البالغون الفتح في كربلاء 73

المثالية والمزايا ألأدبية ، والشمائل الدينية وألآداب النبوية .
ويقول الشيخ أحمد الفهمي : (فهذا عبيدألله بن زياد (لع) ، وهو من هو بدهائه ، وشدة مراسه أمكنت مسلما الفرصة منه إذ كان بين يديه ، ورأسه قريب المنال منه ، وكان في إستطاعته قتله ولو أنه فعل ذلك لحرم يزيد نفسا جبارة ، ويدا فتاكة ، وقوة لا يستهان بها ، ولكن مسلما متأثرا بهدي إبن عمه ، عاف هذا المسلك وصان نفسه من أن يقتله غيلة ومكرا)(1).(
إن مهمة مسلم رضوان ألله عليه التي عهد بها إليه هي أخذ البيعة من الناس والتعرف على مجريات الأحداث ولم يعهد إليه بأكثر من ذلك ، ولو قام بإغتيال الطاغية لخرج عن حدود مسؤولياته ، على أن الحكومة التي جاء ممثلا لها إنما هي حكومة دينية تعنى قبل كل شيء بمبادئ الدين وألإلتزام بتطبيق سننه وأحكامه وليس من ألإسلام في شيء القيام بعملية ألإغتيال .
وقد كان أهل البيت عليهم السلام يتحرجون كأشد ما يكون التحرج من السلوك في المنعطفات وكانوا ينعون على ألأمويين شذوذ أعمالهم التي لا تتفق مع نواميس الدين وما قام ألإمام الحسين عليه السلام بنهضته الكبرى إلا لتصحيح ألأوضاع الراهنة وإعادة المنهج ألإسلامي إلى الناس ، وماذا يقول مسلم رضوان ألله عليه للأخيار والمتحرجين في دينهم لو قام بهذه العملية التي لا يقرها الدين ؟ !
وعلى أي حال فقد إستمسك مسلم رضوان ألله عليه بفضائل دينه وشرفه من إغتيال إبن زياد ، وكان تحت قبضته ، وإن من أهزل ألأقوال وأوهنها القول بأن عدم فتكه به ناشئ عن ضعفه وخوره .

(1) حياة ألإمام الحسين عليه السلام ج 2 ص 381 .
البالغون الفتح في كربلاء 74

فإن هذا أمر لا يمكن أن يصغى إليه ، فقد أثبت في مواقفه البطولية في الكوفة حينما غدر به أهلها ما لم يشاهد التاريخ له نظيرا في جميع مراحله ، فقد صمد أمام ذلك الزحف الهائل من الجيوش فقابلها وحده ، ولم تظهر عليه أية بادرة من الخوف والوهن ، فقد قام بعزم ثابت يحصد الرؤوس ويحطم الجيوش حتى ضجت الكوفة من كثرة من قتل منها ، فكيف يتهم بطل هاشم وفخر عدنان بالوهن والضعف ؟!!
وفوق كل هذا وذاك أن حركة ألإمام الحسين عليه السلام لم تكن حركة مسلحة وإنما حركة جماهيرية إيديولوجية سلمية ، حركة تغيير عقائدية . إن ألإمام الحسين عليه السلام عندما إستخدم السلاح دفاعا عن النفس بدليل إن ألإمام عليه السلام عندما خرج من مكة المكرمة لم تكن معه عدة عسكرية ، يقول السيد صدر الدين القبانجي في الحركة ألإصلاحية من الحسين عليه السلام إلى المهدي (عج) ص 71 : التاريخ يذكر أن ألإمام الحسين عليه السلام تلقى رسائل من أهل الكوفة أن أقدم إلينا فإنه ليس علينا إمام ، تعال نحن نبايعك ، أرسل الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل رضوان الله عليه لكي يستخبر الحال فإن رآهم كما قالوا أخذ منهم البيعة ، وكتب مسلم إلى الحسين أن ألأمر كما جاءت به كتبهم ، إذن هي ثورة جماهيرية يعني مثل حركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخل المدينة ، كان الناس مهيئين لإستقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، في الكوفة هكذا قالوا للحسين عليه السلام حينما أرسل مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه ، بايعه ثمانية عشر ألفا دون أية عملية مسلحة(1).
خدعة إبن زياد بالبحث عن مكان مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه :


