البالغون الفتح في كربلاء 58
مسلم من ألإجتماع وكتب إلى يزيد بن معاوية (لع) . ومنذ ذلك اليوم توالت التقارير المرفوعة من قبل الأمويين وعملائهم وجواسيسهم في الكوفة إلى يزيد في الشام تخبره بمستجدات حركة ألأحداث في الكوفة وبموقف النعمان بن بشير منها ، وقد إجتمعت هذه التقارير المرفوعة إلى يزيد تقول : (فإن كان لك بالكوفة حاجة فإبعث إليها رجلا قويا ، يُنفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف)(1)فكان أول من كتب إليه ثم كتب إليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه ، ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص بمثل ذلك (؟) .
ولاية الكوفة لعبيدألله :


قال هشام : فلما إجتمعت الكتب عند يزيد ليس بين كتبهم إلا يومان دعا يزيد بن معاوية (لع) سرجون مولى معاوية فقال : ما رأيك ؟ فإن حسينا قد توجه نحو الكوفة ، ومسلم بن عقيل رضوان ألله عليه بالكوفة يبايع للحسين ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء ـ وأقرأه كتبهم ـ فما ترى من أستعمل على الكوفة ؟ وكان يزيد عاتبا على عبيدألله بن زياد (لع) ، فقال سرجون : أرأيت معاوية لو نُشر لك ، أكنت آخذا برأيه ؟ قال : نعم ، فأخرج عهد عبيدألله على الكوفة فقال : هذا رأي معاوية ، ومات وقد أمر بهذا الكتاب ، فأخذ برأيه وضم المصرين إلى عبيدألله وبعث إليه بعهده على الكوفة (2).
ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي ـ وكان عنده ـ فبعثه إلى عبيدألله بعهده إلى البصرة ، وكتب إليه معه : أما بعد ، فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني إن إبن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 563 .
(2) المصدر السابق ص 564 .
البالغون الفتح في كربلاء 59

المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب إبن عقيل كطلب الخرزة حتى تظفر به فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام . فأقبل مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيدألله بالبصرة ، فأمر عبيدألله بالجهاز والتهيؤ والمسير إلى الكوفة من الغد .

خروج عبيدألله من البصرة :


خرج عبيدألله من البصرة وإستخلف أخاه عثمان واقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي وخمسمائة من أهل البصرة منهم عبدألله بن الحارث بن نوفل ، وشريك بن ألأعور الحارثي وكان من خلص شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام فكان أول من سقط وحشمه وأهل بيته ، فيقال : أنه تساقط غمرة ومعه ناس ـ ثم سقط عبدألله بن الحارث وسقط معه ناس ، ورجوا أن يلوي عليهم عبيدألله ويسبقه الحسين إلى الكوفة ، فجعل لا يلتفت إلى من سقط ، ويمضي حتى ورد القادسية ، وسقط مهران مولاه ، فقال : أيا مهران ، على هذه الحال ، إن أمسكت عنك حتى تنظر إلى القصر فلك مائة ألف ، قال : لا ، وألله ما أستطيع (1).

تنكر إبن زياد :


فنزل عبيدألله فأخرج ثيابا مقطعة من مقطعات اليمن ثم إعتم بعمامة يمانية . فركب بغلته ثم إنحدر راجلا وحده ، فجعل يمر بالمحارس فكلما نظروا إليه يشكون أنه الحسين ، فيقولون : مرحبا يابن رسول ألله وجعل لا يكلمهم ، وخرج إليه الناس من دورهم وبيوتهم ، وسمع بن النعمان بن بشير فغلق عليه وعلى خاصته ، وإنتهى إليه عبيدألله وهو لا يشك أنه الحسين ، ومعه الخلق يضجون ، فكلمه النعمام ، فقال :

