة مسلم هذا نصه :
أما بعد ، فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب إلي في ألإستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن ، فإمض لوجهك الذي وجهتك له ، والسلام عليك .

(1) لسان الملك : ناسخ التواريخ ج2 ص 264 .
(2) المصدر السابق ص 265 .
البالغون الفتح في كربلاء 44

الحقيقة :


لو تأملنافي ما جاء بالرسالة المنسوبة إلى مسلم بن عقيل رضي الله عنه وكذلك الجواب المنسوب إلى ألإمام الحسين عليه السلام لرأينا بوضوح ودون أدنى شك أنها من موضوعات إعلام الحزب ألأموي والهدف منها تشويه صورة هذا البطل العظيم والفارس المقدام الذي شهدت له سوح القتال بالبسالة وألإقدام وقد رد سماحة حجة ألإسلام الشيخ باقر شريف القرشي على هذه التخرصات بألآتي :
أولا : أن مضيق الخبت الذي بعث منه مسلم رضوان ألله عليه رسالته إلى ألإمام الحسين عليه السلام يقع ما بين مكة والمدينة حسبما نص عليه الحموي في حين أن الرواية تنص على أنه إستأجر الدليلين من يثرب ، وخرجوا إلى العراق فضلوا عن الطريق ومات الدليلان ، ومن الطبيعي أن هذه الحادثة وقعت ما بين المدينة والعراق ولم تقع مابين مكة والمدينة (1).
ثانيا : أنه لو كان هناك مكان يدعى بهذا ألإسم يقع ما بين يثرب والعراق لم يذكره الحموي فإن السفر منه إلى مكة ذهابا وإيابا يستوعب زمانا يزيد على عشرة أيام ، في حين أن سفر مسلم رضوان ألله عليه من مكة إلى العراق قد حدده المؤرخون فقالوا : أنه سافر من مكة في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان ، وقدم إلى الكوفة في اليوم الخامس من شوال ، فيكون مجموع سفره عشرين يوما ، وهي أسرع مدة يقطعها المسافر من مكة إلى الكوفة ، فإن المسافة بينهما تزيد على الف وستمائة كيلومتر ، وإذا إستثنينا من هذه المدة سفر رسول مسلم رضوان ألله عليه من ذلك المكان ، ورجوعه إليه ، فإن مدة سفره من مكة إلى الكوفة تكون أقل من عشرة أيام ، ويستحيل عادة قطع تلك المسافة بهذه الفترة من الزمن .

(1) القرشي : حياة ألإمام الحسين عليه السلام ج2 ص 358 .
البالغون الفتح في كربلاء 45

ثالثا : إن ألإمام الحسين عليه السلام إتهم مسلما ـ في رسالته ـ بالجبن ، وهو يناقض توثيقه له من أنه ثقته وكبير أهل بيته ، والمبرّز بالفضل عليهم ، ومع إتصافه بهذه الصفات كيف يتهمه بالجبن ؟ !
رابعا : كان مسلم ممن إلتحق مع الركب الحسيني من المدينة إلى مكة وقد بين ألإمام الحسين عليه السلام إلى من معه من بني هاشم وألأنصار أهداف نهضته ومصيره المحتوم بل وأكثر من ذلك إلتحق مع مسلم إخوته وأولاده وهذا يؤكد عدم صحة رواية الطبري .
خامسا : إن ألإمام الحسين عليه السلام قد بيّن لمسلم رضوان ألله عليه بأن نهاية أمره في هذا الطريق هو الفوز بدرجة الشهادة إذ روي أنه عليه السلام قال له وهو يودعه في مكة (إني موجهك إلى أهل الكوفة ، وسيقضي ألله من أمرك ما يحب ويرضى ، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ، فإمض ببركة ألله وعونه حتى تدخل الكوفة ، فإذا دخلتها فإنزل عند أوثق أهلها ، وأدع الناس إلى طاعتي ، فإن رأيتهم مجتمعين على بيعتي فعجل عليّ بالخبر حتى أعمل على حسب ذلك إن شاء ألله تعالى ) ثم عانقه الحسين عليه السلام وودعه وبكيا جميعا (1).
سادسا :إن إتهام مسلم رضوان ألله عليه بالجبن يتناقض مع سيرته ، فقد أبدى هذا البطل العظيم من البسالة والشجاعة النادرة ما يبهر العقول ، فإنه حينما إنقلبت عليه جموع أهل الكوفة قابلها وحده من دون أن يعينه أو يقف إلى جنبه أي أحد ، وقد أشاع في تلك الجيوش الكبيرة القتل مما ملأ قلوبهم ذعرا وخوفا . ولما جيء به أسيرا إلى غبن زياد لم يظهر عليه أي ذل أو إنكسار . ويقول فيه البلاذري : إنه أشجع بني عقيل وارجلهم ، بل هو اشجع هاشمي عرفه التأريخ بعد أئمة أهل البيت عليهم السلام .