ولما يئس إبن زياد من معرفة مكان مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه فلم يبق أمامه إلا إستخدام أساليب الحزب ألأموي في المكر والخديعة قال

(1) الحركة ألإصلاحية من الحسين عليه السلام إلى المهدي (عج) ص 71 .
البالغون الفتح في كربلاء 75

الشيخ المفيد رحمه ألله فقال عبيدألله بن زياد (لع) لمولى له من أهل الشام يسمى معقلا وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس وقال خذ المال وإنطلق فإلتمس مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه (1) وتأت له بغاية التأتي !
فإنطلق الرجل حتى دخل المسجد ألأعظم وجعل لا يدري يتأتى ألأمر ثم نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد فقال في نفسه أن هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة وأحسب هذا منهم فجلس الرجل حتى إذا إنفتل من صلاته قام فدنا منه وجلس فقال : جُعلت فداك إني رجل من أهل الشام مولى لذي الكلاع وقد أنعم ألله عليّ بحب أهل بيت رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم وحب من أحبهم ومعي هذه الثلاثة آلاف درهم أحب إيصالها إلى رجل منهم بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي عليهما السلام فهل تدلني عليه لأوصل هذا المال إليه ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحب من شيعته ؟
قال له الرجل : وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد ؟
قال : لأني رأيت عليك سيماء الخير فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال له الرجل : ويحك قد وقعت عليّ بعينيك أنا رجل من إخوانك الشيعة وإسمي مسلم بن عوسجة وقد سررت بك وسائني ما كان من حسي قبلك فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت خوفا من هذا الطاغية إبن زياد فأعطني ذمة ألله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس ، فأعطاه من ذلك ما اراد !

(1) المفيد : ألإرشاد ص 302 .
البالغون الفتح في كربلاء 76

فقال له مسلم بن عوسجة : إنصرف يومك هذا فإن كان غد فإتني في منزلي حتى أنطلق معك إلى صاحبنا ـ يعني مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه ـ فأوصلك إليه .
فمضى الشامي فبات ليلته فلما غدا إلى مسلم بن عوسجة في منزله فإنطلق به حتى أدخله إلى مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه فأخبره بأمره ودفع إليه الشامي ذلك المال وبايعه ! وكان ذلك بعد موت شريك بن ألأعور فكان الشامي يغدو إلى مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه فلا يحجب عنه فيكون نهاره كله عنده فيتعرف جميع أخبارهم فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد ألله بن زياد فأخبره بجميع قصصهم وما قالوا وفعلوا في ذلك وأعلمه نزول مسلم في دار هانئ بن عروة رضوان ألله عليه (1).

محاولة إعتقال هانئ :


ذكر الشيخ المفيد أن هانئ بن عروة خاف عبيدألله بن زياد على نفسه فإنقطع من حضور مجلسه وتمارض فقال إبن زياد لجلسائه ما لي لا أرى هانئا فقالوا هو شاك فقال لو علمت بمرضه لعدته ودعا محمد بن ألأشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانئ بن عروة رضوان ألله عليه وهي أم يحيى بن هانئ فقال لهم ما يمنع هانئ بن عروة رضوان الله عليه من إتياننا فقالوا ما ندري وقد قيل أنه يشتكي قال قد بلغني أنه قد برئ وهو يجلس على باب داره(2) فالقوه ومروه ألا يدع ما عليه من حقنا فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب فأتوه حتى وقفوا عليه عشية وهو جالس على بابه فقالوا ما يمنعك من لقاء ألأمير فإنه قد ذكرك وقال لو أعلم أنه شاك لعدته فقال

(1) المصدر السابق : ص 303 .
(2) المفيد / الإرشاد ص 303 .
البالغون الفتح في كربلاء 77