(1) المصدر السابق : 565 .
البالغون الفتح في كربلاء 60
أنشدك ألله إلا تنحيت عني ! ما أنا بمسلم لك أمانتي ، وما لي في قتلك من أرب ، فجعل لا يكلمه . ثم أنه دنا وتدلى ألآخر بين شرفتين ، فجعل يكلمه فقال : إفتح لا فتحت ، فقد طال ليلك ، فسمعها إنسان خلفه ، فتكفى إلى القوم ، فقال : أي قوم ، إبن مرجانة ، والذي لا إله غيره ! فقالوا : ويحك ! إنما هو الحسين ، ففتح له النعمان ، فدخل ، وضربوا الباب في وجوه الناس ، فإنفضوا ، وأصبح فجلس على المنبر فقال : أيها الناس ، إني لأعلم أنه قد سار معي ، وأظهر الطاعة لي من هو عدو للحسين حين ظن أن الحسين قد دخل البلد وغلب عليه ، وألله ما عرفت منكم أحد-ا ثم نزل (1).

خطبته في الكوفة :


قال هشام : قال أبو مخنف : لما نزل القصر نودي : الصلاة الجامعة ، قال : فإجتمع الناس ، فخرج إلينا فحمد ألله واثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإن أمير المؤمنين اصلحه ألله ولاني مصركم وثغركم ، وامرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، وبألإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم وأنا متبع فيكم أمره ، ومنفذ فيكم عهده ، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري ، وخالف عهدي ، فليبق إمرؤ على نفسه . الصدق ينبئ عنك لا الوعيد ، ثم نزل .

إجراءات إرهابية :


ثم إتبع خطابه بإجراء قمعي رهيب (فأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا ، فقال : أكتبوا إلي الغرباء ، ومن فيكم من طلبه أمير المؤمنين ،

(1) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 61

ومن فيكم من الحرورية (1) ، وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق ! فمن كتبهم لنا فبريء ، ومن لم يكتب لنا أحدا فيضمن لنا ما في عرافته إلا يخالفنا منهم مخالف ، ولا يبغ لينا منهم باغ ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة ، وحلال لنا ماله وسفك دمه ، وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره ، وألغيت تلك العرافة من العطاء ، وسُير إلى الزارة(2).
لقد كان لهذا القرار الجائر أكبر ألأثر على مجرى حركة ألأحداث في الكوفة ، إذ كان العرفاء الواسطة بين السلطة والناس آنذاك ، فهم المسؤولون عن أمور القبائل ، يوزعون عليهم العطاء ، ويقومون بتنظيم السجلات العامة ، التي فيها أسماء الرجال والنساء وألأطفال ، ويسجل فيها من يولد ليفرض له العطاء ، ويحذف منها الميت ليحذف عطاؤه ، وكانوا أيضا مسؤولين عن شؤون ألأمن والنظام ، وكانوا أيام الحرب يقومون بأمور تعبئة الناس لها ، ويخبرون السلطة بأسماء المتخلفين عنها ، وتعاقب السلطة العرفاء أشد العقوبة إذا أهملوا واجباتهم أو قصروا فيها ، ولقد كان للعرفاء بعد هذا القرار دور كبير في تخذيل الناس عن الثورة ، وإشاعة الخوف والرهبة كما كان لهم بعد ذلك دور كبير في زج الناس لحرب ألإمام الحسين عليه السلام .

سياسة البطش وألإرهاب :


عمد إبن مرجانة إلى إشاعة ونشر السياسة ألأموية القائمة على البطش وألإرهاب وتصفية المعارضين بأبشع الصور التي لم تألفها ألإنسانية آنذاك .

(1) (الخوارج) .
(2) موضع بعمان ينفى إليه المعارضون .
البالغون الفتح في كربلاء 62

يقول بعض المؤرخين : إنه لما اصبح إبن زياد بعد قدومه إلى الكوفة صال وجال ، وأرعد وأبرق ، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة . وقد عمد إلى ذلك لإماتة ألأعصاب ، وصرف الناس عن الثورة . فقد أحدث تهديد إبن زياد تحولا غريبا ، فقد ظهرت قوة الحزب ألأموي للوجود بعد أن أشرفت على العدم (1). وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد ، وخرج إليهم بزي غير ما كان يخرج به ، فخطب فيهم خطابا عنيفا تهدد فيه وتوعد ، فقد قال بعد حمد ألله والثناء عليه : ( أما بعد ، فإنه لا يصلح هذا ألأمر إلا في شدة من غير عنف ، ولين من غير ضعف ، وأن آخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، والولي بالولي ) .
فإنبرى إليه رجل من أهل الكوفة يقال له : أسد بن عبدالمري فرد عليه : (أيها ألأمير إن ألله تبارك) يقول : «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْ رَ أُخْرَى»(2)إنما المرء بجده ، والسيف بحده ، والفرس بشده ، وعليك أن تقول ، وعلينا أن نسمع ، فلا تقدم فينا السيئة قبل الحسنة ) . وأُفحم إبن زياد عن المنبر ودخل قصر ألإمارة .