(1) مقتل الخوارزمي : ج1 ص 284 .
البالغون الفتح في كربلاء 46

إن هذا الحديث من المفتريات التي وضعت للحط من قيمة هذا القائد العظيم الذي هو من مفاخر ألأمة العربية ألإسلامية .

شبهة مغلوطة :


في كتاب دراسات حول كربلاء ودورها الحضاري دراسة للباحثة العراقية بدور زكي الدده حيث ذكرت في ص 34 من الكتاب (إن الحسين لم يجد من رجال بني هاشم من يقوم بتلك المهمة ـ أي السفارة ـ لأنهم لم يكونوا موافقين على خروجه من المدينة بحيث لم يخرجوا معه مما إضطر الحسين عليه السلام إلى تكليف مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه لمهمة السفارة ثم أضافت وقد لا يكون إبن عقيل مقتنعا بما أسند إليه ولكنه سار إحتراما لإرادة الحسين دون رغبة منه )(1)إن ألأخت الباحثة لم تعتمد الحقيقة في أطروحتها وعند قراءتي لنصوص الدراسة رأيت إرتباكا وإضطرابا في بعض حلقاتها ويبدو أن هذا ناشئا من رغبتها في إضافة شيء جديد مغاير لما إعتمده كتاب النهضة الحسينية مما أوقعها في هفوات كثيرة ومطبات وضياع للحقائق كانت هي في غنى عنها وكان ألأحرى بها أن تتصفح كتب النهضة الحسينية بتأن وتأمل ووضوح لتقف على حقيقة تاريخية مفادها أن أغلب كتّاب الشيعة ممن كتبوا في هذا المجال تجردوا تماما عن العاطفة ونقلوا شواهدا حية ووقائع لا لبس فيها إستندت إلى ألأسس العلمية الصحيحة المستندة إلى الواقع الصحيح متجردين عن ذاتيتهم .
وحتى البعض منهم ممن طغت على كتاباته روح العاطفة إلا أنهم

(1) الكتاب سلط الضوء على وقائع الندوة العلمية التي عقدت في لندن بتأريخ 10 ـ 11 / ذي القعدة / 1316 هـ الموافق 30 ـ 31 / 3 / 1996 م .
البالغون الفتح في كربلاء 47

لم يجانفوا الحقيقة وأن الباحثة قد تريد بهذه الطريقة أن تنجرف مع بعض الكتاب المنحرفين الذين كتبوا بعدم شرعية نهضة الحسين عليه السلام أمثال إبن خلدون والغزالي وغيرهما وكان على الباحثة أن تخوض في أعماق التاريخ لتتحرى عن المواقف الصحيحة قبل توجيه ألإتهام . إن ألإمام الحسين عليه السلام إمام معصوم وارث علم جده رسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أكد على إمامة الحسن والحسين بقوله صلى ألله عليه وآله وسلم : (الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا) فلا يمكن بأي حال من ألأحوال ألإعتراض عما يصدر منه والراد على المعصوم كالراد على ألله عز وجل . وهنا نود أن نبين بعض الحقائق بخصوص التهمة التي وجهتها ألأخت الباحثة بعدم إلتحاق بعض رجالات بني هاشم بألإمام الحسين عليه السلام قال الشيخ نجم الدين الطبسي : عن سبب تخلف إبن عباس عن ألإمام : كان عبدألله بن عباس مؤمنا بإمامة أهل البيت عليهم السلام من بعد رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم عارفا بحقهم والجهاد تحت رايتهم لا يتردد في إظهار إعتزازه وإفتخاره بما أنعم ألله عليه به من موالاتهم وحبهم وألإنقياد لهم وألإمتثال لأمرهم وكان إبن عباس رضي الله عنه قد حفظ ما سمع من رسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أمير المؤمنين علي عليه السلام ما أخبرا به حول مقتل الإمام الحسين عليه السلام وألأرض التي يقتل فيها وأسماء أصحابه ، فها هو يروي قائلا : (كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام في خروجه إلى صفين ، فلما نزل بنينوى وهو بشط الفرات قال بأعلى صوته : يابن عباس ، أتعرف هذا الموضع ؟
قال له : ما أعرفه يا أمير المؤمنين !
فقال عليه السلام : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي !
قال : فبكى طويلا حتى إخضلت لحيته وسالت الدموع على صدره .