لهم الشكوى تمنعني فقالوا له قد بلغه إنك تجلس كل عشية على باب دارك وقد إستبطأك وألإبطاء والجفاء لا يتحمله السلطان أقسمنا عليك لما ركبت فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا ببغلته فركبها حتى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحست ببعض الذي كان فقال لحسان بن أسماء بن خارجة يإبن أخي أني وألله من هذا الرجل لخائف لما ترى .
قال أي عم وألله ما أتخوف عليك شيئا ولم تجعل على نفسك سبيلا ولم يكن حسان يعلم في اي شيء بعث إليه عبيدألله فجاء هانئ حتى دخل على إبن زياد ومعه القوم فلما طلع قال إبن زياد أتتك بخائن رجلاه فلما دنا من إبن زياد وعنده شريح القاضي إلتفت نحوه فقال :
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
وقد كان أول ما دخل عليه مكرما له ملطفا فقال له هانئ وما ذلك أيها ألأمير قال إيه يا هانئ بن عروة ما هذه ألأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين جئت بمسلم بن عقيل رضوان ألله عليه فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك وظننت أن ذلك يخفى علي فقال ما فعلت وما مسلم عندي قال بلى قد فعلت فلما كثر ذلك بينهما وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته دعا إبن زياد معقلا ذلك اللعين فجاء حتى وقف بين يديه فقال أتعرف هذا قال نعم وعلم هانئ عند ذلك أنه كان عينا عليهم وأنه قد أتاه بأخبارهم فأسقط في يده ساعة ثم راجعته نفسه فقال إسمع مني وصدق مقالتي فوألله لا كذبت وألله ما دعوته إلى منزلي ولا علمت بشيء من أمره حتى جاءني يسألني النزول فإستحييت من رده ودخلني من ذلك ذمام فضيفته وآويته وقد كان من أمره ما كان بلغك فإن شئت أن أعطيك ألآن موثقا مغلظا ألا أبغيك سوءا ولا غائلة ولآتينك حتى أضع يدي في يدك وإن شئت أعطيك رهينة تكون في يدك

البالغون الفتح في كربلاء 78

حتى آتيك وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من ألأرض فأخرج من ذمامه وجواره (1).

موقف شريف :


فقال له إبن زياد وألله لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به قال لا وألله لا آتيك به أبدا أجيئك بضيفي تقتله قال وألله لتأتين به قال لا وألله لا آتيك به فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي وليس بالكوفة شامي ولا بصري غيره فقال : أصلح ألله ألأمير خلني وإياه حتى أكلمه فقال : فخلا به ناحية من إبن زياد وهما منه بحيث يراهما وإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان فقال له مسلم يا هانئ إني أنشدك ألله أن لا تقتل نفسك وأن لا تدخل البلاء على عشيرتك فوألله إني لأنفس بك عن القتل أن هذا الرجل إبن عم القوم وليسوا قاتليه ولا ضائريه فإدفعه إليه فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة إنما تدفعه إلى السلطان فقال هانئ وألله إن عليّ في ذلك للخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى شديد الساعد كثير ألأعوان وألله لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه(2) فأخذ يناشده وهو يقول : وألله لا أدفعه أبدا فسمع إبن زياد ذلك فقال أدنوه فأدني منه فقال وألله لتأتيني به أو لأضربن عنقك فقال هانئ إذا وألله تكثر البارقة حول دارك فقال إبن زياد وا لهفاه عليك أبالبارقة تخوفني وهو يظن أن عشيرته سيمنعونه ثم قال أدنوه مني فأدني فإعترض وجهه بالقضيب فلم يزل

(1) المصدر السابق .
(2) المصدر السابق . هذا الموقف النبيل من هانئ بن عروة رضوان ألله عليه يظهر عدم صحة ما رواه أرباب التاريخ والسير من قوله أمام إبن زياد (لع) المذكور في الصفحة السابقة وأعتقد جازما أن هذا القول لم يصدر منه أبدا وعلى فرض صحة ما صدر منه فإنه تورية .
البالغون الفتح في كربلاء 79