نقل مقر القيادة :


في خطوة جبارة وذكية لمسلم بن عقيل رضوان الله عليه تدلل على قدرته العالية وعلو كعبه وحنكته الكبيرة في إدارة ألأمور وقلب ألأوراق متى ما شاء وحسب متطلبات الظرف .
جاء في الطبري (ولما سمع مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه بمجيء عبيدألله

(1) باقر شريف القرشي : حياة ألإمام الحسين عليه السلام ج2 ص 375 .
(2) سورة ألأنعام ، ألآية : 164 .
البالغون الفتح في كربلاء 63

إلى الكوفة ومقالته التي قالها ، وما أخذ به العرفاء والناس ، خرج من دار المختار حتى إنتهى إلى دار هانئ بن عروة فدخلها فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ على تستر وإستخفاء من عبيدألله ، وتواصلوا بالكتمان) (1).
وسبب هذا التحول من دار المختار إلى دار هانئ هو ما يمكن أن يسببه بقاء مسلم في دار المختار من خطر قد يتعرض له مسلم رضوان ألله عليه نفسه والمختار رضوان ألله عليه ايضا من قبل جلاوزة إبن زياد ، خصوصا وأن المختار رضوان الله عليه ليس له من القوة والقابلية في الكوفة ما يجعله في منعة من إعتداء إبن زياد عليه ، بعكس ما عليه هانئ بن عروة المرادي رضوان الله عليه من العزة والقوة القبلية في الكوفة ، فقد كان فيما يقول المؤرخون : إذا ركب يركب معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلف راجل ، فإذا أجابتها أحلافها من كندة . وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع ، ثم أن الحيطة والحذر ـ بعد التغيرات الجديدة ـ أوجبا على مسلم رضوان ألله عليه أن ينتقل إلى مقر آخر منيع وخفي بعد أن علمت السلطة ألأموية المحلية في الكوفة بمقره ألأول حسب الظاهر (2). الملاحظ أن جميع الذين بايعوا مسلما رضوان ألله عليه عند نزوله دار المختار كما تؤكد أغلب المصادر التاريخية (أن الشيعة لم تنقطع عن مبايعته حتى عند تحوله إلى دار هانئ بن عروة)(3).
خرج مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه من دار المختار وقصد دار هانئ بن

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 569 .
(2) الشيخ محمد جواد الطبسي : المجموعة الموضوعية ج3 ص 71 .
(3) السيد إبن طاوُس : الملهوف ص 114 .
البالغون الفتح في كربلاء 64

عروة فآواه وكثر إختلاف الشيعة إليه (1). وأخذت تختلف إليه في دار هانئ بن عروة) . حتى إنتهى إلى دار هانئ بن عروة فدخلها وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ(2).
يقول الحجة الشيخ باقر شريف القرشي : وإستقر مسلم في دار هانئ وإتخذها مقرا للثورة وقد إحتفى به هانئ ودعا القبائل لمبايعته ، فبايعه في منزله ثمانية عشر ألفا . نقلا عن ألأخبار الطوال للدينوري (3). هذا ولم نجد أحد من المبايعين قد أوشى إلى السلطة بمكان مسلم رضوان الله عليه وهذا يدلل على كفاءة مسلم وحسن إختياره للمبايعين ولمن كلف بأخذ البيعة وبالرغم من الملاحقة وألإرهاب الذي أشاعه إبن زياد حتى إضطر لوضع المراصد عليهم مما دفعه أخيرا لإستخدام المكر والخديعة لمعرفة مكان مسلم بن عقيل رضوان الله عليه .