البالغون الفتح في كربلاء 48

وكان إبن عباس يقول ما كنا نشك ، وأهل البيت متوافرون ، أن الحسين بن علي يُقتل بالطف )(1) إذن لماذا لم يلتحق إبن عباس بالركب الحسيني ليفوز بشرف نصرة سيد المظلومين عليه السلام وبشرف الشهادة بين يديه !؟
فهل كان تقادم العمر به قد أعجزه عن القدرةعلى النصرة !؟
إذا علمنا أن إبن عباس رضوان ألله عليه توفي سنة 68 للهجرة أو 69 وله من العمر سبعون عاما أو واحد وسبعون أدركنا أن عمره سنة 60 للهجرة كان إثنين وستين عاما أو ثلاثة وستين عاما فهو أكبر من ألإمام الحسين عليه السلام بحوالي خمسة أعوام ، إذن فقد كان قادرا على الجهاد مع ألإمام عليه السلام من حيث السلامة البدنية ، خصوصا لم يرو أنه كان مريضا آنذاك كما روي بصدد محمد بن الحنفية رضوان ألله عليه مثلا . فما هي علة تخلفه إذن ؟ هنا ينبغي أن نذكر أن إبن عباس قد كف بصره آخر عمره .
ذكر الشيخ الطوسي رحمه ألله في أماليه بسنده إلى سعيد بن جبير (وهو الذي كان يقود إبن عباس بعد أن كف بصره) عن عبدألله بن عباس قال : (بينا أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخا عظيما عاليا من بيت أم سلمة زوج النبي صلى ألله عليه وآله وسلم فخرجت يتوجه بي قائدي إلى منزلها ، واقبل أهل المدينة إليها الرجال والنساء .
فقول إبن عباس : (فخرجت يتوجه بي قائدي إلى منزلها ) كاشف ـ على ألأصح ـ عن مكفوفية بصره آنذاك (أو عن ضعف شديد جدا في بصره) ، لحاجته إلى قائد يقوده هو ، وليس إلى قائد يقود دابته ـ كما قد يحتمل ـ وذلك لقرب المسافة ، بدليل أنه سمع الصراخ بأذنه وشخص إن الصراخ كان مصدره من بيت أم سلمة رضوان ألله عليها .

(1) نجم الدين الطبسي : المجموعة الموضوعية ج2 ص 235 .
البالغون الفتح في كربلاء 49

مما تقدم نكاد نطمئن إلى أن إبن عباس رضوان ألله عليه كان يعاني من ضعف شديد في بصره أو كان مكفوفا بصره سنة ستين للهجرة ـ وبالذات في ألأيام التي كان فيها ألإمام الحسين عليه السلام في مكة المكرمة ـ ألأمر الذي أعجزه عن القدرة على ألإلتحاق بالإمام عليه السلام والجهاد بين يديه ، فكان معذورا ، ولعل هذا هو السر في عدم دعوة ألإمام عليه السلام إياه للإنضمام إليه ، وترخيصه إياه في العودة إلى المدينة ليرصد له أخبار السلطة ألأموية والناس فيها حيث يقول عليه السلام : (يابن عباس ، إنك إبن عم والدي ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك وكنت مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد ، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير بالصواب ، فإمض إلى المدينة في حفظ ألله وكلائه ، ولا يخف عليّ شيء من أخبارك ..) قال السيد محمد تقي الحكيم : أما إبن عباس فحسبه من شيخوخته وعماه معذور عن الخروج مع الحسين عليه السلام (1) أما موقف محمد إبن الحنفية المشتهر بلقب أمه خولة الحنفية (إبن الحنفية) وقيل إنها من سبي اليمامة (الذين سبوا لولايتهم لعلي عليه السلام بذريعة إمتناعهم عن أداء الزكاة فأرادوا بيعها فصارت إلى علي عليه السلام فتزوجها . يقول الشيخ نجم الدين الطبسي : يكاد يشترك محمد إبن الحنفية مع عبدألله بن عباس في الموقف من نهضة ألإمام الحسين عليه السلام بإتجاهين ، أولهما تأييد قيام ألإمام عليه السلام .
ثانيا : ألإعتراض على خروج ألإمام عليه السلام إلى الكوفة وترجيح اليمن إلى إنطلاق الثورة الحسينية إلى جميع البلدان ألإسلامية )(2).
لم نعثر ـ حسب تتبعنا ـ على مأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بصدد علة تخلف محمد إبن الحنفية رضوان الله عليه عن ألإلتحاق بألإمام الحسين عليه السلام