يضرب وجهه وأنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدم على ثيابه ونثر لحم خده وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطي وجاذبه الرجل ومنعه فقال عبيدألله أحروري سائر اليوم قد حل لنا دمك جرّوه فجروه فألقوه في بيت من بيوت الدار واغلقوا عليه بابه فقال إجعلوا عليه حرسا ففعل ذلك به فقال إليه حسان إبن أسماء فقال له ارسل غدر سائر اليوم أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به هشمت وجهه وسيلت دماءه على لحيته وزعمت أنك لا تقتله فقال له عبيدألله وأنك لههنا فأمر به فلهز وتعتع ثم أجلس ناحية فقال محمد بن ألأشعث قد رضينا بما رآه الأمير لنا كان أو علينا إنما ألأمير مؤدب ! (1)

خيانة أئمة السوء وإبن الحجاج الزبيدي :


قال أبو مخنف : أن عمرو بن الحجاج الزبيدي هو أحد من بعث بهم إبن زياد لإستدراج هانئ القدوم به إلى قصر ألإمارة وكانت روعة (أخت عمرو بن الحجاج زوجة لهانئ بن عروة) وفي عملية مفبركة ومفضوحة تم إبلاغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل ، فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم ، ثم نادى : أنا عمرو بن الحجاج ، هذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم تخلع طاعة ، ولم تفارق جماعة ، وقد بلغهم أن صاحبهم يقتل ، فأعظموا ذلك ، فقيل لعبيدالله هذا مذحج بالباب ، فقال لشريح القاضي : أدخل على صاحبهم فأنظر إليه ، ثم أخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل (2)، وأنك قد رأيته ، فدخل إليه شريح فنظر إليه .

(1) قاتل ألله محمد بن ألأشعث : ـ الخبيث إبن الخبثاء . حيث قال أن ألأمير مؤدب !! أين أدبه وتأديبه ، وهو لا يعرف غير الفسق والفجور والمنكر والزور .
(2) تاريخ الطبري : ج4 ص 571 .
البالغون الفتح في كربلاء 80

قال أبو مخنف : حدثني الصقعب بن زهير ، عن عبدألرحمن بن شريح ، قال : سمعته يحدث إسماعيل بن طلحة ، قال دخلت على هانئ ، فلما رأني قال : يا لله للمسلمين ّ أهلكت عشيرتي ؟ فأين أهل الدين ! واين أهل المصر ! تفاقدوا ! يخلوني ، وعدوهم وإبن عدوهم ! والدماء تسيل على لحيته ، إذ سمع الرجة على باب القصر ، وخرجت وأتبعني ، فقال : يا شريح ، إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، دخل عليّ عشرة نفر أنقذوني ، قال : فخرجت إليهم ومعي حميد بن بكير ألأحمري ـ أرسله معي إبن زياد ، وكان من شرطه ممن يقوم على رأسه ـ وايم ألله لولا مكنه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به ، فلما خرجت إليهم قلت : إن ألأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه ، فأمرني أن ألقاكم ، وأن اعلمكم أنه حي ، وأن الذي بلغكم من قتله كان باطلا (1)، فقال عمرو وأصحابه : أما إذ لم يقتل فالحمد لله .
فعاد هذا ألإنتهازي الجبان ومعه مذحج وكان كلامه حافلا بالخنوع والمسالمة للسلطة وولى منهزما كأنما أتيح له الخلاص وهو يصحب العار والخزي وظل مثالا للخيانة والجبن على إمتداد التاريخ وأن هزيمة مذحج وعدم تأكدها من سلامة زعيمها جاءت نتيجة إتفاق سري بين الخائن عمرو بن الحجاج الزبيدي وبين إبن زياد للقضاء على هانئ .

(1) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 81

تأمل وملاحظات :