خطة إغتيال إبن زياد في دار هانئ :


قال الطبري : مرض شريك بن ألأعور (4)ـ وكان كريما على إبن زياد وعلى غيره من ألأمراء ، وكان شديد التشيع ـ فأرسل إليه عبيدألله : إني رائح إليك العشية ، فقال لمسلم : إن هذا الفاجر عائد العشية ، فإذا جلس فأخرج إليه فأقتله ، ثم أقعد في القصر ، ليس أحد يحول بينك

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 569 .
(2) المفيد : ألإرشاد ص 301 .
(3) باقر شريف القرشي : حياة ألإمام الحسين عليه السلام ج2 ص 377 .
(4) شريك بن عبدألله ألأعور الحارثي الهمداني البصري وكان من كبار شيعة أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة جليل القدر شهد صفين وقاتل مع عمار بن ياسر ولشرفه وجاهه ولاه عبيدألله بن زياد (لع) من قبل معاوية كرمان وكانت له مواصلة وصحبة مع هانئ بن عروة رضوان الله عليه . أنظر مقتل المقرم ص 152 .
البالغون الفتح في كربلاء 65

وبينه ، فإن برئت من وجعي هذا أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها (1).
فلما كان العشي أقبل عبيدألله لعيادة شريك ، فقام مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه ليدخل ، وقال لا يفوتك إذا جلس . فجاء عبيدألله بن زياد (لع) فدخل فجلس ، فسأل شريكا عن وجعه وقال : ما الذي تجد ؟ ومتى إشتكيت ؟ فلما طال سؤاله إياه ، ورأى أن ألآخر لا يخرج خشي أن يفوته ، فأخذ يقول :
ما تنتظرون بسلمى أن تحيوها

وفي مقاتل الطالبيين :
ما ألإنتظار بسلمى لا تحيوها حيوا سليمى وحيوا من يحييها
هل شربة أُسقى على ظمأ ولو تلفت وكانت منيّتي فيها
فإن أحست سليمى منك داهية فلست تأمن يوما من دواهيها

إسقنيها وإن كانت فيها نفس ، فقال ذلك مرتين أو ثلاثا ، فقال عبيدألله ، لا يفطن ما شأنه : أترونه يهجر ؟ فقال له هانئ : نعم أصلحك ألله ! ما زال هذا ديدنه قبيل عماية الصبح حتى ساعته هذه . ففطن مهران إلى محاولة إغتياله فغمز إلى عبيدألله فوثب فقال شريك إيها ألأمير إني أريد أو أوصي إليك قال أعود إليك فجعل مهران يطرد به وقال أراد وألله قتلك قال و كيف مع إكرامي شريكا وفي بيت هانئ ويد أبي عنده يد . فخرج مسلم فقال له شريك : ما منعك من قتله ؟ فقال خصلتان أما إحداهما فكراهة هانئ أن يُقتل في داره ، وأما ألأخرى فحديث حدثه الناس عن النبي صلى ألله عليه وآله وسلم : (إن ألإيمان قيد الفتك ،

(1) تاريخ الطبري : ج 4 ص 569 ـ 570 .
البالغون الفتح في كربلاء 66

ولا يفتك مؤمن)(1).