(1) محمد تقي الحكيم : عبدألله بن عباس : ج1 ص 457 .
(2) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 50

سوى هذه الرواية التي يرويها إبن فروخ صاحب (بصائر الدرجات) بسنده عن حمزة بن حمران عن ألإمام الصادق عليه السلام يقول حمزة : (ذكرنا خروج الحسين وتخلف إبن الحنفية عنه ، قال : قال أبو عبدألله عليه السلام : يا حمزة إني سأحدثك في هذا الحديث ولا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا : إن الحسين لما فصل متوجها دعا بقرطاس وكتب :
بسم ألله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى بني هاشم : أما بعد ، فإنه من لحق بي منكم إستشهد معي ، ومن تخلف لم يبلغ الفتح . والسلام .
مع هذا ، فإن من علماؤنا من روى ونقل أن محمد إبن الحنفية كان مرضا أيام خروج ألإمام الحسين عليه السلام إلى درجة أنه كان لا يقوى على حمل السيف وفي طليعة هؤلاء ألأعلام السيد إبن طاوُس فقد أورد في كتابه : عن أبي مخنف قوله :
(وقد كان محمد إبن الحنفية موعوكا ، لأنه أهدى إلى أخيه الحسين عليه السلام درعا من نسج داود على نبينا وعليه السلام ، فلبسه ففضل عنه ذراع وأربعة أصابع ، فجمع محمد إبن الحنفية ما فضل منه وفركه بيده فقطعه ، فأصابته نظرة ، فصارت أنامله تجري دما مدة ، ولهذا لم يخرج مع الحسين عليه السلام يوم كربلاء لأنه ما كان يقدر أن يقبض قائم سيف ولا كعب رمح ) .
أما سبب تخلف عبدألله بن جعفر عن ألإلتحاق بالإمام الحسين عليه السلام فيقول الشيخ نجم الدين الطبسي : لا شك أن المتتبع العارف بسيرة عبدألله بن جعفر رضوان ألله عليه وبأخباره وبمواقفه الجريئة في الدفاع عن الحق ودحض الباطل ، وبإنقطاعه إلى عمه أمير المؤمنين علي عليه السلام

البالغون الفتح في كربلاء 51

والحسنين عليهما السلام من بعده ، وبمعرفته بأئمته الذين فرض ألله طاعتهم وولايتهم ، وبعلاقته الحيميمة بألإمام الحسين عليه السلام وبقربه منه ، يقطع مطمئنا بأن السيد الهاشمي ألإمامي الشجاع البصير المنقطع إلى ألإمام الحسين عليه السلام كان عارفا بفرض إمتثال أمر إمامه عليه السلام ، وبوجوب نصرته فلابد أنه كان معذورا في عدم إلتحاقه بالركب الحسيني ، وكيف يتخلف بلا عذر وقد خرجت زوجته وإبنة عمه المكرمة زينب الكبرى بنت علي عليه السلام وخرج ولداه أو أولاده ـ مع الإمام عليه السلام في رحلة الفتح بالشهادة !؟
أما ما هو عذره في عدم ألإلتحاق بألإمام عليه السلام فإننا لم نعثر ـ مع تتبع غير يسير ـ على مصدر يشخص نوع العذر ، إلا ما وجدناه في كتاب (زينب الكبرى) للمحقق الشيخ جعفر النقدي ، حيث يقول : (أما عدم خروجه مع الحسين عليه السلام إلى كربلاء فقد قيل أنه مكفوف البصر !) (1).
هذه مواقف أبرز شخصيات بني هاشم التي لم تخرج مع ألإمام الحسين عليه السلام .