قال الشيخ محمد جواد الطبسي :
1 ـ قد يتسائل المتأمل عجبا من أمر هانئ بن عروة رضوان ألله عليه الذي كان يعرف مكر إبن زياد وغدره ، وكانت خبرته السياسية وألإجتماعية وتجارب العمر الطويل تفرض عليه أن يحتمل إحتمالا قويا أن تكون حركة النهضة قد إخترقت من قبل جواسيس إبن زياد : كيف مضى برجله إلى مواجهة المحذور من إهانة أو حبس أو قتل دون أن يأخذ ألأهبة الكافية لكل إحتمالات لقائه بإبن زياد ، كأن يأخذ معه من رجالات قبيلته (مذحج) مجموعة لا يقوى معها إبن زياد على إهانته أو حبسه أو قتله ، أو يوقف عند باب القصر كتيبة من قبيلته تقتحم القصر إذا إستبطأته وقتا محددا بينه وبينها !؟ وهذا تساؤل في محله تماما ومن البعيد جدا ألا يكون هانئ رضوان ألله عليه قد فكر بتلكم ألإحتياطات لمواجهة محذورات لقائه بإبن زياد في القصر لو كان رسل إبن زياد إليه من الجلاوزة أو ممن يرتاب فيهم هانئ رضوان ألله عليه لكن الرسل الذين إنتقاهم إبن زياد على علم ومكر هم ممن لا يرتاب هانئ رضوان ألله عليه فيهم أو في بعضهم على ألأٌقل فمنهم عمرو بن الحجاج الزبيدي الذي كانت إبنته رويحة زوجة لهانئ ، واسماء بن خارجة ، أو إبنه حسان ، وهو زعيم قبيلة فزارة ، ومحمد إبن ألأشعث زعيم قبيلة كندة ، فهؤلاء من كبار وجهاء الكوفة واشرافها ، ومن البعيد جدا ـ في ظن هانئ رضوان ألله عليه ـ أن يكونوا رسل غدر أو أهل خيانة ! والظاهر أن هذا الذي جعل هانئا رضوان ألله عليه يستبعد ألإحتمال السيء فلم يعد العدة ولم يأخذ ألأهبة وألإحتياط لمحذورات هذا اللقاء فإنطلت عليه حيلة إبن زياد عليه اللعنة ، وصدق الرسل في ما نقلوه إليه من أن إبن زياد تفقده لإنقطاعه

البالغون الفتح في كربلاء 82

عنه ، وقال أنه لم يعلم بمرضه ولو علم به لقام بزيارته ! فإستظهر هانئ رضوان ألله عليه أن إبن زياد حتى تلك الساعة لم يكن له علم بمكان مسلم رضوان ألله عليه فدعا بثيابه فلبسها ، وببغلته فركبها ، ومضى معهم ! ومع إستبعاد ألإحتمال السيئ وإستظهار أن إبن زياد لم يكن حتى تلك اللحظة قد علم بمكان مسلم رضوان ألله عليه لا يكون من الحكمة ألإمتناع عن لقائه ، أو أخذ ألأهبة والعدة للمحذور منه ، أو طلب ألأمان شرطا للقائه ، لأن كل ذلك سيكشف عن المستور ، ويؤكد التهمة ، ويؤدي إلى تعجيل ضار في توقيت حركة النهضة لموعد قيامها ضد إبن زياد ، ولعل كل هذه ألأمور قد خطرت على بال هانئ بن عروة ، فآثر المجازفة بنفسه دفعا لكل ألأضرار والمساوئ (1).
من هنا يستبعد ما أورده صاحب كتاب تجارب ألأمم حيث قال : (ودعا عبيدألله هانئ بن عروة ، فأبى أن يجيبه إلا بأمان فقال : ما له وللأمان ، هل أحدث حدثا ؟ فجاءه بنو عمه ورؤساء العشائر فقالوا : لا تجعل على نفسك سبيلا وأنت بريء وآتي ..) ، أو ما رواه الطبري أن إبن زياد قال لأسماء بن خارجة ومحمد بن ألأشعث : (إئتياني بهانئ ، فقالا : إنه لا يأتي إلا بأمان ! قال : وما له وللأمان ، وهل أحدث حدثا ؟ إنطلقا فإن لم يأت إلا بأمان فآمنوه ..)
2 ـ يبدو أن حيلة إبن زياد (لع) كانت قد إنطلت حتى على بعض رسله إلى هانئ بن عروة رضوان ألله عليه ، إذ ان سياق القصة يكشف عن أسماء بن خارجة أو حسان إبنه قد فوجئ بغدر إبن زياد (لع) بهم وبهانئ فإنتفض معترضا بعد ما رأى ما صُنع بهانئ رضوان ألله عليه وقال لإبن زياد (لع) : أَ رُسل غدر سائر اليوم ؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا

(1) المجموعة الموضوعية : ج3 ص 101 .
البالغون الفتح في كربلاء 83

جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيلت دماءه على لحيته ، وزعمت أنك تقتله ؟ فقال إبن زياد : وإنك لههنا ؟ فلهز وتعتع وأجلس ناحية ، وفي رواية الفتوح : (فضرب حتى وقع لجنبه .. فحبس في ناحية من القصر وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إلى نفسي أنعاك يا هانئ) .
أما محمد بن ألأشعث فقد روى الطبري قائلا : (زعموا أن أسماء لم يعلم في أي شيء بعث إليه عبيدألله ، فاما محمد فقد علم به ) وسواء أكان عالما بخطة إبن زياد أم لم يكن يعلم ، نراه ـ وقد أدركه عرق النفاق الضارب في أعماق عائلته ـ يقول متملقا لإبن زياد : قد رضينا بما رأى الأمير ، لنا كان أم علينا ، إنما ألأمير مؤدب !
أما عمرو بن الحجاج الزبيدي ـ وهو أحد هؤلاء الرسل الذين جاؤوا بهانئ رضوان ألله عليه إلى إبن زياد ـ فقد غاب فجأة ولم يشهد ما جرى في هذا أللقاء مع أن المفروض عرفا وهو أحد الرسل الثلاثة أن يبقى كوسيط لإزالة السخيمة بين هانئ رضوان ألله عليه وإبن زياد ، أو ليحامي عن هانئ رضوان ألله عليه إذا تجاوز إبن زياد حده وإعتدى عليه ـ كما حدث ذلك فعلا ـ خصوصا وأن هانئ بن عروة زوج إبنته !
إذن فغيابه المتعمد فجأة عن مسرح الحدث يكشف عن علمه المسبق بخطة إبن زياد للإيقاع بهانئ رضوان ألله عليه وعن تواطئه معه لحبسه وقتله ! ولقد أراد من وراء هذا الغياب المفاجئ المتعمد أمرين : ألأول هو أن يصرف عن نفسه حرج عدم دفاعه عن هانئ رضوان الله عليه في حال حضوره ، كما يدفع عن نفسه أيضا شبهة تواطئه مع إبن زياد لقتل هانئ رضوان الله عليه لقد كان عمرو بن الحجاج الزبيدي حقا رسول غدر ! أما ألأمر الثاني : فهو أن هذا الخائن أراد أن يستبق الوقت ليمتطي موجة غضب قبيلة مذحج التي كانت ستثور حتما لما أصاب هانئ رضوان ألله عليه ، فيقود جموعها الزاحفة بسيوفها

البالغون الفتح في كربلاء 84

نحو القصر لإنقاذه وهناك ليفرق هذه الجموع الغاضبة ويصرفها عن القصر بخدعة مشتركة ـ بينه وبين شريح القاضي وإبن زياد ! هذا الدور الخياني نفسه دليل آخر قاطع على علم الزبيدي المسبق بخطة إبن زياد .
3 ـ أظهرت هذه الرواية وكأن هانئ بن عروة رضوان الله عليه إنما إمتنع عن تسليم مسلم رضوان ألله عليه لإبن زياد لسبب أخلاقي عربي وإسلامي وهو حماية الضيف والذب عن الجوار (وألله إن عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح ، اسمع وأرى ، شديد الساعد كثير ألأعوان ، والله لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه) وفي هذا الموقف ـ وبهذا الحد ألأخلاقي ـ شرف ومفخرة لهانئ رضوان الله عليه واية مفخرة !
لكن هناك نصوصا تاريخية أخرى تؤكد أن الدافع الذي منع هانئا رضوان الله عليه من تسليم مسلم رضوان الله عليه كان دافعا أسمى وأعلى من الدافع الأخلاقي ! وهو الدافع ألإيماني الطافح بالولاء لأهل البيت عليهم السلام ، فقد روى إبن نما رحمه ألله أن هانئ بن عروة رضوان ألله عليه قال :
(وألله أن عليّ في ذلك العار أن أدفع ضيفي ورسول إبن رسول ألله ، وأنا صحيح الساعدين كثير ألأعوان ..) وفي رواية إبن أعثم : (بلى وألله ، عليّ في ذلك من أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول إبن بنت رسول ألله ..) وفي رواية المسعودي أن هانئا رضوان الله عليه قال لإبن زياد : (إن لزياد أبيك عندي بلاء حسنا ، وأنا أحب مكافئته به ، فهل لك في خير ؟ قال إبن زياد : وما هو ؟ قال : تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم ، فإنه قد جاء حق من هو احق من حقك وحق صاحبك ..) .
4 ـ من مجموع النصوص التاريخية التي روت لنا قصة هذا اللقاء بين هانئ رضوان ألله عليه وبين إبن زياد ، أو جوانب من هذا اللقاء ، يتضح جليا