(1) المصدر السابق .
يبدو أن ألأمويين فسروا حديث الفتك تفسيرا خاطئا غايتهم بذلك تضليل وخداع الناس وتخديرهم وبث روح ألإستكانة والمهانة في داخلهم من خلال إيجاد تفسير خاطئ للآيات القرآنية وألأحاديث النبوية الشريفة في محاولة منهم لإنقاذ جلاوزتهم وزبانيتهم من قبضة الجماهير المؤمنة عبر إشاعة مفهوم حرمة القتل مطلقا وهنا نبين ألآتي :
إن ألإسلام لم يحرم ألإغتيال مطلقا كما يخطئ في ذلك الكثير بل كلما في ألأمر أن الشرع المقدس وضع قيودا لهذه المسألة حفاظا على دماء الناس ، لكن الحديث الذي نقله مسلم عن رسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم لم يبين هذه القيود وهنا نوضح بعض النقاط المهمة لنرى إن كانت منطبقة على حالة مسلم من عدمها، على صحة فرض الواقعة .
لم نجد من فقهائنا من أفتى بحرمة ألإغتيال مطلقا ، بل الظاهر أن المتسالم عليه فقهيا هو عدم ثبوت مثل هذه الحرمة ، وإنما الثابت هو الحرمة في بعض الحالات ، منها ما نص عليه الحديث من أن ألإسلام قيد الفتك .
من تلك الحالات ، حالة من أن الشخص المراد قتله ، قد أخذ ألأمان وهذا ما ينطبق على حالة إبن زياد وحضوره إلى منزل هانئ بعد أن كان قد أرسل إليه إبن زياد أنه سيحضر إليه ، والحال هذا يلقي بظل من ألأمان على إبن زياد وهنا توفر مورد القيد الوارد في الحديث الشريف ، على فرض صحة واقعة ألإغتيال .
ومن تلك الحالات ما إذا كان هناك حد شرعي يقتضي قتل شخص ما ، فإنه لا يجوز لأي كان التصدي لتنفيذ هذا الحكم دون مراجعة الحاكم الشرعي وهذا من الموارد التي قيد فيها ألإسلام الفتك ، قال الشيخ مالك مصطفى وهبي العاملي في كتابه كربلاء تساؤلات وقضية ص 158 : ـ (ذكر الشيخ الطوسي في التهذيب والكليني في الكافي رواية عن ألإمام الصادق عليه السلام فيها إرسال جاء فيها : (نهى رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم عن الفتك ، يا أبا الصباح إن ألإسلام قيد الفتك) . وقد نقلها الحر في وسائله لكن بلفظ القتل بدل الفتك . ومورد هذه الرواية بعض الحدود والعقوبات . ولا دليل على أن رسول ألله قد اراد من الكلمة ألإغتيال ما دام إحتمال أن يكون المراد القتنل واردا ولا ريب أن ألإسلام لم يشرع القتل كيفما كان بل هناك قيود شديدة عليه وأسباب محددة له ودائرة تنفيذ محددة . وألله العالم . ثم أنه لو سلمنا أن المراد بـ (قيد) حرم ، فإن ذلك يكون من قبيل المطلق الذي له مقيدات كثيرة مثلما أن القاعدة ألأساسية في القتل هي الحرمة أيضا إلا ما خرج في مورد خاص ، فلو كان المراد من الفتك ألإغتيال تكون الرواية في مقام بيان

=

البالغون الفتح في كربلاء 67

فقال هانئ : أما وألله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا ، ولكن كرهت أن يقتل في داري . ولبث شريك بن ألأعور بعد ذلك ثلاثا ثم مات ، فخرج إبن زياد فصلى عليه ، وبلغ عبيدألله بعد ما قتل مسلما وهانئا أن ذلك الذي كنت سمعت من شريك في مرضه إنما كان يحرض مسلما ، ويأمره بالخروج إليك ليقتلك ، فقال عبيدألله : وألله لا أصلي على جنازة رجل من أهل العراق أبدا ، ووألله لولا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكا .

مدى صحة الرواية :


في الحقيقة أننا نعتقد أن رواية إغتيال إبن زياد في دار هانئ رضوان ألله عليه هي من وضع ألأمويين الهدف منها تحميل مسلم المسؤولية كاملة لما جرى على الحسين عليه السلام وذلك لعدم شروعه بإغتيال إبن زياد ولكن ولله الحمد أن هذه الحملة المسعورة إنقلبت ضدهم ( وإنقلب السحر على الساحر) وأن الحادثة بالرغم من عدم صحتها من وجهة نظرنا للأسباب التي سنبيناها فإنها أعطت صورة مشرقة وضاءة عن سيرة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه وعمق إيمانه ومدى تمسكه بالقيم والمبادئ ألإسلامية :
1 ـ أن مهران مستشار إبن زياد (لع) كما تبين رواية الطبري المذكورة آنفا : أنه أخبر إبن زياد بمخطط إغتياله ولكن المصادر التاريخية التي ذكرت الحادثة لم تتطرق إلى أن إبن زياد فعل شيئا أزاء هذه المحاولة بإستثناء ما ذكره الطبري بقوله : فرجع فأرسل إلى أسماء إبن خارجة ومحمد بن ألأشعث فقال : إئتياني بهانئ ، فقالا له : إنه