شجاعة مسلم رضوان ألله عليه وقيادته للحرب :


بعد أن فشلت رسل السلام التي بعثها ألإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى معاوية عبأ ألإمام جيوشه للحرب وعين لها القادة الذين تستند إليهم عمليات الحرب ، كان منهم الشهيد الخالد مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه حسب رواية المحقق إبن شهر آشوب ومعنى ذلك أن مسلما كان في وضع متميز من نواح متعددة وهي :
أولا:إن مسلما كان في شرخ الشباب في حرب صفين حينما

(1) الطبسي : المجموعة الموضوعية ج3 ص 276 ـ 277 .
البالغون الفتح في كربلاء 52

أسندت له قيادة فيلق في جيش ألإمام عليه السلام ومن المستبعد جدا أن لا يكون في غير هذا السن .
ثانيا : إن مسلما كانت له الدراية الكاملة في عمليات الحرب وشؤون القتال فإنه لا يعهد بالقيادة في الجيش لأي أحد ما لم تتوفر فيه قابليات القيادة من الشجاعة والبسالة وألإيمان بعدالة قضية ما يقاتل من أجلها(1).
ثالث : إن مسلما في ترشيحه لمنصب القيادة في الجيش كان بمكانة مرموقة يضارع فيها عظماء القادة في جيش ألإمام عليه السلام كالزعيم من أفذاذ القادة في إيمانهم وسمو مكانتهم .

مسير مسلم إلى الكوفة :


أقبل مسلم كما هو مرسوم له حتى مر بماء لطيء ، فنزل بهم ، ثم إرتحل منهم ، فإذا رجل يرمي ظبيا ، فنظر إليه حين أشرف له ، فصرعه ، فقال مسلم : يقتل عدونا إن شاء ألله ، ثم أقبل مسلم حتى نزل الكوفة .
قال أبو مخنف : وعند وصوله الكوفة نزل دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيب ويقال أنه نزل عند مسلم بن عوسجة لكن المشهور أنه نزل دار المختار . ثم إرتحل إلى دار هانئ بن عروة (2).

البيعة :


رحب الكوفيون بالضيف الكريم النازل ، ترحيب ألإخلاص وأقبلوا

(1) القرشي : حياة مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه ص 91 .
(2) تاريخ الطبري : ج4 ص 562 .
البالغون الفتح في كربلاء 53

يحفزون لتقبيل يده ، ويتحدشون للتسليم عليه وتقديم واجب الطاعة وألإنقياد ،فإكتظت الشوارع بجماهير الهاتفين بتحيات ألإستقبال وإمتلأت الدار على سعتها بالمزدحمين من مختلف الطبقات على الترحيب به حاملين وسام حفلة الحفاوة بقدومه رافعين شعار التهاني وألإبتهاج بتشريفه (1).
وهناك قام يتلو منشور سفارته : كتاب الحسين عليه السلام إليهم كما عرفته يأمرهم فيه بإقامة السنن ألإسلاميية وإحياء العدل والشرع ويحثهم على التعاون في سبيل ألإصلاح ، وبعد الفراغ من قراءته عبّر عن مقاصده العالية والبواعث التي دفعته بدافعها المحكم وجذبته بجاذبيتها القوية ويعرب عن إخلاصه للدين والشرع وألإنسانية فأجابت ألسنة الحاضرين تعلن بإخلاصها لكلا الداعيين المُرسِل والمُرسَل وللمدعو إليه الكتاب والسنة والعدل وألإصلاح وتقدم من سمت به همته العالية وقاده إخلاصه ونصحه الوثيق يعرب عما إستكن في نفسه وصمم عليه من العزم على نصرة هذا الدين الذي إنثلم بحكومة الجبارين وإغاثة أهله المضطهدين تحت سلطة أعدائه الجائرين .