البالغون الفتح في كربلاء 85

إن هانئ بن عروة رضوان ألله عليه كان يتمتع ـ وهو في التسعين من العمر ـ برباطة جأش ، وثقة بالنفس وشجاعة فائقة كما كان في غاية ألإطمئنان والثقة بأن مذحج لن تسلمه إذا تعرض لمكروه ، وإن الكوفة يومذاك بالفعل كانت ساقطة بيد المعارضة وما هي إلا إشارة تصدر عن مسلم رضوان ألله عليه حتى يتحقق ذلك ألأمر فعلا وعلنا فقوله لإبن زياد لما هدده بالقتل : (إذن لكثرت البارقة حول دارك !) كاشف عن ثقته برد الفعل المناسب الذي كان لابد سيصدر عن مذحج خاصة وعن قيادة الثورة عامة ، ومده يده الشريفة إلى قائم سيف الشرطي ليقتل به إبن زياد كاشف عن شجاعته الفائقة ، وقوله لإبن زياد :
(تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم ، فإنه قد جاء حق من أحق من حقك وحق صاحبك) أو قوله : (أيها ألأمير ، قد كان الذي بلغك ، ولن اضيع يدك عني ، فأنت آمن وأهلك ! فسر حيث شئت !) كاشف عن ثقته التامة بأن الكوفة فعلا بيد قيادة الثورة ، وإن إبن زياد ليس إلا أميرا رمزيا يومذاك .

قرار إستثنائي في ظرف عصيب :


كان إعتقال هانئ رضوان ألله عليه في حسابات إبن زياد يعتبر الخطوة الناجحة الثانية ـ بعد نجاح خطوته ألأولى في إختراق الحركة الثورية من داخلها ـ على طريق سعيه لإنهاء ألأزمة الكوفية يومذاك ، فإن إعتقال هانئ رضوان الله عليه في حسابات مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه كان قد مثل منعطفا حرجا خطيرا إضطره إلى الخروج عن خط السير المرسوم في ألأصل ، وألجأه إلى قرار إستثنائي من أجل معالجة الوضع الطارئ الجديد الذي فرضه إبن زياد على الحركة بإعتقاله هانئا رضوان ألله عليه إذ لم يعد أمام مسلم رضوان ألله عليه عندها إلا أحد إختيارين :

البالغون الفتح في كربلاء 86

ألأول : البقاء على أصل خط السير المرسوم في مواصلة التعبئة وألإعداد والتحضير لكن هذه المواصلة لم تعد ممكنة بعد إعتقال هانئ رضوان ألله عليه وذلك : لأن هانئ بن عروة رضوان ألله عليه اقوى وأمنع شخصية كوفية من الناحية القبلية ـ فضلا عن وجاهته ألإجتماعية والدينية وموقعه البارز في حركة الثورة ـ فإذا تمكن إبن زياد من إعتقاله ولم يواجه بإنتفاضة كبرى جادة مستميتة من قبيلته خاصة ومن حركة الثورة عامة ، فإن الكوفة بعدها لن تنتفض لإنقاذ أي رجل آخر من قبضة إبن زياد ، وعندها فما فائدة مواصلة التعبئة وألإعداد والتحضير ؟ ثم إن إبن زياد بعدها سيعتقل من يشاء من أشراف ووجهاء الكوفة بلا أدنى محذور ، ومعنى هذا أن مسلما رضوان الله عليه لم يعد آمنا في الكوفة ، ولا شك أنه الرجل الثاني الذي سيُعتقل مباشرة بعد هانئ رضوان ألله عليه الذي كان أقوى وامنع حصن يمكن أن يحميه .
الثاني : التخلي عن مواصلة ألإعداد والتحضير ، والتحرك قبل إستكمال شرط التحرك ـ تحت قهر الضرورة وألإضطرار ـ لمواجهة حاسمة مع السلطة ألأموية المحلية في الكوفة ، وهو ألإختيار الوحيد الذي لا بد من النهوض للقيام به فورا .