=
القاعدة وأن ألإسلام حرم ألإغتيال كأصل من ألأصول ، وهذا لا يمنع من وجود إستثناءات له تسمح به ضمن قيود محددة شرعا وضوابط ذكرها الفقهاء . وعلى كل حال لا يصح أن يقال : إن ألإسلام حرم ألإغتيال مطلقا . وغاية ما يستفاد من مسلم أن المورد الذي هو فيه من الموارد التي يشملها المنع .
البالغون الفتح في كربلاء 68
لا يأتي إلا بألأمان ، قال : وما له وللأمان ! وهل أحدث حدثا ! إنطلقا فإن لم يأت إلا بأمان فآمناه (1) ، فأتياه فدعواه ، فقال : إنه إن أخذني قتلني ، فلم يزالا به حتى جاءا به وعبيدألله يخطب يوم الجمعة ،فجلس في المسجد ، وقد رجّل هانئ غديرتيه (ضفيرتيه) فلما صلى عبيدألله .
قال : يا هانئ ، فتبعه ، ودخل فسلم ، فقال عبيدألله : يا هانئ ، أما تعلم إن أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحدا من الشيعة إلا قتله غير أبيك وغير حجر ، وكان من حجر ماقد علمت ، ثم لم يزل يحسن صحبتك ، ثم كتب إلى أمير الكوفة : إن حاجتي قبلك هانئ؟ قال : نعم ، قال : فكان جزائي إن خبأت في بيتك رجلا ليقتلني ! قال : ما فعلت ، فأخرج التميمي الذي كان عينا عليهم ، فلما رآه هانئ رضوان ألله عليه علم أنه قد أخبره الخبر ، فقال : أيها ألأمير ، قد كان الذي بلغك ، ولن أضيع يدك عني فأنت آمن وأهلك فسر حتى شئت ، ثم يعود الطبري ص 570 فيقول : إن مسلم بن عوسجة أدخل معقل إلى دار هانئ بعد موت شريك إبن ألأعور وفي ص 571 يروي رواية أخرى عن كيفية محاولة إبن زياد في إستقدام هانئ بن عروة تختلف تماما عن التي ذكرها سابقا سنذكرها في موضعها .
2 ـ أغلب الروايات التاريخية تكاد تكون متشابهة أو متقاربة إلى حد ما في موضوعة طلب هانئ من قبل إبن زياد فلو كان إبن زياد قد زار دار هانئ عند مرض شريك لما قال لرسله إن ألأمير قد إستبطاك وألإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان بإعتبار إن ألإثنين سبق وأن إلتقيا .

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 568 .
البالغون الفتح في كربلاء 69

3 ـ عندما فطن مهران إلى محاولة ألإغتيال المعدة لإبن زياد وأخبره الخبر وكان شريك هو ركيزة المحاولة بإعتباره أعطى كلمة السر وألإيعاز إلى من يقوم بالمهمة وهذا واضح من السرد التاريخي للحادثة وبعد ثلاثة أيام من الزيارة المزعومة توفي شريك فكيف لإبن زياد أن يصلي على شخصية كانت الرأس المدبر لمحاولة إغتياله المفترضة .
4 ـ المتأمل في محاورة عبيدألله وهانئ في قصر ألإمارة إن إبن زياد قد إحتج بأدلة كثيرة نقلها إليه معقل وغيره ووضعها أمام هانئ ولم يتطرق إلى محاولة إغتياله أبدا لا من بعيد ولا من قريب فلو كانت هناك محاولة إغتيال قد وقعت فعلا وعلم بها فكان ألأولى بإبن زياد أن يحتج بها على هانئ أولا .