قول الصادقين :


رغم الجموع الكبيرة التي حضرت وإدعت البيعة فلم يقم من هؤلاء القوم إلى ثلاثة نطقوا بلسان الحق والصدق فكانوا فعلا كما عاهدوا ألله عليه أظهورا لمسلم إستعدادهم التام والكامل للتضحية والفداء من أجل ما جاء به مسلم وهم من أكابر شهداء الطف فها هو عابس بن شبيب الشاكري قام فحمد ألله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإني لا أخبرك عن الناس ، ولا أعلم ما في أنفسهم ، وما أغرك منهم ، وألله لأحدثنك عما

(1) الشيخ المظفر : سفير الحسين عليه السلام ص 59 .
البالغون الفتح في كربلاء 54

أنا موطن نفسي عليه ، وألله لأجبينكم إذ دعوتم ، ولأقاتلن معكم عدوكم ، ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى ألله ، لا أريد بذلك إلا ما عند ألله .
فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي ألأسدي ، فقال : رحمك ألله ! قد قضيت ما في نفسك ، بواجز من قولك ، ثم قال : وأنا وألله الذي لا إله إلا هو مثل ما هذا عليه .
ثم قال الحنفي مثل ذلك . فقال الحجاج بن علي : فقلت لمحمد بن بشر : فهل كان لك قول ؟ فقال : إن كنت لأحب أن يعز ألله أصحابي بالظفر ، وما كنت لأحب أن أقتل ، وكرهت أن أكذب .
يقول الشيخ المظفر (1): لم تنته هذه الجلسة إلا بموفقة الحضور جميعا على نصرة الدين والعدل وإطباقهم على بيعة الداعي إليهما والقائم بنصرتهما وهو الحسين سيد شباب أهل الجنة لم تمض سوى أيام قليلة حتى ضم ديوانه (دفتر السجل) إثناعشر الفا ، وقيل ثمانية آلاف ، ويقال أكثر من ذلك كلهم من أهل العراق ، وكلهم يظهر ألإخلاص في المحبة والتفاني في الولاء ويدعي الوفاء بهذه البيعة مهما كلفه ألأمر في سبيل إتمامها وقديما قيل :
إن من يدعي بما ليس فيه كذبته شواهد ألإمتحان

هذا هو الذي دعا ذلك الحازم مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه أن يكتب للحسين عليه السلام بتعجيل القدوم إلى مصر الكوفة (إن الرائد لا يكذب أهله إن جمع أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابي والسلام عليك) .
وكان الكتاب قبل مقتله بسبع وعشرين ليلة .

(1) الشيخ المظفر : سفير الحسين عليه السلام ص 60 .
البالغون الفتح في كربلاء 55

موقف النعمان بن بشير :


ومع تزايد عدد المبايعين لمسلم رضوان ألله عليه وإلتفاف الناس حوله ، كان لا بد للأمر أن يفشي بين الناس في الكوفة ، ويصير موضوع مسلم رضوان ألله عليه وقضية إنتظار الناس لمجيء ألإمام عليه السلام حديث الساعة يومذاك في المساجد والبيوت وألأسواق والطرقات ، فلما تعاظم ألأمر وإخترق حجب الستر ، علم النعمان بن بشير بن سعد الخزرجي والي الكوفة آنذاك بالتحولات الجديدة وأحس بالخطر الداهم .
قال أبو مخنف : (فصعد المنبر ، وقال : أما بعد فإتقوا ألله عباد ألله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فإن فيهما يهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب ألأموال ـ وكان النعمان حليما ناسكا يحب العافية ـ قال : إني لم أقاتل من لم يقاتلني ، ولا أثب على من لا يثب عليّ ، ولا أشاتمكم ، ولا أتحرش بكم ، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة ، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم ، فوألله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر ، أما أني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل )(1).
فلما أتم خطبته إعترض عليه أحد حلفاء بني أمية وعملائهم ، وهو عبدألله بن مسلم بن سعيد الحضرمي ، فقال : (إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم ! إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين !!
فقال : إن أكون من المستضعفين في طاعة ألله أحب إليّ من أن أكون من ألأعزين في معصية ألله . ثم نزل ..) .