تعبئة الجماهير :


قال أبو مخنف : حدثني يوسف بن يزيد ، عن عبدألله بن خازم ، قال : أنا وألله رسول إبن عقيل إلى القصر لأنظر إلى ما صار أمر هانئ ، قال : فلما ضرب وحبس ركبت فرسي وكنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه بالخبر ، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين : يا عثرتاه ! يا ثكلاه ! فدخلت على مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه بالخبر ، فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ منهم الدور حوله ، وقد بايعه ثمانية عشر ألفا ، وفي الدور أربعة آلاف رجل ، فقال لي : ناد : يا منصور أمت ،

البالغون الفتح في كربلاء 87

فناديت : يا منصور أمت (1)، وتنادى اهل الكوفة فإجتمعوا إليه ، فعقد مسلم لعبيدالله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة ، وقال : سر أمامي في الخيل ، ثم عقد لمسلم بن عوسجة ألأسدي على ربع مذحج وأسد ، وقال : إنزل في الرجال فأنت عليهم ، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة .

إبن زياد يتهدد :


قال أبو مخنف : حدثني الحجاج بن علي ، عن محمد بن بشر الهمداني ، قال : لما ضرب عبيدألله هانئا وحبسه خشي أن يثب الناس به ، فخرج فصعد المنبر ومعه اشراف الناس وشرطه وحشمه ، فحمد ألله واثنى عليه ثم قال : اما بعد ، أيها الناس ، فإعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ، ولا تختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتُجفوا وتحرموا ، إن أخاك من صدقك ، وقد أعذر من أنذر (2).
فما أتم عبيدالله بن زياد (لع) تلك الخطبة حتى سمع الصيحة فقال : ما هذا ؟ فقيل له : أيها ألأمير ، الحذر الحذر ! هذا مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه قد اقبل بجميع من بايعه .

الهجوم على القصر :


قال أبو مخنف : وحدثني يونس بن ابي إسحاق ، عن عباس الجدلي قال : خرجنا مع إبن عقيل أربعة آلاف ، فما بلغنا القصر إلا ونحن ثلاثمائة . قال : وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر (3)، فدخل عبيدألله القصر وغلق أبوابه ، ثم أن الناس تداعوا إلينا

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 574 .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 88

وإجتمعوا ، فوألله ما لبثنا إلا قليلا حتى إمتلأ المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يثوبون حتى المساء ، فضاق بعبيدألله ذرعه ، وكان كُبر أمره أن يتمسك بباب القصر ، وليس معه إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه .

موقف مخزٍ ما يسمون بألأشراف :


قال أبو مخنف : وأقبل اشراف الكوفة الموالون لإبن زياد من أصحاب الجاه المزيف يأتون إبن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم فيتقون أن يرموهم بالحجارة ، وأن يشتموهم وهم لا يفترون على عبيدألله وعلى أبيه (1).

تخذيل الناس :


ودعا عبيدألله كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ، فيسير بالكوفة ، ويخذل الناس عن إبن عقيل ويخوفهم الحرب ، ويحذرهم عقوبة السلطان وأمر محمد بن ألأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس ، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن العامري ، وحبس سائر الناس عنده إستيحاشا إليهم لقلة عدد من معه من الناس ، وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن إبن عقيل (2).
روى الطبري عن أبي مخنف قال : فحدثني أبو جناب الكلبي أن

(1) المصدر السابق : ص 575 .
(2) المصدر السابق .

السابق السابق الفهرس التالي التالي