تأمل وملاحظات :


وللشيخ محمد جواد الطبسي رأي في موضوع إغتيال إبن زياد(1)إعتمده على رواية إبن ألأثير وللتقارب الشديد بين رواية إبن ألأثير والطبري أحببنا نقل النص للإيضاح :
1 ـ إن خطة إغتيال عبيدألله كانت من وضع شريك وعلى كراهية من هانئ لكن مصادر أخرى ذكرت إن هانئا هو الذي كان مريضا ، وهو صاحب خطة إغتيال عبيدألله بن زياد (لع) ، قال اليعقوبي : (وقدم عبيدألله بن زياد (لع) الكوفة ، وبها مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه وقد نزل على هانئ بن عروة ، وهانئ شديد العلة ، وكان صديقا لإبن زياد ، فلما قدم إبن زياد الكوفة أُخبر بعلة هانئ ، فأتاه ليعوده ،

(1) محمد جواد الطبسي / المجموعة الموضوعية ج3 ص 73 .
البالغون الفتح في كربلاء 70

فقال هانئ لمسلم بن عقيل رضوان ألله عليه وأصحابه وهم جماعة : إذا جلس إبن زياد عندي وتمكن فإني سأقول إسقوني فأخرجوا فأقتلوه ...)
ويرجح أن خطة إغتيال عبيدألله بن زياد (لع) كانت من وضع شريك الحارثي لأنه كان من قبل في الطريق من البصرة إلى الكوفة قد بادر إلى التساقط هو وجماعة ممن معه ليقف عليهم إبن زياد فيتأخر عن الوصول إلى الكوفة ويسبقه ألإمام عليه السلام إليها ، كما أن شريكا كان يحرض هانئا على مساعدة مسلم رضوان ألله عليه والقيام بأمره ، وقد روى الدينوري : إن شريكا قال لمسلم رضوان الله عليه : (إنما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية ، وقد أمكنك ألله منه ، هو صائر إلي ليعودني ، فقم فأدخل الخزانة ، حتى إذا إطمأن عندي ، فأخرج إليه فأقتله ، ثم صر إلى قصر ألإمارة فأجلس فيه فإنه لا ينازعك فيه أحد من الناس ، وإن رزقني ألله العافية صرت إلى البصرة فكفيتك أمرها وبايع لك أهلها . فقال هانئ بن عروة : ما أحب أن يقتل في داري إبن زياد فقال له شريك : ولم ؟ فوألله إن قتله لقربان إلى ألله) .
2 ـ كانت كراهية هانئ لقتل إبن زياد في بيته لا تختص بإبن زياد ، بل هي كراهية قتل أي رجل في بيته ، وذلك تمسكا بألأعراف والعادات العربية التي لا تبيح قتل الضيف والقاصد إليها في بيوتها لما في ذلك من سبة ومعابة تبقى على ألألسن مدى ألأيام ، وهذا لا يعني إن هانئا رضوان ألله عليه كان لا يتمنى قتل إبن زياد ، فقد قال لمسلم رضوان ألله عليه على ما في رواية الطبري ( أما وألله ، لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا ، ولكن كرهت قتله في داري ) .
3 ـ اساءت بعض المصادر التاريخية إلى شخصية مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه إساءة منكرة إذ نسبت إليه الجبن والفشل لأنه لم يقدم على قتل إبن زياد ، ومن هؤلاء ما ذكرته الباحثة بدور زكي الدده : إن مسلم بن