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 563 .
البالغون الفتح في كربلاء 56

تعليق :


جاء في المجموعة الموضوعية : لم يكن النعمان بن بشير محبا لأهل البيت عليهم السلام ولا ذا ميل إليهم ، لقد كان له ولأبيه تاريخ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان النعمان عثماني الهوى يجاهر ببغض علي عليه السلام ويسيء القول فيه ، وقد حاربه يوم الجمل وصفين ، وكان يتبنى سياسة معاوية في قيادة حركة النفاق تبنيا تاما (وكان من معالم هذه السياسة أن معاوية كان يتحاشى المواجهة العلنية مع ألإمام الحسين عليه السلام وأن معاوية لو إضطر إلى مواجهة علنية أي إلى قتال ألإمام الحسين عليه السلام ، وظفر بألإمام لعفا عنه ، وليس ذلك حبا للإمام عليه السلام وإنما لأن معاوية ـ وهو من دهاة السياسة النكراء والشيطنة ـ يعلم أن إراقة دم ألإمام الحسين عليه السلام علنا وهو بتلك القدسية البالغة في قلوب ألأمة كفيل بأن يفصل ألأموية عن ألإسلام ، ويذهب بجهود حركة النفاق عامة والحزب ألأموي خاصة أدراج الرياح خصوصا الجهود التي بذلها معاوية في مزج ألأموية بالإسلام في عقل ألأمة وعاطفتها مزجا لم يعد أكثر هذه ألأمة بعدها يعرف إلا (ألإسلام ألأموي) ، حتى صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين ألإسلام ألأموي إلا إذا أراق ذلك الدم المقدس ـ دم ألإمام عليه السلام ـ على مذبح القيام ضد الحكم ألأموي) (1). من هنا كان إسلوب النعمان بن بشير في معالجته لمستجدات ألأمور في الكوفة ـ بعد ورود مسلم رضوان ألله عليه ـ يتسم باللين والتسامح ، أنه كان يرى ـ إيمانا بنظرة معاوية ـ أن المواجهة العلنية مع ألإمام الحسين عليه السلام ليست في صالح الحكم ألأموي .

(1) نجم الدين الطبسي : ج2 ص 63 .
البالغون الفتح في كربلاء 57

فلم يكن النعمان ضعيفا ، أو (حليما ناسكا يحب العافية) كما صورته رواية الطبري ، أو (يحب العافية ويغتنم السلام) كا صورته رواية الدينوري ، بل كان يتضعف مكرا وحيلة ، معولا على ألإسلوب السري والخدعة الخفية للقضاء على الثورة والتخلص من مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه ، بل التخلص حتى من ألإمام عليه السلام ، فهو ـ أي النعمان بن بشير ـ شيطان يحذو حذو معاوية كبيرهم الذي علمهم الشيطنة في رسم الخطط الماكرة . من ناحية أخرى أن النعمان كان منحرفا عن يزيد بن معاوية (لع) لأن يزيد كان شديد البغض للأنصار وحمل ألأخطل النصراني على هجائه فثأر لهم النعمان اضف إلى ذلك أن مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه كان ضيفا عند المختار والمختار هو زوج إبنة النعمام عمره فلم يعرض للثوار بسوء رعاية للمختار .
لكن تسارع حركة ألأحداث في الكوفة يومذاك ، والتحولات الكبيرة في ظاهر حياتها السياسية أفزعا ألأمويين وعملاءهم وجواسيسهم من تجارب الرأي العام في الكوفة مع مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه ، ورأوا أن زمام ألأمور سيكون بيد الثوار تماما إن لم تبادر السلطة المحلية في الكوفة إلى إتخاذ التدابير اللازمة الكفيلة بإعادة الوضع الكوفي إلى سابق إستقراره النسبي ، ورأوا أن سياسة اللين والتسامح التي كان يمارسها لا (بتضعفة) النعمان بن بشير سوف تؤدي إلى سقوط الكوفة فعلا بيد مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه ، وكان رأيهم أن لا خلاص من هذا المأزق إلا بعزل النعمان ومجيء وال جديد ظلوم غشوم ، وبهذا بادروا إلى كتابة تقاريرهم السرية بهذا النظر ورفعوها إلى يزيد في الشام .

فزع الحزب ألأموي :


بعد خطبة النعمان تسابق مناصروا الحزب ألأموي وكتبوا إلى الحكومة المركزية في الشام يعلمونها بموقف النعمان فخرج عبدألله بن

السابق السابق الفهرس التالي التالي