البالغون الفتح في كربلاء 71

عقيل رضوان ألله عليه برفضه لفكرة إغتيال إبن زياد وتذرعه بالقيم والمبادئ يكون قد وضع المعروف في غير أهله مما ضر بنفسه ومهد لنهايته المأساوية ومن ثم إحباط مجهودات الحسين عليه السلام واصحابه وتعريضهم لأسوأ عملية غدر (1)، مع إحترامي وتقديري للأستاذة الباحثة فإني ارى رأيها هذا غير ناهض ولا يتطابق مع الواقع الذي جبل وتربى عليه مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه ورأيها هذا نابع من قصور في الرؤيا وقراءة الحقائق . فمسلم بن عقيل رضوان ألله عليه كان من أشجع الناس وفذا من أفذاذ ألإسلام فقد تربى في بيت عمه أمير المؤمنين عليه السلام وحمل إتجاهاته الفكرية وإتخذ سيرته المشرقة منهاجا يسير على أضوائها في حياته ، وقد بنى ألإمام أمير المؤمنين عليه السلام واقع حياته على الحق المحض الذي لا إلتواء فيه ، وتحرج كأعظم ما يكون التحرج في سلوكه ، فلم يرتكب أي شيء يبتعد عن هدى ألإسلام وواقعه ، وهو القائل : (قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها حاجز من توقى ألله) وعلى ضوء هذه السيرة بنى إبن عقيل حياته الفكرية ، وتكاد أن تكون هذه السيرة هي المنهاج البارز في سلوك العلويين . وهناك سبب آخر وهو أن مسلما رضوان الله عليه ذكر أن السبب الذي منعه من قتل إبن زياد ـ إضافة إلى كراهية زوجة هانئ رضوان ألله عليه لذلك ـ هو حديث سمعه عن علي عليه السلام عن رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم : (إن ألإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن) والفتك لغة هو : (أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارٌ غافل حتى يشد عليه فيقتله ، وإن لم يكن أعطاه أمانا قبل ذلك ) ثم إن مسلما جسد بموقفه النبيل هذا ما درج عليه في بيت عمه أمير المؤمنين عليه السلام فنقل صورة أخرى تحكي بصدق ما في نفسه الشريفة ناقلا لموقف عمه ألإمام علي بن أبي

(1) دراسات عن كربلاء ودورها الحضاري ص 35 .
البالغون الفتح في كربلاء 72

طالب عليه السلام الذي رفض إستخدام حالة العطش في القضاء على جيش معاوية بن أبي سفيان في يوم صفين وهو صورة رائعة أخرى لموقف إبن عمه الحسين عليه السلام مع الحر بن يزيد الرياحي وهو بألف فارس من أعدائه في تلك الصحراء الملتهبة والتي تساوي قطرة الماء فيها روح الحياة وهو الموقف الذي جعل الحر بن يزيد الرياحي يعيد حساباته ويميل إلى جانب الحسين عليه السلام .
أما السيد هبة الدين الشهرستاني فقد علق بقوله : ويروى أن هانئا أو شريكا إقترح على مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه مندوب الحسين عليه السلام الفتك بإبن زياد غيلة وغفلة ، لكن مسلما لم يجب سوى بكلمة : ـ ( إنا أهل بيت نكره الغدر) هذه كلمة كبيرة المغزى بعيدة المرمى فإن آل علي عليهم السلام من قوة تمسكهم بالحق والصدق ، نبذوا الغدر والمكر ، حتى لدى الضرورة ، وإختاروا النصر ألآجل بقوة الحق على النصر العاجل بالخديعة ، شنشنة فيهم معروفة عن أسلافهم وموروثة في أخلافهم كأنهم (1)مخلوقون لإقامة حكومة الحق والفضيلة في قلوب العرفاء ألأصفياء ، وقد حفظ التاريخ لهم الكراسي في القلوب .
وقد نقل شيخ المحققين حجة ألإسلام والمسلمين الشيخ باقر شريف القرشي : آراء بعض الكتاب حول الموضوع : يقول الدكتور محمد طاهر درويش : (كان للهاشميين مجال يحيون فيه ولا يعرفون سواه ، فهم منذ جاهليتهم للرياسة الدينية ، قد طبعوا على ما توحي به من ألإيمان والصراحة ، والصدق والعفة ، والشرف والفضيلة والترفع ، والخلائق

(1) هبة الدين الشهرستاني : نهضة الحسين عليه السلام ص 62 ـ 63 علق سماحة العلامة الشيخ محمد علي داعي الحق القرشي على لفظ كأنهم بقوله : نقف عند هذا التعبير موقف المتحفظ لأن السيد الشهرستاني عليه الرحمة يأتي هنا بكاف التشبيه وهو في غير محله ، فلو قال بدل كأنهم (فإنهم) كان ذلك أدق ، وألله العالم .
السابق السابق الفهرس التالي التالي